- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠5حق المسلم على المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ماذا فهم النبي من هذه الآية؟ :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في موضوع الحقوق، ولا زلنا في موضوع حقوق المسلم على المسلم، ومن هذه الحقوق التي بدأنا بها منذ درسين حق السلام، والشيء الذي يلفت النظر: هو أن بعض الناس يظنون أن إلقاء السلام شيءٌ تافه، أو شيءٌ لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
النبي -عليه الصلاة والسلام- جعل من السلام أداةً لشيوع المحبَّة بين المؤمنين.
لذلك كما مهَّدت في الدرس الماضي: أن الإنسان له حياةٌ جسديَّة، وله حياةٌ عقليَّة، وله نفسيَّة، وله حياةٌ اجتماعيَّة، والله سبحانه وتعالى في منهجه الحكيم، وفي قرآنه الكريم قال:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
وقد فهم النبي -عليه الصلاة والسلام- من هذه الآية: حقوق الأخوَّة في الله، لذلك تجدون بعد قليل: كيف أن هناك توجيهاتٍ نبويةً عديدةً, هدفها الأوحد تمتين هذه الأخوة في الله، بين أن يكون المجتمع مفكَّكاً، بين أن يكون المجتمع متباغضاً متحاسداً متباعداً متنافراً, وبين أن يكون المجتمع متماسكاً, كأنه جسدٌ واحد, إذا اشتكى منه عضوٌ, تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى.
هذا الإيمان :
فعن أنسٍ -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- قال:
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ.
-معنى ذلك: أن الإيمان ذوق، ومن هذا الذوق أن للإيمان حلاوة, فمؤمن مع انقباض، مع ضيق، مع يأس, ليس هذا مؤمناً، الذي آمن إيماناً صحيحاً, يجب أن يذوق حلاوة الإيمان.
ومن توجيه النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنه من آمن إيماناً صحيحاً, وجد حلاوة الإيمان.
يقول عليه الصلاة والسلام-: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ.
-الإيمان بحث، والإيمان تصديق، والإيمان اتصال بالله عزَّ وجل, والكفر جهل، والكفر تكذيب، والكفر إعراضٌ عن الله عزَّ وجل, هناك بالإيمان جانب فكري، وهناك جانب تصديقي، وكذلك جانب شعوري.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث بيَّن الجانب الشعوري,
فقال-: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ .
ما هي الشروط التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان لكي يذوق حلاوة الايمان؟ :
1-أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما :
-بالمناسبة: فهذا الحديث مقياسٌ لنا، إنه وصفٌ للمؤمن كذلك ومقياسٌ لنا، فكل واحدٍ منا يسأل نفسه هذا السؤال: هل تنطبق عليَّ هذه الشروط؟ إذا انطبقت فليفرح, وهنيئاً له، فإذا لم تنطبق, فلا بدَّ من السعي الحثيث حتى يصل إلى هذا المستوى المطلوب، ما هي هذه الثلاث؟
قال عليه الصلاة والسلام- :أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.
-هذا كلام معناه واضح، وقد يقول كل واحدٍ منا: نعم الله ورسوله أحب إليَّ مما سواهما, فإذا كان الأمر كلاماً فالقضيَّة سهلة جداً، لكن ربنا عزَّ وجل يضع المؤمن في امتحانات صعبة، مصلحته الماديَّة أن يفعل كذا وكذا، إن رضوان الله عزَّ وجل في أن يدع هذه الصفقة، فإذا أخذ صفقةً فيها شبهة وآثرها على رضوان الله عزَّ وجل، يجب أن يعلم علم اليقين أن الله ورسوله ليس أحب إليه مما سواهما, الذي يطيع زوجته ويعصي ربه, ليعلم علم اليقين أن الله ورسوله ليس أحب إليه مما سواهما؛ الذي يؤثر شهوة، الذي يؤثر مخالفة، يؤثر معصية، يؤثر انحرافاً، يؤثر تقصيراً على طاعة الله ورسوله، فهو لا يحب الله ورسوله كحبِّه لهذا الشيء الذي آثره، إذاً نحن الآن أمام مشكلة، لأن الادعاء سهل جداً:
وكلٌ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاك
لك أن تدعي ما شئت، ولكن الله سبحانه وتعالى كفيلٌ بأن يضع المؤمن في ظرفٍ دقيقٍ دقيق، يكشف له وللناس أنه لا يحب الله ورسوله كما يدعي، لذلك فالإنسان يجب أن يتلو هذه الآية ويتدبَّرها:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
قد تواجهه موقفاً صعباً، قد تُغلق دونك كل الأبواب -أبواب الحلال كلها مغَّلقة- ويفتح الله لك باباً فيه كسبٌ حرام، المؤمن لو قطَّعته إرباً إرباً لا يقترف الحرام، أما ضعيف الإيمان يقول لك: أنا مضطر عندي أولاد, معنى ذلك: أن الله ورسوله ليس أحب إليه مما سواهما-.
2-وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر
وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ.
-محبة الناس لها أسباب, هناك محبَّة أساسها المصلحة، ظاهرها محبة حقيقتها المصلحة، وهناك محبة أساسها القرابة، ومحبة أساسها الشهوة، ومحبة أساسها المتعة، ومحبة أساسها الطمأنينة، يا ترى: هل تحب إنساناً ليس لك معه مصلحة, ولا حاجة، ولا تعتز به، ولا تتقوَّى به، ولا ترجو خيره، ولا تخشى شرَّه، ولا يقدِّم لك شيئاً، ولا يؤخِّر لك شيئاً, لا تحبه إلا لله؟ هذه من علامة الإيمان، أتحب مؤمناً لله؟-.
وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
فهذا الذي على حافة، على حرف، فكلمةٌ تأخذه إلى أهل الإيمان، وكلمةٌ تدفعه إلى أهل النفاق هذا ليس مؤمناً .
ما علاقة هذا الحديث بموضوع السلام؟ :
يا أخوان, حديثٌ دقيقٌ دقيق :
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
فيجب علينا أن نقف عند هذا الحديث، وأن نتأمل هذا الحديث، وأن نمتحن أنفسنا في ضوء هذه المقاييس الثلاثة التي جاءت في هذا الحديث .
ما علاقة هذا الحديث بموضوع السلام؟ أي أنت إذا أردت أن تحب الآخرين عن طريق إفشاء السلام, فينبغي أن تكون مؤمناً، وهذه صفات الإيمان.
((المؤمنون بعضهم لبعض نصحاء متوادون وإن افترقت منازلهم, والفجرة بعضهم لبعض غششة خونة وإن اجتمعت أبدانهم))
من أجل أن يفشو السلام بيننا، وأن تزداد المحبة، وأن تصبح العلاقات متينة, يجب أن نكون مؤمنين، وهذه صفات أهل الإيمان.
من هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة؟ :
1-الإمام العادل :
حديثٌ آخر:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- يقول:
((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ؛ الإِمَامُ الْعَادِلُ .
-لقد مرَّ معنا في درس الجمعة: كيف أن سيدنا سليمان -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وهو في أعلى درجة من درجات المُلك والقوة- كان أقرب الناس إلى الله عزَّ وجل.
فالإمامة قد تكون طريقاً إلى الله عزَّ وجل ولكن بشرط أن يكون الإمام عادلاً، لذلك قيل:
العدل حسن لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن لكن في العلماء أحسن، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن.
فهذا الإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله-.
2-شاب نشأ في طاعة الله :
وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ .
-من شبَّ على شيءٍ شاب عليه.
من لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة.
هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله, أصبحت حياته كلها في طاعة الله، له خريف عمرٍ مُشرق، له مستقبل مشرق، له مكانة عند الله كبيرة، هذا الذي نشأ في طاعة الله، والذي آمن في أي سنٍ هو مقبول، وله عند الله شأنٌ كبير، ولكن الشاب إذا نشأ في طاعة الله, يُبنى زواجه على طاعة الله، يُبنى عمله على طاعة الله، تبنى علاقاته الاجتماعيَّة على طاعة الله، الذي يؤمن بوقت متأخر جداً هو أمام زوجة لها مشكلة لا تستجيب له أحياناً، تجعل بيته جحيماً ، له عمل لا يرضي الله، هذا العمل الذي ألفه, فكلَّما فكرت بمعرفة الله, كلَّما جعلت حياتك تسير على وفق مرضاة الله عزَّ وجل-.
3-رجل قلبه معلق في المساجد :
وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ .
-المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، لأنه بيت الله عزَّ وجل:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
فإذا أردت أن تكون طبيباً, فلا بدَّ من أن تتجه إلى الجامعة، المكان الطبيعي لتعلُّم الطب، وإذا أردت أن تكون مؤمناً فلا بدَّ من أن تتجه إلى المسجد، هو المكان الطبيعي لمعرفة الله عزَّ وجل, من خلال ما يلقى فيه من علم، ومن خلال العبادة, وتلاوة القرآن-.
4-رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه :
وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ, وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ, وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ .
-فلا يعرف طعم هذا الكلام إلا من كان له أخٌ في الله, ولا أبالغ إذا قلت: إن أثمن شيءٍ في الحياة أخٌ في الله, يخلص لك الود، يمحضك النصيحة، يقدِّم لك النصيحة، يعينك في الأزمات، يواسيك في النكبات، يفرح لك في المسرَّات، هو يدك اليمنى، قلبك، عينك، سمعك، بصرك, لذلك مما يخفِّف أعباء الحياة، مما يخفِّف على الناس مشاق الحياة, هذه الأخوة في الله، وأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا قدوةً لنا في المحبة والتعاون والتآخي، وسوف نرى بعد قليل, في قصة الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف, كيف كان أصحاب النبي -رضوان الله عليهم- قدوةٌ لنا في هذا المجال؟-.
5-رجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله :
وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ, فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّه .
-كنت أقول لكم دائماً: إن هناك تطابقاً أحياناً بين القوانين وبين الشرائع, فالسرقة يحرِّمها الشرع، ويحرِّمها القانون، فالذي لا يسرق ربَّما كان بدافع الخوف من عقوبة الإمام أو الحاكم ، أو ربما كان بدافع الخوف من الله، الأمر ملتبسٌ علينا، ولكن هذا الذي يغض بصره عن محارم الله.
هذا الذي تدعوه امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال ولا أحد يعلم بهذه الدعوة، فيقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذه الأعمال لا يمكن أن تفسَّر إلا بالإخلاص لله عزَّ وجل-.
6-رجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه :
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ فأَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ.
-وأيضاً إخفاء الصدقة مما يؤكِّد الإخلاص فيه-.
7-رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه :
((وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))
هذا البكاء بكاء أهل الحب؛ أي أن الإسلام روحه الحب وجسده -إن صحَّ التعبير-؛ هذه العبادات، وهذه الأفعال، وهذه الأوامر، وهذه النواهي، وتلك الشعائر, ولكن روح الإسلام هو الحب، والحب يحتاج إلى جهدٍ كبير، أما إذا امتلأ قلبك حباً لله, تشعر بشعورٍ لا يوصف، لذلك لا ينبغي للإنسان أن يكتفي من الإسلام بمظاهره، بشعائره، بأوامره، بنواهيه، لا بدَّ من أن ينتقل من مستوىً إلى مستوى، إن الاستقامة على أمر الله، وبذل ما آتاك الله في سبيل الله، والتقرُّب إلى الله، وإتقان العبادات, هذا يولِّد في قلبك حباً لله، فإذا شعرت بهذا الحب عرفت ماذا يعني الحب؟ لأن الشاعر يقول:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
إذاً :
((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ؛ الإِمَامُ الْعَادِلُ, وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ, وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ, وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ, وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ, فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ, وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ فأَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ, وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))
هذا الحب في الله ما الذي يفسده؟ :
لا زلنا في الحب، لأن إفشاء السلام من أجل الحب، والحب من أجل أن يمكن المجتمع وتشَدُّ أواصره .
وعن معاذٍ -رضي الله عنه- قال:
((سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- يقول :قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ))
هذا الحب في الله .
الآن: هذا الحب ما الذي يفسده؟ الذي يدعمه أن تكون مؤمناً، والذي يدعمه أن تفشي السلام بين أخوانك، ما الذي يقوِّضه؟ ما الذي يفسده؟.
قال عليه الصلاة والسلام:
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَخُونُه.
-إذا خنت أخاك المسلم فقد قوَّضت هذه المحبَّة- وَلا يَكْذِبُهُ, ولا يَخْذُلُهُ, كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ))
العرض هو السمعة، عرض الإنسان موطن المدح والذم فيه، بمجرَّد أن تنال منه، بمجرَّد أن تغتابه فقد نلت من عرضه، وإذا نلت من عرضه تفتَّت المجتمع، ما الذي يجعل هذه المحبة قويةً؟ أن يخلو مجتمع المؤمنين من الخيانة، والكذب، والخِذْلان، والعدوان على الأعراض والأموال والدماء.
هذا حديثٌ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسن، وأصلٌ في التعامل:
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَخُونُه
((كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ))
كفى بها خيانة أن تنصحه بشيءٍ لا ينفعه، يحقِّق مصلحتك أنت, ولكن هذا الشيء لا ينفعه ، كفى بها خيانة أن تغشَّه في بضاعاته، كفى بها خيانة أن تغبنه في السعر، فإذا خنت أخاك المؤمن فقد تقوَّضت هذه المحبَّة-.
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَخُونُه وَلا يَكْذِبُهُ ولا يَخْذُلُهُ, كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ))
ماذا فهم العلماء من كلمة بينكم في هذه الآية؟ :
وربنا عزَّ وجل قال :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
أروع ما في هذه الآية: أن الله عزَّ وجل جعل مال أخيك مالك، فلم يقل: لا تأكل مال أخيك، بل لا تأكل مالك، لأن هذا المال مالك، فيجب عليك أن ترعاه، وأن تحفظه، وأن تصونه، فلأن تمتنع عن أن تأكله حراماً فهذا من باب أولى، إذا كان مال أخيك هو مالك، ويجب أن تحرص عليه، وأن تصونه، وأن تحفظه, فلأن تمتنع من أكله ظلماً وعدواناً من باب أولى:
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
وكلمة بينكم: فهم منها العلماء أن هذا المال يجب أن يكون بين الناس، متداولاً بين كل الناس، فإذا أصبح المال متداولاً بين أيدٍ قليلة فثم مصيبة المصائب، والله سبحانه وتعالى ما حرَّم الربا، وما حرَّم الاحتكار، وما حرم الغش، وما حرم التدليس، وما حرم الكذب، وما حرم إخفاء العيب، وما حرم كل المُحرَّمات في كسب المال إلا:
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾
إذا كانت هذه الكتلة النقديَّة بين كل الناس كان الناس كلهم بخير، أما إذا تداولتها أيدٍ قليلة وقعنا في الطامَّة الكبرى، إذاً :
((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ))
الخيانة، والكذب، والخذلان، والعداون على الأعراض والأموال والدماء, يفتِّت المحبة بين المجتمع، يصبح المجتمع كالذئاب كلٌ ينقض على أخيه، الأقوى يأكل الأضعف.
قال جعفر للنجاشي: كنا قوماً أهل جاهليَّة, نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، وندع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان.
عن ماذا ينهى النبي في هذا الحديث؟ :
حديثٌ آخر: رواه الإمام مسلم ينهى فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أعمالٍ كثيرة, من شأنها أن تفسد العلاقة بين المؤمنين.
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم:
((لا تحاسدوا, ولا تناجشوا .
-ما هو التناجُش؟ تكون أنت في السوق، ولك زميلٌ، أو صديقٌ، أو جارٌ, وهو يبيع شيئاً لإنسان، تقول له: خذ مني ثمنه ألف ليرة, أنت لست صادقاً في هذا الشراء، وهذا السعر ليس سعره، ولكن دفعت هذا السعر من أجل أن تغري هذا المشتري بدفع هذا الثمن، هذا بيع النجش، وبيع النجش حرام, لأنه تمثيليَّة لعملية بيع وخداع وغبن، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول-:
لا تَحَاسَدُوا, وَلا تَنَاجَشُوا, وَلا تَبَاغَضُوا, وَلا تَدَابَرُوا, وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ
-كان السلف الصالح إذا جاءه المشتري الأول يبيعه، فإذا جاء المشتري الثاني, يقول له: اذهب عند جاري, أنا قد بعت البيعة الأولى, ويريد لجاره أن يستفتح كما استفتح هو-.
وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ, وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ أخْوَانًا, الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ: لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ, التَّقْوَى هَا هُنَا, وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ, بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ))
قف هنا :
والحديث الأخير المتفق عليه:
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ,
- من أعان ظالماً سلَّطه الله عليه- .
وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ,
-لأن أمشي في حاجة أخٍ مؤمن خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافي في مسجدي هذا-.
وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً, فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بها كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
هذه توجيهات النبي التي جاءت من أجل أن تفشوَ المحبة بين المؤمنين، التعمق بالإيمان يزيدك حباً بأخوانك المؤمنين، وإفشاء السلام يزيد هذه المحبَّة, والذي يقوُّضها أن تخونه، أن تكذب عليه، أن تظلمه، أن تسْلمه، أن تعتدي على ماله أو على عرضه أو على دمه، أن لا تقدِّم له المعونة المناسبة، هذا كله في هذه الأحاديث الشريفة.
هذه مهمة الشيطان :
عن جابرٍ -رضي الله عنه- قال:
((قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ رضي فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُم))
فالشيطان دوره خطير جداً في التحريش بين المؤمنين، إشاعة البغضاء، من خلال الغيبة والنميمة, هذا كله يسبِّب العداوات بين المؤمنين، الشيطان يئس أن يعبده الناس بعد الرسالة، ولكن طمع في التحريش بينهم.
وفي نهاية المطاف: يقول عليه الصلاة والسلام:
((أَفْشُوا السَّلامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ, وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ, تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ))
هل سألت نفسك هذا السؤال؟ :
والآن: ننتقل إلى قصة الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف .
وقفت وسألت نفسي: أيمكن أن يكون الغني أقرب إلى الله من الفقير؟ قلت: نعم, أيمكن أن يكون الفقير أقرب إلى الله من الغني؟ قلت: نعم, أيمكن أن يكون القوي أقرب إلى الله من الضعيف؟ نعم, أيمكن أن يكون الضعيف أقرب إلى الله من القوي؟ نعم.
إذا كان الغني أقرب إلى الله تارةً، والفقير أقرب إلى الله تارةً أخرى، إذاً الغنى والفقر لا علاقة لهما بالإيمان، لكن الغنى يوظَّف في الطريق إلى الله عزَّ وجل، والفقر يوظَّف كذلك.
الذي نعرفه جميعاً: أن المؤمن تشتهي منه الغنى، وتشتهي منه الفقر، وتشتهي منه القوة، وتشتهي منه الضعف.
ماذا نستنتج من هذه المراحل التي مر بها النبي أثناء دعوته؟ :
النبي كان ضعيفاً في الطائف، وقف الموقف الأديب, فقال:
((اللهمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي, ولك العتبى حتى ترضى, لكن عافيتك أوسع لي))
هذا ضعف، وهو في أعلى درجة من درجات الحب وهو ضعيف.
وحينما فتح مكَّة قال :
((ما تظنون أني فاعل بكم? قالوا: خيراً؛ أخ كريم وابن أخ كريم))
وهذه قوة.
حينما كان غنياً سأله أحدهم:
((لمن هذا الوادي من الغنم؟ قال: هو لك, قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك))
وحينما كان فقيراً دخل إلى بيته فلم يجد شيئاً يأكله، فقال:
((إني صائم))
فالغنى يوظَّف ولكن لا علاقة له بالإيمان، الإيمان شيءٌ أعظم من ذلك، أعظم من الغنى، وأعظم من الفقر، وأعظم من القوة.
ما الذي ينبغي أن نفهمه من هذه المقارنة؟ :
سيدنا سليمان كان ملكاً، آتاه الله الملك، فوهب الله له ملكاً, لا ينبغي لأحدٍ من بعده, ومع ذلك كان نبياً مرسلاً, وفرعون آتاه الله الملك، سيدنا عبد الرحمن بن عوف آتاه الله المال، وقارون آتاه الله المال، إذاً: ما الذي ينبغي أن نفهمه من هذه المقارنة؟.
يجب أن نفهم أن الإنسان يُمتحن بالغنى ويمتحن بالفقر، يمتحن بالقوة يمتحن بالضعف، يمتحن بالصحَّة ويمتحن بالمرض، ويمتحن بالأمن يمتحن بالخوف, قد يطمئن، أيستغل هذه الطمأنينة في الانسياق وراء شهواته؟ أن يستغل هذه الطمأنينة بمزيد القرب من الله عزَّ وجل, فكل شيءٍ يصيب الإنسان مادة امتحانه مع الله عزَّ وجل.
بم تمثل هذه الواقعة؟ :
الآن: نشاهد نموذجاً رائعاً من الغنى المؤمن، كيف أن الغنى إذا وصف به المؤمن كيف يكون؟.
قالوا: ذات يومٍ والمدينة المنوَّرة ساكنةٌ هادئةً، إذا نَقْعٌ -النقع غبار- يلوح في آفاقها, بعدئذٍ انكشف هذا الغبار والنقع عن جلبةٍ وصوتٍ شديد، ثم لاحت قافلةٌ لم يرَ أهل المدينة مثلها ، قافلةٌ تعد سبعمائة بعير محمَّلةٌ بكل حاجات أهل المدينة؛ الطعام، والشراب، والثياب، وما شاكل ذلك -لا يوجد في الشام، ولا في مصر من بضائع، من حاجات- .
هذه السبعمائة راحلة التي وصلت المدينة، رجَّت المدينة رجَّاً، حتى إن السيدة عائشة -رضي الله عنها- سألت: ما الأمر؟ -ما الخبر؟ ما القصَّة؟-, فقالوا: إنها قافلةٌ لعبد الرحمن بن عوف, -قافلة لواحد، تصوَّر سبعمائة شاحنة، حسبتها: يُقدّر طولها بسبعة كيلو مترات، من هنا إلى دوما تقريباً، أو إلى حرستا, هذه السبعمائة راحلة الموثوقة بكل أنواع البضائع، إنها كلها لعبد الرحمن بن عوف-.
فقالت أم المؤمنين: قافلةٌ تحدث كل هذه الرجَّة؟! فقيل لها: أجل يا أم المؤمنين إنها سبعمائة راحلة, وهزَّت أم المؤمنين رأسها, وأرسلت نظراتها الثاقبة، كأنها تبحث عن ذكرى رأتها أو حديثٍ سمعته، ثم قالت -دقِّقوا-: أما إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً -أي زحفاً.
هناك دخول للجنة وثباً، وهناك دخول هرولةً، ودخول خبباً, ودخول ركضاً، ودخول زحفاً، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً, لماذا لا يدخلها وثباً، وهرولةً، وخبباً، وقفزاً؟-.
بعض أصحابه نقلوا له مقالة السيدة عائشة، فتذكَّر عبد الرحمن أنه سمع من النبي -صلى الله عليه وسلَّم- هذا الحديث أكثر من مرَّة، وبأكثر من صيغة، وقبل أن تفضَّ مغاليق الأحمال، وقبل أن توضع هذه الأحمال على الأرض, توجَّه إلى السيدة عائشة وقال لها: -طبعاً من وراء حجاب-: لقد ذكَّرتني بحديثٍ لم أنسه، ثم قال: أما إني أشهد الله أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحلاسها هي في سبيل الله عزَّ وجل.
-لماذا لا يدخلها خبباً، قفزاً، هرولةً، ركضاً؟-.
وُزِّعت حمولة هذه القافلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برٍ عظيم، هذه الواقعة تمثِّل نموذجاً من سخاء سيدنا عبد الرحمن بن عوف، هذه واحدة .
متى دخل عبد الرحمن بن عوف في الإسلام؟ :
من عبد الرحمن بن عوف؟ دخل في الإسلام في وقتٍ مبكرٍ جداً، حينما أسلم لم يكن في الإسلام إلا ثمانية أشخاص، أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقَّاص، كان من أوائل المسلمين، وقد التقى النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يجتمعا بدار الأرقم، ومنذ أن لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أن توفَّاه الله وهو في الخامسة والسبعين، وهو نموذجٌ باهرٌ للمؤمنين، مما جعل النبي -عليه الصلاة والسلام- يضعه مع العشرة المبشَّرين في الجنَّة، أحد عشر مبشرين بالجنة، وإذا أردت اليقين: ليس هناك إنسانٌ حسب يقيننا بأنه من أهل الجنة إلا هؤلاء العشرة، أما بالظن نرجو الله أن نكون من أهل الجنة، أما باليقين ليس إلا هؤلاء العشرة وهو منهم.
بم حظ هذا الصحابي؟ :
سيدنا عمر حينما أراد أن يستخلف, جعل عبد الرحمن بن عوف في عداد الستَّة الذين استخلفهم، وقال عنه: لقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- وهو عنه راضٍ.
يقال: إن هذا الصحابي الجليل كان محظوظاً في التجارة، كان يقول: لقد رأيتني لو رفعت حجراً, لوجدت تحته فضَّةً وذهباً.
لكن هذا الصحابي الجليل لم يكن حرصه على المال شغفاً بالثراء، ولكن قرباً من الله عزَّ وجل.
إليكم الموقف المشرف لهذا الصحابي الجليل حينما هاجر إلى المدينة :
الآن: إليكم هذا الموقف المشرِّف لهذا الصحابي الجليل حينما هاجر إلى المدينة:
النبي -عليه الصلاة والسلام- جرى على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكَّة والآخر أنصاريٌ من المدينة، وكانت هذه المؤاخاة تتم على نسقٍ يُبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة, كان يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك، حتى فراشه، ويومئذٍ آخى النبي -عليه الصلاة والسلام- بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع -له قصَّة شهيرة:
هذا الذي تفقَّده النبي في أحد، ثم أرسل من يبحث عنه، فرآه صاحبه في عداد الموتى، وهو على وشك الموت فقال: يا سعد لقد كلَّفني النبي أن أبحث عنك، فهل أنت في عداد الأحياء أم في عداد الأموات؟ فقال سعد بن الربيع: بل في عداد الأموات، ولكن بلِّغ عني رسول الله, وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمَّته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم عند الله إذا خُلص إلى نبيُّكم وفيكم عينٌ تطرف.
هذا سعد بن الربيع هو الذي آخى النبي بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.
قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف فيما رواه أنس بن مالك: أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه -هذا موقف الكرم، والتضحية، والمؤاثرة، والبذل.
الموقف الثاني-: قال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في مالك, ولكن دلَّني على السوق. فذهب إلى السوق فاشترى وباع وربح.
بم بشر ابن عوف؟ :
النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: يا بن عوف, إنك من الأغنياء، وإنك ستدخل الجنة حبواً, فأقرض الله يطلق لك قدميك.
يا بن عوف إنك من الأغنياء وإنك ستدخل الجنة حبواً إلا إذا أقرضت الله، عندئذٍ يطلق لك قدميك فتدخلها خبباً، أو هرولةً، أو قفزاً، أو ركضاً.
قال: منذ أن سمع هذا النصح من رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، وهو يقرض الله قرضاً حسناً, فيضاعفه الله له أضعافاً كثيرة.
من مآثر هذا الصحابي الجليل :
قالوا: مرَّةً باع أرضاً بأربعين ألف دينار، ثم فرَّقها جميعاً في أهله من بني زُهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين .
قدَّم يوماً لجيوش الإسلام خمسمائة فرس، ويوماً آخر ألفاً وخمسمائة راحلة, وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لكل من بقي ممن شهدوا بدراً بأربعمائة دينار, حتى إن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- أخذ نصيبه من هذه الوصية رغم ثرائه، وقال:
إن مال عبد الرحمن حلالٌ صفوٌ, وإن الطُعمة منه عافيةٌ وبركة.
ابن عوف لم يكن سيداً لأحد بل كان سيد ماله ولم يكن عبد ماله :
شيءٌ مهمٌ جداً -أيها الأخوة-: سيدنا ابن عوف لم يكن سيِّداً لأحد, بل كان سيد ماله ولم يكن عبد ماله.
والخلاصة: إما أن تكون سيد مالك، وإما أن تكون عبداً لهذا المال.
سيدنا ابن عوف كان سيِّد ماله ولم يكن عبداً لماله؛ أي لم يشقَ بجمعه واكتنازه، بل سعد بكسبه وإنفاقه، لم يكن شقياً بجمعه واكتنازه بل كان سعيداً بكسبه وإنفاقه، يجمعه هوناً -بالهدوء- ومن حلال، ثم لا ينعم به وحده, بل ينعم بهذا المال أهله، ورحمه، وأخوانه، ومجتمعه كله, حتى بلغ من سعة عطائه, أنه قد قيل: أهل المدينة جميعاً شركاء لابن عوف -كل أهل المدينة شركاءٌ له في ماله-, ثلثٌ يقرضهم، وثلثٌ يقضي عنهم ديونهم، وثلثٌ يصلهم ويعطيهم, فالمؤمن الغني تتسع رقعة إحسانه إلى مسافات كبيرة جداً.
انظر إلى زهد ابن عوف :
قالوا: جئ له يوماً بطعام الإفطار وكان صائماً، فلما وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى، وقال: استشهد مصعب بن عمير وهو خيرٌ مني، فكُفِّن في بردةٍ إن غطَّت رأسه بدت رجلاه، وإن غطَّت رجلاه بدا رأسه، واستشهد حمزة وهو خيرٌ مني, فلم يجدوا له ما يُكفَّن فيه إلا بردة ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بُسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وإني لأخشى أن نكون قد عُجِّلت لنا حسناتنا, ثم أمر برفع الطعام.
ومرَّة ثانية: اجتمع مع أصحابه على طعام، فلما رآه بكى، وقيل له: يا أبا محمد ما يبكيك ؟ قال: لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، وما أرانا أُخرنا لما هو خيرٌ منه.
هذه عادة الأغنياء :
((أحب ثلاثاً وحبي لثلاثٍ أشد: أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، أحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد، أحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد, وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاثٍ أشد؛ أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد، وأبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد))
هناك عادةٌ عند كل الأغنياء: هي أنهم يحبون أن يتقرَّبوا, من أهل القوة، من الأمراء, ليزدادوا شأناً على شأن، وقوةً على قوة.
من الذي اختار عثمان بن عفان للخلافة بعد موت عمر؟ :
هذا الصحابي الجليل الذي يعدُّ من أغنى أصحاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، جعله سيدنا عمر من بين الستة الذين اختارهم للخلافة من بعده, فاتحه بعض أصحابه, فقالوا له: إنك أحق الستة بالخلافة -فماذا قال؟-
قال: والله لأن تؤخذ مُديةٌ -سكين- فتوضع في حلقي, ثم ينفذ بها إلى الجانب الآخر, أحب إليَّ من ذلك.
فلما اجتمع مع الستَّة أعلن انسحابه من هذا الترشيح, وقال: أنتم أيها الخمسة اختاروا أحدكم, فلما انسحب هو من هذا الترشيح, كلَّفوه هو أن يختار أحدهم، فاختار هذا الصحابي الجليل سيدنا عثمان بن عفان، الخليفة الثالث الراشد.
ما هي المزية التي خص بها هذا الصحابي الجليل:
قال له الإمام عليٌ -كرَّم الله وجهه-: لقد سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- يصفك, ويقول: بأنك أمينٌ في أهل السماء، أمينٌ في أهل الأرض.
السيدة عائشة أم المؤمنين أرادت أن تخصَّ هذا الصحابي بشرفٍ لم تخصَّ به أحداً سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت, أن يُدفن في حجرتها إلى جوار النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإلى جوار أبي بكرٍ وعمر، ولكن عبد الرحمن بن عوف أحسن الإسلام تأديبه، فيستحيي أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار، وهو على موعدٍ سابقٍ وثيقٍ مع عثمان بن مظعون، إذ تواثقت بينهما المودَّة, وقال أحدهم للآخر: أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه.
وبينما كانت روحه تتهيَّأ لرحلتها الجديدة, كانت عيناه تفيضان من الدمع، ولسانه يتمتم ويقول: إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال, ثم عادت ذاكرته إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام, وهو الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحيٌ يوحى، سمع قول النبي الذي قاله مرَّةً: عبد الرحمن بن عوفٍ في الجنَّة.
وقد انطبقت عليهم الآية الكريمة :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
التعقيب على هذه القصة :
التعقيب على هذه القصَّة: يمكن أن توظِّف الغنى للتقرُّب من الله عزَّ وجل، فإذا كنت غنياً فكن متواضعاً، وكن سَموحاً، وكن سخياً، وإذا كنت فقيراً فكن صابراً، متجمِّلاً، عفيفاً، وإذا كنت قوياً فتواضع لله، واجعل هذه القوة في سبيل الله، وإذا كنت ضعيفاً, فادعُ الله سبحانه وتعالى أن ينصرك، وإذا كنت صحيحاً فوظِّف هذه الصحَّة لخدمة الخلق، وإذا كنت مريضاً فاجعل هذا المرض قربةً إلى الحق، وهكذا .... الإنسان حالته الحاليَّة، ما هو فيه امتحانٌ له.