- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠29برنامج درس تلفزيوني - قناة سوريا الفضائية
أعزائي المشاهدين، إخوتي المؤمنين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فمن أعجب الأشياء أن تعرف الله ثم لا تحبه، ومن أعجب الأشياء أيضاً أن تحبه ثم لا تطيعه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرَّض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تتطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق العذاب عند تعلُّق القلب بغيره ثم لا تهرب إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. وأعجب من هذا، علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِض، وفيما يبعدك عنه راغب.
أيها الإخوة الأحباب... قبل أن تسمع أذن الدنيا عن حقوق الإنسان لاثني عشرة قرناً أو تزيد، ويوم كان العالم كله لا ينظر إلى الإنسان إلا من جهة ما عليه من الواجبات يطالب بأدائها، وإلا كان عليه من العقاب ما يستحق، جاء الإسلام ليؤكِّد جهرةً أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن ترعى، كما أن عليه واجباتٍ يجب أن تؤدَّى، وكما أنه يسأل عما عليه، يجب أن يعطى ما له.
ومن هذه الحقوق أيها الإخوة التي أعلنها الإسلام جهرةً قبل خمسة عشر قرناً ؛ حق الحياة، وحق الكرامة الإنسانية، وحق التفكير، وحق التديّن، وحق الاعتقاد، وحق التعبير، وحق التعلّم، وحق التملك، وحق الكفاية، وحق الأمن من الخوف.
إخوة الإيمان... لقد قدَّس الإسلام حق الحياة، وحماه بالتربية والتوجيبه، وبالتشريع والقضاء، وبكل المؤيدات النفسية والفكرية والاجتماعية، وعدَّ الحياة هبةً من الله تعالى، لا يجوز لأحدٍ كائناً مَن كان أن يسلبها منه، فالإنسان بنيان الله، وملعونٌ من هدم بنيان الله، وقد أنكر الإسلام على أهل الجاهلية قتلهم أولادهم سفهاً بغير علم، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾
ولم يفرِّق الإسلام في حق الحياة بين أبيض وأسود، ولا بين شريكٍ ووضيع، ولا بين حرٍ وعبد، ولا بين رجلٍ وامرأة، ولا بين كبيرٍ وصغير، حتى الجنين في بطن أمه له حرمةٌ لا يجوز المساس بها، ومن هنا جاء تحريم الإجهاض، حتى الجنين الذي ينشأ من طريقٍ حرام لا يجوز لأمه ولا لغيرها أن تسقطه، لأنه نفسٌ بريئة لا يحل الاعتداء عليها..
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
لذلك شرع القصاص صوناً لحياة كل الأطراف، وشرعت الديَّة والكفَّارة في القتل الخطأ، وقد حمى الإسلام أيضاً حياة الحيوان إن لم يكن منه أذىً، وفي الحديث الصحيح:
(( أن امرأةً دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ))
وأما حق الكرامة وحماية العرض، فقد أكد الإسلام حرمة العرض والكرامة للإنسان، مع حرمة الدماء والأموال، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن ذلك في حجة الوداع أمام الجموع الغفيرة في البلد الحرام، والشهر الحرام، واليوم الحرام، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله حرَّم عليكم دماءكم، وأعراضكم، وأموالكم ))
فلا يجوز أن يؤذى الإنسان في حضرته، ولا أن يهان في غيبته، سواءٌ أكان هذا الإيذاء للجسم بالفعل أم للنفس بالقول، فربما كان جرح القلب بالكلام أشد من جرح الأبدان بالسياط والسنان.
لقد حرم الإسلام أشد التحريم أن يضرب إنسانٌ بغير حق، وأن يجلد ظهره بغير حد، وأنذر باللعنة مَن ضرب إنساناَ ظلماً، ومَن شهده يضرب ولم يدفع عنه، كما حرم الإسلام الإيذاء الأدبي للإنسان، حرم الهمز، وحرم اللمز، والتنابذ بالألقاب، والسخرية، والغيبة، وسوء الظن بالناس، وكفل الإسلام صون كرامة الإنسان بعد مماته، ومن هنا جاء الأمر بغسل المَيِّت وتكفينه ودفنه، والنهي عن كسر عظمه، أو الاعتداء عليه أو على جثته، وقد جاء هذا في الحديث النبوي:
(( كسر عظم الميت ككسره حياً ))
وكما حمى الإسلام جسم الميت بعد الموت، حمى عرضه وسمعته، لئلا تلوكها الأفواه، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( لا تذكروا موتاكم إلا بخير ))
أيها الإخوة الأحباب... وأما حق الكفاية التامَّة، فمن حق كل إنسانٍ أن تهيأ له كفايته التامة من العيش، بحيث تتوافر له الحاجات الأساسية للمعيشة ؛ من مأكلٍ، وملبسٍ، ومسكنٍ، وعلاج، والأصل أن يكون للإنسان دخلٍ كافٍ يحقق كفايته منه عن طريقٍ مشروعٍ ؛ من زراعةٍ، أو تجارةٍ، أو صناعةٍ، أو وظيفة، أو حرفة، فإن لم يكن للإنسان دخلٌ يكفيه كان على أقاربه الموسرين أن يحملوه لأنه جزءٌ منهم، قال تعالى:
﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
فإن لم يكن له أقارب موسرون يستطيعون حمله وجبت كفايته من مال الزكاة، التي فرضها الله على المسلمين، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والزكاة فُرِضَت لتحقيق تمام الكفاية للإنسان، وذكر الفقهاء أن الزواج لمَن لا زوجة له من تمام الكفاية، وأن آلات الحرفة من تمام الكفاية، وأن كُتب العلم لطالب العلم من تمام الكفاية، وهذه الكفاية التامَّة تجب للإنسان الفقير له ولأسرته مدة عامٍ بأكمله على مذهب، ومدة العمر كله على مذهبٍ آخر، بحيث يغدو آخذ الزكاة دافعاً للزكاة. يقول عمر رضي الله عنه: " إذا أعطيتم فأغنوا".
أيها الإخوة الأكارم... في خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاء إلى المدينة جبلة بن الأيهم، آخر ملوك الغساسنة يعلن إسلامه، فيرحب به عمر أشد الترحيب، وفي أثناء الطواف ـ طواف هذا الملك حول الكعبة ـ داس بدويٌ طرف إزار الملك الغساني، فيغضب الملك، ويلتفت إلى هذا البدوي فيضربه ويهشِّم أنفه، فما كان من هذا البدوي من فزارة إلا أن توجه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شاكياً، فيستدعي عمر رضي الله عنه الملك الغسَّاني إلى مجلسه، ويجري بينهما حوارٌ صيغ على الشكل التالي:
ـ قال عمر: جاءني هذا الصباح مشهدٌ يبعث في النفس المرارة، بدويٌ من فزارة، بدماءٍ تتظلل، في جراحٍ تتكلل، مقلةٌ غارت، وأنفٌ قد تهشم، وسألناه، فألقى فادح الوزر عليك بيديك، أصحيحٌ ما أدعى هذا الفزاري الجريح ؟
ـ قال جبلة: لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً، أنا أدَّبت الفتى أدركت حقي بيدي.
ـ قال عمر: أي حقٍ يا ابن أيهم ؟ عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهةٌ بالإثم بالباطل تلطم، نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، أقمنا فوقها صرحاً جديدا، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا، يا جبلة ارضٍ الفتى لابد من إرضائه، مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يُهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
ـ قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟! هو سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضا ؟!!
ـ قال " دعك من هذا، نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناه.
ـ فقال جبلة: كان وهماً ما مشى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
ـ قال عمر: عالمٌ نبنيه، كل صدعٍ فيه بشذى السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
أما جبلة فلم يستوعب هذا المعنى الكبير في الإسلام، وفرَّ من المدينة هارباً مرتداً، ولم يبالِ عمر ولا الصحابة معه بهذه النتيجة، لأن ارتداد رجلٍ عن الإسلام أهون بكثيرٍ من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه. وخسارة فردٍ لا تقاس بخسارة مبدأ.
أيها الإخوة الكرام... أرجو أن نكون جميعاً قد أفدنا من هذا، وإلى لقاءٍ آخر.
* * *