وضع داكن
24-04-2024
Logo
الحقوق : حق المسلم على المسلم 1 - حق النصيحة1.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ما أخطر شيء في حياة الإنسان؟ :

أيها الأخوة المؤمنون, في الدروس السابقة: كان الموضوع الإجمالي هو حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، وحقوق الأب على ابنه، وحقوق الابن على أبيه، واليوم ننتقل إلى بابٍ جديد من أبواب الحقوق، ألا وهو حق المسلم على المسلم، حقوق المسلم على المسلم كثيرة، منها النصح له، وقبل الحديث عن هذا الحق الجليل، أود أن أقدم لهذا الحق بمقدمةٍ موجزة: إن أخطر شيءٍ في حياة الإنسان دينه, قال:
ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك.
يعني طالب عنده مكتبة كبيرةٌ جداً، لكن هناك كتاباً واحداً في هذه المكتبة هو الكتاب المقرر الذي سيؤدي فيه امتحاناً, ويعلّق على هذا الامتحان آمالاً ضخمة، إذاً هذا الكتاب ليس ككل الكتب.
رجل الأعمال في محفظته أوراق كثيرة, لكن أخطر وثيقةٍ في هذه المحفظة جواز سفره، لولا هذا الجواز لبقي في أرضه، إذاً الدين أخطر شيءٍ في حياة الإنسان، هناك زوجته ، هناك عمله، هناك صحته، هناك دخله، لكن الدين متعلقٌ بالآخرة، موضوع الدين موضوعٌ مصيري، إذا سكنت في بيت هي سنواتٌ وتمضي, إن كان واسعاً أو ضيقاً، عالياً أو منخفضاً ، ملكاً أو أجرةً، سنواتٌ تمضي الزوجة لا بدَّ من أن يمضي وقتٌ تفارقها أو تفارقك، لكن الشيء الذي سيتصل بحياتك الأبدية هو الدين.

هل ينحصر مفهوم الدين حول العبادات الشعائرية؟ :

النقطة الثانية: هو أن الدين شيءٌ عظيمٌ جداً وواسعٌ جداً، فقد يفهمه الناس فهماً مغلوطاً، فيوجد عندنا عبادات شعائرية؛

الصلاة والصوم والحج والزكاة، من توهم أن أداء هذه العبادات هو الدين فقد وقع في خطأٍ كبير، من توهم أن الطبيب هو الذي يرتدي ثوباً أبيض، أو هو الذي يضع على عينيه نظارة هو الطبيب، أو هو الذي يسأل الناس عن أكلهم أو عن آلامهم، الطبيب إنسان درس الطب سنواتٍ طويلة, وأصبح يملك قدرةً على تشخيص المرض وعلى وصف الدواء.
النبي -عليه الصلاة والسلام- في تعريفٍ جامعٍ مانعٍ قال:
فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))

قد يفهم المسلمون الدين أنه صلاةٌ وصيام وحجٌ وزكاة.
سيدنا عمر قال: من شاء صام ومن شاء صلى ولكنها الاستقامة.

((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً))

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]

ماذا تستنتج من هذا المثال؟ :

وأنا في طريقي إلى هذا المسجد لمع في ذهني مثل: أن العام الدراسي هو عامٌ طويل في آخره امتحان، الامتحان فيه ينكشف الطالب, وينكشف مستواه العلمي, وفهمه واستيعابه, فمن ظن أن الامتحان لا علاقة له بالعام الدراسي فقد وقع في خطأٍ كبير، إذا جاء يوم الامتحان, ارتدى هذا الطالب أجمل ثيابه, وتوجه إلى الامتحان, واقتنى الأقلام, وكل حاجاته, لكنه لم يدرس، هذا الامتحان لا معنى له، أهم شيءٍ فيه أن تُعد له العدة طوال العام الدراسي.
أردت من هذا المثل: أنك إذا وقفت لتصلي, فاعلم أن الصلاة امتحان، بل إنها ميزانٌ كما قال عليه الصلاة والسلام، إن ما بين الصلاتين؛ استقامتك، صدقك، غضُّك للبصر، نُصحك للمسلمين، ورعك، هذا يبدو في الصلاة، فإذا فصلت بين حياتك ونشاطك وتجارتك وبيعك وشرائك من جهة، وبين الصلاة من جهة، وجعلت الصلاة كشعيرةٍ تعبدية, انقلبت الصلاة والحالة هذه إلى طقسٍ لا معنى له، لكنك إذا فهمت أن الصلاة كساعة الامتحان، أهم ما فيها أن تعد لها قبل أن تأتيها، لذلك جاء قوله تعالى:

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[سورة طه الآية: 14]

تقول: أقمت البناء؛ أي أنك اشتريت الأرض ووضعت التخطيط وبذلت الجهد، إقامة البناء شيءٌ يحتاج إلى جهد كبير مسبق، فلذلك: إما أن تفهم الدين فهماً أجوف على أنه شعائر تؤدى وكفى، أو على أنه كتابٌ يُقرأ، أو على أنه مجلس علمٍ يُحضر، أو على أنه حجٌ يُؤدى، أو احتفالٌ بعيد المولد يُقام وانتهى الأمر، ونحن على ما نحن عليه، هذا هو الفهم السقيم للدين.

ما هو الدين؟ :

الدين شيءٌ يدخل في كل حياتك، في كل حركاتك وسكناتك، في كل نشاطاتك، في كل علاقاتك، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))

أي إذا جاءك أخ مسلم أو غير مسلم إلى محلك التجاري, وأراد أن يشتري منك حاجة، وأنت من أجل أن تبيع هذه الحاجة الكاسدة أوهمته أنها جيدة، وأثنيت عليها بما لا تستحق، حتى أقنعته بشرائها، إنك لم تنصحه، إذاً ما قيمة دينك؟ ما قيمة صلاتك؟ هذا الذي وقع في مخالفةٍ شرعية، قالت له السيدة عائشة: أبلغوا فلاناً أنه أحبط عمله، أو أنه خسر جهاده مع رسول الله.
فالذي أتمناه عليكم أن تضعوا أيديكم على جوهر الدين:

((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))

الدين يبدو في دكانك، في متجرك، وراء طاولتك إذا كنت موظفاً، في العيادة إذا كنت طبيباً، وراء مكتبك في المحاماة إذا كنت محامياً، وراء مكتبك الهندسي إذا كنت مهندساً، وراء مهنتك إذا كنت من أصحاب المهن، في مهنتك اليومية، إذا غششت المسلمين فلست مسلماً.

لم نفى النبي عن العبد صفة الإسلام في هذا الحديث؟ :

النبي -عليه الصلاة والسلام- نفى عنك صفة الإسلام:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال:

((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا, وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

النبي أخرجك من دائرة المسلمين إذا لم تنصح أخاك، أي إذا قال لك: ماذا أفعل بهذا المبلغ؟ لو أن هذا المبلغ لك تشتري به دكاناً، تقول له: لا, أعطن إياه، ماذا كنت تفعل لو أن هذا المبلغ معك؟ بماذا نُصحك لهذا الإنسان صاحب المبلغ ينم عن دينك، يجب أن تنصح له بما أنت فاعلٌ لنفسك، بما أنت تفعل لو أن هذا المبلغ لك، هذا هو الدين، الدين يبدو أكثر ما يبدو في التعامل.

الدين معاملة :

لذلك ورد عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: أن الدين هو النصيحة، وأن الدين المعاملة.
والعوام يقولون هذا الكلام: الدين المعاملة، الدين في تعاملك مع زوجتك، الدين في تعاملك مع عُمَّالك، الدين في تعاملك مع أولادك، الدين في تعاملك مع جيرانك، يجب أن تعرف حدك فتقف عنده، فلذلك الشيء المؤلم: أن مفهوم الدين مضطرب، مفهوم الدين مفهوم أصبح زئبقياً, فكل إنسان يفهمه على طريقة، بحيث أن الذي قد يفهمه إنسان أن تقيم في بيتك كل عام احتفالاً بعيد المولد، وتأتي بالمنشدين وانتهى الأمر وأنت لا تصلي، هناك من يفهم الدين هكذا؛ الدين أن تذهب إلى الحج, وأن تأتي من الحج, وأن توضع الزينات، وأن تقدم الحلويات، وأن يبارك لك بهذا الحج وانتهى الأمر، الدين داخل بحياتك اليومية، داخل في كل دقيقة من حياتك، في كل ثانية، في كل حركة، في كل سكنة، في نومك، في استيقاظك، في علاقاتك بزوجتك، بأولادك، بمعملك، بعمالك، بمكتبك، بمن يقف أمامك، بمن يقف وراءك، بمن هو فوقك، بمن هو تحتك، هذا هو الدين، الدين هو النصيحة.

لم تأخر المسلمون عن الأمم؟ :

فلذلك: حينما فهم المسلمون أن الدين عباداتٌ شعائرية صاروا خلف الأمم، ولم تكن كلمتهم هي العليا، وحينما فهم أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الدين نصحٌ لكلّ مسلم؛ الدين معاملة، الدين انضباط، فتحوا العالم.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

يجب أن نرجع إلى ينابيعه الأولى، إلى ينابيعه الصافية.

ليس هذا من الدين في شيء :

الآن: لاحظ أن المسلمين يصلون، الجوامع ممتلئة, والمظاهر الدينية صارخة، ولكن إذا دخلت إلى الأسواق رأيت الكذب، ورأيت الغش، ورأيت الخداع، ليس هذا من الدين في شيء، إذا أردت أن تكسب وقتك، إذا أردت أن تكسب حياتك، إذا أردت أن تضع يدك على جوهر الدين، إذا أردت أن تكون من المؤمنين الصادقين, فالدين النصيحة.لو أن إنساناً قال لك: أنا لا أعرف انتق لي بنطالا على ذوقك، وانتقيت له البنطال الكاسد ذي اللون غير المرغوب, من أجل أن تُصرف هذا اللون الذي ربص أمامك, فأنت لست مؤمناً، إذا قال لك: انتق لي أنت, يجب أن تنتقي له أجمل الألوان، أما إذا انتقى هو هذا شيءٌ آخر.

إليكم هذا المثل الدقيق على مفهوم: الدين النصيحة :

أنا أضرب المثل الدقيق:
الدين النصيحة.
قال لك إنسان: افتح محل بهذه المصلحة, أنت تعلم أن هذه المصلحة ذات أرباح طائلة، تقول: لا هذه مصلحة فاقورة، تريد أن تصرفه عن هذه المصلحة وأنت مسلم؟! لست مسلماً.
إنسان بعث لك ابناً تعلمه مصلحة تجعله مستخدماً، وحينما يأتي الوقت المناسب لتعلم هذه المصلحة تبعده خارج المحل، أنت مسلم؟ لا والله:
الدين النصيحة.
وهناك أمثلة لا تُعد ولا تُحصى، أكثرها في العمل، قال لك فلان: هل أشتري هذا البيت؟ تبيع البيت أنت، وأنت تبيع هذا البيت لعلةٍ خطيرة شعرت أن فيه خطر، وزينت له هذا البيت حتى بعته له، أنت مسلم؟ لا والله:
الدين النصيحة.
لم تنصحه بهذا البيت، فلذلك: الله عزَّ وجل يضع الإنسان في مواقف صعبة، أهونها الصلاة والصوم والحج والزكاة، ولكن أصعبها أن تقف على مفترق الطرق، إذا نصحت تخسر وإذا غششت تربح، وهذه حكمةٌ إلهية.

من حقوق المسلم على المسلم :

هذه المقدمة أردت منها أن أصل إلى أن: من حقوق المسلم على المسلم النصح له.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أن النبي -عليه الصلاة والسلام- من خلال حديثٍ طويل يقول:

((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ, قِيلَ: ما هن يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ, وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ, وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ, وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ, وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ, وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم]

اسْتَنْصَحَكَ فعل استفعل, فيه معنى الطلب, كقولك: استغفر، كقولك: استرحم، كقولك استودع.
أول حق: هذا الذي يدخل إلى محلك أليس مسلماً؟ مسلم، يقول لك: انصحن؛ هل هذا القماش جيد؟ هل هذه الآلة جيدة؟ هل هي أصلية أم تقليد؟ هل أنتفع بها أم أنها سريعة العطاب ؟ أنت قد تستعمل هذا الثوب، تقول: لا، أنا أرتدي منه بشكلٍ خبيث، ومن أجل أن تبيع هذا الثوب تفصل منه ثوباً, وكلما سألك إنسان: ما قولك بهذا القماش؟ تقول: لا, أنا أرتدي منه، من أجل أن تبيع هذه البضاعة, وهذا شيءٌ خطير، هذا الذي يدخل إلى محلك التجاري، الله سبحانه وتعالى وكيله وهو مطلعٌ عليك ويعلم السر وأخفى، فمن حق المسلم على المسلم النصح له:
وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ.

متى يستنصح الرجل؟ :

سؤال: الإنسان متى يستنصح إنساناً؟ حينما يأتيك إنسان, ويقول لك: انصحن ماذا أفعل؟ هل تعلم ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك: أنه واثقٌ من رجاحة عقلك، ومن إخلاصك له، إنسان وضع ثقته فيك، وضع ثقته برجاحة عقلك، وضع ثقته بإخلاصك له، أعطاك صفتين؛ صفة عقلية وهي الرُجحان، وصفة نفسية وهي الإخلاص، لا يمكن أن تأتي إنساناً وتستنصحه إلا إذا وثقت بعقله وأخلاقه، إلا إذا وثقت برجاحة عقله وصدق إخلاصه، إذاً حينما يأتيك إنسان وقد منحك الثقة، وقد منحك كل عوامل الرضا تخونه؟! لذلك:
كبرت خيانةً عند الله: أن تحدث الناس بحديث هم لك مصدقون وأنت لهم به كاذب .
هو يصدقك, لأنه منحك الثقة وأنت تكذب عليه، فهذا الذي يغش الناس كذَّاب يكذب عليهم، ينصحهم بشيءٍ لا يفعله هو لنفسه.
شيء آخر: إذا طرق بابك واستُنصحت، فأنت مظنة رجحان العقل، وصدق الإخلاص ، فإن شئت أن تخيِّب الناس فيك فخيبهم إذا شئت، أما لو لم تكن راجح العقل، لو لم تكن مظنة صلاح, لما سألك أحد: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ.

انظر ما قاله علي كرم الله وجهه :

شيء آخر: هذا الذي يستنصح هو رجل راجح العقل أيضاً، كلاهما عاقل المستنصِح والمستنصَح.
الإمام عليٌِ -كرم الله وجهه- يقول: الرجال ثلاثة؛ رجلٌ رجل -يقول لك: رِجَّال, بالمعنى العامي- ورجلٌ نصف رجل، ورجلٌ لا رجل؛ فالرجل الرجل هو الذي له رأيٌ ويستشير، والرجل نصف الرجل هو الذي له رأيٌ ولا يستشير، والرجل الذي لا رجل هو الذي لا رأي له ولا يستشير .
إن كنت تملك رأياً راجحاً فأنت رجل، أما إذا كنت تملك رأياً راجحاً وتستشير فأنت رجلٌ رجل، أي رجل مربع، رأي من دون استشارة نصف رجل، لا رأي ولا استشارة لست رجلاً.

هذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم :

الشيء الآخر: النبي -عليه الصلاة والسلام- أمره الله عزَّ وجل أن يشاور أصحابه, فقال تعالى:

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾

[سورة آل عمران الآية: 159]

الإنسان يستشير بموضوع زواج، بموضوع تجارة، بموضوع فتح محل تجاري، بموضوع استثمار مال، بموضوع سفر، بموضوع شراء بيت، هذه أشياء تعارف الناس على أنها تنفع فيها المشورة، قبل أن تقدم اسأل، قبل أن تعقد قرانك على هذه الفتاة اسأل عنها، اسأل عن أهلها، عن أخلاقهم, عن مستواهم, عن ورعهم, عن استقامتهم، قبل أن تشارك فلان اسأل عنه، هل هو مستقيم أو منحرف؟ قبل أن تشتري هذا البيت، قبل أن تسافر، قبل أن تعمل، قبل أن تفعل، لا بدَّ من أن تستشير.

فلذلك: النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))

[أخرجه مسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي في سننهما]

وفي حديثٍ آخر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ, فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً, فَقَالَ:

((يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا))

مطلقاً لو غششت مجوسياً فلست مسلماً.

قاعدة :

يوجد عندنا قاعدة: الإنسان عليه أن يشاور وعليه أن يستخير، الإنسان الناجح الموفق.
من استشار الرجال فقد استعار عقولهم.
عليه أن يستشير، وعليه أن يستخير، الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، لأن غير المؤمن يغشُّك، والمؤمن الذي لا خبرة له، كيف ينصحك؟ لا بدَّ من توافر الخبرة والإخلاص:

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾

[سورة القصص الآية: 26]

القوة في العلم والأمانة الإخلاص، فلذلك الإنسان الناجح في عمله الموفق، الذي يُطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام يستشير ويستخير، يستشير أولي الخبرة من المؤمنين، ويستخير الله عزَّ وجل في كل المباحات، إياكم أن تظنوا أن المؤمن يستشير أو يستخير في الأمور التي نص على حرمتها الشرع، هذا كلام مرفوض, لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 36]

الاستشارة والاستخارة في الأمور المباحة، بعد أن تستشير أخوانك المؤمنين أولي الخبرة المعتمدين، بعد أن تثق من دينهم, ومن خبرتهم, ومن إخلاصهم, لك تستشيرهم فيشيرون عليك.

أحكام الاستخارة :

الآن تنتقل إلى موضوع الاستخارة تستخير الله عزَّ وجل.
أحكام الاستخارة: إن المؤمن عليه أن يصلي ركعتين نافلتين، ولك أن تعُدَّ بعض السنن الرواتب صلاة استخارة، لو أنك صليت قبل الظهر ركعتين أو بعد الظهر ركعتين فهي صلاة استخارةٍ أيضاً، بل إن بعض العلماء أجازوا أن تصلي ركعتي تحية المسجد كصلاة استخارة؛ أي أن المؤمن يصلي ركعتين؛ إما نافلتين, أو من السنن الرواتب، أو من سنة تحية المسجد، وبعدها يدعو بهذا الدعاء, ويقول:

((اللهم إني أستخيرك بعلمك -أنت تعلم يا رب- وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب.

خذ هذه الآية شعاراً لك في حياتك :

-المشكلة: أنه يوجد أشياء بالحياة تبدو برَّاقة، فإذا أقبلت عليها كانت لغماً متفجراً، يوجد أشياء تبدو غير براقة, فإذا أقدمت عليها كان فيها الخير الكبير، فأنت لا تعلم ولكن الله يعلم، قد يكون في هذه التجارة التدمير الكامل، وقد يكون في هذه الزوجة الشُؤم، وقد يكون في هذا السفر الخير، لا تعرف أنت، يا ترى إذا سافرت أفضل أم إذا بقيت؟ إذا عملت بهذه المصلحة أم بهذه المصلحة؟ إذا اشتريت هذا البيت أفضل أم هذا البيت؟ إذا تزوجت فلانة أو علانة؟ فإنك لا تعلم ولكن الله يعلم، لذلك ربنا عزَّ وجل قال -وهذه الآية لو عقلناها حق العقل وفهمناها حق الفهم، وتدبرناها حق التدبر لوسعتنا ولكفتنا-, قال:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 216]

ماذا نستنبط من هذه القصة؟ :

هذا الذي تعرفون قصته: خطب امرأةً ودخل بها فلم تعجبه، دخل بها ليلةً واحدة, وفي اليوم التالي هام على وجهه، وغاب في بلاد الشام, وهي في المدينة عشرون عاماً، وعاد بعدها إلى المدينة، حن إلى بلده وحن إلى أهله, –والسنة: أن يصلي في المسجد قبل أن يأتي إلى البيت-, فرأى آلافاً مؤلفة متحلقة حول شابٍ يلقي درساً في العلم الشريف فسأل عنه, -هو اسمه أنس بن عامر-, سأل: من هذا الشاب من هذا العالم؟ قالوا: هذا مالك بن أنس

هذه الزوجة الطيبة الطاهرة التي لم تعجبه يوم دخل بها وشعرت أنه لم يحبها، قالت له كلمة, قالت : يا أنس, قد يكون الخير كامناً في الشر؛ -أي إن رأيتني شراً قد يكون الخير كامناً فيّ, مضى عشرون عام عاد إلى المدينة، فإذا هذا الشاب هو مالك بن أنس ابنه، وقد نشأ نشأةً علميةً طاهرة وفتح الله عليه-, فلما انتهى مجلس العلم, قال له: قل لأمك: إن بالباب رجلاً يقول لك: قد يكون الخير كامناً في الشر, فلما دخل على أمه، وأبلغها مقالة هذا الرجل، قالت له: يا بني إنه أبوك:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾

[سورة البقرة الآية: 216]

الله عزَّ وجل قسم لك هذه الزوجة، أنت لا تعلم لكن الله يعلم، لو أنها متوسطة في ميِّزاتها, أنت لا تعلم والله يعلم، جعلك بهذه الوظيفة أنت لا تعلم ولكن الله يعلم، جعلك بهذا الشكل، بهذه البُنية، بهذه الصحة، أنت لا تعلم لكن الله يعلم، لا يوجد عند الله خطأ، الله عزَّ وجل لا يخطئ، فكل شيء في منتهى الحكمة.
حتى إن الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- يقول: ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني.
قالت له: قد يكون الخير كامناً في الشر.
هذه الآية وحدها لو تدبرناها، الإنسان يذوب محبة لله عزَّ وجل:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 216]

من هنا أخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الدعاء-: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.

لم تقرأ قصة سيدنا الخضر كل جمعة؟ :

-ربنا عزَّ وجل علمنا بالقرآن قصة سيدنا الخضر, لماذا تقرؤونها كل جمعة؟ هؤلاء أصحاب السفينة الذي خرقت سفينتهم, وتألموا وضجروا ولاموا سيدنا الخضر على فعلته، ما الذي حصل بعد ذلك؟ إنها نجت من المصادرة:

﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾

[سورة الكهف الآية: 79]

إذاً: قد يكون الخير كامناً في الشر-.

ما كان الله ليعذب قلباً بشهوة تركها صاحبها في سبيل الله :

اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، فإن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه- خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -الدين رقم 1, الدنيا 2, الآخرة 3- أو قال: عاجل أمري وآجله, فاقدره لي ويسره لي, ثم بارك لي فيه.
-أحياناً الإنسان يتزوج امرأة مباركة، ينجب منها أولاداً، يعيش معها حياةً مديدةً سعيدةً آمنةً-.
وعاقبة أمري وآجل أمري, أو قال: عاجل أمري وآجله, فاصرفه عني واصرفني عنه))

أحياناً الإنسان يتعلق بشيء تعلقاً شديداً, وفي هذا الشيء شرٌ له، فإذا صرفه الله عنه وبقي متعلقاً فيه انشغل، فعندما يفرغك الله من هذا الشيء ويصرفه عنك فهذه نعمةٌ كبرى، لذلك هناك حديث شريف:

((ما كان الله ليعذب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله))

أي إذا خطبت امرأةً ولم يكن في هذه المرأة الخير، وتركتها في سبيل الله، فالله سبحانه وتعالى أعظم من أن يشغلك بها، أو يعذب قلبك بحبها، هكذا دعاء الاستخارة.

 

دعاء الاستخارة :

فعَنْ جَابِرٍ -رَضِي اللَّهم عَنْهم- قَالَ:

((كَانَ رسول الله -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا, كما يعلمنا السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ, يقول: إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ, وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ, وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ, فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ, وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ, وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي, أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي, وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي, أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ, فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ, وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ, ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ, وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))

[أخرجه البخاري في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم]

نقطة دقيقة :

النقطة الدقيقة: أن الإنسان عندما يستخير ربه عزَّ وجل, ينتظر أن يرى معجزة، أن يرى في المنام أن افعل أو لا تفعل، لا هذا كله زيادات، ما ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام, أنت إذا استخرت الله عزَّ وجل انتهى الأمر، إذا تيسَّر هذا الأمر يكون الله قد يسره لك واختاره لك، وإذا عسَّره أمامك يكون الله عزَّ وجل قد صرفه عنك، أما أن تنتظر معجزات بعد الاستخارة, هذا كلام ليس من السنة في شيء، أنت استشرت أهل الخبرة من المؤمنين, ثم استخرت الله عزَّ وجل بصلاة ركعتين, وبهذا الدعاء الذي يقطر علماً:
إنك تعلم ولا أعلم.

من خلال هذه الواقعة ماذا يتبين لك؟ :

أحياناً: الإنسان يسافر يكون هلاكه في هذا الطريق.
قال لي شخص, وهو طالب في الطب, حجمه صغير, مقيم ببلد بجانب حلب, قال لي: يوم الخميس توجهت لكي أركب في السيارة, جلست أول مقعد, جاء شخص ضخم الجثة فتح الباب, قال له: انزل، قلت له: لماذا أنزل؟ فمسكه وكأنه عصفور حمله ووضعه, جلس هو ورفيقه في الأمام، قال لي: نشأ في نفسي حقد إلى هذه الدرجة أنا مهان؟! لا يريد شيئاً، جلس ساعة ثانية إلى أن جاءت سيارة ثانية وركب فيها، قال لي: وصلنا بعد أربعين كيلو متر في الطريق إلى إدلب، وجدنا السيارة مقلوبة وراكبين ميتين منها, عندما مسكك ووضعك لا تعرف أنت لماذا أنزلوك؟ فإنك تعلم ولا أعلم وعلى هذا قس، قس عليها كل شيء, إنك تعلم ولا أعلم.
خطبت عشر فتيات هذه أنسب إنسانة، هذه أنسب واحدة إلى دينك، لو كانت أحسن من ذلك قد تنسى الله نهائياً، يعرف أنك ضعيف, بعث لك واحدة متوسطة, تستعين بها على أمر دينك، فهذا الذي اختاره الله لك، فأنت اجتهد، لكن بعد أن يقع الشيء، هذا اختيار الله لك، قبل أن يقع الشيء, لك أن تجتهد, ولك أن تسأل, لك أن تفعل كل شيء، أنت مخير، لكن بعد أن تستنفذ كل الجهود, ويكون النصيب على هذه الفتاة, فهذا هو الخير، فإنك تعلم ولا أعلم، اجعل هذه الكلمة في بالك، يا رب إنك تعلم ولا أعلم.
اختارك أن تكون موظفاً طوال حياتك، فلا تندب حظك طوال الحياة, وتقول: الدخل لا يكفيني، فإنك تعلم ولا أعلم، فيك علة ببعض الأعضاء ومريض طيلة عمرك ومعك آلام، فإنك تعلم ولا أعلم.

متى يرضى العبد بقضاء الله وقدره؟ :

أما الذي أعرفه أنا: حينما يكشف الغطاء يوم القيامة، وربنا سبحانه وتعالى يُطلع الإنسان على كلِّ شيء ساقه له في الدنيا، لا بدَّ من أن يذوب محبةً لله، والدليل: قول الله عزَّ وجل:

﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

[سورة يونس الآية: 10]

أي كل قضيتك مع الله منذ أن خُلقت حتى نهاية الحياة ملخصةٌ بكلمةٍ واحدة, وهي: الحمد لله رب العالمين؛ أي أن القصص التي يمكن أن تؤيد هذه الفكرة على أن الله يعلم وأنت لا تعلم، وكيف قد يكون الخير كامناً في الشر، هذه القصص لا حصر لها، لا تنتهي، أي إن هناك آلاف القصص، ملايين القصص، فإذا عرفت أن في الكون إلهاً عظيماً, وله حكمةٌ بالغة ، وله قدرةٌ قادرة، وهو العدل، وهو صاحب الفضل، السميع البصير، وأن الأمر كلّه بيده، وهذا قضاؤه وهذا قدره وهذا تقديره ترضى بذلك، من هنا ورد في الحديث الشريف:

((الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن))

التوحيد مريح :

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ, وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ, حَتَّى يَعْلَمَ: أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ, وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَه))

[أخرجه أحمد في مسنده]

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

[سورة فاطر الآية: 2]

أي إن هذا الإله الذي تعبده يستحق العبادة، لأن أمرك كلُّه بيده، لو لم يكن أمرك بيده لما ركنت إليه، لما اطمأننت إلى عبادته، قد يخطر ببال العبد: يا رب سأعبدك ولكن سأعبد أيضاً من أمري بيده حتى أرضيه، يقول لك: لا، الأمر كلُّه بيدي، هؤلاء صور، هؤلاء دُمى:

﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة هود الآية: 55-56]

التوحيد مريح:
ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
أنت عبدٌ لله، ولك إلهٌ عظيم، أنت تحت رعايته وإشرافه، والأمر راجعٌ إليه، فحُط كل ثقلك عند بابه؛ أي فوض الأمر له.

يسن في صلاة الاستخارة ما يلي :

يُسَن في هذه الصلاة: أن تقرأ في الركعة الأولى: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: سورة الإخلاص.
أعيد عليكم الدعاء مرة ثانية لأنه دقيق جداً:

((اللهم إني أستخيرك بعلمك, وأستقدرك بقدرتك.

-أي أنت أمام عشر قطع من الذهب, صاحب المحل يعرف هذه أربعة وعشرين قيراطاً، هذه ثمانية عشر قيراطاً، هذه ستة عشر، هذه نحاس مطلي، هذه نحاس، هذه تنك وكلّه أصفر، أنت لا تعرف، قال لك: انتقِ، أستاذ افرض لو طلعت تنك، تقول له: أنت انتق لي، لأنه هو الذي يعرف، لما أنت فوضته أن يختار لك, هو يعرف, أعطاك عيار أربعة وعشرين، قلت له: أنا أريد أن أنتقِ، فانتقيت التنك-.

إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ, وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ, وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ, فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ, وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ, وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي.

-الدين سليم والدخل قليل فأنت نجوت، الدين سليم وعندك مرضان أو ثلاثة أمراض ، فقد نجوت أيضاً، الدين سليم والزوجة سيئة فقد نجوت، الدين سليم والبيت صغير نجوت أيضاً، الدين سليم وهناك متاعب في العمل كبيرة فقد نجوت، الآن بيت واسع ودين رقيق لم تنجُ، الدخل كبير والدين رقيق لم تنجُ.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر-.

وَعَاقِبَةِ أَمْرِي, أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي.

-يا رب, إذا كان فيه خير لديني وسأزداد قرباً منك بهذا العمل، إذا هذه المرأة تزوجتها فسأزداد قرباً منك فاجعل أهلها يوافقون، وإذا كانت هذه بداية الفسق والفجور، ومن أجل إرضائها أخسر كل ديني, فيا رب لا أريدها فهذه شر، وهي لغم وليست زوجة-.

فَاقْدُرْهُ لِي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي, أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي

-ولكن أروع شيء في الدعاء هو: وَاصْرِفْنِي عَنْهُ, فلا أتذكره وأتألم ويحترق قلبي من أجله-.

وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ.

نهاية المطاف :

-قال له: يا رب هل أنت راضٍ عني؟ وكان الإمام الشافعي ماشياً وراءه أثناء الطواف، فقال له: هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ فقال له: يا سبحان الله! من أنت يرحمك الله؟ قال له: أنا فلان, قال له: كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه؟ قال له: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
سيدنا إبراهيم مثل كبير جداً، قال له: اذبح ابنك، هل أنت تتحملها؟ حينما رضي بهذا الأمر، فداه الله بذبح عظيم، الله امتحنه ونجح بالامتحان.
أحياناً تجد أن أبواب الشر كلها مفتوحة، أبواب الدخل الحرام كلّها مفتوحة، أبواب الحلال مغلقة، ماذا تفعل؟ أنا مضطر وعندي أولاد، فقد سقطت في الامتحان، أما المؤمن يقول لك: والله أموت من جوعي ولا آكل درهماً حراماً، الآن سيكفيك الحلال بوفرة.

((ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه))

كل شيء بالحياة امتحان، أروع شيء أن الإنسان يُمتحن وينجح بالامتحان-.

ويسمي حاجته))

هذا الحديث والدعاء رواه الإمام البخاري، والبخاري -كما تعلمون- أصح كتابٍ بعد كتاب الله، فكل حديثٍ ورد في البخاري أو في مسلم أو في الكتب الصحيحة الست فهو حديثٌ صحيح، وسوف نتابع هذا الموضوع في الدرس القادم إن شاء الله تعالى. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور