وضع داكن
28-03-2024
Logo
دروس حوارية - الدرس : 26 - الصيام والتجهيز لرمضان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
 أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس التربية الإسلامية ، وسيكون محور هذا الدرس ما نحن قادمون عليه بعد عدة أسابيع من فريضة تعد ثاني أكبر العبادات في الإسلام .

أصول الإسلام :

 لكن بادئ ذي بدء : العبادات في هذا الدين العظيم كما قال الإمام الشافعي : معللة بمصالح الخلق ، إن صح أن هناك مثلثاً لهذا الدين العظيم :
 المقطع الأول : العقائد .
 المقطع الثاني : العبادات .
 المقطع الثالث : المعاملات .
 المقطع الرابع : الآداب .
 فالدين عقيدة ، وعبادة ، وأحكام تعاملية ، وآداب .

1 – العقيدة :

 والعقيدة تقع على رأس هذه الأقسام ، وإن صحت العقيدة صح العمل ، وإن فسدت العقيدة فسد العمل .

 

2 – العبادات :

 المقطع الثاني : هي العبادات ، العبادات كما قال الإمام الشافعي : معللة بمصالح الخلق ، فالصلاة بنص القرآن الكريم :

﴿ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

( سورة العنكبوت الآية : 45 )

أ ـ الصلاة :

 الله عز وجل ملك الملوك ، خالق السماوات والأرض ، يمكن أن يأمرنا أن نصلي ولكن رحمة بنا أعطانا تعليلاًً للصلاة ، كلما كان الآمر أكمل أعطى المأمور التعليل قال :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

( سورة العنكبوت الآية : 45 )

 إذاً : الصلاة معللة بمصالح الإنسان ، تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، والفحشاء والمنكر سبب هلاكه في الدنيا والآخرة .
 الآن هذا التعليل مهمته أنه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فما قطف ثماراً من الصلاة ، لئلا تقوم بأفعال لا معنى لها ، لئلا تقوم بأفعال لا فائدة منها ، لئلا تقوم بأفعال مفرغة من مضمونها ، قال :

﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾

 النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( الصلاة طهور ))

[ ورد في الأثر]

 مستحيل أن يكون المصلي حقوداً ، الحقد مرض ، مستحيل أن يكون المصلي ظالماً ، الظلم مرض ، مستحيل أن يكون المصلي مستكبراً ، الكبر مرض ، واحد .
 الشيء الثاني : الصلاة حبور ، سعادة ،

(( أرحنا بها يا بلال ))

[ أبو داود]

 فالذي لسان حاله يقول : أرحنا منها لم يقطف ثمار الصلاة ، فرق كبير بين أرحنا بها ، وبين أرحنا منها .
 والصلاة نور ، من خلال الصلاة ترى الخير خيراً والشر شراً ، ترى الخير خيراً فتتبعه ، وترى الشر شراً فتجتنبه ، والدليل :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾

( سورة الحديد الآية : 28 )

 فالصلاة نور ، والصلاة طهور ، والصلاة حبور ، والصلاة ميزان ، هل تستطيع ، وبلا مجاملة إن ارتكبت إثماً ، أو اعتديت على إنسان على ماله أو على عرضه أن تصلي ، بإمكانك أن تقف ، وتقرأ الفاتحة وسورة ، بإمكانك أن تركع وتسجد ، لكن ليس بإمكانك أن تتصل بالله ، لأن ذنبك حجبك عن الله عز وجل ، فالصلاة ميزان صارت .

(( الصلاة مكيال فمن وفى استوفى ))

[ رواه ابن المبارك عن أبي هريرة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

( سورة النساء الآية : 43 )

 فالذي لا يعلم ماذا يقول في الصلاة إذاً هو لم يصلِ الصلاة التي أرادها الله .

(( ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منه ))

[ أخرجه أحمد عن عمار بن ياسر ]

 الصلاة قرب ، وفي القرآن الكريم :

﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

( سورة العلق )

 الصلاة دعاء :

 

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾

 

( سورة الفاتحة )

 الصلاة ذكر :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

( سورة طه )

 الصلاة معراج المؤمن ، الصلاة أصل الطاعات ، وغرة العبادات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات .
 إذاً العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق ، هذه الصلاة .

ب ـ الصيام :

 الصيام منطلق حديثنا .

(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ))

[ رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ]

(( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ))

[ أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ]

 معنى ذلك أنه في الصيام بحسب الواحد الديان :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

( سورة البقرة )

 لعلك إذا صمت ، وتركت كل المعاصي والآثام ، وأقبلت على الواحد الديان ، واشتققت منه النور رأيت الحق حقاً والباطل باطلاً :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

 إذاً العبادات معللة بمصالح الخلق .

ت ـ الزكاة :

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾

( سورة التوبة الآية : 103 )

 الغني يطهر من مرض الشح ، قال تعالى :

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

( سورة الحشر )

 ومن أدى زكاة ماله أذهب الله عنه الشح ، والفقير يطهر بالزكاة من مرض الحقد ، لأن الفقير يحقد ، فإن أعطيت له الزكاة لا يغدو حاقداً ، والمال يطهر من تعلق حق الغير به .

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾

( سورة التوبة الآية : 103 )

 التزكية أي أن نفس الفقير تنمو ، لأنه شعر أن المجتمع لم ينسه ، ونفس الغني تنمو حينما يشعر أنه أدخل الفرحة على قلوب الآلاف ، والمال ينمو ، التعليل :

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾

( سورة التوبة الآية : 103 )

ث ـ الحج :

(( من حج بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال : لبيك اللهم لبيك ينادى أن لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ))

[ ورد في الأثر ]

 لذلك قال تعالى :

﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾

( سورة المائدة الآية : 97 )

 أنت لمجرد أن تعلم أن الله يعلم فقد حققت الثمرة من الحج .
 بل والنطق بالشهادة من أركان الإيمان ، أن تشهد أنه إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل وما حقها ؟ قال أن تحجبه عن محارم الله ))

 قلت كلمة في بداية الدرس : العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق ، لو أردنا أن نقف موقفة متأنية عند الصيام .

 

من تعريفات الصيام :

 من تعريفات الصيام :
 أنه عبادة الإخلاص ، كيف ؟ قد يأتي رمضان في الصيف ، واليوم في الصيف طويل ، قد يقترب من 17 ساعة ، والحر شديد ، والعطش يكاد يميت الإنسان ، تدخل إلى بيتك ، وليس في البيت أحد ، الثلاجة فيها ماء عذب فرات بارد ، ولا تستطيع أن تضع قطرة ماء في جوفك ، لماذا ؟ من يحاسب ؟ لا أحد في الأرض يحاسبك ، لذلك :

(( كل عمل ابن آدم له ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ))

[ متفق عليه ]

 أول شيء الصوم عبادة الإخلاص .

حِكمة الصيام : دورة تعبّدية

1 – دورة تعبدية :

 لكن ما حكمته ؟ أنت في أشهر العام تأكل الطعام والشراب ، هل تشعر بذنب إذا تناولت طعام الإفطار ؟ هل تشعر بذنب إذا شربت كأس ماء ؟ في أيام الإفطار هل تشعر بذنب إذا قاربت زوجتك ، وهي حلال لك ؟ أبداً إطلاقاً ، ولا واحد بالمليون ، الأشياء المباحة الحلال التي أبيحت لك ، ولا شيء عليك لو مارستها محرمة في نهار رمضان ، إذا كان تناول الطعام والشراب وهو مباح في غير رمضان ، محرماً في رمضان ، فلأن أن تدع المعاصي والآثام من باب أولى ، كأن الله عز وجل قوى فيك الإرادة ، أنت ممتنع عن الطعام والشراب فهل يعقل أن تكذب ؟ هل يعقل أن تغتاب ؟ هل يعقل أن تقول الباطل ؟ هل يعقل أن تغش المسلمين ؟ أنت تارك الطعام والشراب الحلال تاركه ، فلأن تدع الحرام من باب أولى ، فكأن الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر قوى لك الإرادة على أن تصوم رمضان .
 الإنسان أحياناً يستثني دورة محدودة ، قد لا يحتمل أن يدرس لخمسين سنة قادمة ، أما دورة في ثلاثين يوما فقط يستطع .

2 – شهر المغفرة :

 بالمناسبة :

(( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه ]

(( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))

[ متفق عليه ]

 للتقريب : المفاهيم المعاصرة واحد عليه 8 ملايين دينا ، أمواله كلها محجوزة ، عليه محاكمة ، وعليه سجن ، قيل له : افعل هذه الأفعال ثلاثين يوماً فقط ، وبعدها أنت معفى من كل شيء ، 8 ملايين ألغيت ، والمحكمة ألغيت ، والحجوزات ألغيت ، هل يتردد الواحد منا ثانية ؟ أنت في رمضان تفتح مع الله صفحة جديدة .

(( من صام رمضان ـ هذا في الصحاح ـ إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))

(( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))

 إذاً أنت أمام فرصة ذهبية ، كيف ؟ تفتح مع الله صفحة جديدة .

دع الأشغال وحلَّ المشكلات إلى ما بعد رمضان :

 لكن هناك فكرة دقيقة ، يجب أن تكون سرعتك في رمضان مئة ، أنت هنا صفر ، أو واحد ، أنت لا تقدر أن تمشي على الواحد ، لـ29 شعبان ، وتقفز فوراً للمئة ، لا تستطيع ، المفروض أن تهيئ نفسك ، هناك مشكلة حلَّها قبل رمضان ، مشكلة عويصة أجّلها إلى ما بعد رمضان ، محاولة كسوة بيت افعلها قبل رمضان ، لأن رمضان شهر عبادة ، شهر تفرغ ، والحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف في رمضان ، وهو انقطاع عن العالم الخارجي كلياً ، أنا قد لا أحثكم على أن تعتكفوا ، الحياة معقدة ، الحياة معقدة جداً ، ولكن معنى الاعتكاف أن تنقطع عن العالم الخارجي ، عن عالم القيل والقال ، والسؤال والجواب ، والنقد ، والهموم والأحزان ، هذا شهر دورة تدريبية مع الله ، لأن العبادة فيها شحنة .

3 – شهر الشحنة الإيمانية :

 أوضح مثل على ذك : الهاتف المحمول يحتاج إلى شحن ، فإن لم تشحنه تنطفئ شاشته ويسكت ، أصبح قطعة بلاستيك لا قيمة لها إطلاقاً ، وأنت كمؤمن تحتاج إلى شحن ، الشحن كم نوعا ؟ عندنا شحن يومي ، كلما وقفت في الصلاة من أجل أن تُشحن شحنة روحية ، لذلك :

 

﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾

( سورة المزمل )

 حينما تُشحن في صلاة الفجر تشعر طوال اليوم أنك ترى الحقيقة ، وأنك مالكٌ لجوارحك ، وأن كلامك سديد ، وأن قلبك مستنير ، وأن نفسك مطمئنة ، وأن رحمة الله تحفّ بك ، وأن توفيق الله عز وجل يؤيدك .
 إذاً الصلاة شحنة ، لكن طبيعة الصلاة ثلث ساعة ، شحنة من الصباح إلى الظهر ، الظهر شحنة ثانية إلى العصر ، العصر شحنة ثالثة ، إلى المغرب ، المغرب شحنة إلى العشاء .
 صلاة الفجر ، كنت في الفراش ، فالسنة قبلية وأنت نائم ، فالسنة قبل الفرض تدريب ، الفرض صحوت ، باعتبار تعبك طوال النهار السنة في العشاء بعدية ، السنة أقرب إلى النوم ، الفجر السنة قبلية ، العشاء سنة بعدية ، في الفجر نفسك صافية ، وفي العشاء ركعتان تكفيان ، الظهر كنت في المحل التجاري ، واحد أخذ عليك مبلغا ، والثاني أزعجك ، ما اشترى ، والرابع طالبك بدينه ، أنت مشوش ، تصلي أربع ركعات ، اثنتين قبل ، واثنتين بعد ، دائماً الركعات القبلية تهيئة ، والبعدية ترميم ، ما فاتك من الفرض ترممه في السنة البعدية ، لذلك صلوات النهار طويلة ، أما الفجر قصيرة ، صحوت صافي الذهن ، شحنة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ))

[أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة ]

 رمضان ثلاثون يوما من الصيام ، ومن قراءة قرآن ، ومن الذكر ، ومن صلاة الفجر في المسجد ، ومن صلاة العشاء في المسجد ، وكل يوم عشرون ركعة تراويح ، وثلاثون يوما من الإنفاق ، وغض بصر ، وضبط لسان ، رمضان شحنة من العام إلى العام ، الحج شحنة إلى بقية العمر ، شهر من السفر وترك الأهل والأولاد ، واستقبال الكعبة ، والطواف ، والسعي ، ووقوف بعرفات ، ووقوف بمنى ومزدلفة ... إلخ .
 إذاً : العبادات شحنات ، وكلما كان الأمد أطول كانت الشحنة أشد ، هذا معنى من معاني الصيام .

4 – الصيام تقوية النفس على الإرادة :

 الصيام بادئ ذي بدء : عودك على أن تطيع الله ، لأنك تركت المباحات ، فلأن تدح المنهيات من باب أولى .
 إذاً المسلم يصوم بفمه وجوارحه في رمضان ، وفي شوال يفطر بفمه فقط ، وتبقى جوارحه صائمة إلى نهاية العام ، وغض بصره ، وضبط لسانه ، وتحري الحلال ، هذا طوال العام ، هذا واحد .
 إذاً : الصيام تقوية الإرادة على طاعة الله ، لكن نحن نتمنى من أعماق أعماقنا ألاّ يكون صيامنا صيام حديث ، موسم رمضان في المجتمعات المعاصرة موسم الأفلام ، موسم الفن ، موسم السهرات ، موسم الولائم ، موسم التخمة ، موسم السهر إلى ساعة متأخرة من الليل ، المؤمن يجعل من هذا الشهر شهر عبادة ، لا شهر لقاءات وولائم ، وما شاكل ذلك ، والطبقة المخملية ـ والعياذ بالله ـ صيام رمضان عندها فلكلور ، تأتي إلى الخيام الرمضانية تبدأ الخيمة بتناول طعام الإفطار ، وتنتهي بالرقص والموسيقى والغناء ، رمضان عند الشاردين موسم فني فقط ، وكل الأعمال الساقطة يكتبون عنها : " إكراماً لقدوم شهر رمضان المبارك " ، نحن كمؤمنين هذا الشهر شهر عبادة ، يمكن أن تقفز قفزة نوعية في هذا الشهر .

5 ـ الشعور بالافتقار إلى الله :

 شيء آخر : الله عز وجل قال :

﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾

( سورة النساء )

 لكنه قد لا يرى ضعفه ، له منصب رفيع ، قوي الشخصية ، معه اتصالات ، ألف إنسان يخضعون له ، لكن برمضان الساعة 12 نشف لسانه ، خواطره كلها كأس ماء بارد ، كأس عرق سوس ، كأس عصير ، شيء بارد ، كأن الله أراد في رمضان أراد أن يشعرنا بافتقارنا إليه ، لما قال الله عز وجل في الأنبياء :

 

﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾

( سورة الفرقان الآية : 20 )

 ما معنى ذلك ؟ هذا الذي يأكل الطعام أي هو مفتقر في استمرار وجوده إلى أن تناول الطعام ، إذاً هو ليس إلهاً ، الله عز وجل قال :

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)اللَّهُ الصَّمَدُ (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾

( سورة الإخلاص )

 الصمد ، يعني أن وجوده ليس مفتقراً إلى غيره ، أما أنت فإن أغلقت أنفك تختنق ، أنت مفتقر للهواء ، وأكثر من ثلاث دقائق تموت ، وأنت مفتقر للماء ، ومفتقر للطعام ، ومفتقر للنوم ، ومفتقر لزوجة ، مفتقر إلى بعض الأدوات والأجهزة ، لذلك في رمضان يشعر المؤمن بافتقاره إلى الله عز وجل ، فما هي العبودية ؟ أن تفتقر إلى الله .

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

( سورة آل عمران الآية : 123 )

 يعني مفتقرون ، أما في حنين فلم يكونوا مفتقرين ، فقالوا :

(( لن تغلب اليوم من قلة ))

[ أخرجه البيهقي عن أنس ]

 نحن كثر .

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾

( سورة التوبة )

 أيها الإخوة ، إحساسك بالجوع والعطش نوع من الافتقار إلى الله ، أنت ـ عفواً ـ لا تعرف قيمة هذا القميص الذي ترتديه إلا في الحج ، حيث ترتدي منشفتين ، هنا قميص له أكمام ، له أزرار ، فضفاض ، هناك ترتدي منشفتين ، لا تعرف قيمة الثياب إلا في الحج ، لذلك من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام :

(( اللهم أرنا نعمك بوفرتها لا بفقدها ))

[ ورد في الأثر ]

 الشيء بالشيء يذكر : نحن كنا ننعم بما يسمى بتوازن القوى في العالم ، بوجود معسكرين كبيرين بينهما حرب باردة ، وكلما تحرك معسكر ليأخذ ما ليس تصدى له المعسكر الآخر ، فكل الدول الضعيفة تنعم برخاء بأمن واستقرار ، لوجود معسكرين ، لكن يوم كنا نعيش هذه الحرب الباردة ما كنا نعرف أن في الأرض معسكرين ، أما حينما انفرد قطر واحد رأينا منه الأهوال ، رأينا منه القهر ، والنهب ، والسلب ، والإذلال ، رأينا منه أنه فرض علينا ثقافته وإباحيته .
 إذاً البطولة أن ترى النعمة بوفرتها ، لا بزوالها ، جميع الأغبياء يعرفون النعم عند غيابها ، لكن الأذكياء الموفقون يعرفون النعم بفورتها .
 لذلك مرة سأل وزير ملكا ، وقد طلب كأساً من الماء ، قال له : يا أمير المؤمنين ، بكم تشتري هذا الكأس من الماء لو منع منك ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : فإذا منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر ، مُلك طويل عريض يساوي كأس ماء .
 لذلك نحن في رمضان مفتقرون إلى الله ، بكأس ماء ، لقمة طعام .

6 ـ الشعور بمعاناة الفقر والجائع :

 شيء آخر : فكرة ، ومعاناة : لو أن لك صديقا نشأ خلاف بينه وبين زوجته ، وزوجته تركته إلى بيت أهلها ، أنت عندك فكرة أن زوجة صديقك ذهبت إلى بيت أهلها ، هذه فكرة لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تؤثر على سلامتك وسعادتك ، أما الصديق فيأتي ظهراً فلا يجد زوجة ، وطبخا ، ولا طعاما ، الأولاد يحتاجون إلى عناية ، الصديق عنده المعاناة ، وأنت عندك فكرة هجر الزوجة ، الفرق كبير .
 مثلاً : لو أريتك خارطة لقصر ، وفيها كل شيء ، الطوابق ، والغرف مساحاتها ، الشرفات ، هذه فكرة ، أما أن تملك هذا القصر فشيء ثانٍ .
 لو قلت لك : مئة مليون دولار ، هذه واضحة ، بين أن تملكها وأن تنطق بها فرق كبير جداً ، مئة مليون دولار ، النطق بها سهل جداً .
 لذلك في رمضان تعرف معاناة الفقير أبداً ، الفقراء في أول الثورة الفرنسية ما وجودوا خبزا ، تقول ماري أنطوانيت : يأكلون ( الكاتو ) ، إذا ما وجد أحدنا خبزا يأكل ( الكاتو )، وهو أطيب ، فلا معاناة إطلاقاً .
 لذلك قالوا :

لا يعرف الشوق إلا من يكابده  ولا الصبابة إلا من يعانيها
***

 أنت في رمضان يمكن أن تعاني مشكلة الفقير ، أنت جائع ، الذي ملأ معدته بالأكل لا يعنيه ، أما الجائع فمنظر الأكل ، ورائحة الطعام تعنيه ، إذاً : يمكن أن تشعر بجوع الفقير في رمضان ، وأن الجوع شيء لا يحتمل ، الله عز وجل ذكر نعمتين عظيمتين من نعمه ، فقال :

﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾

( سورة قريش )

 أكبر نعمتين على الإطلاق أن تأكل فلا تجوع ، وأن تأمن فلا تخاف ، الآن أكبر عقابين للأقوام الفاسدة :

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾

( سورة النحل )

 أكبر نعمتين الشبع والأمن ، وأكبر نقمتين الجوع والخوف ،

﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

 إذاً أنت في رمضان فضلاً عن أنك تستعين بالصيام على طاعة الله التامة لأنك تركت الحلال ، تركت المباح فلأن تدع الحرام من باب أولى .
 وأعانك الله بالصيام على أن تشعر بجوع الفقير ، أعانك الله بالصيام على أن تشعر بعبوديتك لله عز وجل .

الصيام عبادة جماعية :

 شيء آخر ، الصيام عبادة جماعية ، تصور بلدنا خمسة ملايين في دمشق يأكلون في ثانية واحدة عقب إطلاق مدفع الإفطار ، الطرقات فارغة ، عبادة جماعية ، النظام محبب ، فكأن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نُنظم ، تجد في رمضان النظام ، الإمساك عن الطعام يتم مع أذان الإمساك ، الصلوات في المسجد ، الفجر في المسجد ، العشاء في المسجد ، الإفطار في وقت واحد ، لذلك الصيام عبادة جماعية ، يعلّم التعاون ، يعلّم النظام .
 حدثني مرة أخ والده ضابط ، نحن من ثلاثين سنة نتناول طعام الغداء مع دقات ساعة بيك بن ، الساعة الثانية ، في البيت نظام صارم ، وجبات الطعام لها أوقات .
 النظام حضارة أيها الإخوة ، أحياناً يأتي سائح أجنبي يرى الطرقات عند المغرب فارغة ، ما هذا ؟ يشعر أن هناك عبادة جماعية ، الله عز وجل أرادنا أن نكون منظمين .

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾

( سورة الصف )

 الصلاة أيضاً فيها نظام ، فيها أقات .
 مرة قال لي أحدهم : أنا أصلي قبل دخول العصر ، وهذا أكثر راحة لي ، هناك نظام صارم جداً في الصلوات الخمس ، وفي الصيام .
 حج رجلٌ بيت الله الحرام ، له منصب رفيع بمصر ، في أثناء العودة بالطائرة قال : والله هناك عناية بالغة ، لكن لو أقاموا الحج على خمس دورات ، كل شهرين دورة لا يكون هناك ازدحام ، أين هو من فهم هذه العبادة ؟! هي عبادة اجتماع .
 أنا كنت في القاهرة بمؤتمر إسلامي ، طربت طرباً شديداً لاقتراح وزير أوقاف مسلم قال : لو أن كل حاج باستمارته تكتب حرفته ، وعلى الكمبيوتر نفرزه ، مثلاً : مدرسو الجامعات يعقدون مؤتمرا بمنى لحلّ المشكلات ، والهموم المشتركة ، عندكم صناعيين يقيمون مؤتمرا ، وللمزارعين مؤتمر ، وللتجار مؤتمر ، ولأصحاب الوظائف المعينة مؤتمر ، الحج كأن الله أرادك أن تلتقي بكل المسلمين .
 والحقيقة في الحج يرى الإنسان من كل الجنسيات .
 إذاً : أراد الله من الصيام أن تكون عبادة جماعية ، والعزائم التي يقوم بها المؤمن ، ويفتقر إليها بعض المؤمنين تؤدى في رمضان بيسر وسهولة .
 إذاً : أيها الإخوة ، هذه بعض الملامح التي تلوح في الأفق بهذا الشهر الكريم الذي هو فرصة ذهبية لا تعوض إلا بعد عام آخر ، كي تصطلح مع الله .

الخلاصة :

 بالمناسبة ، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض ، أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، إذا رجع العبد إلى الله أنسى الله الملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، إذا تاب العبد توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه ، والملائكة ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، ورمضان فرصة لفتح صفحة جديدة مع الله ، فرصة جديدة للإقبال على الله .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور