- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠5حق المسلم على المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ما حكم الشرع في التداوي؟ :
أيها الأخوة الأكارم, لا زلنا في الحديث عن الحقوق، تحدثنا عن حقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وحقوق الآباء على أبنائهم، والأبناء على آبائهم، وحقوق المسلم على المسلم, ومرَّ بنا من هذه الحقوق حق النصيحة، وحق إجابة الدعوة، وحق عيادة المريض ، وموضوع عيادة المريض، نقلنا إلى موضعٍ فرعي ألا وهو حكم الشرع في التداوي.
فالتداوي من هدي النبي عليه الصلاة والسلام، إنك مكلّف أن تعبد الله وفق ما أمر الله، وكنت أقول لكم دائماً:
إنَّ العمل الصحيح لا بدَّ من أن يتوافر فيه شرطان؛ الشرط الأول: أن يكون خالصاً، والشرط الثاني: أن يكون صواباً، والإخلاص أن تبتغي بهذا العمل وجه الله عزَّ وجل، والصواب أن يكون مطابقاً للسنة النبوية، ففي كل حركاتك وسكناتك، في كل مواقفك، في كل تصرفاتك، في كل نشاطك، في كل حركتك على وجه الأرض، يجب أن تقتفي أثرّ النبي عليه الصلاة والسلام, لأن الله سبحانه وتعالى يأمرك أن تقتفي أثره:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
أنت بنص القرآن الكريم في آيةٍ محكمةٍ قطعية الدلالة, يأمرك الله سبحانه وتعالى أن تقتفي أثر النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا حدود خيار المؤمن :
أحياناً: يجتهد المؤمن اجتهاداً مخالفاً للسنة، وكلّكم يعلم: أنه لا اجتهاد في مورد النص، ما دام هناك نصٌ صحيح في القرآن أو في السنة, فأنت ليس لك خيار، متى ينتهي خيارك؟ إذا رأيت النص الصحيح:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
قضى الله في القرآن الكريم، وقضى النبي في سنته المطهرة، فإذا وجدت نصاً قرآنياً قطعي الدلالة أو نصاً نبوياً قطعي الثبوت قطعي الدلالة أو ظني الثبوت قطعي الدلالة, فينبغي أن تقتفي أثر هذا النص أو هذه السنة.
هذا عين الجهل :
لذلك هناك من يجتهد في أمر صحته وصحة ذويه، فقد لا يأخذ امرأته إلى الطبيب بدعوى الحرص على ألا يراها الأجنبي، بدعوى الغيرة، بدعوى الورع، فإذا ماتت هذه المرأة بسبب الإهمال, يحاسب الزوج على ذلك حساباً عسيراً، اتباع السنة أولى من أن تجتهد، دليل هذا:
أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما نهى أصحابه عن أن يركبوا جملاً حروناً، وبعض أصحابه اجتهد أن يذهب مع النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الجهاد، وركب جملاً حروناً, ووقع من عليه, ودقَّت عنقه, وأبى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي عليه، لأنه مات عاصياً، فأنت لا ينبغي أن تعبد الله وَفْق ما تريد، بل كما يريد الله عزَّ وجل, وإرادة الله جاءت محكمةً في القرآن الكريم ومفصلةً في السنة النبوية.
فإنسان يمتنع عن تعاطي الدواء، بدعوى أن الشافي هو الله، هذا جهل.
((من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه))
أي من أكل فاكهة من دون أن يغسلها، وقال: يا أخي سَمِّ الله وكل فالحافظ هو الله، هذا عين الجهل، أنت كمؤمن ينتهي خيارك وتنتهي آراؤك وتنتهي اجتهاداتك حينما ترى السنة النبوية المطهرة، منهجٌ دقيقٌ دقيق رسمه النبي عليه الصلاة والسلام لا من عند نفسه؛ ولكن من عند خالق الكون:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
فهذا الذي يجتهد بعدم تعاطي الدواء، هذا الذي يقول: سلمت أمري لله، هذا الذي يقول: توكلت على الله، هذا الذي يقول: لا شافي إلا الله، هذا الذي يقول: أنا أغار أنا لا أتحمل أن يرى طبيبٌ أجنبي وجه زوجتي، إذاً لن آخذها إلى عيادة الطبيب، هذا هو عين الجهل.
أحد أسباب تخلف المسلمين :
أعيد على أسماعكم مرةً ثانية: يجب أن تعبد الله كما يريد الله لا كما تريد أنت، ربما كان أحد أسباب تخلُّف المسلمين هو فهمهم السقيم للتوحيد، وفهمهم السقيم للتوكل، إن الله سبحانه وتعالى يقول, يحدثنا عن ذي القرنين, ويقول في سورة الكهف:
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِي اللَّه عَنْه-, قَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ:
((أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ, قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ))
هل هناك تناقضٌ بين أن تعقلها وبين أن تتوكل؟ الشرك الخفي أن تعتمد على الأسباب، ولكن التوحيد الجلي أن تأخذ بها، وهذا هو الخيط الدقيق بين الشرك الخفي وبين التوحيد الجلي، التوحيد أن تعتمد على الله وأن تأخذ بالأسباب، والشرك الخفي أن تعتمد على الأسباب.
يقول: الدراهم مراهم، بالمال يحل كل شيء، بالذكاء يحل كل شيء، هذا الكلام عين الشرك:
ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
هل يوجد تناقض بين التوحيد وبين الأخذ بالأسباب؟ :
الآية الكريمة التي تتحدث عن اليهود الذين أجلاهم الله عزَّ وجل، وقد وردت قصتهم في سورة الحشر، ومن آيات هذه السورة:
﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾
أي أنتم أيها المسلمون بحسب المعطيات المادية, ظننتم أو غلب على ظنكم أو تيقنتم أنهم لن يخرجوا, أما هم:
﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾
اليهود اعتمدوا على حصونهم، والمؤمنون في ساعة غفلةٍ أو في ساعة غيبوبة: رأوا أن هؤلاء اليهود بأيديهم من وسائل المنعة والتحصُّن الشيء الكثير:
﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾
لذلك الفعال هو الله عزَّ وجل، وأنت إذا أخذت بالأسباب, ليس معنى هذا أنك لست موحداً، أي إذا عالجت زوجتك, أو عالجت نفسك، أو تعاطيت الدواء, ليس معنى هذا أنك تعتمد عليه، الاعتماد عليه شرك، ولكن الاعتماد على الله توحيد، وليس هناك تناقضٌ بين التوحيد وبين الأخذ بالأسباب.
ما معنى هذه الآية؟ :
إذاً: موضوعنا اليوم حول التداوي، والله عزَّ وجل قال في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
الشافي هو الله، وقد وضع لهذا الجسم سنناً دقيقةً جداً؛ فإذا أراد أن يشفيك، ألهم الطبيب أن يأتي تشخيصه للدواء صحيحاً, وتأخذ الدواء، ويفعل الدواء فعله بإذن الله، وتـشفى من المـرض، هـذا معنى قوله تعـالى:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
قد يفهم بعضهم هذه الآية فهماً مغلوطاً، يعني فهو يشفين من دون سبب، الله عزَّ وجل يعطي بسبب ويأخذ بسبب، إذا أراد أن يعطيك يعطيك بالأسباب التي خلقها، بالأسباب التي صممها، بالأسباب التي بنى عليها الكون، بالأسباب التي بنى عليها الجسم، أي إذا قلت: إن الله هو الشافي, معنى ذلك: أنه يشفي إذا اتبعت منهجه في تعاطي الدواء، فيكفي أولاً أن يلهم الطبيب التشخيص الصحيح، وثانياً يلهمه الدواء الفعال، ويمكّنك من أخذ الدواء، وقد أودع في الدواء قوة الشفاء فيما يبدو, عندئذٍ تشفى بإذن الله.
علام يطلعنا هذا الحديث؟ :
وسيأتي معنا بالتفصيل: كيف أن هذه الحقائق المهمة جداً في التوحيد وردت في تفصيلات أحاديث التداوي؟.
فعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ:
((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ, فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))
يعني ما خلق الله داءً إلا وخلق له دواء.
((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ -هكذا يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ - أي متى لا ينفع الدواء؟ إن لم يكن هذا الدواء لهذا الداء، إذاً من توفيق الله عزَّ وجل للطبيب أن يلهمه التشخيص الصحيح والدواء المناسب- بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))
هل الأسباب وحدها تصنع النتائج؟ :
هنا تطالعنا نقطة في التوحيد مهمة جداً: الأسباب وحدها لا تصنع النتائج، فإذا اعتقدت أن الأسباب وحدها تصنع النتائج فهذا شرك.
فالنار لا تحرق إلا إذا شاء الله لها أن تحرق، لذلك لخص علماء السنة والجماعة هذه العقيدة بكلمتين, قالوا: عندها لا بها.
يعني النار تحرق إذا شاء الله لها أن تحرق، والماء يروي إذا شاء الله له أن يروي، والماء ينبت الزرع إذا شاء الله له أن ينبت الزرع، والأشياء -كما يقول علماء التوحيد-: قائمةٌ بالله, وأفعالها قائمةٌ بالله, ولا يقع شيءٌ إلا بأمر الله.
فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم:
((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ, فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ))
لو لم يقل بإذن الله عزَّ وجل، لو قال: فإذا أصاب دواء الداء برَأ, معنى ذلك: أن الأسباب تصنع النتائج.
انظر إلى ما قاله الإمام السبكي :
الإمام السبكي يقول: إن التداوي مذهب الجمهور, وفيه ردٌ على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية.
بعض الصوفيين المغالين ينكرون التداوي، ويدَّعون واهمين أن التداوي يتناقض مع القضاء والقدر.
وكلّكم يعلم: أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- حينما كان على مشارف الشام, وقد بلغه أن بها داءً وبيلاً, امتنع عن دخولها، أصحابه وقفوا موقفين بين أن يدخلوها ويتوكلوا على الله, وبين أن يحجموا عن دخولها -آخذين بالأسباب- سيدنا عمر وقف موقف المحتاط، وامتنع من دخول المدينة، فلما قال له بعضهم: أفراراً من قضاء الله؟ قال: نعم نفر من قضاء الله إلى قضاء الله.
-يعني المرض بقضاء الله والشفاء بقضاء الله- وضرب مثلاً:
لو أن لك قطيعاً من الغنم وأمامك أرضان؛ إحداهما مجدبة والثانية مخصبة، إن رعيتها في المجدبة رعيتها بقضاء الله، وإن رعيتها في المخصبة رعيتها بقضاء الله، قال له: نعم, نفر من قضاء الله إلى قضاء الله.
متى ينعكس على حياة المؤمن التخلف والتراجع والتدهور؟ :
لذلك: فإن العلماء فرقوا بين القضاء والمقضي، أحياناً يأتيك شيءٌ ليس مرغوباً فيه، تستسلم له, ليس هذا من أخلاق المؤمن ولا من عقيدته بل يجب أن ترده، إذا كان هذا الشيء الآتي مزعجاً وهو من قضاء الله عزَّ وجل فردَّه أيضاً من قضاء الله عزَّ وجل، ولولا هذه العقيدة الصحيحة لما قامت الحياة ولما استقامت الحياة، وما من مؤمنٍ يعتقد خلاف هذه العقيدة إلا انعكس هذا على حياته تخلُّفاً وتراجعاً وتدهوراً.
أليس كلُّ شيءٍ بقضاءٍ من الله وقدر كما قال عليه الصلاة والسلام؟ لماذا أمرنا بالدعاء؟ أليس كل شيءٍ بقضاء الله وقدر؟ لماذا أُمِرنا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة؟ أليس كل شيءٍ بقضاءٍ من الله وقدر؟ إذاً: قد يفهم الإنسان القضاء والقدر فهماً سقيماً, فيصبح على هامش الحياة ويصبح في آخر الركب، والمسلمون ليسوا كذلك.
من سنن الله في خلقه :
أسامة بن شريك قال:
((أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤوسِهِمُ الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ, فَجَاءَ الأَعْرَابُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: تَدَاوَوْا, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ))
أي أن الهرم هذه سنة الله في خلقه.
تعليق :
لكن بالمناسبة تعليق بسيط: أي من شب على شيءٍ شاب عليه، ومن شاب على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيءٍ حُشر عليه.
يعني القصة المعروفة، هذا الذي بلغ السادسة والتسعين أو السابعة والتسعين, وقد أمضى سبعين عاماً في تعليم الناس الخير، تعليم الناس القرآن، وكان صحيح الجسم، وكان مستقيم القامة، وكان حادَّ البصر، وكان مرهف السمع، وكانت أسنانه في فمه، فقال له تلامذته:
يا أستاذنا الكريم, ما هذه الصحة التي أكرمك الله بها؟ قال: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
لذلك من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، البطولة ليس في مقتبل العمر، ولكن في خريف العمر، فإذا كانت لك بدايةٌ محرقة كانت لك نهايةٌ مشرقة, بقدر جدِّك وسعيك وورعك واستقامتك وطلبك للعلم وأنت في ريعان الشباب، بقدر ما يهيئ الله لك عمراً في خريف العمر, تشعر أن كل هذه الثمار تقطفها في هذا الوقت الحرج.
ما نوع هذه الصيغة؟ :
فهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي, وقال الترمذي: حسنٌ صحيح.
((تَدَاوَوْا, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ))
وعن ابن مسعودٍ, أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً فتداووا))
هذه الصيغة ما نوعها؟ فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب, أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- يقتضي الوجوب.
تعلمون أن هناك أمر إباحة، وأمر وجوب, وأمر تهديد، وأمر ندب, هذا أمرٌ يقتضي الوجوب -تداووا- فأنت ليس لك خيار, لكن أحياناً لست متأكداً أن هذا الدواء يشفي، هنا أنت مخير، هنا يصبح التداوي مباحاً، أما إذا غلب على ظنك، ما معنى غلب على ظنك؟ تسعون في المائة، الشك خمسين، الوهم ثلاثين تقريباً، الظن سبعين، غلبة الظن تسعين، اليقين مائة، إذا غلب على ظنك أن هذا الدواء يشفيك من مرضك، أصبح التداوي حكماً شرعياً يرقى إلى مستوى الفرض، أما إذا كنت شاكاً في فعالية الدواء أصبح الأمر مباحاً.
ما دام لكل داء دواء: هل يحتمل هذا النص العموم؟ :
الآن سؤال: ما دام لكل داءٍ دواء, يا ترى هل يحتمل هذا النص العموم؟ فأي داءٍ له دواء؟ الأمراض الخبيثة ليس لها دواء، هناك قائمةٌ من الأمراض التي ليس لها دواء، فالعلماء وقفوا أمام هذا الحديث موقفين بعضهم, قال: إن هذا الحديث يقتضي العموم.
((وما من داءٍ خلقه الله عزَّ وجل إلا وله دواء))
ولكن الإنسان قد لا يعرفه، هناك أمراضٌ كثيرة في حينها لم تكن معروفة الدواء، ثم جاء وقتٌ إذا هي قد عُرفت أدواؤها، هذا موقف أول، والموقف الثاني: أن الداء الذي حينما خلقه الله عزَّ وجل خلقه ليشفى, خلق له دواءً؛ إما أن تأخذ المعنى الأول، وإما أن تأخذ المعنى الثاني.
ما سبب مرض الإيدز؟ :
ولكن بكل تأكيد: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما حدث أصحابه في موضوع الزكاة, وقال:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, قَالَ:
((أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ, خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ, وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا, إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا))
حتى يعلنوا بها: حتى يفخروا بها، حتى يحملوا بطاقات، مرخصٌ لهم أن يفعلوا كذا وكذا، طبعاً مرض الإيدز -كما تعلمون الآن- هو الشبح المخيف بالعالم.
في بعض الإحصاءات: أن العقد القادم يحتمل أن يصاب بهذا المرض ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، وهذا المرض بكل بساطة بسبب انحراف أخلاقهم.
هذه العلاقة العلمية بين المعصية ونتائجها :
لذلك هناك من يقول: إن بين المعصية وبين نتائجها علاقةً علمية، أي علاقة سببٍ بنتيجة، فالذي حرمه الله عزَّ وجل له نتيجةٌ علمية متعلقةٌ بالسبب، فهذا مرض الإيدز أحد هذه الأمراض التي تنبئنا بصدق النبي -عليه الصلاة والسلام-:
إلا ابتلاهم الله بأمراضٍ لم تكن في أسلافهم.
طبعاً الإنسان حينما يسير وفق هواه، حينما ينطلق من عقال شهواته ونزواته يدفع الثمن غالياً.
لا تنسوا قوله تعالى:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
لا يضل عقله ولا تشقى نفسه:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾
ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
إن الله يعطي الصحة والذكاء والجمال والمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين.
متى ينجح الطبيب؟ :
فإذا أصاب دواء الداء، إذاً الطبيب متى ينجح؟ إذا اهتدى إلى شيئين، إذا اهتدى إلى معرفة المرض، وإذا اهتدى إلى الدواء، فإذا أصيب دواء الداء؛ عرف الداء وعرف الدواء والتقيا تقاطعا، لذلك قال الشاعر:
إن الطبيب له عــلمٌ يُدِلُّ به إن كان للناسِ في الآجالِ تأخيرُ
حتى إذا ما انتهت أيام رحلته حار الطبيبُ وخانتــه العقاقيرُ
حار الطبيب في تشخيص الداء، وخانته العقاقير في وصف الدواء.
بعضهم قال: إن الأمراض القاتلة التي لا يمكن للطبيب أن يبرئها, لعل الله سبحانه وتعالى استأثر لنفسه بدوائها، فإذا شاء شفي المريض من هذا المرض العضال.
وهذا ما يفسره الأطباء بالشفاء الذاتي، ورم خبيث مستفحل من الدرجة الخامسة كيف انحسر من دون سبب؟ لعل الله عزَّ وجل هو الذي يستأثر بالدواء، شاء لهذا المريض أن يشفى فشفاه، شفاه من دون أن يعلم الأطباء كيف شفي، هذا بعض تفسيرات الحديث.
إليكم بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالتداوي :
نصلُ الآن إلى بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالتداوي.
قالوا: ينبغي أن يكون الطبيب الذي يعالج المرضى المسلمين، ينبغي أن يكون مسلماً.
هل هناك علّة لهذا الحكم الشرعي؟ طبعاً، قد يصف هذا الطبيب دواءاً محرَّماً، قد يصف للمريض النبيذ، ويقول لك: هذا يعطيك حرارة، يجب أن يكون الطبيب مسلماً, لأن المسلم يطبِّق المنهج الإلهي.
ما عند الله لا ينال بمعصية الله، ما جعل الله شفاءه في ما حرَّم .
فالطبيب غير المسلم قد يكشف عن العورات، قد ينظر إلى العورات، قد يصف الدواء غير الشرعي، فلذلك ينبغي أن يكون الطبيب مسلماً ثقةً، ومن هنا؛ ففي كل نصيحة أو في كل توجيهٍ في شأن الصيام والإفطار والإجهاض وما شاكل ذلك، لا يقبل إلا رأي الطبيب المسلم الحاذق الثقة، مسلم حاذق ثقة، مسلم انتماؤه، والحاذق مهارته, والثقة ورعه، مثلاً:
الطبيب قال لي: افطر، أي طبيبٍ هذا, قال لك: افطر؟ لا يجوز أن تفطر إلا برأي طبيبٍ مسلمٍ حاذقٍ ثقة.
رأي العلماء: ويكره لغير ضرورةٍ طلب التداوي من غير المسلمين.
فأحياناً طبيب لا يخاف الله عزَّ وجل يعطي كورتيزون، الكورتيزون له مفعول سريع جداً، فالألم يزول فوراً، لكن هذا الدواء له مضاعفات خطيرة، أما المسلم فإنه يخاف الله عزَّ وجل، يفضِّل ألف مرة أن يتألم المريض وألا يكون هذا الدواء خطراً على مستقبل حياته.
متى يجوز الاستعانة بطبيب غير مسلم؟ :
قالوا: أما إذا دعت الضرورة لذلك فلا مانع.
النبي استأجر دليلاً لطريق الهجرة إلى المدينة المنورة، فلذلك يجب عليك أن تذهب عند الطبيب المسلم، فإذا كان الطبيب المسلم معلوماته ضعيفة والمرض خطير، والطبيب غير المسلم معلوماته جيدة جداً، نفضل عندئذٍ الطبيب غير المسلم.
قال: أما إذا دعت الضرورة فلا كراهة إذا كان خبيراً ثقةً عند المريض.
وقد روي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- استعان بطبيبٍ غير مسلم.
هل يجوز للمرأة الأجنبية أن تعالج الرجل؟ :
كما لا يجوز للمرأة الأجنبية أن تعالج الرجل إلا لضرورة -معنى الأجنبية ليس المقصود أنها غير مسلمة، بل أية امرأةٍ ليست من محارمك فهذه امرأة أجنبية، فلا ينبغي أن تعالج المرأة الأجنبية مسلماً إلا لضرورةٍ قصوى وتعلمون السبب-.
وينبغي أن تعالج المرأةُ المرأة.
-يعني إذا كانت هناك طبيبة والمرض خفيف وعادي، وفي إمكان هذه الطبيبة المسلمة أن تعالجه، عندئذٍ كن ورعاً ولا تأخذ زوجتك لعند طبيبٍ طبعاً ذكر، الطبيبة الأنثى أولى في معالجة الأنثى من الطبيب، والأسباب معروفة.
قال-: فإذا اضطر الطبيب أن يعالج امرأة, عليه أن يستر جسدها.
هذا ما يصنعه الأطباء المؤمنون :
أخواننا الأطباء المؤمنون, بارك الله بهم, عندهم أغطية بيضاء, لها فتحة صغيرة، يضعون هذا الغطاء على المرأة, وتكون الفتحة عند موضع الداء، وهنا يعالج، ولا يرى شيئاً, وهذا هو الورع، المؤمن له طريقته ووسائله وغير المؤمن له طرائق ووسائل قد تكون خبيثة.
وعليه أن يغض بصره ما استطاع، ولا يستطيع أحدٌ في الأرض أن يحاسبه إلا الله, لأن الله عزَّ وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويغض بصره ما استطاع إلا عن موضع الجُرح.
من السنة :
ويواجهنا شيء آخر، فمن الحكم الشرعي ومن السنة النبوية أن تختار أمهر الأطباء والدليل:
يروي زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ, أَنَّ رَجُلا فِي زمن النبي -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ, فَنَظَرَا إِلَيْهِ, فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُمَا:
((أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ فَقَالا: أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ))
أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ أي أن الصحة غالية كثيراً فهي رأس مالك، رأس مالك في الدنيا، ونفسك مطيتك فارفق بها، فاخترت طبيباً من الدرجة الخامسة أو السادسة، هذا طبيب بالمجان, أو هذا أرخص وأقل تكلفة, أو هذا بجانب البيت قريب منا، لا إن صحتك أغلى من ذلك, لأن صحتك رأس مالك في الدنيا.
والنبي يقول: اعقل وتوكل.
ففي شأن الطب لا ينبغي أن تختار الأقل كلفة أو الأقرب، لا بل يجب أن تختار الأصلح, لأن الخطأ في أمر الجسد خطأ له مضاعفات خطيرة جداً، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
أيكما أطب؟.
وبالمناسبة: هناك مسؤولية الطب:
من طبب -أي من عالج- ومن جعل نفسه طبيباً ولم يعرف منه طبٌ فهو ضامن.
أي مسؤول, ولا بدَّ من أن يحاسب عند الله وعند الناس.
هل يجوز التداوي بالنجس والحرام؟ :
الآن: ينبغي التداوي بالطاهر الحلال، لا يجوز التداوي بالنجس والحرام، أي هذه مادة مخدرة أو كحول وأشياء حرمها الله عزَّ وجل, هذا لا ينبغي أن يفعله المؤمن، والحديث الشريف المعروف:
((من ابتغى أمراً بمعصيةٍ, كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى))
ماذا يبغي الشفاء؟ ابتعد عن الشفاء, ماذا يخاف المرض؟ اقترب منه، هذا الحديث في كل المجالات، في التجارة تبتغي الربح عصيت الله من أجل الربح، ابتعدت عن الربح واقتربت من الخسارة، في الدراسة تبتغي النجاح عصيت الله من أجل النجاح، ابتعدت عن النجاح واقتربت من الرسوب، في الشفاء ابتغيت الدواء المحرم, ابتعدت عن الشفاء واقتربت من المرض.
((من ابتغى أمراً بمعصيةٍ, كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى))
إليكم الأدلة من السنة على تحريم التداوي بالنجس والحرام :
ما الدليل في هذا الموضوع؟ .
قال أَبِو هُرَيْرَةَ:
((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ))
يَعْنِي السُّمَّ .
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي, وزاد: يعني ما هو نجسٌ وما هو حرامٌ وما هو سمٌ، إما أنه حرام كالخمر والبول والعُذرة أو لحم غير المأكول، هذا كلُّه مما نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عنه.
حديثٌ آخر:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ, وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً, فَتَدَاوَوْا وَلا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ))
((عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ, أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رسول الله-صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ, فَنَهَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِهَا))
متى تطبق هذه القاعدة؟ :
لكن يوجد عندنا حالات نادرة، قال: إذا غصَّ الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها وكاد يموت، وغلب على ظنه أنه سيموت، فإذا شرب الخمرة ليسيغها به, هنا تطبق القاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
خاتمة القول :
والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يكره التداوي بما يصنعه غير المسلمين، لعل شيئاً محرماً دخل في هذا الدواء؛ لذلك: إن تقصير المسلمين في صنع الدواء يجعلهم آثمين جميعاً.
لقد بلغني أن هذه الكبسولات كلها مصنوعةٌ من شحم الخنزير، فالبرشام يصنع من دهنه، حينما يهمل المسلمون تعلُّم العلوم التطبيقية, يصبحون عالةً على غير المسلمين في تلقي الدواء، لذلك فرض الكفاية, إذا قام به البعض سقط عن الكل، فإذا أهمله الكل أثموا جميعاً.
يعني مثلاً: مدينة أو قرية فيها مائة عالم وليس فيها طبيب، وطبيبٌ ذميٌ واحد يكشف العورات، هذه المدينة كلُّها آثمة، مع أن فيها مائة عالم، فتعلم الطب فرض كفاية، هذا أحد أسباب تخلف المسلمين، يعني ترك الأخذ بالأسباب، وترك معرفة حاجات الحياة الأساسية, وإهمال كثير من المستلزمات, وتركها لغير المسلمين, كان بسبب تقصير المسلمين وتقاعسهم، مما أدى إلى هوانهم وتخلفهم.