- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠5حق المسلم على المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ما هي الصيغة التي ألقاها النبي لإلقاء السلام ورده؟ :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في موضوع الحقوق، وقد وصلنا في موضوع الحقوق إلى حق المسلم على المسلم، ومن حق المسلم على المسلم السلام، وتحدثنا في درسين سابقين عن فضل إلقاء السلام، وعن وجوب رد السلام، وبقي علينا اليوم أن نتحدث عن الأحكام الفقهية المُتعلقة بالسلام .
بادئ ذي بدء: يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه عمران بن حصين :
قال عمران بن حصين: جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: السلام عليكم, فرد صلى الله عليه وسلم السلام ثم جلس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرٌ, ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله, فرد عليه الصلاة والسلام السلام, وجلس, وقال النبي الكريم: عشرون, وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, فرد وجلس وقال عليه الصلاة والسلام: ثلاثون.
فهم من ذلك: أن السلام التام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا السلام ينال ثلاثة أمثال السلام الأول، هذه صيغةٌ من صيغ السلام.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
((قال رسول الله -صلى الله عليها وسلم- لها: هذا جبريل يقرأ عليكِ السلام, قالت عائشة: وعليك وعليه السلام ورحمة الله وبركاته))
إذاً: كلمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ورد السلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, هذه هي الصيغة التي اختارها النبي -صلى الله عليه وسلم- لإلقاء السلام ورد السلام.
مما يكره استعماله :
الصيغ الأخرى التي تعرفونها: أنعِم صباحاً، أنعِم مساءً، عِم صباحاً، عِم مساءً، أسعد الله أوقاتكم، أسعد الله صباحك، أسعد الله مساءك، هذه الصيغ التي يستعملها الناس, الأولى منها أن نستعمل تحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, لأن السلام اسمٌ من أسماء الله عزَّ وجل .
وهناك تحيات يستخدمها المتفرنجون، كلكم يعرفها، هذه التحيَّات مكروهٌ استعمالها, لأن فيها تقليداً للكفار، واعتزازاً بهم، واشتياقاً إلى أن يكون المُسَلِّمُ مثلهم، التحيَّات التي يستخدمها الأجانب، والتي أصبحت إلى حدٍ ما معرَّبة، هذه التحيات يظنها بعض الناس دليل رقيٍ وحضارةٍ, هذه في نظر الإسلام إلغاء ورد لتحية الإسلام، واستبدال الذي أدنى بالذي هو خير ، وإن طرح السلام بصيغة سلام الأجانب, نوعٌ من أنواع التشبُّه بهم والاعتزاز بهم, فلنحذر منذ اليوم ألا نطرح سلامهم ولا نرد التحية بمثل ردّهم.
ما حكم إلقاء السلام وما حكم رده في الشرع الإسلامي؟ :
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾
بعضهم يقول: طرح السلام سُنَّة، لكن رد السلام واجب؛ أي إذا قال لك أحدهم: السلام عليكم, فهذا قد طبق السنة، أما أنت إذا ألقي عليك السلام فردّك على هذا السلام واجبٌ, والواجب -كما تعلمون- قريبٌ من الفرض، بل هو عند بعض الأئمة هو الفرض نفسه.
والله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾
ليس هناك فرقٌ بين أن يكون هذا الذي سلَّمت عليه مسلماً أو غير مسلم، لأن الآية عامَّة ، ولا شيء يخصصها إلا بعض الأحاديث التي ترد بعد قليل.
علام استدل جمهور العلماء في هذا الحديث؟:
النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الإمام البَيهقي يقول:
((إن الله تعالى جعل السلام تحيةً لأمتنا وأماناً لأهل ذمتنا))
أي أنك إذا سلمت على غير المسلم, فهذه طريقةٌ من طرق بث الطمأنينة فيه، وإذا سلَّمت على مسلم, فهذا نوعٌ من أنواع التحية التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها.
استدل جمهور العلماء على أن رد السلام على كل مُسَلِّم مسلماً كان أو كافراً لا يختلفان إطلاقاً، فأنت إذا ألقي عليك سلام, يجب أن ترد على هذا السلام ولا يعنيك من هو المُسَلِّم.
على ماذا تحض هذه الأحاديث؟ :
الآن ندخل في موضوع آخر من السلام: السلام على أهل بيتك، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الإمام أنس بن مالك، قال عليه الصلاة والسلام:
((يا أنس, أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلِّم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت بيتك فسلِّم على أهلك، يكثر خير بيتك، وصلاة الضحى فإنها صلاة الأوَّابين، يا أنس, ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة))
يعنينا من هذا الحديث إلقاء السلام على أهل البيت:
وسلم على أهل بيتك، يكثر خير بيتك .
وفي حديثٍ آخر:
يقول عليه الصلاة والسلام:
((إذا ولج أحدكم بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج, وبسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا, وعلى الله توكلنا, ثم يسلم على أهله))
وعن زيد بن أسلم, أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((إذا دخلتم بيتاً فسلموا على أهله، واذكروا اسم الله, فإن أحدكم إذا سلَّم حين يدخل بيته, وذكر اسم الله تعالى على طعامه, يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هنا ولا عشاء))
إذا دخل إلى البيت فسلم على أهل بيته، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هنا، فإذا وضع الطعام وسمى الله قبل أن يأكل، يقول الشيطان لأصحابه: ولا عشاء لكم اليوم, فإذا دخل بيته وسلم على أهله وسمى على طعامه, يقول الشيطان: لا مبيت لكم ولا طعام في هذا البيت .
أما إذا لم يسلم على أهل بيته، ولم يذكر الله على طعامه, يقول الشيطان لأخوانه: أدركتم المبيت والعشاء .
ما هي المنعكسات التي يطرحها البيت الذي يسود فيه المحبة:
وعن أنسٍ -رضي الله عنه-, قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((يا بني, إذا دخلت على أهلك فسلم تكن بركةً عليك))
فالبيت جنة المؤمن، جنته داره، فإذا كانت علاقته طيبةً بأهله وأولاده يسعد في داره، وإذا سعد الإنسان في داره, خرج إلى الناس وهو سليم الصدر, وكان إنتاجه طيِّباً، فالإنسان يقاس إنتاجه بمدى نجاحه في بيته، فهذا البيت، هذا العُش، هذه اللبنة الأولى, هي أصل صلاح المجتمع، إذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، فلذلك: على كل زوجٍ, أو على كل أبٍ: أن يحرص حرصاً بالغاً على سلامة العلاقة بينه وبين أهله، وبينه وبين أولاده، فكلما كانت العلاقة طيِّبةً، والعلاقة علاقة محبةٍ واحترام وودٍ, انعكس هذا في عمله، وانعكس هذا في علاقاته الخارجية.
ما حكم السلام على أهل البيت؟ :
فلذلك: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, تكن بركةً عليك وعلى أهل بيتك.
وفي حديثٍ آخر:
((إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, تحيةً من عند الله مباركةً طيبة))
وبعد: فقد قال العلماء: أواجبٌ إذا خرجت من بيتك ثم دخلت أن تسلم عليهم؟ .
قال بعضهم: لا، لكن هو أحب إلي, فمن منكم يصَّدق أن أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- كان الصاحبان إذا مشيا معاً, وفرقت بينهما شجرة, يقول أحدهما للآخر: السلام عليكم؟ .
وإذا كان عندك أخٌ كريم, وخرجت من غرفة الضيوف, وعدت إليها, فقل: السلام عليكم, هذا اسم الله عزَّ وجل، وكلما ألقيت السلام نمت المودة بين المؤمنين، وهذه طريقةٌ سحريةٌ في تمتين العلاقة بين الأخوة المؤمنين .
إذا دخلت مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-, فقل: السلام على رسول الله, هذا أيضاً مما قاله بعض التابعين، وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد, فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ما حكم السلام على الصبيان؟ :
ما حكم السلام على الصبيان؟ .
ورد عن أنسٍ -رضي الله عنه-:
((أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر على صبيان فسلم عليهم))
وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا دائماً, فهذا الصبي الصغير يجب أن تهتم به.
كلكم يعلم: أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- حينما كان يمشي في المدينة، رأى مجموعةً من الغِلمان، لما رأوه تفرقوا، إلا واحداً منهم, قال: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب؟! قال: أيها الأمير, لست ظالماً فأخشى ظلمك, ولست مذنباً فأخشى عقابك, والطريق يسعني ويسعك .
ومثل هذا الغلام, فقد دخل مرة على سيدنا عمر بن عبد العزيز وفد من الحجاز, ويتقدم الوفد غلام، فامتعض سيدنا عمر منه لما أراد أن يتحدث باسم الوفد, وقال: اجلس أيها الغلام وليقم من هو أكبر منك سناً, فقال: أصلح الله الأمير, المرء بأصغريه قلبه ولسانه, -فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام-, ولو أن الأمر كما تقول, لكان في الأمة من هو أحق منك بهذا المجلس.
أي أن هذا الصغير إذا عرف أن المسلمين يقدِّرونه، ويقدرون وجوده في المسجد، ويحبون وجوده في المسجد، ويكرمون وجوده في المسجد، فإنه ينشأ على حب بيوت الله، وهذا الشاب الذي تعلَّق قلبه في المساجد من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
إذاً: من السنة أن تسلم على الصبيان، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((من كان له صبيٌ فليتصابى له))
وكلكم يعلم: كيف كان يركب الحسن والحسين على ظهره الشريف ويقول:
((نعم الجمل جملكما! ونعم العدلان أنتما))
وكيف كانت الجارية -أي البنت الصغيرة- تأخذه من يده -صلى الله عليه وسلم-, وتقوده حيث شاءت.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- في بعض الأحاديث يقول :
((لاعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً، وراقبه سبعاً، ثم اترك حبله على غاربه))
على كلٍ؛ طرح السلام من الإسلام، صغيراً كان أو كبيراً، قريباً أو بعيداً، مسلماً أو غير مسلم، لكني أضرب مثلاً:
فلو أن واحداً مشى في سوق الحميدية اليوم، أو في أيام الازدحام، أو في أيام الأعياد, فهل عليه أن يطرح السلام على كل أولئك؟ لا، ليس هذا وارداً إطلاقاً.
ما حكم السلام في السوق, وما الحكم الذي يمكن أن نستخلصه من السلام؟ :
قيل: إذا مشى المسلم في السوق أو في الشوارع المطروقة ونحو ذلك مما يكثر فيه المتلاقون، فإن السلام يكون في هذه الحالة لبعض الناس دون بعض، لمن تعرف, دخلت إلى محل تجاري: السلام عليكم, دخلت إلى المسجد، دخل معك شخص، حازاك في الدخول, قل: السلام عليكم, أما في الأسواق المزدحمة: ليس من المعقول أن تطرح السلام على كل الناس .
على كلٍ؛ من حِكَمِ السلام أنه به تستكسب الود وتستدفع المكروه، قد يلقاك شخص شرير، فإذا سلمت عليه انطفأت شرته، فالسلام أحياناً تستجلب به المودة أو تستدفع به المكروه ، فإذا كان شخص يخشى شره وسلَّمت عليه وكنت معه لطيفاً، ربما صرف النظر عن إيذائك, هذا من حكمة السلام.
إذا جاء في الخطاب لفظ السلام فهل على القارىء رد السلام؟ :
والآن: عندنا أحكام أخرى لحالات أخرى:
أنه إذا جاء في الخطاب لفظ السلام، تقرأ رسالة، تقرأ في مقدمة الرسالة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال العلماء:
يجب أن تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته, أن ترد على السلام المكتوب، هذا حكمٌ فقهي.
وعن عائشة أنها قالت:
((قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :يا عائشة, هذا جبريل يقرأ عليك السلام, قالت: قلت: وعليك وعليه السلام ورحمة الله وبركاته))
أي إذا ألقي عليك السلام مباشرةً وجهاً لوجه, لا بد من أن ترد السلام، وإذا جاءك السلام مكتوباً، أو جاءك على لسان إنسانٍ آخر، يجب أن تقول: عليك وعليه السلام, كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام.
فعن غالب القطان, عن رجلٍ قال:
((حدثني أبي عن جدي, قال: بعثني أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ائته فأقرئه السلام, فأتيته فقلت: يا رسول الله, إن أبي يقرئك السلام, فقال عليه الصلاة والسلام: عليك السلام وعلى أبيك السلام))
إذاً: طرح السلام مباشرةً لا بدَّ له من رد، إذا جاء السلام كتابةً لا بدَّ له من رد، إذا جاء محمولاً عن طريق شخصٍ ثالث, لا بدَّ له من أن تقول: عليك وعليه السلام .
إذا كان المؤمنون جماعة فما حكم طرح السلام؟ :
الآن: إذا كان المؤمنون جماعةً فطرح السلام سنة كفاية، إذا قام به أحدهم سقط عن الباقي, وإذا كان المطروح عليهم السلام جماعة فردُّ السلام واجب كفاية، إذا كان الذي طرحت عليه السلام واحداً رد السلام واجب عين، وإذا كان الذي طرحت عليه السلام جماعةً رد السلام واجب كفاية، طرح السلام من جماعة سنة كفاية، طرحه من واحد سنة عَيْن، هذا حكم السلام.
طبعاً: الحكم المعروف طرح السلام سنة، ورده فرضٌ أو واجب والواجب أولى .
إليكم هذه الأحوال التي يكره فيها طرح السلام:
الآن: هناك أحوالٌ يكره فيها طرح السلام:
فالإنسان إذا كان يبول في سفر مضطراً، لا يجوز أن تطرح عليه السلام، أو إذا كان يصلي، أو إذا كان يؤذِّن، أو إذا كان يقيم الصلاة، أو إذا كان في الحمام -أي يغتسل-, فطرح السلام على هذا الإنسان لا يجوز، أو إذا كان في فمه لقمة، أو وهو يأكل, وهو يبتلع الطعام، فإذا طرحت عليه السلام فأجابك، فإنه يتضايق ويشعر بحرج بين الرد وبلع الطعام.
أما السلام في حال خطبة الجمعة فمكروه، أي في أثناء خطبة الجمعة, وفي مجالس العلم السلام مكروه, لأنه كلما دخل إنسان, قال: السلام عليكم, فأجابوه: وعليكم السلام, تبلبل الدرس، وشردت أذهان الحاضرين, ففي خطبة, وفي مجلس العلم، لا يجوز أن تطرح السلام ، دخولك إلى المسجد هو السلام.
وكذلك لا يجوز أن تطرح السلام على من يقرأ القرآن، فالأولى ترك السلام عليه .
ما يتعلق في باب المصافحة والمعانقة :
الآن: ندخل في بابٍ آخر باب المصافحة والمعانقة:
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه, وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر))
إذاً: فهم من هذا الحديث: أن السلام بين المؤمنين, إذا ألقى أحدهما الآخر, فيكفيه أن تسلم عليه بلسانك وتصافحه بيمينك. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه سلمان بن الفارسي, أنه قال:
((إن المسلم إذا لقي أخاه فأخذ بيده, تحاتت ذنوبهما كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريحٍ عاصف))
إذاً: هذا السلام وهذه المصافحة، مما أكدهما النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من حديث.
وعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال رجلٌ:
((يا رسول الله, الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا, قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا, قال: فليأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم))
إذاً: النبي نهى عن أن ننحني لبعضنا بعضاً، ونهى أيضاً عن أن يلتزم بعضناً بعضاً, ويقبل بعضناً بعضاً, إلا لحديثٍ آخر نراه بعد قليل .
حدثني عبد الله بن طاووس, عن أبيه, عن عبد الله بن عباس
((أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قدم جعفر من أرض الحبشة, اعتنقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبل ما بين عينيه, وكان جعفر أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم))
إذاً: فهم أنه إذا قدم الإنسان من سفر، وكان لقاءٌ بعد غيابٍ طويل، السنة أيضاً: أن تلتزمه, وأن تعتنقه, وأن تقبله، هذه السنة, أما التقبيل بين الآونة والأخرى: فهذا ليس من السنة، المصافحة من السنة، طرح السلام من السنة .
من آداب السلام :
من آداب السلام :
أن يسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير.
ومن آداب السلام أيضاً :
((إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ, فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ, فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ))
لكن السنة: إذا دخلت إلى جماعة, وسلمت عليهم, وصافحتهم واحداً واحداً, فليس عليك أن تصافحهم حينما تغادرهم، لك أن تقول: السلام عليكم, فالمصافحة عند الدخول فقط وعند الاستقبال، أما عند الوداع يجزئك من السلام, أن تقول: السلام عليكم وتذهب .
من هم أبخل الناس؟ :
هناك بعض أحكامٍ أخرى متعلقةٍ بالسلام :
روى الإمام البخاري في صحيحه, في الأدب المفرد, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((أبخل الناس الذي يبخل بالسلام .
-أنت صاحب محل وعندك صانع، دخلت على المحل, فقل له: صباح الخير، السلام عليكم ، الله يعطيك العافية, ماذا تكلفك هذه؟ هذه تبث في نفسه الحب، تبث في نفسه الطمأنينة.
هناك أشخاصٌ من أصحاب المحلات مثلاً, يبخلون بإلقاء السلام, بحجة أن هذا ليس شأنه من شأني . هنا المشكلة، وهذا هو الكبر حقاً، يجب أن تسلم على كل من تلقاه على من حولك، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول-:
إن أبخل الناس من بخل بالسلام, وأعجز الناس من عجز عن الدعاء))
إذا كان الله عزَّ وجل يقول :
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
والله سبحانه وتعالى على كل شيءٍ قدير وبالإجابة جدير، وأمرنا أن ندعوه، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا, فتبخل أن تدعوه !!.
ما حكم السلام على الفاسق والمبتدع؟ :
لكن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بطرح السلام على بعض الأشخاص دقيقةٌ جداً .
فقد روى البخاري أيضاً, عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((لا تسلموا على شارب الخمر))
إنسان شارب خمر, تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام, أنت كأنك تقره على عمله، هذا السلام بين المؤمنين، هذا المتلبس بالمعصية الذي لا يأبه بهذه المعصية من المسلمين لا ينبغي أن تسلم عليه.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز في الأصل أن تسلم على الفاسق ولا المبتدع, فإن اضطرت إلى السلام بأن خفت أن تترتب مفسدةٌ في دينٍ أو دنيا فلك أن تسلم عليه؛ أي إذا كان عدم سلامك على هذا الفاسق أو المبتدع أو شارب الخمر، يترتب عليه -أي عدم السلام- مفسدةٌ كبيرة في الدين والدنيا فينبغي أن تسلم عليه، هذا هو الحكم الشرعي.
فمثلاً: إنسان لو لم تسلم عليه لجاءك منه شرٌ خطير، عندئذٍ سلم عليه إتقاءً لشره، مع العلم أنه:
شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره.
بعض العلماء قال: ينوي المسلم أن السلام من أسماء الله عزَّ وجل, فإذا قلت: السلام عليكم؛ أي أن الله رقيبٌ عليكم, هذه نية مقبولة .
انظر إلى هذا القول للسادة الأحناف :
حتى إن السادة الأحناف قالوا: إن ترك السلام على من يتعاطى خوارم المروءة، من باب التأديب أولى.
من يتعاطى خوارم المروءة؛ أي كل عملٍ يخل بمروءة الإنسان، من جراء هذا العمل يجب أن يشعر هذا العاصي أنه منبوذ اجتماعياً.
وتعلمون موضوع العدالة كيف أنها تسقط وكيف تجرح؟ تسقط عمّن حدّث الناس وكان كاذباً إذاً تسقط بالكذب، وعاملهم فكان ظالماً إذاً تسقط بالظلم، ووعدهم فأخلفهم إذاً تسقط بإخلاف الوعد، فإذا كان صادقاً غير ظالم ولا يخلف وعده, فهو ممن كملت مروءته, وظهرت عدالته, ووجبت أخوَّته, وحرمت غيبته.
وتعلمون أن الأكل في الطريق، والمشي حافياً في الطريق، والبول في الطريق، وأكل لقمة من حرام، وتطفيفٌ بتمرة، وصحبة الأراذل، والحديث عن النساء، من أطلق لفرسه العنان لإيذاء الناس، من قاد برزوناً، هذا كله مما يجرح العدالة.
السادة الأحناف قالوا: إن هؤلاء الذين يفعلون أفعالاً تسيء إلى مروءتهم وعدالتهم, يجب أن نؤدبهم.
ولكن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، حينما يكون الجو العام جواً صحياً, فيه استقامةٌ طيبةٌ من المجتمع، إذا خرج أحدهم عن هذا الخط يجب أن يؤدب، أما إذا فشا هذا الانحراف، فصار عدم إلقاء السلام, لا يؤدي الهدف الذي أراده العلماء من هذا الحكم الذي استنبطوه, فالأمر عندئذٍ يختلف والإنسان له فيه عذره.
ما حكم من قبل يد غني لدنياه وثروته وشوكته؟ :
الآن قالوا: من قَبَّلَ يد غنيٍ لدنياه، وثروته، وشوكته، وجاهه، ونحو ذلك, فإن هذا مكروهٌ كراهةً شديدة، بل إنه يرقى إلى حكم الحرام. وكلكم يعلم :
((َمَنْ دَخَلَ عَلَى غَنِيٍّ فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلْثَا دِيِنِه))
من جلس إلى غنيٍ يبتغي من ماله, فتضعضع له, -تمسكن، تذلل-، ذهب ثلثا دينه.
ومن التضعضع له: أن تقبَّل يده من أجل الطمع في المال أو الثروة أو الشوكة أو الجاه، هذا أيضاً مكروهٌ كراهةً شديدة، بل إن بعض العلماء ومنهم النووي, قال: حرام.
ما حكم التقبيل وما حكم تقبيل اليد؟ :
شيٌ آخر: يقولون: ما حكم التقبيل؟ قالوا: تقبيل الأرض والأقدام أمام العظماء والملوك، وتقبيل أيدي السيِّدات الأجنبيات كما هي الحالة في بعض العادات والتقاليد، وتقبيل أيدي الفتيات المُراهقات في المجتمعات وعند المقابلات، هذا منكرٌ إنكاراً شديداً.
ما حكم تقبيل اليد؟ قالوا: حكم تقبيل اليد: نابعٌ من الباعث لهذا التقبيل، فقد يكون التقبيل أساسه بقصد الخضوع وإعلان العظمة هذا الباعث غير مشروع، وقد يكون بقصد إشباع الغريزة تحت ستار التحيَّة وهذا الباعث غير مشروع، وقد يكون تلبيةً للشفقة والرحمة للوالدين وهذا الباعث مشروع، وقد يكون اعترافاً بفضلٍ، وهكذا تتنوع بواعث التقبيل ويأخذ حكم التقبيل حكم الباعث.
إذا كان الباعث التعظيم والتبجيل أو الشهوة الخفية فهذا تقبيلٌ محرم، إذا كان الباعث إكرام الأم والأب، وإشعارهما بأن هذا الابن بارٌ بهما, فهذا الباعث مقبول.
والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
بعض الفقهاء يقول: تقبيل المودة للولد يكون على الخَد -الطفل الصغير يُقبل على خده-, وتقبيل الرحمة للوالدين يكون بتقبيل الرأس واليدين، وتقبيل الشفقة للأخ يكون على الجبهة.
بقي علينا موضوع القيام:
يقول عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ قِيَامًا, فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))
هذا رأي الأحناف في موضوع السلام على الشابة الأجنبية :
الآن: هناك حكم رد السلام على الأخت المسلمة: جاء في حاشية ابن عابدين الحكم التالي : إذا عطست شابةٌ مسلمةٌ في حضرتك فلا يجوز أن تشمِّتها -يرحمك الله, هذه ليست واردة إطلاقاً- ولا يسلم عليها, فإذا سلمت عليه يرد السلام بلسانه إن كانت متقدمةً في السن، وبقلبه إن كانت شابة، إذا سلَّمت امرأةٌ أجنبيةٌ على رجل, إن كانت عجوزاً رد عليها بلسانه بصوتٍ يسمع، وإذا كانت شابة رد عليها في قلبه، وإذا سلم الرجل على امرأةٍ أجنبية، فالجواب فيه تماماً بالعكس، إذا كان المسلم شيخاً كبيراً ردت عليه السلام بلسانها، فإن كان شاباً ردت عليها السلام بقلبها.
هذا رأي السادة الأحناف في موضوع السلام على الشابة الأجنبية.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
((السلام اسمٌ من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض فافشوه بينكم))
هذه عن أحكام السلام، وأحكام التقبيل، وأحكام القيام، وما يتبع ذلك من أحكام.
لمحة عن حياة زيد بن ثابت :
والآن إلى قصة صحابيٍ جليل:
حينما تمسك بيدك المصحف وتقرأ، فلتعلم أن عليك دَيْنَاً يجب أن تؤدِّيه لصحابيٍ جليلٍ جداً, كان له باعٌ طويل في جمع المصحف، إن هذا الصحابي الجليل هو سيدنا زيد بن ثابت، هو الصحابي الأول الذي جمع القرآن في عهد سيدنا أبي بكرٍ وعمر وفي عهد سيدنا عثمان، فكلما أمسكت مصحفاً, ورأيت الآيات يأخذ كل منها بعناق بعضٍ، ورأيت هذه السور، فإن الفضل الأول لجمع القرآن لهذا الصحابي الجليل.
هو أنصاري من السادة الأنصار، كانت سِنُّه يوم قدم النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة أحد عشر عاماً، شيء يدعو للعجب، سيدنا أسامة بن زيد قاد جيشاً كبيراً عرمرماً بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, وكانت سنه لا تزيد عن سبعة عشر عاماً.
-تقرأ عن أصحاب النبي الشباب الشيء الذي لا يصدق، أين شبابنا في هذه السن من هؤلاء الشباب الأصحاب الذي ملؤوا كتب التاريخ ببطولاتهم الفذة؟-.
فهذا الصحابي الجليل الذي ندين جميعاً له في قراءة القرآن، حينما دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة مهاجراً, كانت سِنُّه لا تزيد عن أحد عشر عاماً، وأسلم الصبي الصغير مع المؤمنين، وبارك دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- وصحبه أبوه معه إلى غزوة بدر، ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- رده لصغر سنه.
لم لم يأذن النبي لزيد بن ثابت أن يكون في صفوف المجاهدين في غزوة أحد؟:
وفي غزوة أُحد ذهب جماعة من أترابه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يضرعون إليه ويرجونه أن يجعلهم في صفوف المجاهدين، وكان الأهل أكثر ضراعةً من الشباب للنبي -عليه الصلاة والسلام- ألقى النبي -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء الفرسان الصغار نظرةٌ شاكرة، وبدا وكأنه سيعتذر عن تجنيدهم، لكن أحدهم وهو رافعٌ بن خُديج تقدَّم بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- يحمل حربةً ويحرِّكها بيمينه حركاتٍ بارعة، وقال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: إني كما ترى رامٍ أجيد الرمي, فأذن لي يا رسول الله.
شاب صغير يحمل أمام النبي حربةً ويحركها حركاتٍ متقنة, ويقول: يا أيها الرسول الكريم، إني رامٍ فأذن لي, وتقدم شابٌ آخر اسمه سمرة بن جُندب وراح يلوِّح في أدبٍ بذراعيه المفتولتين، وقال بعض أهله للنبي: يا رسول الله! إن سمرة يصرع رافعاً -أقوى من هذا- وحيا النبي هذين الشابين بابتسامة حانية وأذن لهما، وكانت سن كل منهما لا تزيد عن خمسة عشر عاماً، ودخلا المعركة.
وبقي من الأتراب ستة أشبال منهم زيد بن ثابت، لم يأذن لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- لصغر أسنانهم، ومنهم عبد الله بن عمر، هؤلاء راحوا يضرعون ويرجون، ولكن النبي لم يأذن لهم في هذه السن، كأنهم رجعوا وأعينهم تفيض من الدمع، -هكذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله- .
هذا ما تفوق به هذا الصحابي الجليل في ظل الإسلام :
تألَّقت شخصية سيدنا زيد في ظل الإسلام تألُّقاً كبيراً، ونمت شخصيته نمواً سريعاً.
-هذا سؤال يطرح نفسه علينا جميعاً: أنت تنمو يا ترى؟ كل واحد منا له هذا المجلس, يا ترى ينمو في الإيمان؟ هل يوازن بين يومه وأمسه؟ يا ترى: أنت اليوم كما أنت قبل عام في إيمانك؟ قبل شهر؟ قبل عامين؟ قبل ثلاثة أعوام؟.
النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((من لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
- لأن عجلة الزمن متحركة، فلو فرضنا أحداً وصل للصف الثامن ووقف، يقول: أنا لم أتأخر لكني واقف، صار زميلك في الصف الحادي عشر، إذاً إن لم يتقدم ووقف فهو في خسران-.
من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمغبون من تساوى يوماه))
فالإنسان يجب أن يراقب نفسه، في تبدل أحواله إلى الأحسن، في معلوماته، بمواقفه، ببذله، بتضحيته-.
وبعد فإن كُتَّاب السيرة يقولون: شخصية سيدنا زيد نمت نمواً سريعاً في ظل الإسلام، وتفوق هذا الصحابي الجليل في العلم والحكمة، وتعلم هذا الصحابي أيضاً بعض اللغات الأجنبية، وكان كاتباً من كتَّاب الوحي، وكان كاتباً للنبي -عليه الصلاة والسلام-، كتب له بعض الرسالات لملوك الأرض وعظمائها.
كيف عامل ابن عباس هذا الصحابي الجليل؟ :
هناك لقطةٌ طيبة: كيف عامل سيدنا ابن عباس وهو ابن عم النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الصحابي الجليل؟
يقول الشعبي -وهو قاضٍ تابعي-: ذهب زيد بن ثابت ليركب فأمسك ابن عباس بالركاب, فقال له زيد: تَنَحَّ يا بن عم رسول الله, فأجابه ابن عباس: لا هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا.
ما هي العلوم الإسلامية التي نبغ بها زيد بن ثابت؟ :
قبيصة يقول: كان زيدٌ رأساً بالمدينة في القضاء والقراءة والفرائض.
وكان عليه الصلاة والسلام كان يقول:
((أفرضكم زيد))
أي أعلمكم بالمواريث زيد.
- مر معنا بالخطبة، لما ربنا عزَّ وجل قال :
﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾
هذه الهاء تعود على القرآن، معنى ذلك: إذا تعلَّمت القرآن وعلمته, فهذا في نظر العلماء فوق الجهاد، والجهاد -كما تعلمون- ذروة سنام الإسلام، وتعلُّم القرآن وتعليمه فوق الجهاد، الجهاد هدفه نشر الحق، فإذا كان الهدف نشر الحق، فإذا أنت تعلمت القرآن وعلمته, فقد ساهمت في تحقيق الهدف البعيد للجهاد، والبحث عن الحقيقة جهاد، كما قال الله عزَّ وجل:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
إذاً-: حينما نبغ هذا الصحابي الجليل بالقرآن، ونبغ بالحكمة، وبعلم المواريث, فقد حقق هدفاً كبيراً جديداً.
ما قيل عن زيد بن ثابت :
سيدنا ثابت بن عُبيد يقول: ما رأيت رجلاً أفكه في بيته -انظر لهذه المفارقة- ولا أوقر في مجلسه من زيد.
-أي في عمله وقور جداً أما في بيته فكه جداً، هكذا النبي كان, كان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحاكاً، كان يقول:
((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))
أعجبني هذا الوصف: ما رأيت رجلاً أفكه في بيته ولا أوقر في مجلسه من زيد
هذه سنة، فأنت إذا كنت في عملك، لا ينبغي أن يكثر مزاحك، إذا كثر مزاحك ذهبت هيبتك، عندك مرؤوسون، مزاح مزاح مزاح ضاعت هيبتك، أما إذا دخلت على أهل بيتك فمن لهم غيرك؟ إذا دخلت عليهم عبوساً قمطريراً، من لهم غيرك؟
بعضهم يقول: ببيته دبور وبالخارج شحرور.
فأولى الناس بمودتك، أولى الناس بلطفك وأنسك، في مزاحك اللطيف: أهل بيتك وأولادك، فهؤلاء الذين في البيت جبارون ومع أصدقائهم ليِّنون، هؤلاء من علامات أشراط الساعة: يوم يبر الإنسان صديقه ويعق أباه.
نموذج غريب جداً, علاقاته الخارجية رائعة جداً, وفي البيت سيئة جداً, ما هكذا المسلم ، هؤلاء أهل بيتك، أولى الناس بك:
ما رأيت رجلاً أفكه في بيته ولا أوقر في مجلسه من زيد-.
سيدنا ابن عباس كان يقول عن سيدنا زيد بن ثابت: كان من الراسخين في العلم.
هذه المهمة التي كلف بها زيد بن ثابت في معركة اليمامة :
سيدنا زيد حفظ القرآن وكتب الوحي، ولكن كلكم يعلم في معركة اليمامة التي كانت بين المسلمين والمرتدين، مات قراءٌ كثيرون، سيدنا عمر -رضي الله عنه- فزع إلى سيدنا أبي بكر لهذا الخبر المريع، واقترح عليه جمع القرآن في مصحف واحد، فحفاظٌ كثيرون استشهدوا في هذه المعركة, وخشي سيدنا عمر أن يستجر القتل في الحُفّاظ، ماذا فعل الصديق -رضي الله عنه-؟ استخار ربه، وشاور أصحابه –انظروا: الاستخارة والاستشارة؛ الاستخارة لله عزَّ وجل، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين- ثم دعا زيد بن ثابت, وقال له: يا زيد إنك شابٌ عاقل لا نتهمك، فاجمع القرآن.
- مهمة كبيرة جداً، عليه أن يلتقي بأصحاب رسول الله، وأن يستمع منهم سور القرآن، وأن يجمع بعض الصُحف، أو بعض الرقاع التي كتبت فيها الآيات، وأن يوازن ويقارن إلى أن يصل إلى النص الصحيح- قال: جهدٌ كبير جداً وقد حدثنا عن نفسه, فقال: والله لو كلفوني نقل جبلٍ من مكانه لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن, ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعين، لأن الله تكفل بحفظه:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
إذاً: هو عمل شاق وجهد واستنفذ كل طاقته، ولكن الله سبحانه وتعالى أعانه.
لكن حينما جمع القرآن في المرحلة الأولى جمعه على عدة أحرف، وهذه الأحرف كان بينها خلافٌ طفيفٌ جداً في موضوع القراءة، فلما اتسعت الفتوحات في عهد سيدنا عثمان، ومرة ثانية خشي أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- أن يختلف المسلمون في القرآن، ففزعوا إلى عثمان، وسيدنا عثمان أمر سيدنا زيد بن ثابت مرةً ثانية أن يجمع الناس على نسخةٍ واحدة، وأن ينسخ من هذا النسخة ست نسخٍ، وأن تعمم في الأمصار، فجمع زيد أصحابه وأعوانه, وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة وكانت محفوظً لديها، وباشر زيدٌ وصحبه مهمتهم العظيمة، وعاونه في ذلك كُتَّاب الوحي.
نهاية المطاف :
فإذا قرأتم القرآن ميسَّراً, فالفضل عائدٌ لهذا الصحابي الجليل، -والإنسان إذا ترك أثراً علمياً، وإذا عمل عملاً طيباً.
وكلكم يعلم: أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث؛ ولدٍ صالحٍ يدعو له، وعلمٍ ينتفع به، وصدقةٍ جارية.
فالإنسان يجهد أن يبقي بعد موته ذكراً يأتيه أجره كل حينٍ من الله عزَّ وجل ولو مات ، والآن أسرع شيء طلب العلم وتعليم العلم، فكل من تعلم العلم وعلمه, فله أجر من تعلم هذا العلم وعمل به إلى يوم القيامة.
فحينما تحضر أنت لمجالس العلم وتتعلم تصيب شيئين، تتعلم كيف تعيش؟ كيف تتصرف ؟ كيف تتحرَّك؟ كيف تعطي؟ كيف تمنع؟ كيف تغضب؟ كيف ترضى؟ كيف تسالم؟ كيف تعادي؟ لأن كل موقف له حكم شرعي، فتعلُّم العلم ضروريٌ لاكتساب رضوان الله عزَّ وجل، وإذا علمت العلم للآخرين والآخرون علموا العلم بدورهم، كل هذه السلسلة من الأعمال الصالحة هي في صحيفتك، لذلك لا ينبغي أن يشغل الإنسان شيءٌ عن طلب العلم، وطلب العلم -كما تعلمون- فريضةٌ على كل مسلم، وطالب العلم تضع له الملائكة أجنحتها رضىً بما يصنع-.
فرضي الله عن هذا الصحابي الجليل، الذي طوّق أعناقنا بدينٍ لا يؤدى جزاؤه إلى يوم القيامة لجمعه القرآن الكريم.
وكما قلت قبل قليل: الأعمال منوعة, وكأن الحياة فيها ثلاث قوى؛ قوة المال، وقوة العلم، وقوة القوة, فإذا كنت في مركزٍ قوي يمكن أن توظف قوتك في سبيل الحق، وإذا كنت ذا مالٍ وفير يمكن أن تبذل هذا المال في سبيل الحق، وإذا كنت ذا علم غزير يمكن أن تنفق هذا العلم في سبيل الحق، فالعلم والمال والقوة كل هذه العناصر الأساسية ، يمكن أن تكون سبيلك لتدخل الجنة إن شاء الله تعالى، فالبدارَ البدار.