الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حقائق جاءت في القرآن بشكلٍ مباشر وقِصَصٌ هي تطبيقاتٌ لهذه الحقائق:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة النازعات، والآيات اليوم:
﴿ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ يمكن أن نقول: هناك مُنْطلقاتٌ نظرية، وتطبيقاتٌ عملية، هناك حقائق جاءت في القرآن بشكلٍ مباشر، وهناك قِصَصٌ هي في الحقيقة تطبيقاتٌ لهذه الحقائق، لذلك قالوا: القصة حقيقةٌ مع البُرهان عليها، حقيقةٌ مُبَرْهَنٌ عليها، أي حقيقةٌ واقعية، حقيقةٌ يؤكِّدها الواقع.
ولا يغيب عن أذهانكم أن الحق هو في الحقيقة نقلٌ عن الله، وحيٌّ، نقلٌ صحيح يؤيّده الواقع الموضوعي، يقبله العقل الصريح، ترتاح له الفطرة السليمة.
الله عزَّ وجل له كلام هو القرآن وله أفعال هي تأويل القرآن:
ربنا عزَّ وجل له أساليب عديدة ومنوَّعة في تعريف الناس بالحق، فقد تأتي الآيات النظرية، يقول الله لك:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
وفي مواطن أخرى يأتيك بإنسانٍ لم يؤمن، طغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ لذلك قال بعض علماء التفسير في معنى قوله تعالى:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)﴾
تأويل الآيات في الأعم الأغلب وقوع الوعد والوعيد، إذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
فإن رأيت إنساناً مُرابياً دُمِّرَ ماله عن آخره، تدميرُ مال هذا المرابي هو تأويل قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ وإن رأيت شاباً مستقيماً نشأ في طاعة الله، يخشى الله، يُطَبِّق منهج الله، ثم تلوت قوله تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
الحياة الطيِّبة التي يحياها هذا الشاب المؤمن المستقيم هي تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً﴾ فالله عزَّ وجل له كلام هو القرآن، وله أفعال هي تأويل القرآن.
النبي عليه الصلاة والسلام قرآن متحرك:
قال بعضهم: لو لم يكن في الأرض إلا أفعال الله التي تتمثَّل بإكرام المستقيم، والدفاع عنه، ونَصره، وتأييده، وتوفيقه، وخذلان الكافر، وإهلاكه، أفعال الله وحدها كتابٌ وسُنَّة. هذا المعنى مستنبط من أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصفته السيدة عائشة قالت:
(( عن سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ إِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ. ))
وقد وصفه بعض العلماء بأنه قرآنٌ يمشي، فالقرآن آيات بين دفَّتي هذا المُصحف، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن متحرك، أي إذا تكلم فهو صادق، إذا حكم فهو عادل، إذا تصرَّف فهو حكيم، إذا سُئل أجاب فهو عالم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، فربنا حدّثنا عن: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً﴾ هذا خلقه ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً*وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً*فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً*فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ هذا خلقه، ثم حدثنا عن اليوم الآخر:
﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)﴾
هذا اليوم الآخر، الآن التطبيق العملي، هناك حقائق نظرية، وهناك تطبيقات عملية، أنت قد تحضر درس عِلم، تستمع إلى تفسير آيات، وقد يكون لك جار أكل أموال اليتامى فدمَّره الله، قصَّته حقيقة، قصته تنطبق على آية.
من قَبِل الهدى فهو في أعلى عليين ومن ردّ الحق فهو في أسفل سافلين:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ الآن ندخل في صلب الآيات، إنسان اسمه فرعون، لو أنه قَبِلَ الهدى لكان في أعلى عليين، فلما ردَّ الحق كان في أسفل سافلين، وكل إنسان يرفض الحق، ويتبع هوى نفسه، ويركب رأسه له مصيرٌ وخيم، وهذا التاريخ بين أيديكم.
الذين وقفوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ساعة العُسْرَة، والذين نصروه، وأيَّدوه، ونشروا دعوته، أين هم الآن؟ في أعلى عليين، كل إنسان يذهب إلى المدينة المنورة يقف أمام سيدنا الصديق متأدباً: يا خليفة رسول الله، يقف أمام سيدنا عمر متأدباً: يا أيها الفاروق، يذهب إلى البقيع فيقف أمام قبور أصحاب رسول الله متأدباً، أما أبو لهب وأبو جهل فماذا نفعل بهما؟ نلعنهما، لأنهما عارضا الحق، رجل سأل النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. ))
بطر الحق أن ترُدَّ الحق، وأن تظلم الناس، هذا هو الكبر، فيا أيها الإخوة، هنيئاً ثم هنيئاً ثم هنيئاً من كان في خندق الحق، دافع عن الحق، نشر الحق، أعان أهل الحق، أيَّد أهل الحق، عزَّز أهل الحق، والويل ثم الويل ثم الويل لمن كان في خندقٍ آخر؛ يتربص بأهل الحق الدوائر، يكيد لهم، يريد ليطفئ نور الله عزَّ وجل.
بربكم آياتٌ كثيرةٌ نقرؤها ولا ننتبه إليها، لو وقف رجل أمامكم في رابعة النهار، واتجه نحو قرص الشمس، ونفخ عليها بقصد إطفائها، ماذا تحكمون على عقله؟ رجل في رابعة النهار، الشمس ساطعة، وقف باتجاه قرص الشمس، وسحب نَفَساً طويلاً، ونفخه على الشمس بقصد إطفائها، هذا يحتاج إلى مستشفى المجانين، الله عزَّ وجل يقول:
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾
وأين هو نور الشمس من نور الله؟ ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ .
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾
لذلك ما ضرَّ السحابَ نباحُ الكلاب، القافلة تمشي والكلاب تعْوي، ما ضرَّ البحر أن أَلقَى فيه غلامٌ بحجر، لو تحوَّل الناس إلى كنَّاسين ليثيروا الغبار على الإسلام، ما أثاروه إلا على أنفسهم، وبقي الإسلام هو الإسلام كالطود الشامخ.
في تاريخ هذا الدين العظيم كم فئة أرادت أن تنهي هذا الدين؟ وأن تطفئ نور الله؟ أين هي؟ هي في مزبلة التاريخ، وأين الدين؟ شامخٌ كالجبل، لأنه دين الله.
ديننا دين الله والله عزَّ وجل بيده الخلق والأمر:
أيها الإخوة الكرام؛ أتمنى على إخوتنا الأكارم أن يستوعبوا هذه الحقيقة: لا تقلق على هذا الدين، ولو تناهى إلى سمعك أن كل من في الأرض يحارب هذا الدين؛ في آسيا، وفي شمال آسيا، وفي جنوب شرقي آسيا، وفي بلاد الغرب، وفي أمريكا، لعلَّه ليس من الخطأ أن نقول: هناك حربٌ عالميةٌ مُعْلَنةٌ على الدين الإسلامي بالذات، إنه دين الله فلا تقلق عليه، الله عزَّ وجل بيده الخلق والأمر.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
ولكن اقلق على أن الله سمح لك أو لم يسمح أن تنصره، سمح لك أو لم يسمح أن تكون جندياً مِن جنوده، سمح لك أو لم يسمح أن تساهم بشكلٍ أو بآخر في حلّ مشكلات المسلمين، وفي تأييدهم، وفي نصرهم بحكمةٍ بالغة.
في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة:
فيا أيها الإخوة؛ نحن مع طاغيةٍ مِن طغاة الأرض، إنه فرعون، ما مصيره؟ ما مصير الأنبياء والمرسلين؟ إنهم في أعلى عليين، ما مصير أصحاب الأنبياء والمرسلين؟ ما مصير الصدِّيقين؟ ما مصير الشهداء؟ ما مصير الصالحين؟ ما مصير أهل الإيمان؟ ما مصير العلماء العاملين؟ هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لله، أين هم؟ في أعلى عليين، يذكرهم المسلم كل دقيقة بخير، وهم في جنَّة، وفي الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هم في جنة القُرب.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾
طُلَقاء:
﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾
﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ مثلاً للتقريب: رأيتَ إنساناً يُدَخِّن، تقول له: فلان أصيب بالمرض الفلاني، فلان بُتِرَت رجله بمرض الموات، فلان أصيب بسرطان في رئتيه، فلان، فلان، أنت حينما تذكر له أشخاصاً عديدين مارسوا شرب هذه الدخينة، وأتلفتهم، وأتلفت أعصابهم، ومِن أندر ما قرأت: أن رجلاً قسيماً وسيماً يرتدي ثياب رعاة البقر، كان يعلن عن بعض أنواع الدخان، فإذا هو يموت حتف أنفه بسبب الدخان، قال على فراش الموت: كنت أكذب عليكم، الدخان قتلني، فالموعظة: السعيد من اتّعظ بغيره، والشقي لا يتعظ إلا بنفسه.
سيدنا موسى عليه السلام كليم الله:
الآن دخلنا في قصة، في قصةِ طاغية، قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ شيءٌ كبيرٌ جداً أن يكلِّم اللهُ إنساناً، إن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كليم الله، ناداه ربه:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)﴾
إلى آخره.
إذا أخلص الإنسان لله كان غنياً بالله قوياً به وعالماً به:
﴿نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ قال بعضهم: كن لما لا ترجو أرجا منك لما ترجو، ويُضْرب على هذه الحقيقة بشاهدٍ؛ سيدنا موسى، أراد أن يذهب ليقتبس ناراً:
﴿ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)﴾
هو ذهب ليأتي بقبسٍ مِن النار، فإذا ربنا جلَّ جلاله يُكَلِّمه هناك، أنت حينما تُخْلِص فالله عزَّ وجل ينقلك من حالٍ إلى حال، ومن مقامٍ إلى مقام، ومن مرتبةٍ إلى مرتبة، ومن درجةٍ إلى درجة، ومن توفيقٍ إلى توفيق، ومن نجاحٍ إلى نجاح، ومن عملٍ إلى عمل أطْيَب، ومن دعوةٍ إلى دعوةٍ أكبر، رأسمالِك الإخلاص، أنت فقير، وأنت ضعيف، وأنت لا تعلم، لكن الله غنيّ، وقديرٌ، ويعلم، فإذا أخلصت له استفدت من الذّات الكاملة، كنت غنياً بالله، قوياً بالله، وعالماً بالله، فالإنسان ما هو فيه لا يتناسب مع قدراته بل مع مطلبه العالي، ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ شيء ليس من السهل أبداً أن تدخل على طاغيةٍ وأن تعظه، والطغاة دائماً كلمة واحدة تنهي حياة إنسان، والتاريخ يشهد لهذه الحقيقة.
مرَّة الحسن البصري وهو سيد التابعين أدى واجب أمانة العلماء، فبلغ الحجاج ما قاله، فقال لمن حوله: يا جبناء واللهِ لأروينكم مِن دمه، وأمر بقتله، كلمة: اقتلوه، ائتوني به لأقتله أمامي، فجيء بالسيَّاف، ومُدَّ النِّطْع، وذهب الجند ليأتوا بالحسن البصري ليقطع رأسه في مكان حكمه، في قصره، يروي الرواة أن الحسن البصري دخل على الحجاج، فرأى السيَّاف واقفاً، والنطع ممدوداً، فهم كل شيء، فحرَّك شفتيه بكلماتٍ لم يفهمها أحد، فإذا بالحجَّاج يقف له، ويستقبله، ويقول له: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيِّد العلماء، ومازال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه إلى جنبه، واستفتاه، وضَيَّفه، وطلب الدعاء منه، وشيَّعه إلى باب القصر.
السيَّاف كاد يصعق، والحاجب كاد يصعق، تبعه الحاجب، فلما خرج من القصر قال له: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فُعِلَ فيك، جيء بك لتقتل، فإذا بالحجاج يُكرِّمك، فماذا قلت بربك وأنت داخلٌ عليه؟ قال: قلت له: يا ملاذي عند كُرْبَتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
الأقوياء بيد الله، عندما يسلمك ربنا عزَّ وجل لغيره كيف تعبده؟ قال لك: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ أنت حينما تعرف الله، وتستقيم على أمره، فأنت أقوى إنسان لأن الله معك، وإذا كان الله معك فمَن عليك؟ مَن يجرؤ أن يكون عليك؟ مَن يستطيع أن يمدّ يده عليك؟ وإذا كان الله عليك فمَن معك؟ كم مِن إنسانٍ نكَّل به أولاده، ونكّلت به زوجته، ونكّل به أقرب الناس إليه؟! لأنه لم يكن مع الله، كن مع الله تر الله معك، القصة من أولها إلى آخرها أنك إذا قلت: الله، تولّاك الله، فإذا قلت: أنا، تخلَّى الله عنك.
فرعون الطاغية، المخيف الذي ذَبَّح أبناء بني إسرائيل، واستحيا نساءهم، فرعون رأى رؤيا فيما تروي الكتب أن طفلاً من بني إسرائيل سيقضي على ملكه، القضية سهلة جداً، لن يسمح لامرأةٍ إسرائيليةٍ ولدت طفلاً إلا ويقتله أبداً، إن لم تُبَلِّغ القابلة تُقتَل مكانه، والله عزَّ وجل ذكر ذلك فقال:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)﴾
الدين دين الله والله عزَّ وجل ذاتٌ كاملة:
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ مهمةٌ صعبةٌ جداً أن تدخل على طاغيةٍ جَبَّار قَتْلُ الإنسان عنده لا شيء، أن تدخل على هذا الطاغية الجبَّار، وأن تنصحه، وأن تُذَكِّرَه بالله عزَّ وجل، ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ ، ﴿طغى﴾ أي جاوز الحد، خرج عن العدل، خرج عن الرحمة، خرج عن الحكمة، مِن أجمل ما قال بعض العلماء عن الشريعة ، قال: الشريعة عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها، مصلحةٌ كلها، حكمةٌ كلها، أية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن العدل إلى الجَوْر، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى خلافها فليست مِن الشريعة، ولو أُدخلت عليها بألْف تأويلٍ وتأويل، ليست من الشريعة، الدين دين الله، والله عزَّ وجل ذاتٌ كاملة، ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ لكن ما كل مَن يطغى يقول لك: أنا طاغية، يقول: لا، ماذا قال فرعون لقومه؟
﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)﴾
أيُّ رشادٍ هذا؟ ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ .
النفس تزكو بمعرفة الله وتطْهُر بالإقبال عليه وتتألَّق بالقرب منه وتسعد بالعمل الصالح:
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ أي أكبر مهمةٍ أنت فيها أن تزكِّي نفسك، والدليل كلام خالق الكون:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
قد أفلح، بل إن الله عزَّ وجل حمَّلك أمانةً عظيمةً هي نفسك التي بين جنبيك، فإن زكيتها أفلحت، ونجوت، وسعدت في الدنيا والآخرة، وإن دسَّيتها شقيت في الدنيا والآخرة، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ النفس تزكو بمعرفة الله، تطْهُر بالإقبال عليه، تتألَّق بالقرب منه، تسعد بالعمل الصالح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ هناك من يحمل هذه النفس فيعرفها بربها، يعرفها بمنهجه، يدفعها إلى العمل الصالح فتسعد بقرب الله عزَّ وجل.
الإنسان مخلوقٌ في الدنيا من أجل أن يتزكَّى:
﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ أي أنت مخلوقٌ في الدنيا من أجل أن تزكَّى، والدليل قول الله عزَّ وجل:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
أكبر رأسمالٍ لك قلبٌ سليم، نفسٌ زكيةٌ طاهرة، نفسٌ عفيفة، نفسٌ صادقة، نفسٌ رحيمة، نفسٌ حكيمة، نفسٌ وَقَّافةٌ عند منهج الله، نفسٌ محسنة، هذا ثمن الجنة أساساً، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ .
﴿ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)﴾
تشعر بسعادة كبيرة جداً، الإيمان بالله يَرْدَع، ويمنع، ويحفظ، قال سيدنا عليّ كرَّم الله وجهه: يا بني العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، فأنت حينما تتصل بالله عزَّ وجل تصبح إنساناً آخر: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى*وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ .
في الحرب القِيَم جهاديّة أما في السِلم فالقيَم دَعَوِيَّة:
بالمناسبة أيها الأخوة، ربنا عزَ وجل يقول:
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾
الغِلْظَة، والكلمة القاسية، ليست مِن الدين في شيء، نحن عندنا منطق الإيمان، وعندنا منطق الجهاد.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)﴾
هذه قِيَم جهادية، هذه في الحرب، أما في السِلم فهناك قيَم دَعَوِيَّة، قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾
فالقضية قضية منهج دَعَوِي ومنهج جهادي، في الجهاد مطلوب القوة والشدة والغلظة، هذا كله في الحرب، هذه أخلاق الحرب، لكن في السلم، أخلاق السلم اللين، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .
قيَم الدعوة شيء وقيَم الجهاد شيءٌ آخر:
انتقِ أحسن الكلمات، وأحسن الألفاظ، وألطف العبارات، فهذا الذي يقول: أنا سأغلظ عليه جاهل في منهج الدعوة.
يروى أن شخصاً قال لأمير: سأعظك وأُغلظ عليك، فكان الأمير أفقه ممن يعظه، قال له: ولمَ الغلظة يا أخي؟! لقد أرسل الله مَن هو خيرٌ منك إلى من هو شرّ مني، أرسل موسى إلى فرعون، فقال له:
﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾
فقيَم الدعوة شيء، وقيَم الجهاد شيءٌ آخر، قيم الدعوة؛ اللين، والحكمة، واللطف، والمنهج الأَيْسَر.
﴿ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)﴾
أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين، كأنها كوكبٌ دُرِيّ، ألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين، هذه معجزة، كأن الله عزَّ وجل يقول: هذا رسولي لأنه سيفعل شيئاً لا يستطيع أن يفعله أحد مِن الخَلق، أن تكون اليد كالمصباح المُنير، وأن تُلْقِى عصا فإذا هي ثعبانٌ مبين، ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ لكنَّ هذا الطاغية رَكِبَ رأسه، وأنْكَر، وجحد، قال تعالى:
﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)﴾
الإيمان تصديق وطاعة والكفر تكذيب ومعصية:
يوم القيامة:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾
﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ الإيمان تصديق وطاعة، والكفر تكذيب ومعصية، التصديق داخلي، والسلوك خارجي، والتكذيب داخلي، والمعصية خارجية، إذاً هناك شيء داخلي؛ الإيمان ما وقر في القلب، وأقرّ به اللسان، وصدَّقه العمل، شيء داخلي قد استقر، وكلامٌ يُعبِّر عنه، وعملٌ يؤيِّده، بالمقابل؛ الكفر تكذيب داخلي، وتكذيب قولي، ومعصيةٌ وعصيان.
فرعون منتفع بكفره منتفع بدعواه الباطلة لذلك لا يُنَاقَش:
أيها الإخوة؛ ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين، وهذه معجزةٌ قاطعةٌ في دلالاتها، صاحب هذه المعجزة رسول الله، ومع ذلك كذَّب وعصى، قالوا: المُنْتَفِع لا يُنَاقش، ففرعون منتفع بكفره، منتفع بدعواه الباطلة، ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ كذَّب موسى عليه السلام، وعصى الله عزَّ وجل، ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ لم يكتفِ بأنه ردَّ الحق، أراد أن يطفئ نور الله، هناك إنسان فاسد مُفْسِد، مُمْسِك يدعو الناس إلى أن يمسكوا أيديهم، يبخل ويأمر الناس بالبخل، ينحرف ويأمرهم بالانحراف.
﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ لكيدٍ لسيدنا موسى، جمع السحرة، وعرض عليهم أن يكونوا مِن المقرَّبين إليه بشرط أن يدحضوا هذه المعجزة، لكن السحرة آمنوا.
أحد كُفَّار قريش اسمه صفوان بن أمية، لقي عُمَيْر بن وهب، قال عمير: والله لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، وأولادٌ صغار أخشى عليهم العَنَت مِن بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، فقال له صفوان: ديونك عليَّ بلغت ما بلغت -العرض مفتوح-وأولادك هم أولادي ما امتدَّ بهم العمر فاذهب لما أردت.
فسقى سيفه سماً، ووضعه على كتفه، وركب ناقته، وتوجَّه إلى المدينة ليقتل محمداً عليه السلام، طبعاً هو مغطَّى في دخول المدينة أن ولده أسير، فلما وصل إلى المدينة رآه سيدنا عمر فقال: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، أمسكه بحمَّالة سيفه وقيَّده بها، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله هذا عمير جاء يريد شراً، فقال النبي الكريم: أطلقه يا عمر، فأطلقه، قال: ابتعدْ عنه، ابتعدَ عنه، قال: ادنُ مني يا عمير، اقترب منه، قال له: يا عمير سلِّم علينا؟ فقال له: عمت صباحاً يا محمد؟ قال له: قل السلام عليكم. قال: لست بعيداً عن سلام الجاهلية، بغلظة، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفدي ولدي، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟! أي لماذا أحضرته؟ قال له: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ ما استفدنا منها، قال له: ألم تقل لصفوان: لولا أطفالٌ صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون ركبتني ما أُطيق سدادها لقتلت محمداً وأرحتكم منه؟ وقف عمير قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، لأن هذا الذي دار بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله، أما صفوان فكان بمكة ينتظر الخبر السار، كان يخرج إلى ظاهر مكة كل يوم ليتلقَّى الركْبَان، الخبر مسعد، أن محمداً قُتل، ثم سمع الخبر الآتي: لقد أسلم عُمَيْر.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)﴾
بدأ الله بكلمة الآخرة لأن الكلمة الثانية أشدّ كفراً والأُولى أقل:
﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
فرعون له كلمة قبلها فيها شيء من التحفُّظ، فرعون قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
أي في حدود علمي ليس في الدنيا إله غيري، هذا كلام كفر، لكنه أقل من قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ على وجه القَطْع واليقين.
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)﴾
العلماء قالوا: بدأ الله بكلمة الآخرة، لأن الكلمة الثانية أشد كفراً، الأُولى أقل، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ .
الحكمة من إبقاء جسد فرعون كدليل على كذبه:
تَبِع سيّدنا موسى بقوته، وجَلَبته، وأسلحته، وجنوده، ورهبته، وطُغْيانه، وسيدنا موسى مع فئةٍ قليلةِ مِن بني إسرائيل، فلما وصلوا إلى البحر:
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)﴾
ليس هناك أمل أبداً، البحر مِن أمامهم، وفرعون مِن ورائهم بكل وزنه وثقله، ماذا قال سيدنا موسى؟
﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾
أُمِرَ هذا النبي الكريم أن يضرب البحر فإذا هو طريقٌ عريضٌ واسعٌ يَبَس، سار به موسى ومَن معه، وخرجوا مِن الضفَّة الثانية، فلما دخل فرعون، ووصل إلى وسط هذا البحر، عاد البحر بحراً، فأغرقه الله، كان مِن الممكن أن يأكله السَمَك، لكن لو أكله السمك لقال عُبَّاده: لقد صعد إلى السماء، لا:
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)﴾
قذفه الموج إلى الشاطئ، وهو مُحَنَّط، وقد ذهب إلى باريس قبل سنتين أو ثلاث واستُقبل في المطار كمَلِك، ورمموا له بعض أجزاء من جسمه، لأن فيها فطور بدأت تنهش بجسمه، وأحد كبار علماء الرياضيات في أمريكا قرأ القرآن بنية أن يكتشف الأخطاء فيه، فلما وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ قال: هذه أول غلطة، له صديق بفرنسا اسمه موريس بوكاي، اتصل به هاتفياً وقال له: هذا غلطة بالقرآن، قال له: فرعون الذي غرق لا يزال جسمه محنطاً كما هو في متحفٍ في مصر، وقد جاء إلى باريس للترميم وعاد إليها، ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ وهناك أدلَّة علمية مِن ماء البحر ومن بعض الفطور أنه مات غرقاً، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ .
قصص القرآن الكريم حقائق مبرهنٌ عليها:
هناك طريق الكفر، والضلال، والفجور، والعدوان، والطغْيان، والإباحية، وهناك طريق الإيمان، والورع، والتقى، والعمل الصالح، هذا الطريق ينتهي إلى جهنم وبئس المصير، وهذا الطريق ينتهي إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ونحن أحياء، وقلبنا ينبض، ما دام القلب ينبض فأمامنا خيار، فهذا مسلك فرعون وهذا مسلك الصّدّيق، الصّدّيق أعان رسول الله:
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثاً ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. ))
الصديق عاون، وأبو لهب عارض، أين الصدَّيق وأين أبو لهب؟ سيدنا عمر آمن ودعم، وأبو جهل عارض، أين عمر وأين أبو جهل؟ أين الثرى مِن الثريا؟!!
أيها الإخوة؛ قصص القرآن الكريم حقائق مبرهنٌ عليها، هذا دليل، وكل إنسان يسلك طريق فرعون مصيره معروف، وكل إنسان يسلك طريق سيدنا الصديق مصيره معروف:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
سبحانك إنه لا يذل مَن واليت، ولا يعز من عاديت، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، العبرة بالنهايات.
ملخص الملخص أن العبرة بالنهايات:
إخواننا الكرام؛ العبرة مَن يضحك آخراً، قال بعض الحكماء: مَن يضحك أولاً يضحك قليلاً ويبكي كثيراً، ومَن يضحك آخراً يضحك كثيراً إلى ما شاء الله.
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)﴾
يوجد آية ثانية:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾
فملخَّص الملخَّص: الإنسان حينما يولد كل مَن حوله يضحك، وهو يبكي وحده، فإذا جاء أجله كل مَن حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحكْ وحده، قال تعالى:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾
الملف مدقق