وضع داكن
19-04-2024
Logo
الحقوق : حق المسلم على المسلم 6 - حق السلام.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من حقوق المسلم على المسلم :

أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في الحقوق، ولا زلنا في حقوق المسلم على المسلم، وقد كان موضوع الدرس الماضي التداوي، والموضوع الذي قبل الماضي إجابة الدعوة، وعيادة المريض، والنصح لكل مسلم، واليوم ننتقل إلى حقٍ آخر من حقوق المسلم على المسلم ألا وهو: رد السلام.
قد يبدو لكم بادئ ذي بدء: أن موضوع السلام، إلقاء السلام، رد السلام شيءٌ جزئيٌ في الإسلام، ولكن الأحاديث الصحيحة تنبئ بأهمية البدء بالسلام ورد السلام، وسوف ترون بعد قليل, كيف أن موضوع السلام في الإسلام شيءٌ يشغل حيزاً كبيراً, وقبل الدخول في هذا الموضوع لا بدّ من مقـدمة.

هذه الجوانب التي يتمتع بها الإنسان :


الإنسان -أيها الإخوة- له حياةٌ فردية، له حياةٌ عضوية، له حياةٌ نفسية، له حياةٌ عقلية؛ يعيش مع عقله، يفكر, يدرس، يبحث، يطلب الأسباب، يطلب البراهين, يقتنع لا يقتنع، يقبل يرفض، هذه حياة عقلية متعلِّقة بالفكر والحقائق، والدراسة والتأمل، والقبول والرد والرفض، والبرهان وعدم البرهان، والصحة والفساد والبُطلان، هذه حياة عقلية، لكل واحد منا حياته العقلية ولعقله مستوى.
والإنسان له حياة نفسية؛ يغضب، يحزن، يتفاءل، يتشاءم، ينشأ في نفسه صراع، له طموحات، يُحِس بالانقباض، يُحس بالانشراح، يشعر بالسعادة، يشعر بالضيق، هذه حياة نفسية له حياة عقلية, وله حياة نفسية، وله حياة عضوية؛ يأكل، ويشرب، ويهضم الطعام، وله جهاز دوران، وجهاز هضم، وجهاز إفراز، وجهاز عضلي، وجهاز عظمي، له غدد صماء، وله أجهزة، وله عضلات، ويعتريه عطب، وكما يعتريه مرض، ويتمتع بصحة, هذه حياة عضوية, وله حياة نفسيةٌ، وله حياةٌ اجتماعية؛ الإنسان اجتماعي، الله سبحانه وتعالى فطره فطرةً اجتماعية، يُعبر عنها الناس بكلمات، من هذه الكلمات: الجنة بلا ناس لا تداس.

لم خلق الإنسان ذا طبع اجتماعي؟ :

الإنسان يأنس بأخيه الإنسان، فلو نام إنسان في بيتٍ وحده يشعر بالوحشة، لو سافر وحده يشعر بالوحشة، الإنسان مفطور على الاجتماع، رُكبت الطبيعة الاجتماعية في فطرته.
ويبدو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذا طبعٍ اجتماعي لأهدافٍ كثيرة، منها: أن إعداده للآخرة لا يكون إلا عن طريق الحياة الاجتماعية، كيف يرقى الإنسان لو كان يعيش وحده؟ إذا عاش مع الناس يظهر كرمه، يظهر بخله، يظهر صدقه، يظهر كذبه، يظهر حرصه، يظهر إهماله، تظهر شجاعته، يظهر وفاؤه، يظهر إخلاصه, وكل الفضائل التي يمكن أن تسعدك في الجنة وإلى الأبد، لا تكون إلا وسط المجتمع، كل الفضائل التي يمكن أن تسْعَد بها إلى أبد الآبدين, لن تنمو ولن تظهر إلا في جوٍ من الحياة الاجتماعية.

هذا نظام الأسرة الإنسانية :


لذلك: نظام الأسرة اجتماع, هكذا رتب الله الحياة؛ لك زوجة ولك أولاد الزوجة بحاجة إليك وأنت بحاجةٍ إليها، والأولاد بحاجةٍ إليكما وأنتما بحاجةٍ إلى أولادكما، وأنت بحاجة إلى جارك، فلو عددت الحاجات التي أنت بحاجة إليها, تحتاج إلى الطعام، إلى الخبز، إلى اللحم، إلى الفواكه، إلى الخضراوات, وإلى اللباس، لو أنك عددت الحاجات التفصيلية تجدك محتاجاً لمليون مليون حاجة؛ تحتاج لزر، تحتاج إلى خيط، تحتاج إلى إبرة، تحتاج إلى حذاء، إلى نظارة، إلى ساعة، إلى فراش، إلى لحاف، إلى وسادة، إلى بناء، أنت تتقن عملاً واحداً، وتحتاج إلى مليون نشاط بشري، مليون مليون نشاط بشري.
لو دخلت إلى بيتك, تجد أن الزجاج أصل في محتوياته, وتوجد معامل للزجاج، يوجد نوافذ، يوجد بلاط، يوجد دهان، يوجد ثريات، يوجد سجاد، يوجد براد، يوجد غسالة، يوجد سرير، يوجد كتاب، يوجد طباعة، يوجد صف حروف، فكل شيء في بيتك عالم قائم بذاته؛ خبراء، علوم، جهود، أموال مبذولة، فأنت تتقن نوعاً مثلاً، بينما أنت بحاجة إلى مليون نوع وبحاجة إلى مليون نوع.

الحياة الاجتماعية للإنسان ليس فيها حل وسط:


إذاً: حينما خلّق الله الإنسان خلقه بجبلة اجتماعية، هذا التعايش مع الناس، هذا النظام الاجتماعي يحتاج إلى ضوابط، فخالق الكون الذي أبدع وأتقن حينما خلق الإنسان, شرع له هذه الضوابط، فأنت في حياتك الاجتماعية إما أن تكون أسعد الناس بها، وإما أن تكون أشقى الناس بها، أي أن المجتمع إما أن يكون مصدر سعادةٍ لك, كأن يكون تفاهم زوجي مثلاً، تفاهم بين الأب وأولاده، ومع التفاهم محبة، مع المحبة تضحية، مع التضحية مؤاثرة، فتغدو هذه الأسرة قطعةً من الجنة, وقد تغدو هذه الأسرة قطعةً من النار، بالتباغض، والشحناء، والبغضاء، والكيد، زوجة مشاحنة، والزوج يريد أن يغيظ زوجته, فيبحث عن الطريقة التي يؤلمها به، وتبحث هي عن الطريقة التي تؤلمه بها، والأولاد في واد، والأب في واد، فبينما يجب أن تكون الأسرة مصدر سعادةٍ لأفرادها، إذاً: الأمر ينعكس فتغدو هذه الأسرة مصدر شقاءٍ لأفرادها، فالحياة الاجتماعية ليس فيها حل وسط؛ إما أن تكون سعيداً بها، وإما أن تكون شقياً.

علاقتك مع شريكك إذاً مبنية على الإنصاف، وعلى التساوي والعدالة، تجد الحياة في الشركة رائعة جداً، أما إذا كان لك شريك له نوايا عدوانية، فتتولّد نوايا خبيثة عند كل شريك, وتصبح هذه الشركة مصدر إزعاجٍ وشقاءٍ للشريكين.
علاقتك بعملك بالوظيفة، أنت في مجتمع صغير، في دائرة، معك زملاء موظفون، ولديهم مستخدم، ويرأسكم رئيس أعلى منك، كما أن هناك من هو أدنى منك، إذاً هناك حياة اجتماعية.
إذا ركبت مركبة عامة, فأنت عندئذٍ ذو علاقات اجتماعية، فالحياة الاجتماعية حياة بالفطرة، الإنسان كائن اجتماعي بالأساس، فلأن الإنسان كائنٌ اجتماعي, لا بدَّ من أن يشرع الله له تشريعاً يضمن سعادته في ظل المجتمع، لذلك حقوق المسلم على المسلم تشريعات شرعها الخالق.

علام تشير هذه النقطة؟ :

سيدنا سعد حينما قال: ثلاثة أنا فيهن رجل, وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى.
أي أن هذا الكلام للنبي الكريم يشير إلى العلاقات الاجتماعية، وحقوق المسلم على المسلم تعني بحال أو بآخر: أن هذا من عند الله عزَّ وجل، هذا بإلهام الله عزَّ وجل، بوحيٍ من عند الله، فأنت حينما تقرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتعلِّق بالحياة الاجتماعية, فأنت تقرأ تعليمات الخالق فيما يتعلق بعلاقتك بمجتمعك هكذا.

علام ينصان هذين الحديثين؟ :

وبعد: فمن تعليمات الخالق الصانع التي جاءتنا عن طريق النبي -عليه الصلاة والسلام- هذان الحديثان الشريفان اللذان هما أصلان من أصول العلاقات الاجتماعية أو من أصول حقوق المسلم على المسلم:
فعن أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ؛ رَدُّ السَّلامِ, وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ, وَاتِّبَاعُ الجنازة, وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ, وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم]

وروى مسلمٌ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ, قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ, وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ, وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ, وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ, وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ, وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعه))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم]

وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعه؛ أي شيِّعه.

إليكم هذا الحكم الشرعي الذي يتعلق بإلقاء السلام ورده :

الآن: ربما استغرق موضوع السلام وقتاً طويلاً، وسوف ترون معي بعد قليل كيف أن هذا الموضوع خطير جداً؟ فربما كان إلقاء السلام سبباً من أسباب التفاهم الاجتماعي، ربما كان إلقاء السلام والردّ بالسلام سبباً في شيوع السلام بين الناس، ربما كان تبادل السلام سبباً لهذه المودة والمحبة التي يجب أن تكون بين الناس، الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾

[سورة النساءالآية: 86]

الحكم الفقهي: أن إلقاء السلام سنة ورد السلام واجب بل هو فرض, لقوله تعالى:

﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾

[سورة النساءالآية: 86]

فحيوا هذا أمر، والأمر في القرآن يقتضي الوجوب بأحسن منها, قال لك: السلام عليكم، تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال لك: أسعد الله صباحك، تقول له: أسعد الله جميع أوقاتك؛ أي:

﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾

[سورة النساءالآية: 86]

بل إن رد السلام على أهل الذمة أو على أهل الكتاب واجب، كالرد على المسلمين تمسكاً بعموم الآية، وهذا قول ابن عباس والشعبي وقتادة, سواء من الإنسان المسلم أو غير المسلم، أي إنسان قال لك: السلام عليكم, تقول له: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإن الله عزّ وجل حينما حدثنا عن سيدنا إبراهيم قال:

﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾

[سورة هود الآية: 69]

قالوا: سلاماً؛ أي سلَّموا سلاماً، قال: سلامٌ.
قال العلماء: إن كلمة سلام أبلغ من سلاماً، لأن سلاماً مفعول مطلق لفعلٍ محذوف، أُسلمُ سلاماً، والمفعول المطلق مع الفعل المحذوف يؤلف جملة فعلية، والجملة الفعلية ليست مستمرة, أي أنها وقعت وانتهت، أما سلام جملة اسمية فيها معنى الاستمرار، فسيدنا إبراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم- كانت تحيته أحسن من التي طرحت عليه.

من السنة :

عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال:

((أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ, وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والنسائي في سننه]

أي أن إطعام الطعام سنةٌ نبويةٌ طاهرة، وتقرأ السلام: قراءة السلام شيء ورده شيءٌ آخر؛ أي أن تطرح السلام، أن تبدأ بالسلام على من عرفت ومن لم تعرف.
وعن أبي أُمامة, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلامِ))

أي أن هذا الذي يسلم على الناس ويبدؤهم بالسلام، أولى الناس وأقربهم إلى الله عزّ وجل.

قف عند هذه الكلمة :

وعن عمار بن ياسر قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:

((ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ؛ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ, وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ, وَالإِنْفَاقُ في الإِقْتَارِ))

أنا أقف عند هذه الكلمة: الإنصاف من نفسك:
أحياناً الإنسان يكون في مركز قوي فإذا أخطأ سكت، ومن حوله يتحرقون على أن يعترف بخطئه، فإذا وقع الذين هم دونه بهفوةٍ أقام عليهم النكير، هذا إنسان ليس منصفاً، أنت زوج لك الحق أن تتحدث عن أم زوجتك بما يحلو لك؛ من استهزاءٍ, من تعليقاتٍ لاذعة, من نقدٍ جارح، أما إذا تكلمت زوجتك عن أمك كلمةً طلقتها، أنت لست منصفاً، كما هي أمك وأنت تغار على مكانتها كذلك هي أمها.
أحياناً أنت تكون في محل وعندك صانع وفي المحل ابنك، الصانع قد تحمله ما لا يطيق، قد تكلفه بأعمال مرهقة، قد تحاسبه حساباً عسيراً، قد تضيق عليه، قد تحاسبه على أي خطأٍ ارتكبه، أما ابنك تخاف على ظهره أن يحمل فوق طاقة, أنت لست منصفاً.
فالإسلام ليس بالصلاة والصيام ولا بالحج والزكاة فقط، ولكن الإسلام بالإنصاف أيضاً، هل أنصفت زوجتك من نفسك؟ هل أنصفت أولادك من نفسك؟ هل أنصفت جيرانك؟ تعتدي عليهم, فإذا أرادوا أن يسألوك, أو إذا أرادوا أن ينبهوك, أقمت القيامة عليهم، أنت لست منصفاً.
أمٌ لها بنت إذا أكرمها زوجها, تدعو له دعاءً حاراً بالتوفيق، فإذا أكرم ابنها زوجته تقيم عليه النكير، ليست منصفة، وليس عندها من صفة الإنصاف شيء.
يا أخوان, ليس في الحياة أروع من الإنصاف، الإنصاف من نفسك، يجب أن تعرف لكل إنسان قدره وحقه وحدوده وما له وما عليك، يجب أن تنصف في إعطاء الأجر، يجب أن تنصف في المودة التي تملكها، أنت قاضٍ وأمامك خصمان, واحد تبشُّ له وتهشّ له, وتسأله بأدب, والثاني تقول له: ما اسمك؟ بنبرة غضب وعبوس, لماذا هكذا؟.

هذا ما كان عليه عمر وعلي رضي الله عنهما :


يروون: أن سيدنا عمر كان في مجلسه مع أبي الحسن -سيدنا علي رضي الله عنهما-, فدخل يهودي له عند أبي الحسن مشكلة, قال عمر: قم يا أبا الحسن فقف إلى جانب الرجل, وحكم بينهما وكان الحق مع أبي الحسن، فلما انفض هذا المجلس رأى سيدنا عمر أن سيدنا علياً قد وجم, قال: ما لك يا أبا الحسن أوجدت عليّ؟ فقال: نعم, لماذا قلت لي: يا أبا الحسن؟ فقد ميزتني عليه عندما دعوته باسمه ودعوتني بكنيتي.
فإذا كنت قاضياً فعليك أن تنصف، وإذا كنت مدرساً فعليك أن تنصف، هذا طالب بينك وبينه مودة لم يكتب وظيفته فتتساهل معه, وتقول له: لا تُعدها مرةٌ ثانية، وطالب ثانٍ تقول له: أحضر والدك، إذاً أنت لست منصفاً، لماذا شددت على هذا الطالب وذاك تساهلت معه؟ إذاً أنت غير منصف، لا شيء يسحق الإنسان كالظلم، لذلك العدل أساس الملك.

على ماذا يدور هذا الحديث؟ :

فعن عمار بن ياسر, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ؛ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ, وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ, وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ))

فكر في بيتك زوجتك, أي إذا أخطأت خطأ تجدك عنيفاً في توبيخك، أما أنت تكسر الشيء والكل يسكت وتظل أنت ساكت، فأنت عندما كسرت الشيء سكتّ, إذاً فعليك أن تقبل عذر المعتذر, هذا بالأواني, أما بالمواعيد فإذا تأخرت دقيقتين تقيم القيامة عليها، أما أنت فتتأخر خمس ساعات تظل وهي ساكتة.
فهذا الحديث دقيق جداً, يدور في بيتك, مع أولادك, مع زوجتك, مع أخوانك, مع أصحابك, مع زملائك في العمل, مع شركائك, أنت مرتاح وشريكك تعبان، فعليك الإنصاف من نفسك، إن الدين حينما يصبح صوماً وصلاةً، حينما يصبح شعائر، حينما يصبح طقوساً وتلغى المعاملة, انتهى الدين كله.

هذا الإسلام :

سيدنا جعفر قال للنجاشي: كنا قوماً أهل جاهلية, نعبد الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته وصدقه, وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده, ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم.
هذا هو الإسلام، لذلك فالإنسان حينما يشعر بقوته, ويستخدم قوته في الباطل, فهو ليس منصفاً، البطولة وأنت في أعلى درجة من القوة، وأنت في أعلى درجة من المكانة، وأنت في أعلى درجة من الغنى, وأن تكون منضبطاً بالشرع.
قال رجل لسيدنا عمر: أتحبني؟ فقال: لا والله لا أحبك, قال: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله.
الإنصاف من نفسك، إذاً الإسلام يتميز بمبدأ الإنصاف.

عليك مراقبة نفسك :

أحياناً: تأكل أنت ما لذَّ وطاب, والذين هم في البيت ليسوا كذلك في طعامهم، إذاً أنت لست منصفاً، من لهم غيرك؟ الإنسان عليه أن يطعم أهله مما يأكل, وأن يلبسهم مما يلبس.
يا أخوان على الإنسان أن يراقب نفسه، فهذا الحديث قلما ينجو منه أحد، على الإنسان أن يراقب نفسه في أحكامه، وفي مواقفه، في انتقاداته للناس، في ملاحظاته في تضييقه عليهم, يراقب نفسه في كل أحواله، فإذا كان منصفاً كان على خصلة كبيرة من الخير .
فسيدنا رسول الله كان منصفاً، رأى صهره أسيراً عقب معركة بدر, جاء ليحاربه, وجاء ليقتله, وجاء ليبطش بالمسلمين, لكنه صهر ممتاز، فقال عليه الصلاة والسلام:

((والله ما ذممناه صهراً))

كونه جاء ليحارب, جاء ليقاتل, جاء مع المشركين شيء، هذا عمل, أما أنه صهر ممتاز, قال:
والله ما ذممناه صهراً.

هذا هو الإنصاف :

ابن أبي بلتعة أحد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إنسان اجتهد اجتهاداً وأخطأ- فقد أرسل كتاباً إلى أهل مكة, يذكر لهم أن النبي سوف يفتح بلادهم -أي أنه اجتهد اجتهاد خطأ- فالنبي جاءه الوحي, وأطلعه على ما فعل ابن أبي بلتعة, فأرسل عليه الصلاة والسلام من يضبط هذا الكتاب مع امرأةٍ في الطريق، فقال سيدنا عمر للنبي الكريم: يا رسول الله, دعني أضرب عنقه, فقد خان الله ورسوله, قال: يا عمر, إنه شهد بدراً, ولعل الله سبحانه وتعالى اطلع على أهل بدرٍ فغفر لهم.
أي لا ينسى فضله، بل نلتمس له العذر, هذا هو الإنصاف.
وعن عمار بن ياسر, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:

((ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ؛ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ, وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ, وَالإِنْفَاقُ في الإِقْتَارِ))

الإنصاف من نفسك له ضابط، أما هذا الضابط لو طبقه المسلمون لأغلقت المحاكم أبوابها, ولأُلغيت وزارة العدل كلها، ما هذا الضابط؟.
قال عليه الصلاة والسلام:

((عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك))

هذا الحديث طبقه النبي عملياً.

انظر إلى هذا المنطق السليم للنبي مع هذا الأعرابي:

رجل أعرابي بلغه الإسلام فأعجبه, إلا أنه مدمن على الزنا، وهذا الأعرابي كان صريحاً, فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال:

((يا رسول الله, أنا أشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله, ولكن ائذن لي بالزنا -هذه اسمح لي فيها, فلا أقدر أن أتركها- والصحابة عندها أرادوا أن يقتلوه -ما هذه الوقاحة؟-.
فالنبي قال: دعوه, ثم قال له: اقترب يا عبد الله, اقترب مني, فاقترب -انظروا إلى المنطق- قال: يا عبد الله أتحبه لابنتك؟ -يتصور أن ابنته تزني- فقال: لا، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، أتحبه لزوجتك؟ أتحبه لأمك؟ والأعرابي يردد: لا، فقال هذا الأعرابي بعد ذلك: والله دخلت على رسول الله وليس شيءٌ في الأرض أحب إلي من الزنا، وخرجت من عنده وليس شيءٌ أبغض إلي من الزنا))

انظروا للمنطق السليم، أتحبه لأختك؟ أنت تغش بهذه البيعة، فلو فرضنا أنك تبيع أقمشة وتغش الناس، فلو اشتريت حاجة لك من بائع وغشك ألا تنزعج؟ ألا تحس نفسك أنك تتمزق منه؟ لماذا غششتني؟ أوهمته أن هذه البضاعة أجنبية, وظهر بعد ذلك أنها ليست أجنبية ، أوهمته أن هذه رأس مالها مرتفع وغالٍ ولم تربح شيئاً, ثم تبيّن أنك ربحت بها مائة بالمائة ، فأنت في البيع والشراء أنصف الناس من نفسك، أتحب أن يقال لك كذا وكذا؟ أنت تسخر من إنسان, أتحب أن يُسخر أحد منك؟:

﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الحجرات الآية: 12]

ولا الناس يحبون أن تفعل معهم كذلك، هذا الحديث يا أخوان: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
هذا الحديث يحثك أن تقدر الإنسان الذي أمامك، وتقدر الضعيف، وتقدر المسكين، قدر الذي هو وضعه أضعف منك.

كيف فسر النووي الإنصاف؟ :

يا أيها الأخوة الأكارم, أنصفوا الناس من أنفسكم.
إن الإمام النووي -رضي الله عنه- قال: الإنصاف يقتضي أن تؤدي إلى الله جميع حقوقه وما أمر به، وأن تجتنب جميع ما نُهيت عنه, وأن تؤدي إلى الناس حقوقهم.
الإنسان يكون ابناً وأبوه موجود، يا ترى: هل تحب أن أباك بعد ما تقدمت به السن يحتاج إلى ابنه والابن يزور عنه؟ .
تصور أنك أب وابنك أغنى منك, وأنت بحاجة لمال ابنك وابنك يتبرأ منك، أليس هذا موقفاً صعباً؟ وهذه نصيحة دائماً:
ضع نفسك محل الآخرين باستمرار، عندك زوجة وعندك أم، فأن تقف موقفاً منحازاً مع زوجتك, وتدع أمك التي ربتك, هذا موقف لا أخلاقي، تصور أنك أم وأنك ربيت هذا الابن ثلاثين عاماً, ثم تنكَّر لك, والتفت إلى زوجته على حساب حقوقك عليه، ليس هذا هو الإنصاف، لذلك الإنصاف كما فسَّره الإمام النووي -رحمه الله تعالى- قال:
الإنصاف يقتضي أن تؤدي إلى الله جميع حقوقه وما أمر به, وأن تجتنب جميع ما نهيت عنه، وأن تؤدي إلى الناس حقوقهم, وألا تطلب منهم ما ليس لك.
أحياناً الأب مع ابنه لا ينصفه، أي أن هذا الابن يشتغل عند أبيه, فيقول له: ألا تأكل وتشرب؟ ولكن الابن يريد أن يتزوج، ضع نفسك مكان ابنك, فهو يريد أن يشتري بيتاً, وأن يؤثثه، وأن يتزوج، يبذل جهده ثماني ساعاتٍ في عمل شاق معك أيها الأب على أكل وشرب فقط، وتقول له: هكذا أنا ترتيبي, هذا الترتيب خلاف الشرع، نحن نريد الشرع، فهل من المعقول: أن أحد أبنائك يشتغل معك عشر ساعات ليل نهار، والابن الآخر في البيت عاطل بلا عمل ويتساويان في النصيب؟ هذان لا يتساويان، لم تنصف ابنك، وأحياناً الابن لا ينصف أباه ، فموضوع الإنصاف يا أخوان من الدين, إني أذكركم بالحديث الشريف:
ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: الدين النصيحة؟ .
ألم يقل: رأس الدين الورع؟ .
فأكاد أقول: إن الدين إنصاف، وغير المنصف ليس فيه إيمان إطلاقاً، فيجب أن تنصف زوجتك وأولادك وجيرانك وأقرباءك ووالديك وزبائنك, فإنصافهم حق لهم وواجب عليك.

وقائع :

ذكر لي أخ, يحتاج لإجراء عملية, فقال له الطبيب: تكلفك خمسة وسبعين ألفاً, فلو أن هذا المريض باع نفسه وأولاده, فإنه لا يحصل على عشرين ألفاً، والعملية ضرورية, قال له ذاك الطبيب: هذا الحاضر، طبيب آخر قال له: خمسة آلاف.
هذا غير معقول سبعين ألف زائدة، انصفه، فلعلك تضعك الأيام في مثل موقفه، فعندما ينظر الإنسان إلى ربحه فقط, هذا هو الجهل الأساسي، ربحك في إنسانيتك، ربحك في عملك الصالح، ربحك في اعتدال سعرك، ربحك برحمة المسلمين:
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
كذلك أخٌ ثانٍ قال لي, وهي قضية معلقة بالطب، أول طبيب قال لي: العملية تكلف خمسةً وأربعين ألفاً، والثاني قال: تكلف خمسة وخمسين ألفاً، والثالث قال له: يا أخي الغلاء يسود الوجه, هذه العملية غالية, أنا خائف أن أقول لك فتنزعج, فقال له: ستة آلاف، من خمسة وخمسين ألفاً إلى ستة آلاف, هذا إجرام، فهل تريد منه أن يبيع بيته؟ يبيع سريره؟ يبيع براده؟ لكي تأخذ هذا كله أنت, ثم تقوم برحلة إلى أوروبا في الصيف؟ هذا ليس إنصافاً، لذلك الإنصاف، الإنصاف ويقيم أواصِر المحبة، الإنصاف يجعل المجتمع متكاتفاً، يجعل المجتمع كما قال عليه الصلاة والسلام:

((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ, مَثَلُ الْجَسَدِ: إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))

[أخرجه أحمد في مسنده]

ليس من الإنصاف :

تقول لمن يريد أن يعمل عندك: يا أخي نعطيك فقط ألفي ليرة, موظف عندك لا يكفيه ألفي ليرة، لا تريد يوجد غيرك، طبعاً الموظف مضطر لأنه عاطل عن العمل، وأنت تربح مئات، بل مئات المئات, أعطه أربعة آلاف فهذا إنسان، أخي أنا أجد من يعمل بألفين بل بألف هناك من يرضى، ليس الأمر متوقفاً على من يرضى, بل متوقف على ما يستحق هذا العامل، هناك فرق بين العرض والطلب، إنسان ربط مصيره معك, عنده زوجة وأولاد.
قال لي أخ: إنه في اليوم يصرف مبلغ كذا ألف, أما أنا كعامل يعطيني بالشهر ألف وخمسمائة، فهذه مشكلة، فعليك أن تنصف الناس من نفسك خاصة من هم دونك، وكذلك من هم فوقك، وكن منصفاً مع أولادك، مع زوجتك، مع جيرانك، الإسلام إنصاف, أن تقف عند حدك:
رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده.
أن تعرف ما لك وما عليك، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز، ما يصح وما لا يصح، ما هو حق وما هو باطل، ما هو خير وما هو شر، ما هو عدل وما هو ظلم.

أهذا هو الإسلام؟ :

أحياناً تجد شريكين، فيذهب أحدهما إلى أوروبا, ويقضي فيها شهرين، فنادق, أجنحة, سهرات حمراء, سهرات خضراء, وهل هناك صفراء كذلك؟ لا أعرف، ثم يرجع فيسجل مصروفه على المعمل, على حساب باب الاطلاع, فقد رفع مستوى اطلاعه.
أنت ذهبت لكي تعمل سياحة, فحملت الشركاء ما لا يطيقون، السياحة شيء, والاطلاع شيء, والدراسة شيء, والاستيراد شيء، فهذا يحدث.
أنا أريد أن أشتري مرابحة منك، المرابحة ربح ثابت ويكشف رأس ماله، فمثلاً: ذهب إلى أوروبا لخمس أو ست مهام, فاعتبر هذه الرحلة مهمة واحدة, فوضع نفقات كل هذه الرحلة على هذه البضاعة، أخي مصاريف سفر, ورأس مال كذا, والربح بالمائة عشرة، فأنت قد أخذت بهذه الطريقة الربح مائة بالمائة, أحياناً يرفع المصروف فيضاعف ربحه، لا يوجد إنصاف بالبيع بالشراء، أهذا هو الإسلام؟ لا, إن الإسلام إنصاف بكل حركاتك وسكناتك.
قال له: هل تعرفه؟ قال: نعم أعرفه, فقد رأيته بالمسجد، قال: هل سافرت معه؟ قال له: لا, قال: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ قال له: لا, قال له: هل جاورته؟ قال له: لا، قال: إذاً أنت لا تعرفه.

ملاحظات حول موضوع الإنصاف :

في نفسي على الإنصاف أشياء كثيرة وملاحظات عدّة؛ الإنصاف في كل شيء حتى في أحكامك، لم تلتقِ فلاناً ثم نسمعك تقول عنه: إنه إنسان سيء، هل التقيت معه؟ لا, هل استمعت إلى كلامه؟ لا, فأنت لم تنصفه، كيف يفعل مسلم هذا مع شخص لم يلتق معه، أو تقول: إنه يا أخي لا يفهم شيء؟ فهل سألته سؤالاً واحداً فقال: أنا لا أفهم؟ أو سألته سؤالاً, وأجاب إجابة خطأ؟ هل قرأت مؤلفاته؟ قرأت كتبه؟ حضرت دروسه؟ لا, بل تقول: أخي إنه غير فهمان، فأنت لست منصفاً، أهكذا يكون المؤمن غير منصف؟:

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

[سورة الإسراء الآية: 36]

فأنت مسؤول عن كلامك.

 

هذا سر إفشاء السلام :

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه-, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-:

((أفشوا السلام تعلوا))

أي يرفع الله من شأنكم، ويرفع لكم مقامكم في الدنيا، أفشوا السلام تعلوا.
وفي حديثٍ آخر: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:

((أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
أَفْشُوا السَّلامَ تَسْلَمُوا وَالأَشَرَةُ شر))

[أخرجه أحمد في مسنده]

يعني: إذا كنت ليس لك أصحاب ضمن حيك فإنك لا تسلم على أحد، يزورك الناس؟ لا، لأنك لا تزور أحداً، فهم إذاً يبحثون لك عن عيب، عن غلطة، ينقضون عليك، ليشفوا غليلهم منك، أما إذا كنت متواضعاً, وسلَّمت عليهم، وزرت جيرانك، وعاونتهم في حياتهم، أصبح هذا البناء التي تساكن جيرانك به أسرة واحدة، إذا سافرت سافرت وأنت مطمئن، كلهم كأنهم أنت، إذا فقدت هذه المودة، وفقدت التحية, وهذا السلام، تعيش في جفاء.
فإذا دخل أحد من أخوة زوجتك إلى بيتك في غيابك، يقولون: دخل بيته شخص غريب, علماً بأن الداخل أخو زوجتك، يتكلمون بموضوعات ثانية، بينما إذا أنت سلَّمت عليهم, وعرفوا أخلاقك العالية، وتواضعت وخدمتهم, أصبح هذا الحي أسرة واحدة، إني أحب التكاتف والتعاون، فالإسلام جماله في هذه الحياة الاجتماعية السليمة، لأن التباعد والتدابر والتجافي والمشاحنة والبغضاء تفتت المجتمع، قال الله عزَّ وجل:

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾

[سورة الأنفال الآية: 46]

بالمنازعة والمشاحنة ضعف، يضعف هذا المجتمع الذي تنتمي إليه، لذلك تجد مجتمعات مفتتة, بفعل الخصومات والغيبة والنميمة والحسد والبغضاء والتدابر والتطاحن والتنافس تجد المجتمع المنهار، أما بتطبيق تعاليم الإسلام, تجد الجتمع كالبنيان المرصوص, يشد بعضه بعضاً، إذاً:
أفشوا السلام تعلوا، أفشوا السلام تسلموا.

انظر هذا التواضع عند عمر :

وعن ابن الزبير -رضي الله عنهما-, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لا حَالِقَةُ الشَّعَرِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ))

اقرأ عن الصحابة, تحس أن هؤلاء الصحابة كأنهم يد واحدة، كأنهم جسم واحد, يحب بعضهم بعضاً، يدافعون عن بعضهم بعضاً، يعرفون قدر بعضهم بعضاً.
وقف سيدنا عمر على المنبر, قبل أن يخطب نزل درجة -ماذا حدث!! ألغى الخطبة؟ الخطبة أساس في الإسلام- فلما استقر على الدرجة التي دون الأخيرة, قال: ما كان الله ليراني أضع نفسي في مقام أبي بكر, فنزل درجة اعترافاً بمنزلة أبي بكر، وسيدنا عثمان نزل درجة كذلك.
بعد عشرات السنين, سأل أحد خلفاء بني أمية أو بني العباس, فقال: لماذا لم ينزل فلان الخليفة درجة؟ فقال له صديقه: لو فعلها لكنت أنت في قعر بئر.
لو ينزل كل خليفة درجة فأين مكانك أنت اليوم؟.
المهم أن تعلم أن عمر تواضع في نفسه، فالزم أنت التواضع، سيدنا عمر كان منصفاً، فبعد أن توفي سيدنا الصديق -رضي الله عنه- صار سيدنا عمر -رضي الله عنه- كذلك هو الرجل الأول، ورغم ذلك يرى أفضلية الصديق!
أحدهم أحب أن يتقرب منه, فقال له: والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله -كلام لطيف، فليس أحسن منك بعد النبي, فكاد أن يبطش بمن في المجلس جميعهم- نظر إليهم نظرةً حادة، خافوا إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك، قال له: من هو؟ قال : أبو بكر، فقال: كذبتم جميعاً أيها الساكتون وصدقت أنت، كنت أضلَّ من بعيري، وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك -من الذي يقدر أن ينافق لسيدنا عمر؟ انتهى النفاق كلّه, فلا يوجد نفاق، أنصف سيدنا الصديق، فهو قد مات وليس من يدافع عنه، سيدنا الصديق الآن ليس موجوداً، فإذا كان أحب أن يحتل الساحة كلها الآن, فلا يوجد من يحاسبه، لكنه أنصفه قائلاً-: والله كنت أضلَّ من بعيري، وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك، قال: ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر.
عمر كله حسنة من حسناته، أنصفه من نفسه.

النبي أنصف أصحابه واحداً واحداً :

النبي -عليه الصلاة والسلام- أنصف أصحابه واحداً واحداً، هذا قال له:

((والله إني أحبك يا معاذ))

أنصفه.
وسعد قال له:

((ارم سعد فداك أبي وأمي))

وفي سعد قال أيضاً:

((أروني خالاً مثل خالي))

أنصفه.
وعن سيدنا عمر قال:

((لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر))

أنصفه.
وسيدنا عثمان قال عنه:

((ذو النورين، ألا أستحي من عثمان؟))

أنصفه.
وأبو عبيدة قال عنه:

((أمين هذه الأمة))

وابن الزبير قال عنه:

((حواري هذه الأمة))

وسيدنا خالد قال عنه:

((سيف الله في الأرض))

لا يوجد صحابي من أصحاب النبي إلا النبي أنصفه في تقييم صحيح، هكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
فعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِي اللَّهم عَنْهم جميعاً- قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ, وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لا حَالِقَةُ الشَّعَرِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ))

هذا الحديث بإسنادٍ جيد.

نقطة هامة :

والنبي يقول, وهو:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾

[سورة النجم الآية: 3-4]

((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ))

ولمَ يقسم النبي فلماذا يقسم؟ معنى ذلك: أن هناك أمراً خطيراً.
أنت إذا كنت تحب أخوانك فأخوانك يحبونك، لا أحبهم يا أخي، بالزور المحبة، أي يجب أن تعاملوا بعضكم معاملة يكون من ثمارها المحبة, المحبة ليست عملاً إرادياً، بل عملاً عفوياً:

((يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم, فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها, وبغض من أساء إليها))

هذه النفس مثل الماء في المنحدر، صب الماء على منحدر, وقل له: اصعد إلى فوق ، يرجى الصعود نحو الأعلى، لا يصعد، رجاءً، لا يرد عليك، قل له: انزل، فكل هذا كلام فارغ, لأنه ينزل تلقائياً, فالنزول والهبوط إحدى خصائص الماء:

((يا داود ذكر عبادي بإنعامي إليهم, فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها, وبغض من أساء إليها))

أحسن إلى الرجل تكن أميره.
بالبر يستعبد الحر.

قصة :

يقولون: إن شخصاً مخموراً، سكيراً، عربيداً، خميراً، كان ماشياً في الطريق, ورائحة الخمر تفوح منه، مر الإمام مالك بن دينار, ويبدو أنه أشفق عليه, فأخذه إلى البيت, ونظفه وغسله وأطعمه وصرفه، بهذه المعاملة الطيبة تاقت نفس هذا العاصي إلى الله، فاغتسل وصلى ثم حضر صلاة الفجر في المسجد، فصار يبكي ويناجي ربه، يقولون: إن الإمام مالك بن دينار رأى في المنام: أن يا مالك طهرت فمه من أجلنا فطهرنا قلبه من أجلك, فلما ذهب إلى المسجد صباحاً, وجده في المسجد يصلي، قال له: من الذي هداك إلي؟ فقال له: إن الذي هداني أخبرك بحالي.
أخيرك عني, يقولون لك: أخي هذا شارب، هذا عاصٍ، من الممكن إذا تاب أن يسبقك, لا تعرف, فكن أديباً مع الخلق، الآن هو عاصٍ، لكنه إذا تاب فلعله يسبقك إلى الله.
سيدنا خالد في بدر حارب رسول الله، وفي أحد حاربه، متى أسلم؟ أسلم عام الفتح، ألم يسبق معظم الصحابة؟ أليس كذلك؟ أصبح من كبار الصحابة.
لا تعرف أنت طوالع المستقبل فإنه غيب, فكن أديباً مع الناس، رأيت عاصياً انصحه، فهّمه, بين له, اخدمه.

خذ هذا الشعار لك في حياتك :


أنا أحب أن يكون كلّ أخ شعاره: كن عوناً لأخيك على الشيطان، ولا تكن عوناً للشيطان على أخيك, عاونه على الشيطان, فتواضع له, واخدمه، ولا تنفره من الدين، ولا تكن عوناً للشيطان على أخيك. الحديث الشريف القدسي:

((أنا مع المنكسرة قلوبهم الحزانى في كنف الله, إن الله يحب كل قلبٍ حزين))

الحزانى معرضون للرحمة، الإنسان قيمته بأخلاقه، النبي بماذا مدحه الله عزَّ وجل؟ بيته فخم, مترامي الأطراف مثلاً؟ لا, بماذا مدحه الله عزَّ وجل؟ .
أحياناً أنت تقيم الإنسان بسيارته، ببيته، بمكتبه، بمرتبته، برصيده، بأسرته، بحسبه، بنسبه، أخي فلان يده طايلة، بماذا مدح الله نبيه الكريم؟ قال:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[سورة القلم الآية: 4]

إذا كنت تحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقتف أثره في التواضع، في الإنصاف.
كان إذا دخل بيته لف ثوبه لئلا يوقظ أهله, كان إذا دخل إلى بيته قال:

((أكرموا النساء فو الله ما أكرمهن إلا كريم))

كان يقول عن النساء:

((إنهن المؤنسات الغاليات))

كان حليماً صلّى الله عليه وسلَّم، بلغه حديث الإفك, وما أدراكم ما حديث الإفك؟ ومع ذلك كان حليماً, وكان صابراً، لأنه هو الأسوة لنا.

إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي :

لذلك: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُم))

تريد أن تحب أخاك وأخوك يحبك, المحبة ليست بالإكراه إذاً كيف؟ يجب أن تعامله معاملة يذوب محبة فيك، ويعاملك معاملة تذوب محبة فيه، فإذا أحببته وأحبك صار المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
ماذا قال الله عزَّ وجل عن أصحاب رسول؟ قال الله عزَّ وجل:

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾

[سورة الفتح الآية: 29]

الإنسان لا بدَّ من أن يرحم أخاه:

((إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي))

إذا وقع إنسان أو عثر فارحمه.

أين أنتم من الإسلام معشر التجار؟ :

أحياناً: يضطر أحد الزبائن لبضاعة ما، فيقول له البائع: بثلاثمائة وخمسين، فيقول الزبون: هي بمائتين بالخارج, فيقول: ااتركها لا تشتريها، عرفته مضطراً, وليست هذه البضاعة موجودة عند غيرك، أو يكون مضطراً أن يبيع هذا السرير, لأنه سيجري عملية لزوجته، فيقول له: بمائة ليرة! ثمنه ثلاثة آلاف, فيقول له: إنه لا يلزمني ولكن لا يرحمه، بالشراء والبيع لا رحمة، إنه مجتمع الغاب، فأين أنتم من الإسلام؟.

هذا هو مجتمع الاستغلال :

أنا كنت أضرب مثلاً خلاصته: رجل يريد أن يشتري غرفة نوم، قال له البائع: هي ذات سرير واحد، قال له: أريدها ذات سريرين، قال البائع: إذاً عشرة آلاف زيادة،

الخشب أسعاره مرتفعة، قال الزبون: إذاً أنا أريدها بسرير واحد، يقول له: أحسم لك ألفين، لماذا لما أراد شراء سريرين يطلب منه عشرة آلاف زيادة، وعندما اكتفى بسرير واحد أصبح السرير ثمنه ألفان؟ لأنه لا يوجد إنصاف، وحول موضوع الإنصاف، هذا إذا كنت تريد أن تبيع الحاجة فالثمن المدفوع لك زهيد جداً، وإذا كنت تريد أن تشتريها فهي قطعة نادرة وثمنها باهظ، هذا مجتمع القنص، مجتمع الذبح، مجتمع الاستغلال، هذا ليس مجتمعاً إنسانياً بل هو مجتمع الذئاب، لذلك نهى النبي عن بيع المضطر، إذا كان رجل مضطراً ليبيع سلعة, يجب ألا تأخذها بثمن بخس، لأنك عندئذٍ كأنك سرقتها منه، وعلى هذا فقس.
فما دام تعاملنا قائم على جور, وعلى ظلم وعدوان، بين بعضنا البعض؛ الجار مع جاره، والأخ مع أخيه، المعلم مع صانعه، الصانع مع معلمه, فالمجتمع إلى انهيار، لذلك: فالله عزَّ وجل لا ينظر إلى هذه الأمة بالرحمة إذا لم يتراحموا، أما إذا تراحموا يرحمهم الله عزَّ وجل.

ملخص الدرس :

فاليوم قرأت في الجريدة: إلى الآن أمطار دمشق ثمانية وعشرين ملم، بقي من فصل الشتاء شهران فقط، ونحن معدل أمطارنا عادةً مائتان وخمسون ملم في السنة، العام الماضي الذي كان عام محل في دمشق, كان المعدل خمسة وثمانين ملم, وما هطلت الأمطار حتى الآن في هذه السنة, إلا ثمانية وعشرين ملم فقط:

((إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي))

إذا أحدنا وقع فلا أحد يرحمه ولا أحد يأخذ بيده، فالظلم قائم، ومصدره الأنانية والجشع، وهذا ملخص الدرس.
الدرس كأنه حام حول موضوع واحد خلاصته: أن تنصف الناس من نفسك، حق لأخيك عليك أن تنصفه؛ في سمعته، في عرضه، في ماله، في بيعك له، في شرائك منه، في زيارتك له, واذكر قوله تعالى دائماً: إنما المؤمنون أخوة، واذكر أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور