وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة النازعات - تفسير الآيات 27-33
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

المؤمن مأخوذُ بصنعة الله والشارد عن الله مأخوذٌ بصنعة البشر :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة النازعات، ومع الآية السابعة والعشرين وهي قوله تعالى:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 أي أأنتم أشد خلقاً أم الذي خلق السماوات والأرض؟ المؤمن مأخوذُ بصنعة الله، والشارد عن الله مأخوذٌ بصنعة البشر، المؤمن يحدِّثك عن المجَّرات وعن الكواكب، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الجبال، وعن الأنهار، وعن البحار، وعن الأطيار، وعن الأسماك، مأخوذٌ بآيات الله، بصنعة الله، بروعة خلق الله عز وجل، بينما أهل الدنيا مأخوذون بصِناعات الكفار؛ بمركباتهم، بأجهزتهم، بما عندهم من وسائل سريعة، فنفس المؤمن مُمْتَلئةٌ تعظيماً لله، ونفس غير المؤمن ممتلئةٌ تعظيماً لأهل الدنيا، واللهُ عز وجل في هذه الآية يلفت نظرنا:

 

﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 أيها الأخوة، لو وازنت بين هذه العين التي ترى صوراً لا نهايةَ لها، بحجمها الطبيعي، وبألوانها الدقيقة، وبحركاتها وسكناتها مباشرةً، وبين آلةٍ تصوِّر، شتانَ بين الجهازين، لو وازنت بين كُلْيةٍ صناعيةٍ، وبين كُلْيةٍ طبيعية، فشتانَ بين الصنعتين، الكليةُ الصناعية حجمها كبير، ويحتاج الإنسان أن يتمدد إلى جنبها ثمانِيَ ساعات، وفي النهاية لا تستطيع أن تصفي مِن دم الإنسان إلا ثمانين بالمئة، ويبقى بعض حمض البول في الدم، مما يزعجه ويحمله على سلوكٍ غير سوي، بينما الكُلْية الطبيعية بحجمها الصغير، بلا صوت، وأنت تعمل هي تعمل، وأنت نائم وهي تعمل، وأنت تعمل عملاً شاقاً وهي تعمل..

 

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

موازنة بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان :

 

 محرِّك صغير له صوت، يملأ الدنيا صَخَبَاً، بينما سحبٌ كالجبال تمرّ مَرَّ السحاب بلا صوت!! صنع الله الذي أتقن كل شيء، عوِّد نفسك أن توازن بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان، فأعلى طبيب أسنان في الأرض من أجل أن يقلع السِن لابد من أن يضع المخدِّر، ووضع المخدر مؤلمٌ جداً، بينما الطفل الصغير يسقط سنه دون أن يشعر، دون أن يتألَّم، فإذا هو مع لقمة الطعام، هل عندك لطفٌ بهذه الطريقة، دقق واعتبرْ.
 الدماغ البشري حينما يصيبه ألمٌ لا يحتمل، يفرز من تلقاء ذاته مادةً مخدِّرةً، هذا الغياب عن الوعي، الإنسان فإذا أصيب بحادث، والألم بلغ درجة لا تحتمل، الدماغ نفسه يفرز مادة مخدرة فيتخدر، ما هذه الصنعة؟
 هذه العين، لو سافرت إلى بلدٍ في القطب الشمالي، والحرارة هناك سبعين تحت الصفر، ترتدي الثياب الصوفية، والجوارب، وكلَّ شيء، لكن هل تستطيع أن تغطي عينيك؟ لا تستطيع، لا بد أن تكون صفحة العين على مساسٍ مع الهواء الخارجي، وفي العين ماء، لمَ لا يتجمَّد الماء، وهو على اتصالٍ بجوٍ حرارته سبعون تحت الصفر؟! لأن في العين مادةً تمنع التجمد، مضادةً للتجمد..

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 قرأت مرةً كلمة في موسوعة علمية مِن أرقى الموسوعات، العدد كان عن الطيران، الذي لفت نظري مقدِّمة صغيرة، يقول صاحبها: إن أعظم طائرةٍ صنعها الإنسان على وجه الأرض، لا ترقى إلى مستوى الطير، فقد يطير الطير ستاً وثمانين ساعةً بلا توقُّف، وقد يقطع سبعة عشر ألف كيلو متر في رحلةٍ من الشمال إلى الجنوب دون أن يضل الطريق، يعتمد على ماذا؟ على أي جهازٍ يعتمد؟ والعلماء حتى هذه الساعة في حيرةٍ مِن أمر اتجاه الطير إلى هدفه، بماذا يهتدي؟ بالتضاريس؟ كيف يهتدي في الليل؟ بساحة الأرض المغناطيسية؟ صنعوا له ساحةً مضادةً، فسار وفق هدفه، أخذوه بعد الولادة إلى شرق الأرض، فعاد إلى مكان مسقط رأسه في شمالها، لَمْ يَدَعُوا افتراضاً إلا طبَّقوه، والطير يهتدي إلى هدفه، والعلم اليوم لا يعرف ما الذي يهدي الطير، ولكن الله أجاب عن هذا السؤال، فقال:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ﴾

[ سورة الملك: 19 ]

 أي أنَّ ربنا عز وجل مباشرةً مِن دون واسطة يهدي الطير إلى أهدافها.

 

التوازن الحركي :

 أنت اجعل لك جولاتٍ في الكون، ووازنْ بين الطير والطائرة، وبين الأرض والمركبة، مركبة فضائية، مِن أجل أن تقطع ثانيةً ضوئيةً واحدة، من أجل أن تقطع ثلاثمئة وستين ألف كيلو متر، كلَّفتْ أموالاً أرهقتْ ميزانية أمريكا، مِن أجل أن يركب فيها اثنان، ويستطيعا أن يعيشا على سطح القمر بجو القمر، ركبا مركبةً فيها علم البشرية كلِّه؛ الرياضيات، مع الفيزياء، مع الفلك، مع الكيمياء، مع الصحة، علم البشرية كله في مركبةٍ كلَّفت أربعة وعشرين ألف مليون دولار، من أجل أن نقطع بها ثانية ضوئيّة واحدة.
 وهذه الأرض التي وزنها ستة آلاف مليون ملْيون مليون طن، هذه الأرض التي تسير حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، ولا تتأخَّر عن ميعاد وصولها ولا ثانية، دقةٌ ما بعدها دقَّة، بل إن بعض الساعات العِملاقة في الأرض قد تقدِّم ثانيةً أو تؤخِّر ثانيةً في العام كله، وبعض الكواكب تُضبَط ساعاتُ الأرض على حركتها..

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 تبعد عنا بعض المجرات عشرين مليار سنة ضوئية، وبعض المجرات تزيد عن مجرتنا ثمانية وعشرين ضعفاً، وتبدو نجماً واحداً من بعدٍ سحيق، من بعد مليوني سنة ضوئية.

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 السماء بناها، كَوْنٌ، مئة ألف مليون مجرَّة، وهو أحدث رقم، وفي كل مجرة تقريباً، بشكل متوسط، مئة ألف مليون نجم، أي مئة ألف مليون نجم ضرب مئة ألف مليون مجرة، وكل نجمٍ له حجمٌ، وسرعةٌ، وكتلةٌ، وجاذبيةٌ وهو يسير في مسار مغلقٍ حول نجمٍ آخر، والمحصلة كونٌ يتحرك بسكونٍ مُطْلَق، هذا التوازن الحركي..

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾

خبرة الله قديمة لا تحتاج إلى تعديل ولا إلى تطوير بينما خبرة الإنسان حادثة :

 

 أيها الأخوة الكرام، حينما قال الله عز وجل:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 وازن بين صنعة الله عز وجل وهو خَلْق الإنسان، منذ أن خَلَق الله سبحانه الإنسانَ مِن عهد آدم إلى يوم القيامة أطرأ عليه تعديل؟ فهل وجد اليد قصيرة فزاد طولها؟ أطرأ عليه تعديل؟ انظر إلى مركبةٍ صنعت في عام ألف وتسعمئة، ووازن بينها وبين مركبةٍ صنعت عام ألفين، الفرق شاسع جداً، فالمركبةُ القديمة تدير محرِّكها مِن خارجها، أتذكرون ذلك؟ وتطلق البوق بطريقةٍ بدائيةٍ جداً، على الهواء، وتُشعَل مصابيحهُا بالكبريت، فيها شمعات، وعجلاتها ليس فيها هواء، فهي كتلة صلبة، ومحركها له حركة واحدة، هذه مركبةٌ صنعت عام ألف وتسعمئة، أما التي صنعت عام ألفين، هي شيء لا يصدَّق، فماذا تستنبط؟
 إن خبرة الله قديمة لا تحتاج إلى تعديل، ولا إلى تغيير، ولا إلى تبديل، ولا إلى تطوير، بينما خبرة الإنسان حادثة، الصناعات كلها، كلّ سنة هناك تطوير، وتحسين، وتسريع، في شتَّى المجالات، فأنت عوِّد نفسك أنْ توازن بين العين وآلة التصوير، وبين الأرض ومركبة الفضاء، وبين الكُلية الطبيعية والكلية الصناعية، فلو دخلت إلى مستشفى لجراحة القلب، لرأيت القلب الصناعي بحجم كبير جداً، بحجم ثلاجة كبيرة جداً، وأنابيب، وأجهزة، وساعات، فشيء يحتاج إلى غرفة تقريباً، هذا القلب الصناعي، فإذا أجرى الإنسان عملية قلب مفتوح يوصل دمه بالقلب الصناعي، بينما قلبه الطبيعي لا يزيد عن قبضة اليد، يعمل ثمانين عاماً دون كَلَلٍ أو مَلَل، يضُخ من الدم في عمرٍ متوسط ما يملأ أكبر ناطحة سحابٍ في العالم، يضخ في اليوم ثمانية أمتار مكعبة من الدم باليوم الواحد، فأنت قد تستهلك في العام كله ألف لتر من الوقود السائل، ألف لتر، بينما قلبك يضخ في اليوم الواحد ثمانية آلاف لتر، له دسامات، وله شرايين، وله أوردة، وازن بين صنعة الله في خلقك، فإنّ الله أرادك أن تُوازِن.

 

ربنا عز وجل سمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته :

 قال تعالى:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 أم الذي بنى السماء، انظر إلى تلوين العصافير، إلى تلوين الفراشات، شيء لا يصدق، فالمهندسون الجماليون، مهندسو الفنون الجميلة الذين يصممون الأشكال والألوان، يقتدون بالفراشات والأطيار في تلوين الآلات وتزيينها..

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 وازن بين الطائر والطائرة، وازن بين العين وآلة التصوير، وازن بين الكُلية وبين الكُلية الصناعية، بين القلب الطبيعي وبين القلب الصناعي، وازن بين صنعة الله وصنعة البشر، لذلك ربنا عز وجل سمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته، قال:

﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 14 ]

جولات بين صنعة الله وصنعة الإنسان :

 هل اقتنى أحد سيارة فوجد بعد سنة سيارة صغيرة ولدتها الكبيرة، لا يوجد مثل هذا الشيء، أم أنَّكَ تشتري الفرس فتلد لك حصاناً صغيراً، تشتري البقرة فتلد لك بقرة أخرى، وهل هناك معمل يعمل بصمت ويأكل الحشيش والبرسيم، يعطيك مادة أساسية جداً جِداً في حياة الإنسان، فيعطيك الحليبَ متوازناً، فيه فيتامينات، وبروتينات، ومعادن، ومواد سكرية، ومواد دسمة، وحموض، فهو غذاء كامل، انظر إلى الدجاجة، فهي تأكل من خشاش الأرض، تعطيك بيضة فيها كل شيء، فيها ستة عشر فيتاميناً، ومعادن، وأشباه معادن، ومواد أساسية، ومواد دسمة، ومواد بروتينية، لأن البيضة يمكن أن تصبح طيراً، إذاً هي كاملة في كل شيء، غذاء كامل، دقق، عود نفسك أن تسيح في جولات بين صنعة الله وصنعة الإنسان، ربنا وازَنَ ذاته العليّة مع خلقه، قال:

﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 14 ]

 ووازن ذاته العلية مع خلقه أيضاً فقال:

﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 62]

 الآن الكمبيوتر، حَسْب معلوماتي القديمة جداً، يقرأ أربعمئة وخمسين مليون حرف في الثانية الواحدة، والله عز وجل قال عن ذاته:

﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 62]

 معنى ذلك لا يوجد وقت إطلاقاً، ألغي الوقت، كن فيكون، عالم مصري أراد أن يكتشف ما يجري داخل الذرة، فأراد أن يخترع مقياساً يصور ما يجري في داخل الذرة، بمقياس واحد من بضعة ملايين من الثانية، يقيس الفيمتو ثانية، فمن أجل أن يقرأ ما يجري من تفاعلات في ثانية واحدة، يجب أن يراه في أربعين سنة، موضوع نال به أعلى جائزة في العالم وهي جائزة نوبل في الكيمياء، فقضية الوقت وقضية الخلق، وقضية الذرة والمجرة والخلايا، فدقّّق واعتبرْ.

 

إعجاز الله في خلقه :

 ذكرت مِن مُدة الغدة التيموسية، وهي عبارة عن كلية حربية، تنمو مع الجنين، وتضمر بعد عامين من الولادة، كُلِّيةٌ حربية بكل معاني هذه الكلمة، تدخلها الكريات البيضاء المُقاتلة، تصطف على مدرجات كالمدرجات الرومانية، تتلقى دروساً في العناصر الصديقة والعناصر العدوة، دروساً عَبْرَ مناعة الأم، وعبر الأمراض، وعبر عادةٍ خلقها الله في الطفل؛ بأنه يضع كل شيء في فمه كي يتعرَّف، بعد عامين تخرج هذه الكريات مِن مخرج امتحاني، هناك فاحصان يفحصان كل كريةٍ بيضاء، يعطيانها عنصراً صديقاً، فإذا قتلته تقتل، يعطيانها عنصراً عدواً، فإذا لم تقتله تقتل، ثم تتخرَّج هذه الخلايا وقد سُمِّيت الخلايا التائيّةَ، كانت همجيةً فأصبحت مثقفةً، فتعرف الصديق من العدو، وهي خلايا مُقاتلة مع سلاح فتَّاك، فلو كان مع شخصٍ مدفعٌ ضد الطائرات، أهم شيء لصاحب هذا المدفع أن يعرف الطائرة الصديقة من العدوة، فهذه الكلية تضمر بعد عامين، وتكلِّف الخلايا المثقَّفة أن تعلم الأجيال اللاحقة، بعد ستين عاماً يضعف هذا التعليم، فينشأ ما يسمَّى بالخَرَفَ المناعي وهو حرب أهلية ضمن الجسم، فأكثر أمراض البشر في الستينات، عبارة عن هجوم كريات الدم البيضاء، التي هي في الأصل مكلفة أن تدافع عن الجسم، تهاجم أعضاء الجسم ومفاصله وأماكنه الحسَّاسة، فهذه الكلية الحربية من صممها؟

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

 عَوِّد نفسك أن توازن بين صنعة الله عز وجل وبين صنعة البشر، وازن بين وردةٍ مِن البلاستيك، وبين وردةٍ طبيعية، وازن بين شرابٍ كيماويٍ مصنوعٍ يضرُّ أجسامنا، وبين شرابٍ طبيعيٍ ينفع أجسامنا..

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾

خبرة الإنسان خبرةٌ حادثةٌ متنامية لكن خبرة الله عز وجل خبرةٌ قديمة :

 أي تعديل يطرأ على خلق الله عز وجل يسير نحو الأسوأ، فمثلاً الاستنساخ، ما هو؟ محاولة توليد جنين لا من نطفةٍ وبويضة، بل من نطفة أو بويضة فقط، قال تعالى:

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ﴾

[ سورة الإنسان: 2]

 فنشأت مضاعفات، ونشأ هَرَم مبكِّر جداً، ونشأت أمراض، لأن الإنسان أراد أن يطوِّر صنعة الله عز وجل، فإذا طورها فنحو الأسوأ، وأكثر ما يعانيه البشر الآن مِن تغيير خلق الله، فهو يكافح أمراض النبات بالمواد الكيماوية، فإذا بالتربة تتملَّح، وإذا بأمراض النبات تستشري، الآن عادوا إلى المكافحة الحيوية، لما سمدوا الأرض بأسمدةٍ كيماوية، فإذا هناك أمراض للنبات كثيرة، فعادوا إلى السماد الطبيعي.
 فعود نفسك من خلال هذه الآية أن توازن بين صنعة الله عز وجل وصنعة الإنسان، صنعة الإنسان تنقصها الخبرة، بل إن خبرة الإنسان خبرةٌ حادثةٌ متنامية، لكن خبرة الله عز وجل خبرةٌ قديمة، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 14 ]

 والبشرية اليوم كلما تاهت، وكلما انحرفت، وكلما ضلَّت سواء السبيل، ترجع مقهورةً إلى أصل الدين، هناك جامعاتٌ في بعض البلاد المنحلَّة، عادت إلى فصل الذكور عن الإناث، لأنهم وجدوا أعداداً مخيفةً من الأجِنَّة توضع في أطراف الحدائق، عادوا إلى فصل الذكور عن الإناث، هناك في بلد من بلاد الشرق الكبيرة حرَّمت الخمر، لأسبابٍ صحيةٍ فقط، قبل أن ينهار هذا البلد، حرمت الخمر تحريماً كلياً، فكلما تقدَّم العلم اكتشف أن أكمل حالةٍ هي التي شَرَعَها الله عز وجل.

 

الموازنة بين خلق الله وخلق البشر :

 مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) وهو أليكسي كارينجي فيما أذكر، قال: إن أفضل نظام للبشرية أن يقصر الرجل طرفه على امرأةٍ واحدة. على زوجته، هذا غض البصر، إذاً وازن بين خلق الله وخلق البشر، وازن بين جهازٍ صنعه ربنا عز وجل، وبين جهازٍ صنعه الإنسان.

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾

 رفع سمكها، المسافات بين النجوم مسافات فلكية، شيء لا يصدَّق، عشرين مليار سنة ضوئية، بين الأرض وبين بعض المجرات، يسير الضوء في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، وفي الدقيقة ثلاثمئة ألف ضرب ستين، بالساعة ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين، باليوم ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين، بالشهر ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، بالسنة ضرب اثني عشر، الآن هذا الرقم الكبير، ضرب عشرين مليار، فما هذه المسافة؟ قال تعالى:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[سورة الواقعة: 75-76]

﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا ﴾

 المسافات في الفضاء الخارجي صعب على العقل أنْ يتصورها، فأقرب شيء لنا، أقرب نجم ملتهب لأرضنا بعده عنا أربع سنوات ضوئية، أما تلك المجرة فإنها تبعد عشرين مليار، عشرين ألف مليون أنا أريد أقرب نجم، أربع سنوات ضوئية، لو أردت أن تصل لهذا النجم بمركبة أرضية تحتاج إلى خمسين مليون سنة، فهل تصل؟!

 

معنى التسوية :

 قال تعالى:

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا ﴾

 السَمْك أي المسافات..

﴿ فَسَوَّاهَا ﴾

 معنى، سواها، المعنى دقيق:

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾

[سورة الأعلى: 1-2]

 أنت ممكن أن تبني مكاناً مِن جدران وسقف وأرض وباب، لكن لو أردت لهذا المكان أن تبيت فيه سيارتك، تحتاج إلى ماذا؟ تحتاج إلى قياسات، يجب أن يكون عرض هذا المكان بعرض المركبة مع فتح الأبواب، لو كان مِن دون فتح أبواب، فكيف تخرج من السيارة؟ لابد مِن فتح البابين، يجب أن يكون طول هذا المكان أكبر من طول السيارة، يجب أن يكون ارتفاع السقف أعلى من سقف السيارة، فحينما تتوافق أبعاد هذا المكان مع أبعاد السيارة، فأنت قد سوَّيته مع السيارة.
 فمثلاً تفاحة، هذه مَن سوَّاها مع حاجة الإنسان؟ الله سبحانه! فحجمها معقول، لو كان حجمها بحجم السمسم فهي غير معقولة، تطلب من أخيك أن يقشِّر لنا هذه التفاحة، فكيف نقشرها، لو كان حجمها متر، كيف تحمل التفاحة؟ لو كانت بُنيتها كالفولاذ، كيف تأكلها؟ لو كانت كريهة، رائحتها كريهة، دقق: حجمها معتدل، ولونها جميل، وقوامها مناسب، وطعمها طيِّب، لكن لو ينضج هذا التفاح كله في يوم واحد، ماذا تفعل به؟ لو أن البطيخ ينضج في يوم واحد، ماذا نصنع به؟ حدثني أخ فقال لي: قد ضمنت حقل بطيخ، حمَّلت كل يوم منه سيارة خلال تسعين يوماً، فالبطيخ ينضج تباعاً على مدى أشهر الصيف، معنى مسوَّى مع الإنسان، البطيخ على الأرض والتفاح في الشجر، لو كانت الآية معكوسة، لو البطيخ على الشجر يصبح قاتل، لو بطيخة فلتت، تقتل الإنسان، انظر إلى التسوية كل فاكهة لها وقت، البطيخ ينضج في الصيف، لو كان في الشتاء النفس تنفر منه، أما في الصيف البطيخ محبب جداً، بالشتاء البرتقال، أكثره مواد فيها فيتامين " C "، مضادة للرشح، البرتقال والحمضيات تتوافق مع أمراض الشتاء، وفاكهة الصيف تتناسب مع حر الصيف، انظر إلى التسوية، التناسب، معنى ذلك أنه يوجد إله حكيم، هذه التسوية.

 

اللهُ جعل الليل ستراً وجعل النهار مشرقاً فالنهار يملأ القلب طمأنينةً والليل يملؤه خوفاً:

 قال:

﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ﴾

 جعل ليلها مظلماً، جعل الليل سكناً، جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، الليل ستر، وفي الليل يأوي الإنسان إلى فراشه، يلتقي مع أهله، يجلس في بيته، ينقل أغراضه في الليل، فاللهُ جعل الليل ستراً:

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشً ﴾

[ سورة النبأ:10-11 ]

 مَن جعل الليل مظلماً؟ لو كان الليل ستة أشهر، تنام وتفيق، وتنام وتفيق، وتذهب إلى عملك في الليل، وتعود في الليل، وتنام في الليل، وتستيقظ في الليل، شيء لا يحتمل، لو كان النهار ستة أشهر كما هو في القطب شيء لا يحتمل، أما الليل والنهار يتناسبان مع طاقاتك، وجهدك، ووقتك، لأن الليل والنهار تقريباً متساويان..

﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ﴾

 جعل ليلها مظلماً..

﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾

 وجعل النهار مشرقاً، فالإنسان يسير في الغابة ليلاً، فيمتلئ قلبه خوفاً، إذْ كل شيء أمامه يظنه شبحَ إنسان هجم عليه، يأتي النهار يطمئن قلبه، فالنهار يملأ القلب طمأنينةً، والليل يملؤه خوفاً، وأشد المدن صخباً تجدها بعد الساعة الثانية حيث يعمُّ الهدوء فيها، والناس آوَوا إلى بيوتهم، وقلَّت الحركة والصخب، وسكن الناس.

 

رحمة الله واسعة شاملة بأنْ ذلَّل الأرض للإنسان :

 قال تعالى:

﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ﴾

 جعل ليلها مظلماً:

﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾

 من الممكن أن تذهب إلى منطقة في السويداء فتجد أرضها صخرية، وصخورها حادَّة، فهل هذه الأرض يمكن أنْ يعاش بها؟ آثار البراكين صخور ناتئة، وحادة، ومؤنَّفة لا يعاش بها، لكن رحمة الله واسعة شاملة بأنْ ذلَّل الأرض للإنسان.

﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾

 مَن جعلها مستوية هكذا؟ ومَن جعل تربتها ليّنة؛ تفلحها، وتزرعها، وتسقيها، وتبني عليها، فلو كانت الأرض كلها مائلة، فالأراضي المائلة متعبة جداً تحتاج إلى جدر استنادية، وإلى مدرجات، والتربة قد تذهب مع الماء، مَن جعلها مستوية في معظمها؟ الله جل جلاله، مَن جعل تربتها صالحة للزراعة؟ لو أن الأرض مِن صخر كلها، فماذا نأكل؟

 

﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾

 

ربنا عز وجل أمرُه كن فيكون :

 مصر، ما قيمتها مِن دون النيل؟ صحراء، مصرُ هبَةُ النيل، قال سيدنا عمر لسيدنا عمرو بن العاص: صف لي مصر؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، مصر طولها شهر، أي طولها مسيرة شهر، وعرضها عشرٌ، أي عشرة أيام، يخط وسطها نهرٌ ميمون الغدوات، مبارك الروحات، بحر، فيه أماكن عمقها ستون متراً، ويبلغ عرض النيل في بعض الأماكن أكثر من ألف متر، وهو أطول نهر في العالم، ومصر هبة النيل، ولولا نيلها لما عاش فيها أحد، فبينما هي يا أمير المؤمنين عنبرةٌ سوداء، في الشتاء التربة داكنة، إذا هي دُرَّةٌ بيضاء، عند طوفان النيل، ثم هي زبرجدةٌ خضراء، فتبارك الله الفعال لما يشاء.
 ما قيمة دمشق مِن دون بردى ونبع الفيجة؟ مَن يسكنها؟ ما قيمة الزبداني مِن دون ينابيعها؟ ما قيمة بلادنا مِن دون أنهارها؟ موت، مَن أخرج هذا الماء؟ فهذا نبع الفيجة، ومَن يصدِّق أن حوض الفيجة في التقدير العادي القديم يصل إلى حمص، على سيف البادية، فنصف لبنان فوق حوض الفيجة، ومِن قرية عين الفيجة إلى حمص قريباً منها، هذا امتداد الحوض نحو الشمال، وعرضاً من سيف البادية إلى أواسط لبنان، يعطينا في الثانية ستة عشر متراً مكعباً، وذلك في الأيام العادية، وفي الشام خمسة ملايين ونصف يشربون مِن هذا النبع، والله أكرمنا في هذه السنة بالأمطار إكراماً لولاه لاشتهينا كأس الماء.

﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾

 مرة نظرت إلى صورةٍ مِن القمر الصناعي للأرض في منطقة الشرق الأوسط، حينما جاءت موجة الأمطار التي أكرمنا الله بها رأيت لطعة رمادية فوق الشرق الأوسط، قلت: سبحان الله!! كل هذا الخير، وكل هذه البركات، وكل هذه الثلوج، وكل هذه الأمطار، وكل هذا الفرح الذي أصاب الناس، وكل هذا الأمل بموسمٍ زراعي جيد، من لطعةٍ رماديةٍ فوق الشرق الأوسط، هي المنخفض الجوي الذي غمر منطقتنا، فربنا عز وجل أمرُه: كن فيكون.

 

كل ما في الأرض مسخَّر لهذا الإنسان مِن أجل أن يعرف الله وأن يطيعه :

 قال تعالى:

﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾

 إذا أجدبت المرعى بالبادية، فربما لا تصدقون، سيكلف استيراد العلف للمواشي مئات ألوف الملايين، فتجد مرعى جيداً، وهذا المبلغ كله وفَّرناه بنزول ذلك المطر، والمرعى الذي أخصب..

﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾

 لأن الأرض طبقات، وهذه الطبقات المتباينة في بُنيتها، والأرض حينما تدور، فإذا هي طبقات متباينة في بنيتها، وقد تضطرب في دورانها، فمن أجل ألا تضطرب جعل الله الجبال أوتاداً، يثبت بها طبقات الأرض، جعلها أوتاداً، وجعل للأرض رواسي أن تميد بكم، أيضاً مُعَدِّلات للدوران، وجعلها مصدَّات للرياح، وجعلها مخازن للماء، وجعلها أماكن للاصطياف، وجعل انحناءاتها أماكن تزيد مِن مساحة الأرض، مساحة ضلعي المثلث أكبر مِن قاعدته، فتزيد المساحات، ويعتدل الجو، ويكون الجبل مصداً للرياح، ومخزناً لمياه الأمطار، ووتداً في الأرض، ومِرساةً للأرض حينما تدور، هذه بعض فوائد الجبال..

﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا*وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا*مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾

 كل ما في الأرض مسخَّر لهذا الإنسان، مِن أجل أن يعرف الله، ومن أجل أن يطيعه، ومن أجل أن يسعد بقربه في الدنيا والآخرة، فاعتبروا يا أولي الألباب.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور