وضع داكن
19-04-2024
Logo
الحج - الدرس : 02 - أحكام وشروط الحج
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠5الحج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ بمناسبة قرب موسم الحجِّ سنبدأ الحديثَ عن بعض أحكام الحجِّ، وسأخصِّص درسًا للإخوة الأكارم الذين يزمعون أداء فريضة الحج هذا العام، وفي آخر الدرس سأحدِّد هذا الدرس.

تعريف الحج:

الحج - بفتح الحاء وبكسرها - فلك أن تقول حَج وحِج، الأول اسمٌ والثاني مصدر حَجَّ يحُجُّ حِجًّا، وهو القصد إلى معظَّمٍ، أي أن تتَّجه إلى مكان عظيم، أو إلى شيء عظيم، هذا معنى الحجِّ في اللُّغة، وأما تعريف الحج شرعًا، فهو زيارة بقاع مخصوصة، في زمن مخصوص، بفعلٍ مخصوص، والمرادُ بالزيارة الطَّوافُ حول البيت العتيق، الكعبة المشرَّفة، و الوقوف بعرفة، و أما البقاع المخصوصة فهي الكعبة و عرفة و أما الزمن المخصوص ففي الطَّواف من طلوع فجر يوم النحر إلى آخر العمر، و في الوقوف بعرفة من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، إذًا هو زيارة بقاع مخصوصة، في زمن مخصوص، بفعل مخصوص.

مكانة الحج في الإسلام:

الحجُّ أيها الإخوة ركنٌ كبيرٌ من أركان الإسلام، فرضه اللهٌ تعالى على المستطيع فإذا كان الإنسانُ فقيرًا و بحث عن مبلغ يستقرضه، نقول له: لا، لا حجَّ عليك، الحجُّ على المستطيع، الحجُّ أحد أركان الإسلام الخمسة، و لكنَّ اللهَ سبحانه تعالى فرضَه على المستطيع أي إنَّ أغلبَ الظنِّ أنَّ المستطيع مشغولٌ بماله، وكأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يقول له: تعالَ إليَّ ودعْ بيتَك الفخمَ، وتجارتَك العريضةَ، ومكانتك المرموقة وتعالَ إليَّ، فيقول الحاجُّ: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك.
قال تعالى:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾

[سورة آل عمران]

((وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ))

[رواه البخاري]

فأركان الإسلام ؛ شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجُّ البيت، أمَّا إذا قلنا: بنِيَ الإسلامُ على خمسٍ، شهادةِ - بالكسر - فهي بدل مِن خمسٍ، أن لا إله إلا الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان وحجِّ البيت.
الحجُّ فرضُ عينٍ، وكلُّكم يعلم أنَّ هناك فروضُ كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكلِّ، كصلاة الجنازة، ولكنَّ الحجَّ فرضُ عين على المستطيع، يُكَفَّرُ جاحدُه، ويُفسَّق تاركُه وهو فرضٌ في العمُر مرَّةً واحدةً، لحديث الأقرع بن حابس، 

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَنَا يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ، قَالَ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا، أَوْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ)) 

[رواه أحمد]

وقد انعقد إجماعُ المسلمين أنه واجبٌ على الفور، من حين الاستطاعة، و الدليل قول النبيَِ عليه الصلاة و السلام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ))

[رواه أحمد]

وقد ثبتتْ فرضيةُ الحجِّ بالكتاب الكريم، قال تعالى:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) ﴾

[سورة آل عمران]

ولقول الله عزوجل:

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ﴾

[سورة الحج]

فلا يعرف معانيَ هذه الآيات إلا من ذاق و أدَّى هذه الفريضة بإخلاص و بصدق.
والآية الثالثة التي تؤكِّد فرضية الحجِّ قولُه تعالى:

﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾

[سورة البقرة]

إذًا الحجُّ ثبت بنص القرآن الكريم، ونصُّ القرآن الكريم كما تعلمون قطعيُّ الثبوتِ وهذه الآيات قطعية الدِّلالة، وبالسُّنة المطهَّرة، لقول النبيّ عليه الصلاة و السلام فيما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فقال:

((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ))

[رواه مسلم]

لَوَجَبَتْ - أي في كلِّ عام - إذًا هو في العمر مرة واحدة، ودائمًا الذي سكت عنه الشَّرعُ فيه حكمةٌ بالغةٌ، قال عليه الصلاة و السلام: إن الله أمركم بأشياء، ونهاكم عن أشياء وسكت عن أشياء" فسكوتُ الشارع الحكيم عن بعض الأمور توسعةٌ على المسلمين، و الذي أمر به الشرعُ لا يقلُّ حكمةً عن الذي سكت عنه، والشرعُ حكيم فيما أمر به، وفيما نهى عنه، وفيما سكت عنه، فإن الله كتب عليكم الحج، ولم يحدِّد النبيُّ ، بل أطلقه، وسكت النبيُ الكريم، قال: كل عام مرة، ثانية، بقي ساكتًا، ثم قال أفي كل عام ؟ فقال عليه الصلاة و السلام: لو قلتُ نعم لوجبت - أي في كلِّ عام - و لما استطعتم، لأنّ هذا فوق طاقتكم، و في رواية أخرى لهذا الحديث حينما قال: أفي كل عام فقال عليه الصلاة و السلام: لو قلتها لوجبت، و لو وجبتْ - أي في كل عام - لم تعملوا بها و لن تستطيعوا أن تعملوا بها " الحج مرة، فمن زاد فهو تطوُّع.
وهناك حديثٌ آخر عامٌّ يبيِّن أنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يكثر من السؤال إذا سكت النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن بعض الأشياء

(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: فِي كُلِّ عَامٍ، فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ))

[رواه النسائي]

أي دعوني ما دمتُ قد سكتُّ عن شيء، فلا تسألوني عنه، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ... وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، انظُرْ فإنَّ الاستقامة مطلقةٌ، والأعمالُ الصالحة فبمقتضى الاستطاعة، أمَّا المنهياتُ فيجب أن تُترَك كلِّيًّا، وإلا وقع الحجابُ بين العبد وبين الله عزوجلَّ أمَّا المأموراتُ المندوباتُ فنأخذ منها بقدر ما نستطيع، وقد أجمعت الأمَّةُ الإسلامية على فرضية الحجِّ على المستطيع، كما أجمعت على فرضية الصلاة و الصوم والزكاة، إذًا فرضيةُ الحجِّ ثبتت بالكتاب والسُّنة و الإجماع، و الكتابُ والسُّنةُ أصلانِ كبيران من أصول التشريع والإجماعُ والقياسُ أصلانِ فرعيانِ منه.
تحدَّثتُ يوم الجمعة في الخطبة عن فوائد الحجِّ، وكيف أن الحجًّ رحلة إلى الله عزوجل، وتفريغٌ لهذه النفس من مشاغل الدنيا، وتسريعٌ في إقبال العبد على الله عزوجل ورحلة تدريب على الرحلة الأخيرة إلى الدار الآخرة، رحلةٌ قبل الأخيرة، فهي رحلةٌ إلى الله عزوجل، بل انسلاخٌ من الأقنعة الكاذبة التي نتوهَّمها كقناعِ المال، هذا القناعُ ُيخلَع عنك في الحجِّ، وقناعُ المكانة الاجتماعية، وقناعُ المُتَع التي تمارسها و أنت في بلدك، هذه الأقنعة كلُّها ستسقط عن صاحبها في الحجِّ، كأنَّ الحجَّ يعيدك إلى حجمك الحقيقي، وكأنَّك هناك تتفرَّغ إلى الإقبال على الله عزوجل، من أجل أن تذوق طعمَ قربه، وعلى كلٍّ ؛ كان الحديث يوم الجمعة طويلًا عن فوائد الحجُّ، وقد غلبَ على هذا الدرس الطابعُ الفقهي، لذلك ننتقل إلى شروط وجوبه.
الحجُّ فرض عين على المسلم، فمن شروط وجوبه الإسلام، فلا يجب الحجُّ على غير المسلم، فلو أنّ إنسانًا كافرًا كان مستطيعا ماليًا أو أنّ إنسانًا كافرًا غنيًّا أسلم ثم افتقر فرَضًا هل عليه الحجُّ ؟ لا، لأنه لمَّا كان كافرا مستطيعًا لم يكن محلَّ الخطاب، فهذه نقطةٌ مهمَّةٌ، لأنّ من شروط الحجِّ الإسلام، فلا يجب على غير المسلم، لعدم خطاب الكافر بالفروع، و من شروطه العقلُ، فلا يجب على المجنون لأنه ليس أهلا للتَّكليف، لفقده أداةَ فهم الخطاب ومعرفة الأحكام، وإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، والبلوغ فلا يجب على الصغير لأن التكليفَ يبدأ بالبلوغ، لكنَّك ترى في الحجِّ أطفالاً صغارا يرتدون ثياب الإحرام و يحُجُّون مع آباءهم ، فهذا من قبيل التدريب والتَّبرُّك، ولكنَّ الصغير ليس عليه الحجُّ، والحرِّيةُ، فلا يجب الحجُّ على العبد ويقاس على العبودية مَن فَقَدَ حرِّيته، كَمَن كان مسجونا، فليس عليه الحجُّ، فلا يجب على العبد لأن الحجّ فريضةٌ بدنيَّة مالية، والعبدُ وما ملكتْ يده لسيِّده.
فلو حجَّ الصبيُّ، أو حجَّ العبدُ مع سيِّده وقع حجُّهما نفلاً، لا فريضةً، بمعنى أن الصبيَّ إذا كبُر عليه حجَّة الإسلام، و أن العبد إذا أعتِق عليه حجَّة الإسلام، ويُشترط العلمُ بفرضية الحجِّ لمن أسلم بدار الحرب، أي إن الإنسان إذا أسلم حديثًا في دار الحرب - نحن عندنا ثلاثُ دور، دارُ الإسلام، فرجل نشأ في بيئة مسلمة، نشأ في الشام، و يقول: واللهِ أنا لا علمَ لي بالحجِّ، هذا كلامٌ مرفوض، أو إنسان نشأ في بلاد إسلامية وليس عنده علم بأن الحجَّ قد فُرِض عليه، هذا كلام مرفوض أيضًا، هذه دار الإسلام فلا جهل فيها، وعندنا دار الحرب، و عندنا دار الكفر، و ثمَّة احتمال أن يسلم الإنسانُ في أثناء الحرب، في أثناء الفتوح، أسلم وقد ودخل في أشهر الحج، هذا ليس علمه بفرضية الحج قائمًا، ومن شروط الحج العلمُ بفرضية الحج لمن أسلم بدار الحرب، أما مَن أسلم بدار الإسلام فلا يُشترَط العلمُ، بل يُعدُّ وجودُه في دار الإسلام علمًا، وما دمتَ في دار الإسلام فأنت قطعًا تعلم أن الحج فرضٌ.
وتأسيسا على هذه الأفكار أقول: يجب الحجُّ على العبد بعد العتق، وعلى الصبيِّ بعد البلوغ، و على المجنون بعد أن يعود إلى عقله، دخل المِصحَّ فصحا وجب الحجُّ عليه، وقد كان ساقطًا عنه حينما كان عبدا أوصبيًّا أو مجنونا، والنقطة الدقيقة أنَّ الفقيرَ إذا حجَّ يقع حجُّه عن الفريضة، فإذا كان الإنسان متشوِّقًا كثيرا، وكان فقيرا وجمَّع قرشين وأعانه الناسُ ذهب إلى الحجِّ، هل نقول له: هذه حجَّةٌ نافلةٌ ؟ لا، فإذا حجَّ الفقيرُ يقع حجُّه عن الفريضة، أي لا تلزَمه حَجَّةٌ أخرى، و لو أصبح فيما بعدُ غنيًّا، هكذا الحكمُ الشرعي.
ومن شروط الحجِّ أن يُؤدَّى في الوقت المناسب، ووقتُ الحجِّ هو أشهر الحجِّ، فمن ملك مالًا و صرفه في غير أشهر الحجِّ، كَمَن كانت لديه خمسون ألف ليرة، واشترى بها دكَّانا في غير أشهر الحجِّ، فلا حجَّ عليه، ومن ملك مالاً وصرفه قبل حلول أشهر الحجِّ فلا شيء عليه و أشهرٌ الحجِّ هي ؛ شوَّال وذو القعدة والعشرُ الأولُ من ذي الحِجَّة، هذه أشهر الحجِّ قال تعالى: 

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ 

[سورة البقرة]

ويجب أن يُؤدَّى في الوقت المناسب ويجب العلمُ به وبفرضيته والحريَّة والعقلُ والبلوغُ والإسلام هذه شروط الوجوب.
وبقيت الاستطاعة، ومعناها القدرةُ، ولها وجوهٌ كثيرةٌ لا بدَّ من تحقُّقها، لأنها تكون بالمال وبالنفس وبالطريق، فأما الاستطاعة بالمال فتكون بمُلك الزاد، أي أن تملك نفقات الطَّعام والشراب طيلةَ أيام الحجِّ، و يجب أن تعلم كم يكلِّف طعامُ الحاجِّ، وأن تملك قيمة الزاد وأن تملك الراحلةَ أو أجرتَها، والآن ثمن ركوب الطائرة، ذهابًا وإيابًا، وبعضُ العلماء قالوا: من كان غيرَ مستطيعٍ أن يركب الباخرة و لم يملك ثمن ركوب الطائرة فليس مستطيعاً، فيجب أن يملك الزاد و الراحلةَ ذهابا وإيابًا، ويجب أن يملك نفقاتِ السكنى أيضًا، كلُّ هذه النفقات يجب أن تكون زائدة عن نفقات سكنه، وأثاث بيته وثيابه ونفقات عياله الملتزِم بالإنفاق عليهم إلى حين عودته، ومصروف البيت وأجرته، والطعام و الشرابُ، ونفقات الكهرباء والماء، فكما كان هذا البيتُ في وجوده يجب أن يستمر بعد سفره للحج، وهذه النفقات بالحدِّ الوسط، وليس بالحدِّ الأعلى، من غير إسراف و لا تقتير، فهذه هي الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحجِّ، فمن لم يملك هذا المال الذي يمكّنه من الحجِّ فلا يجب عليه الحجُّ.
أما الاستطاعة بالنفس فهي أن يكون المكلَّف صحيح البدن و الأعضاء، فلا يجب الأداءُ مع العجز الدائم كالمُقعَد، ومقطوع اليد و الرِّجل، ولا على الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه، ولا على الأعمى ولو وجد قائدًا، و لا على المريض الذي لا يُرجَى بُرْؤُه كلُّ هؤلاء لا يستطيعون الحجَّ، لا لعلَّة المال، بل لعلَّة الصحَّة.
وأما الاستطاعة بالطريق، فيجب أن يكون الطريق آمنًا بغلبة السلام، فإن خاف على نفسه القتل أو خاف على ماله السرقة فلا يجب عليه الأداء، فوجب عليه الحجُّ و سقط عنه الأداءُ، وهناك أحكامٌ أخرى سوف نراها بعد قليل.
قال العلماءُ: والذين يشعرون بدُنُوِّ أجلهم قبل أن يؤدُّوا حجَّ الفريضة بسبب عدم أمن الطريق، أو بسب عدم صحَّة البدن لعجزهم، كالمُقعد الذي لا يستطيع المشيَ، أو الشيخ الهرِم أو الأعمى، وغيرهم ممَّن لا يتمكَّنون من أداء الحجِّ بأنفسهم، فيجب عليهم الإيصاءُ بالحجِّ عنهم بعد الوفاة، فما دمتَ تملك المالَ فقد وجب عليك الحجُّ، فعندنا شروط الوجوب، وعندنا شروط الأداء، وما دمتَ غيرَ مستطيع لصحَّتك سقط عليك الأداءُ بذاته، ووجب عليك أن تجهِّز حاجًّا آخر، أو أن توصي بأن يُحجَّ عنك.

شروط أداء الحجِّ:

أمَّ‍ا الآن فمع شروط الأداء، أوَّلاً: سلامة البدن من الآفات المانعة من القيام بما لا بدَّ منه في السفر، فلا يجب الأداءُ على المُقعَد و الأعمى وإن وجد قائدًا، والشيخُ الكبير الذي لا يثبُت على الراحلة.
ومن شروط أداء الحجِّ زوالُ المانع الحسِّي من الذهاب إلى الحجِّ، كالحبس، والمنع من السفر، أو الخوف، أو عدم وجود وسيلة للسفر، ومن شروط الأداء أمنُ الطريق، ومن شروط الأداء عدمُ قيام العِدَّة للمرأة، من طلاق بائن، فالمرأةٌ المطلّقةٌ وهي في العِدَّة ليس عليها حجٌّ، ولكن ليس عليها أداؤه في هذا العام، هذا فرق بين شروط الوجوب و شروط الأداء، أو أنها مطلَّقةٌ طلاقًا رجعيًّا و هي في العِدَّة، أو أنها معتدَّةٌ من وفاة زوجها، فجميع أنواع العِدَّة تُسقِط أداءَ الحجِّ لا فرضِيتَه، لأن الله تعالى نهى المعتدَّاتِ عن الخروج من بيوتهن لقوله تعالى:

﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) ﴾

[سورة الطلاق]

أما بالنسبة إلى المرأة فلا بدَّ من أن تخرج - اِنتبِهوا جيِّدًا - فلا بدَّ أن تخرج مع زوجٍ أو مَحرَمٍ تأبيدًا، وليس محرما مؤقَّتًا، بل على التأبيد، فهناك أشخاصٌ كزوجِ أختك لا يجوز أن يتزوجها، ولكنْ إذا ماتت أختُها يحقُّ لها الزواجُ به، فهذا مَحرمٌ مؤقَّتٌ، فلا يجوز أن تخرج المرأةُ إلى الحجِّ إلا مع زوج أو مَحرم على التأبيدِ

(( لحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ))

[رواه البخاري]

هذا ليس للحجِّ فقط، بل لأيِّ سفرٍ، وهناك قصصٌ كثيرة تثبت حكمة الشرع في هذا النهي، فإذا سافرت المرأةُ وحدها كان الطمعُ فيها كبيرًا.
فإذا وجدت المرأة محرمًا ؛ وليكن أخاها ؛ لم يكن للزوج أن يمنعها لحجِّ الفرض وله أن يمنعها لحجِّ النفل، فالزوجُ لا يحِقّ له أن يمنع امرأتَه من أن تحُجُّ حجَّ الفرض إذا وجدتْ مَحرمًا.

تعريف المَحرَم:

وتعريف المَحرم بالضبطِ ؛ من لا تجوز مُناكحتَه على التأبيد، لنسب أو رضاعٍ أو مصاهرة، وقد منع العلماءُ أن تسافر المرأةُ مع أخيها من الرضاعة لغلبة الفساد، ويؤكِّد الفقهاءُ أنه لا يجوز للأخ أن يخلُوَ بأخته من الرضاع لغلبة الفساد.
وهناك شروط ثالثة، شروط الوجوب تحدَّثنا عنها، وشروط الأداء تحدَّثنا عنها وبقيَ شروطُ صحَّة الأداء، وهي ؛ الإسلام و العقل و الإحرامُ بالحجِّ، فالإحرامُ من شروط الحجّ في المذهب الحنفي، و الفرقُ بين الشرط والركنأنّ، الشرط ليس داخلا في صُلب الفريضة، بل يجب أن يُؤدَّى قبل الشروع في الفريضة، والمرادُ بالإحرام النيةُ مع التلبيةِ، فهو بالنسبة للحجّ كالنية للصلاة، والوقت المخصوص أشهرُ الحجِّ، و المكان المخصوص الميقاتُ المكاني، أيْ الأماكنُ التي حدَّدها الشارعُ الحكيم لأداء فريضة الحجِّ.

بعضُ الملاحظاتِ المتعلِقة بفرضية الحجِّ:

إذا حجَّ الكافرُ هو كافر ؛ و لماذا كفر؟ إمَّا أنه نطق بكلمة الكفر، فلو قال إنسانٌ: لا أرى الصلاةَ واجبةً، وهذه الأشياءُ قديمةٌ ولا تناسب هذا العصرَ فقد كفر، وإذا أنكر الإنسانُ أحدَ الفروض فقد كفر، وإذا أنكرها قولاً أو عملاً فقد كفر، فإذا حجَّ الكافرُ ثم أسلم فلا يُغنِي حجُّه ذاك عن حَجَّة الإسلام، وهي غيرُ مقبولة، وأحيانا الإنسان بحكم عمله التعاقدي في السعودية مع أصدقاءَ ويتحرِج فيحُجَّ معهم، أما هو الحجُّ عنده فغير راضٍ به إطلاقًا، بل شعائره أشياء لا قيمة لها، غيبيات وخرافات، فحجَّ معهم وهذا اعتقادُه في الحجِّ فهو كافر، فإذا أسلم فلا تُغني حجَّتُه هذه عن حَجَّة الإسلام.
وإذا حجَّ الصغيرُ ثم بلغ لا يُغني حجُّه في صِغره عن حَجَّة الإسلام أيضًا، وإذا ارتدَّ المسلمُ سقطتْ أعمالُه الصالحةُ كلُّها بارتداده، و منها الحجُّ، فإذا عاد و أسلم وجب عليه حجُّة الفريضة، لأن وقتَ الحج هو العمُر، وهو باطل، و الارتدادُ هو الخروج عن الإسلام، و يكون بالاعتقاد، كاعتقاد شريك لله تعالى، أو إنكار اليوم الآخر، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والزكاة و الحجِّ أو نحو ذلك، أو أن ينطق بكلمة الكفر، فإذا كان ثمَّة تشدُّد، وسبَّ الإنساُنُ الدينَ فهذا ارتداد، ويُستتابُ، فإن لم يتُبْ تطلّق امرأتُه و تصادر أموالُه، لأن هذه كلمة الكفر.
وإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه، أو وُهِب له، أو استدانه، صحَّ حجُّه، هذه نقطةٌ مهمَة، فباعتبارك فقيرا، و لستَ مستطيعا، و حججْت فحجُّك باطل !! لا، هذا غلط، فإذا حجَّ الفقيرُ بمالٍ أُدِّيَ إليه أو وُهِب له أو استدانه صحَّ حجُّه و سقط عنه حجُّ الفريضة.
ومن كان له بيتٌ لا يسكنه، وهو زائد عن حاجته وجب عليه أن يبيعه ليحجَّ، أمَّا لو كان له بيتٌ كبيرٌ لا يحتاج إليه كلِّه، فلا يجب عليه بيعُ بعضه، والشرعُ لم كلَّفك بذلك.
ويُكرَه الخروجُ إلى الحجِّ في حقِّ المدين، الذي عليه ديْن، إذا لم يكن له مالٌ يقضي به الديْنَ، إلا أن يأخذ إذنًا من الدائن، فيستأذنه، كأن يكون شخص له معك مبلغ ضحمٌ، وذهب إلى الحجِّ، تنهاه قبل أن يحُجَّ حتّى يؤدِّي ما عليه من دين، و قد يكون الدائن راقيا كثيرا، وأَذِن فلا مانع في ذلك، فالمدين لا يصحُّ حجُّه إلا إذا أذِن له الدائنُ.

حكم الحج من حيث الفور و التراخي:

آخرُ موضوع نعالجه ؛ هل يجب الحجُّ على الفور أم على التراخي ؟ مذهب أبي حنيفة و أبي يوسف ؛ تلميذه الأول و الإمام مالك و المُزَني من الشافعية تلميذ الشافعي ر حمهم الله تعالى أنَّ الحج يجب علىالفور، و هو الإتيان به في أول أوقات الإمكان و في أول سنة من سنين الاستطاعة، فإن أخَّره بلا عذر سنين يُفسَّق ويأثم، وتُردُ شهادتُه إلا إذا أدَّى ولو في آخر عمره فإن الإثم يرتفع، أما إن كان تأخيرُه لعذر فشيء آخر.
وما الدليلُ ؟ ما دليل وجوب الفور ؟ هو الاحتياطُ، لأن الحجَّ لا يجوز إلا في وقت معيَّن واحد من السَّنة، و الموتُ يقع في شكل غير نادر في السنة، واحتمال موت الإنسان قبل أن يحُجَّ واقعٌ، إذًا الدليل هو الاحتياط، فتأخيره بعد التمكُّن تعريضٌ له على الفوات، فيكون التأخيرُ مكروها كراهة تحريمية، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ))

[رواه أحمد]

هذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك والمزني، أما الإمام الشافعي ومحمد بن يوسف التلميذ الثاني لأبي حنيفة رحمهم اللهُ تعالى أنه يجب على التراخي لا على الفور، لأن الحج يُؤدَّى في العمر، و العمر كلُّه وقتٌ للحج، كالوقت في الصلاة يصح تأخيرُها عن أوَّل الوقت، إلا أنه إذا أخَّر بعد التمكُّن حتى مات ولم يحُجَّ فقد أَثِم، وفي كل الأحوال يُفضَّل التعجيلُ للحج، وسوف نأخذ في درس قادم إن شاء اللهُ تعالى بعض فروض الحج وبعض سننه وواجباته.
و الأن إلى قصة التابعي الأحنف بن قيس، نحن في أوائل خلافة الفاروق نضَّر اللهُ وجهه، وها هم هؤلاء الأنجاد الأمجاد رهطُ الأحنف بن قيس من بني تميم يمتطون صهوات الخيول الصافنات، و يتقلَّدون الرِقاق المُرهفَات، و يرحلون عن منازلهم في الأحساء ونجد ميمِّنين وجوههم شطرَ البصرة، يريدون الانضمام إلى جموع المسلمين المحتشدين هناك تحت قيادة عتبة بن غزوان لقتال الفرس جهادا في سبيل اللهِ، و طلبًا لما عند الله من حسن الثواب، و كان معهم فتاهم الأحنف بن قيس، وذات يوم تلقَّى عتبةُ بن غزوان كتابًا - قائد الجيش - من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه يأمره أن يرسل إليه عشرةً من صُلَحاء عسكره وأحسنهم بلاءً في القتال، ليقف منهم على أحوال الجيش، و ليتملَّى مما عندهم من غير مشورة، فصدع عتبةُ بالأمر و جهَّز عشرة من صفوة عسكره، وجعل بينهم الأحنف بن قيس ووجَّههم إلى المدينة، و لمل مثُل رجالُ الوفد بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحَّب بهم و أدنى مجالسهم، ثم سألهم عن حوائجهم و حوائج عامَّة الناس، فنهضوا إليه تِباعًا وقالوا: أمَّا عامَّةُ الناس فأنت وليُّهم، لا علاقة لنا بهم، وصاحبُ شؤونهم، أما نحن فنتكلَّم عن خاصَّة أنفسنا، ثم طلب كلٌّ منهم حاجته التي تعنيه، وكان الأحنفُ بن قيس آخر الرجال كلامًا، لأنه كان أصغرَهم سنًّا، فلما جاء دورُه في الكلام حمِد اللهَ وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين إن جند المسلمين الذين حلُّوا في مصرَ قد نزلوا في الخُضرة والنُّضرة، والخصب من منازل الفراعنة، وإن الذين حلُّوا في ديار الشام قد نزلوا في الرغد والثمار والرياض من منازل القياصرة، وإن الذين حلُّوا في ديار الفرس قد نزلوا على ضفاف النهر العذبة، والجنان الوارفة من منازل الأكاسرة، لكنّ قومنا الذين حلّوا في البصرة قد نزلوا في أرض هشاشةٍ نشاشةٍ -الهشاشة الأرض اللينة المُستَرخِية، والنشاشة المالحة- لايجِفُّ ترابُها ولاينبُت مرعاها، أحدُ طرفيها بحرُ قُجاجٌ وطرَفُها الآخرُ فَلاةٌ قفرٌ - وصفٌ دقيق جدًّا - فأَزِل يا أمير المؤمنين ضرَّهم، وأنعِش حياتهم ومُرْ واليَك على البصرة أن يحفر لهم نهرًا يستعذبون منه الماءَ، ويسقون الأنعامَ والزَّرعَ وتحسُن حالُهم، ويصلُح عِيالُهم، وترخُص أسعارُهم، ويستعينون بذلك على الجهاد في سبيل اللهِ فنظر عمرُ إليه في إعجاب و قال: 

هلاَّ فعلتم مثل ما فعل هذا، الجماعة قالوا: أما عامة الناس فأنت وليُّهم، فقال سِّدنا عمرُ: إنه واللهِ لسيِّدٌ، هذا سيِّد

لأن سيِّد القوم خادمُهم، إنه و اللهِ لسيِّد إذا كان الإنسانُ في مرتبة عُليا في مجتمعه، فعليه تبِعاتٌ كثيرةٌ، عليه أن يخدم الناس جميعا ليكون حقًّا سيّدَهم، ثم قدَّم إليهم جوائزَهم، وقدَّم للأحنف جائزته فقال: واللهِ يا أمير المؤمنين ما قطعنا إليك الفَلَواتِ و لا ضربْنا إليك أكبادَ الإبل في البُكور والعَشِياتِ لنيل الجوائز، وما ليَ من حاجة لديَّ إلا حاجةَ قومي التي ذكرتُ، فإن تقضِها لهم تكنْ قد كفيتَ ووفّيتَ، فازداد عمرُ إعجابًا به و قال: هذا الغلامُ سيِّد أهل البصرة، و لما انفضَّ المجلسُ وهمَّ رجالُ الوفد بالانصراف إلى رواحلهم ليبيتوا عندها أجال عمرُ بصرَه في حقائبهم فرأى طرَف ثوب خارجًا من إحداهم فقام فلمسه بيده و قال: لمَن هذا ؟ فقال الأحنفُ: ليَ يا أمير المؤمنين، و قد أدرك أنه استغلاه فقال له عمرُ: بِكَمْ اشتريته ؟ فقال: بثمانية دراهم، فقال: هلاَّ اكتفيتَ بواحد ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما، أي اشترِ ثوبا بدرهم ووضعتَ فضلَ مالك في موضعٍ تعين به مسلما، ثم قال رضي اللهُ عنه:خذوا من أموالكم ما يصلِح شأنكم، وضعوا الفضولَ في مواضعها تُريحوا أنفسكم و تربحوا.
سيِّدنا عمر أذِن للرجال بالعودة إلى البصرة، غير أنه لم يسمح للأحنف أن يعود إليها، واستبقاه عنده حولاً كاملاً، ولقد أدرك عمرُ بثاقب نظره ما توافر لهذا الفتى التميمي من حِدَّة الذكاء، ونصاعة البيان، وسمُوِّ النفس، وعُلُوِّ الهمَّة، وغِنى المواهب، فأراد أن يُبقيَه قريبا منه ليصنعه على عينه، وليلقى كبارَ الصحابة فيهتدي بهديهم، ويتفقَّه في دين الله على أيديهم ثم إنه كان يريد أن يختبره عن كتَب، وأن ينفُذ إلى دخيلة نفسه قبل أن يولِّيه بعضَ شؤون المسلمين ذلك أن عمر كان يخشى الأذكياءَ الفصحاء أشدَّ الخشية، لأنهم إذا صلحوا ملؤوا الدنيا خيرًا وإذا فسدوا كان ذكاءهم وبَالاً على الخلق، فالأذكياءُ يُخوِّفون، يا أحنف إني قد ابتليْتُك واختبرتُك فلم أرَ إلا خيرًا، وقد رأيتُ علانيتَك حسنةً، وإني لأرجو أن تكون سريرتُك حسنةً أيضًا مثلَ علانيتك، ثم وجَّهه لحرب الفرس و كتب لقائده أبي موسى الأشعري: أمَّا بعدُ فأدنِ الأحنفَ بن قيس و شاورْه واسمعْ منه، فانضوى الأحنف تحت ألوية المسلمين المشَرَِّقة في بلاد فارس، و أبْلى من ضُروب البطولات ما جعل سهمَه يعلو، ونجمَه يتألّق، وأبلى هو وقومه بنو تميم في قتال العدوِّ أكرمَ البلاء، وبذلوا أسخى البذل، حتى فتح اللهُ على أيديهم مدينةَ تُوسْتَرْ، دُرّةَ التاج الكِسرَوِي، وأوقع في أسرهم الهُرمزان.
كان الهرمزان من أشدِّ قواد الفرس بأسًا، وأقوى أمرائهم شكيمةً، و أمضاهم عزيمةً وأوسعهم مكيدةً في الحرب، وقد ألجأتْه انتصاراتُ المسلمين إلى مصالحتهم أكثر من مرة، غير أنه كان يغدر بهم كلما سمحتْ له الفرصةُ، وظنَّ أنه قادرٌ على النصر، فلمل أطبقوا عليه تحصَّن منهم في بُرْجٍ من أبراج الحصن و قال: إن معي مائة سهم وواللهِ ما تصلون إليَّ ما دام في يدي شيءٌ منه، و أنتم تعلمون أني رامٍ لا تخطِأ له رمية، فما جدوى أسركم إيايَ بعد أن أقتل منكم مائة ؟ فقالوا و ماذا تريد ؟ فقال: أريد أن أنزل على حكم خليفتكم عمر، ولْيفعلْ بي ما يشاء، فقالوا: لك ذلك، فرمى قوسه على الأرض، ونزل إليهم مستسلمًا، فشدُّوا وثاقه وأُرسِل إلى المدينة مع وفد من أبطال الفتح، و كان على رأسهم أنسُ بن مالك خادم رسول الله صلى الل عليه و سلم و الأحنفُ بن قيس تلميذُ المدرسة العُمرية، ومضى الوفدُ يحُثُّ الخُطى بالهرمزان نحو المدينة ليبشِّر سيِّدَنا عمر بالفتح، ويحمل إلى بيت مال المسلمين خمس الغنائم، وليسلّم ناقض العهود، خوَّانَ الذمم إلى الخليفة ليحكم فيه بحكمه، وسيدنا صلاح الدين لما انتصر على الفرنجة عفا عن كلِّ ملوك فرنجة إلا ملكًا واحدًا كان كلَّ عامٍ يغدِر بالمسلمين، ويقتل حجَّاجهم هذا لم يعفُ عنه، بل قتله بيده، لأنه كان غدَّارا، فهذا كان ناقضًا للعهود، خوَّانا للذِّمم، أُرسِل إلى المدينة ليحكم فيه سيدنا عمر بحكمه، و لما بلغوا حواشيَ المدينة أعدُّوا الهرمزان ليعرضوه على المسلمين على هيئته هناك، فألبسوه ثيابَه المنسوجة من ثمين الديباج، و المُوشَّاة بخيوط الذَّهب، ووضعوا على رأسه تاجَه المرَصَّعَ بالدُّرِّ و الجوهر و قلَّدوه صوْلجانَه المصنوعَ من الإبريز المُكلَّل باليواقيت و اللآلئ، وأدخلوه إلى المدينة بهيئته العظيمة يوم كان قائدًا كبيرا في بلاد فارس، فما أن وطِأتْ أقدامُهم أرضَ يثربَ حتى تجمَّع الناسُ عليهم شِيبًا وشبَّانًا، إنه منظرٌ غريبٌ، و جعلوا ينظرون إلى أسيرهم، ويعجبون من هيئته وزيِّه أشدَّ العجَب، توجّه الوفدُ بالهرمزان إلى دار عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل هو في المسجد يستقبل وفدًا قدِم عليه فانطلقوا إلى المسجد فلم يجدوه، و كانوا كلما طال بهم البحثُ عن الخليفة تكاثر الناسُ عليهم و اشتدَّ الزحامُ، فصار الأمرُ فُرجة، وفيما هم في حيرتهم رآهم صبيةٌ صغارٌ يلعبون فقالوا: ما شأنكم ؟ نراكم ذاهبين آيبين لعلَّكم تريدون أميرَ المؤمنين، قالوا: نعم نريده، قالوا: فإنه نائمٌ في ميمنة المسجد متوسِّدٌ بُرنسَه، و كان عمرُ رضي اللهُ عنه قد خرج للقاء وفدٍ من أهل الكوفة، فلما انصرف الوفدُ خلع البُرنس ووضعه تحت رأسه وأسلم جفنيه للتراب، فانطلق الوفدُ بالهرمزان إلى ميمنة المسجد فلما رأوا الخليفةَ نائما جلسوا دونه، وأجلسوا أسيرَهم معهم، و لم يكن للهرمزان يفقه العربيةَ، وما كان يخطر بباله أن هذا النائمَ في ناحية المسجد هو أمير المؤمنين عمر، حقًّا لقد كان قد سمع عن تقشُّفه، وزهده في زخرُف الدنيا وزينتها، لكنه ما كان يتخيَّل أن ينام قاهرُ الروم و الفرس في طرف المسجد من غير غطاء، و لا وِكاء و لا حرَّاسٍ و لا حُجَّابٍ و لما رأى القومَ يجلسون صامتين، ظنهم الهرمزانُ يتأهَّبون للصلاة، ويترقَّبون قُدوم الخليفة لكنَّ الأحنفَ بن قيس جعل يشير إلى الناس أن يسكتوا، ويكفُّوا عن الجلبة لكي لا يوقظوا الخليفة فقد كان يعلم علم اليقين من صحبته السابقة أنه قلَّما يُغمَض له جفنٌ في الليل، فهو إمَّا قائمٌ في محرابه يعبد اللهَ، وإمَّا متخفِّفٌ من ثيابه يجوب أحياءَ المدينة ليعرف أحوالَ الرعية، أو عاسٌّ يحرس بيوت المسلمين من الطُّراق، فأثارتْ إشاراتُ الأحنف إلى الناس انتباهَ الهرمزان، فالتفت إلى المغيرة بن شعبة و كان يعرف الفارسية و قال: مَن هذا النائمُ ؟ فقال له المغيرةُ: إنه عمر فثغَرَ الهرمزانُ فمه دهشةً و قال: عمر! أين حرسُه و حجَّابُه ؟ فقال له المغيرةُ: ليس له حارسٌ و لا حاجبٌ، فقال الهرمزان: ينبغي أن يكون نبيًّا، فقال المغيرة: لا، بل يفعل فعلَ الأنبياء إذ لا نبيَّ بعد رسول اللهِ، ثم كثُر الناسُ، و ارتفعتْ الجلَبةُ فاستيقظ عمرُ، واستوى جالسًا، ونظر إلى الناس في دهشةٍ، فرأى الأميرَ الفارسي وعلى رأسه تاجُه المتَوهِّج تحت أشعَّة الشَّمس، وفي يده صولجَانُه الذي يخطف بريقُه الأبصارَ، فحدَّق وقال: مَن هذا ؟ فقالوا: هو الهرمزانُ، فقال: الهرمزانُ فقال الأحنفُ:: نعم يا أمير المؤمنين، فتأمَّل عمرُ ما عليه من الذهب واللآلئ واليواقيت، و الجواهر والحرير، ثم أشاح بوجهه و قال: أعوذ بالله من النار، و أستعين به على الدنيا، الحمد لله الذي أذلَّ هذا و أشياعَه للإسلام، و قال: يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين ؛ كلمة عميقة ؛ يا معشر المسلمين تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم الكريم ولاتُبطِركم الدنيا فإنها غرَّارةٌ، فلما فرغ من كلامه بشَّره الأحنفُ بن قيس بالفتح و أخبره بما أفاء اللهُ على المسلمين من الغنائم، وقال: يا أمير المؤمنين إن الهرمزان قد استأسَر لنا - أي استسلم - وطلب أن ينزل على حكمك فيه، فكلِّمه إذًا، قال: لا أكلِّمه حتى تخلعوا عنه هذه المظاهر فخلعوا عنه حِليته وتاجه، وأخذوا منه صولجانه، وألسوه ثوباً يستره، عند ذلك التفت عمر إليه، وقال: يا هرمزان - طبعا هناك مترجِم - كيف وجدتَ وبالَ الغدر، وعاقبة أمر الله ؟ فأطرق الهرمزان في ذِلَّة، ثم قال: يا عمر لقد كنا في الجاهلية نحن و إياكم و لم يكن الله معنا و لا معكم، فغلبناكم، فلما أسلمتم صار اللهُ معكم فغلبتمونا، فقال له عمر: لقد غلبتمونا لهذا الذي ذكرتَ، ولأمر آخر هو اجتماعكم وتفرُّقنا، ثم نظر إليه بشدة و قال: ما عذرُك في انتقاضك المرة تِلْوَ المرة عهود المسلمين يا هرمزان، هل لك عذرٌ في الغدر ؟ فقال الهرمزانُ: أخاف ؟ أن تقتلني، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تخبرني - أي أنت في أمان إلى أن تخبرني، فلما سمع الهرمزان ذلك من عمر هدأ رَوْعُه بعض الشيء، وقال: إني عطشان، فأمر له عمر أن يسقوه، فأُتِيَ له بماء في قدحٍ غليظ، فتأمله - طبعا هذا ملِك - قال: و اللهِ لو متُّ عطشا ما شربتُ من هذا الإناء، فأمر عمرُ فأُتيَ له بماء في إناءٍ يرضاه ؛ فلما أخذه من يده جعلت يدُه ترتجف، فقال له عمرُ: ما بكَ ؟ فقال إني أخاف أن أُقتَل وأنا أشرب هذه الجرعة من الماء فقال له عمر: لا بأس عليك حتى تشربها، فما كان من الهرمزان إلا أن كفَأَ الإناءَ، وسفح الماءَ فقال عمر: أحضروا له ماء غيرَه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطشَ، فقال الهرمزان: لا حاجة لي بالماء أبدا، وإنما أردتُّ أن أستأمِن به على نفسي من القتل، فقال له عمر: إني قاتلُك، فقال الهرمزان: لقد أمَّنتني، فقال عمر: لقد كذبتَ، فقال أنسُ بن مالك: صدق يا أمير المؤمنين لقد أمَّنتَه، فقال عمر: ويحك يا أنس أَؤُأمِّن قاتلَ أخي، هيهات، فقال أنسُ: لقد قلتَ له: لا بأسَ عليك حتى تخبرني، وقلتَ له: لا بأس عليك حتى تشرب الماء، وأيَّد الأحنف قول أنس، وأقرَّ الحاضرون بأن سيّدنا عمر قد أمَّن الهرمزانَ، فنظر عمر إليه، وقال: لقد خدعتَني، وإني واللهِ لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم الهرمزانُ، فأراد سيدنا عمر أراد أن يقسُوَ عليه كي يحمله على الإسلام، و أحيانا تحدث تمثيلية بين الأب والأم على الطفل، وسيدنا عمر كان يقلق بالَه كثرةُ نقض الفرس لعهودهم وانقلابهم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور