- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
الأستاذ علاء :
ترحيب :
الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً وسهلاً بسيدي الأستاذ .
الدكتور راتب :
أهلاً بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ علاء :
تذكيرٌ وربطٌ :
سيدي ، كنا قد ارتحلنا وإياكم مع السادة المشاهدين في قضية هامة ، ومسألة في منتهى الخطورة تدب في أُسَرنا ، وفي مجتمعاتنا الصغيرة ، التي تشكل المجتمع الكبير ، تنسل هذه القضايا إلى ذلك المجتمع الصغير انسلالاً دون أن نتنبه إلى مواطن الخلل ، وإلى الشكوك التي تأتي منها هذه الرياح السموم ، هذه القضايا ولفترة وجيزة تعصف بالأسرة ، وتدمر أركانها ، وهي التي أرادها الله ، وأرادتها الشرائع أن تكون أسرة متوازنة متهادية متحابة ، تتعاون على الخير ، وتتعاون على البر ، وتتعاون على البناء ، هذه القضايا تأتي لتشكل جَبلاً أمام ناظري الزوجين ، لا يستطيعان زحزحة لا يمنة ولا يسرى ، فإذا بالشقاق الزوجي يأتي على هذه الأسرة ، ويدمر هذه الأسرة ، كما تعصف رياح في خيام غير ثابتة ، والنتيجة أن الأولاد هم الذين يتحملون كل هذا الضنك ، وكل هذا العناء .
سيدي وصلت إلى مجموعة الأسباب التي تؤدي إلى الشقاق الزوجي ، عند مسألة هامة ، قبل كل شيء نلخص بعض الأشياء التي مرت معنا ، ثم نأتي إلى التقليد الأعمى .
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
ضعفُ الدين أهم أسباب الشقاق الزوجي :
أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، بادئ ذي بدء قلنا : في الأخبار موجز وفيها تفاصيل ، أنا أرى أن موجز الأسباب المتعلقة بالشقاق الزوجي ضعف الدين ، ضعف الالتزام ، ضعف معرفة مهمة الإنسان في الحياة ، ضعف معرفة المهمة التي كلف بها ، ضعف الإيمان باليوم الآخر .حينما يؤمن الإنسان باليوم الآخر أُقسم لك بالله ولا أبالغ تنعكس كل مقاييسه مئة وثمانين درجة ، إن آمن باليوم الآخر يسره العطاء ، يسره أن يبث الأمن فيمن حوله ، يسره أن يعطي لا أن يأخذ ، يسره أن يؤلِّف لا أن يفرِّق ، يسره أن يقدّم خدماته لكل من حوله ، لا أن يعيش على أنقاضهم ، هذه القضية في الأساس تصور صحيح أو خاطئ .
الأستاذ علاء :
مَن سرّته حسنته وساءته سيئته .
الدكتور راتب :
التصور الصحيح قاعدة مهمة للنجاح :
إن تصور الإنسان أنه في دار تكليف سوف يدفع فيها ثمن جنة عرضها السماوات والأرض يبني حياته على العطاء ، يبني حياته على الصبر ، يبني حياته على الإحسان ، يبني حياته على الرحمة ، وفي الأساس الإنسان حينما يجهل سر وجوده ، وغاية وجوده يصبح شرساً ، أحياناً يعبد لذَّته ، ويعبد هواه ، فإن لم تأتِ الأمور كما يتمنى ضاق بها ذرعاً ، فلذلك حينما يصح الإيمان ، ويستقيم السلوك تحل كل فصول الإنسان ، وزواجه أحد فصوله ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
الله بيْن الزوجين المسلمَيْن ، وبين غيرهما المصالح الدنيوية :
فأنا أقول : في أصل الزواج الإسلامي اللهُ بيْن الزوجين ، في أيّ زواج آخر ليس بينهما الله ، بل بينهما مصالح متبادلة ، فإن ضعفت هذه المصالح كان الشقاق ، في الزواج الإسلامي الله بين الزوجين ، كل طرف يخشى الله أن يظلم الطرف الآخر ، وكل طرف يتقرب إلى الله بخدمة الطرف الآخر ، لذلك من أروع ما قرأت حول قوله تعالى :
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (19)﴾
قال علماء التفسير : ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها ، بل أن تحتمل الأذى منها ، وأنت تعيش معها لرسالة .
1 – ضعفُ الإيمان والاستقامة ينعكس سلبًا على بيت الزوجية :
هذه أم أولادك ، هذه شريكة حياتك ، هذه قبِلَت وضعك المادي الضعيف ، فلما اغتنيت أصبحتَ لا ترضاها ، القضية قضيةُ وفاء ، قضية أخلاق ، قضية محبة ، قضية إيمان ، لذلك الحقيقة الدقيقة أن الإنسان إذا ضعف إيمانه ، وضعف التزامه ، وضعفت استقامته ينعكس هذا على بيته .
2 – خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ :
قد بينت في لقاء سابق بمعيتكم مقياسَ الخُلق الذي أراده النبي في البيت ، الإنسان خارج البيت يتجمَّل ليكون أنيقاً ، يبتسم ، يعتذر ، لأن مصلحته تقتضي ذلك ، أما في البيت فلا رقيب عليه ، فقد يكون شرساً ، وقد يكون قاسياً ، وقد يكون عنيفاً ، وقد لا يهتم بمشاعر الآخرين ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي ))
عدم الكفاءة بين الزوجين من أسباب الشقاق :
لو طلبت مني بعض التفاصيل في الحلقات السابقة ، والجهل أعدى أعداء الإنسان ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، ثم ضعف الإيمان ، ثم التعالي ، والتعالي يتأتى أحياناً من عدم الكفاءة بين الزوجين ، وتحدثت عن الكفاءة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية ، فهذه بعض أسباب الشقاق الزوجي ، وهي كثيرة جداً ، وأنا أرى أن هذا الموضوع يمس معظم الأسر التي شردت عن الله عز وجل ، وصار البيت جحيماً لا يطاق .الأستاذ علاء :
سيدي ، مسألة الكفاءة التي مررنا عليها في حلقة سابقة ، هل نستطيع أن نستقرئها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ))
الدكتور راتب :
إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ :
سبحانك يا رب على هذه التفرقة بين الدِّين والخُلق ، هو يصلي ، ويؤدي زكاة ماله ، ويحج بيت الله الحرام ، ويصوم رمضان ، لكنه قاسٍ ، لكنه يحب لنفسه كل شيء ، لكنه لا يرحم ، فلذلك كأن الدين والخلق شرطان ، كلٌّ منهما شرط لازم غير كاف ، فالخُلق من دون دِين مشكلة كبيرة جداً ، لأن الإنسان الذكي جداً يجد مصلحته في أن يكون صادقاً أميناً ، فيبتغي الدنيا فقط ، أما إذا مست مصلحته فيصبح ثوراً هائجاً ، كما نرى في العالم الغربي اليوم ، قيم وحضارة ومبادئ ، ولما مسّت مصالحهم انقلبوا إلى وحوش ، فالبطولة لا أن أكون أخلاقياً بدافع الذكاء أو بدافع المصلحة ، بل أكون أخلاقيًّا بدافع العبادة لله عز وجل ، أخلاقيا تعبداً للدنيا والآخرة معاً ، أما الذكي فينال الدنيا وحدها فقط ، لكن ما له :
﴿ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾
(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ))
لكن الملمح في الحديث خطير جداً ، الملمح في تتمته :
(( إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ))
يا تُرى إذا وضعنا عراقيل أمام الزواج فهل تنعدم العلاقة بين الذكر والأنثى ؟ لا تنعدم ، بل تنتقل من القناة النظيفة المشروعة الرائعة التي جاء بها هذا الدين القويم إلى قناة نجسة سيئة هي السفاح ، لأن المرأة إما زوجة , إمّا عشيقة ، وفي الإسلام الزواج هو القناة النظيفة .
كنت أقول دائماً : ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها ، فيجب أن يعتقد الإخوة الكرام أنْ ليس في الإسلام حرمان ، لأن هذا الدين دين الفطرة :
(( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
لذلك هناك قصص لبعض العلماء أنه : صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين عاما ، أنا لا أصدقها ، وفيها مبالغة غير واقعية ، الجسم له قوانين ، هل تستطيع ألاّ تنام ؟
الأستاذ علاء :
إلا إذا نام في النهار كله .
الدكتور راتب :
(( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
الإسلام دين الفطرة ، دين الواقع ، دين الحياة .
كنت أقول دائماً : الحق دائرة يتقاطع فيها أربعة خطوط ، خط النقل الصحيح ، والعقل الصريح ، والفطرة السليمة ، والواقع الموضوعي ، أي أن الحق ما جاء به النقل الصحيح ، وقبِله العقل الصريح ، وارتاحت له الفطرة السليمة ، وأيَّده الواقع الموضوعي .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، كما تفضلت ، أن الشهوة ، وخاصة رغبة الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، إن لم تنفذ بالطرق النظيفة والشرعية اتجهت نحو طرق غير شرعية ، كالماء عندما لا تصرف هذه الكمية من الماء في قنوات ، ومن خلال سدود تنقلب دماراً وتجريفاً للتربة والبيوت والإنسان والحجر والبشر .
الدكتور راتب :
لابد للشهوة أن تنفجر ، لكن في أيّ مكان ؟
وكنت أقول دائماً كلاما قريبًا من هذا الكلام : الوقود السائل في المركبة إن وضع في المستودعات المحكَمة ، وسال في الأنابيب المحكَمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ولَّدَ حركة نافعة ، أقلَّتك أنت وأهلك إلى مكان جميل ، السائل نفسه إذا صُب على المركبة أعطى شرارة فأحرقت المركبة ومَن فيها ، هذه الشهوة إما أنها قوة نافعة رائعة ، أو قوة مدمرة ، والمحرَّمات كلوحة كتب عليها : " حقل ألغام ، ممنوع التجاوز " ، هل يشعر المواطن إن قرأ هذه اللوحة أن هذه اللوحة قيَّدت حريته ، أم ضمنت سلامته ؟
الأستاذ علاء :
إن فهمها تقيداً للحرية يكون جاهلاً .
الدكتور راتب :
وإن فهِمها ضمان لسلامته يكون عالما .
مثل آخر : هذه السيارة لماذا صنعت ؟ من أجل أن تسير ، ولماذا المكبح ؟ المكبح نظرياً أو إيديولوجياً يتناقض مع علَّة صنع السيارة ، المكبح من أجل سلامتها ، يوقفها ضمانًا لسلامتها ، وكنت أقول ردًّا على من يزعم أن الحجاب رمز إسلامي : الحجاب كالمكبح في السيارة ، وهو جزء أساسي في السيارة ، وليس رمزاً .
الأستاذ علاء :
سيدي ، هذه الأسرة تبين من خلال حديثكم كيف يأتيها الشقاق من خلال أسباب ، وهذه الأسباب عند كثير من الأزواج نتيجة الجهل كما تفضلت ، لا يتنبهون إليها ، أو لا يصغون سمعاً إليها ، وصلنا إلى التقليد الأعمى ، وتحدثنا عن الكفء ، كما تفضلت ، وعن الجهل ، وعن ضعف الإيمان ، وأشياء كثيرة ، وصلنا إلى التقليد الأعمى ، كيف يكون التقليد الأعمى جسراً للشقاق الزوجي .
الدكتور راتب :
كيف يكون التقليد الأعمى سببًا للشقاق الزوجي ؟
أحياناً تكون الزوجة مع زوجها أسعد الناس به ، يحبها وتحبه ، يقدرها وتقدره ، ولهما بيت يؤويهما ، ولهما مركبة صغيرها يستعملانها ، ولهما دخل معقول يغطي نفقاتهما ، لكن لها جارة ، أو أخت ، أو قريبة ، أو بنت خالة ، أو بنت عمة ، زوجها تاجر كبير ، بيتها مساحته أربعمئة متر ، الأثاث ، التزيينات ، الحفلات ، الولائم ، هي تضغط على زوجها بشكل أو بآخر كي تقلِّد هذه الجارة ، أو تلك الأخت ، أو تلك بنت الخالة ، هو سعيد بها ، وهي سعيدة به ، ولكن هذا الضغط المستمر من أجل أن تتباهى ، وأن تتظاهر بالرخاء والغنى تحطم سعادتها الزوجية ، هذه أخطر مشكلة ، لذلك المؤمن لا يقارن نفسَه مع آخر .
﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (32)﴾
لابد للأزواج من الرضى بما قسم الله لهم :
لا تتمنوا ، لأن الحياة مؤقتة ، وأيّ مستوًى مادي في الدنيا ينتهي عند الموت ، فالموت ينهي كل شيء ، ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، وذكاء الذكي ، ومحدودية المحدود ، ينهي كل شيء ، فنحن خلقنا للآخرة ، فلذلك قد تجد بيتا متواضعا جداً أثاثه متواضع جداً ، فيه سعادة زوجية لو وُزِّعت هذه السعادة على أهل مدينة لكفتهم ، وبيت آخر يضجّ بالتحف ، بقيمة الملايين في الصالونات والشرفات والحدائق والأبهاء ، وفيه مركبتان أو ثلاث فارهة ، لكن هذا البيت قطعة من الجحيم ، لأن النقطة الدقيقة جداً أن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خَلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، فالرضا أحد أسباب السعادة ؛ أن تكون راضيًا عن الله فيما أقامك ، أقامك بشكل معين ، أقامك بقدرات معينة ، أعطاك هذه الزوجة هي هدية من الله ، أعطاكِ هذا الزوج هو هدية من الله عز وجل .
حينما أرضى عن الله أكون قد حققت أحد أسباب السعادة ، والرضا مقام ، والرضا أحد مدارج السالكين ؛ أن ترضى عن الله عز وجل ، والزوجة حينما ترضى بزوجها تسعد به .
المشكلة مثلاً : أن الزوجة يأتيها أخوها ، بيتها صغير ، يقول لها : كيف تعيشين في هذا البيت ؟ ينكِّد عليها حياتها ، لذلك :
(( مَن فرَّق فليس منا ))
الجامع الصغير عن معقل بن يسار بسند موضوع ، وله شواهد أخرى في الترمذي وأبي داود ]
هذا حديث دقيق جداً .
حينما تلقي كلمة قد لا تلقي لها بالاً :
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ :
(( مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ، قَالَتْ :فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ ، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا ، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً ، فَقَالَ : لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ))
والله مرة زرتُ أحد إخواننا ، غرفة الضيوف عنده تتسع لشخصين أو ثلاثة فقط ، كهذه الطاولة ، هو استحيا ، قلت : لا تستح ، سيد الخلق ، وحبيب الحق غرفته التي كان ينام فيها لا تتسع لصلاته ونوم زوجته ، أنا طمأنته أن هذه القضية لا قيمة لها إطلاقاً ، العبرة أن تكون مطيعاً لله :
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
التقليد الأعمى يدمر السعادة الزوجية .
بين السعادة واللذة :
أنا مضطر الآن أن أفرق بين شيئين بين السعادة واللذة :
اللذة إحساس مادي ، تحتاج إلى أشياء خارجة عن الإنسان ؛ إلى مال ، إلى صحة ، إلى وقت ، أساسها بيت واسع جداً ، مكيف ، مدفّأ ، فيه كل الأجهزة ، له إطلالة رائعة ، أساسها مركبة فارهة جداً ، أساسها دخل كبير فلكي ، سفر ، رحلات ، فنادق ، إلى آخره .
أما السعادة فتنبع من الداخل ، ولا تحتاج إلى شيء خارجي إطلاقاً ، لذلك قد تكون في أضيق بيت ، وأنت في قمة السعادة ، بعضهم قال : هذه السكينة وجدها إبراهيم وهو في النار :
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
وجدها أهل الكهف في الكهف ، ووجدها النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .
هذه السكينة أستاذ علاء تسعد بها ولو فقدتَ كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء ، إنها الصلة بالله عز وجل ، والزوجان حينما يؤمنان الإيمان الصحيح ويتصلان بالله يعيشان حياة والله الذي لا إله إلا هو يتمناها أغنى أغنياء العالم ، كيف نفسر أن أعلى نسب انتحار في العالم في الدول الغنية جداً ؟
في السويد والدانمارك والنرويج ، لأن الإنسان نهائي مصمم للآخرة ، فإذا اختار بحمقه هدفاً محدوداً بعد حين استوعبه وملَّ منه ، وأنا أفسر كل انحرافات الجنس في العالم الغربي لا لأن الذي انحرفوا إليه أمتع من الذي انحرفوا عنه ، إلا أن الملل والسأم أهلكهم ، والإنسان طاقاته كبيرة جداً ، اختار هدفا ماديا محدودا ، فلما استوعبه ، وختمه ، وأحاط به شعر بالملل .
أنا أقول لمن شرد عن الله : يسعد أول فترة في حياته ما دام يعيش الأحلام ، يحلم في زوجة معينة ، في بيت معين ، بدخل معين ، بمركبة معينة ، لما تتحدد زوجته ، وبيته ، ومعاشه يشعر بالفراغ ، أما المؤمن فلا يشيخ أبداً ، بل يصل إلى سن التسعين وهو شاب ، لأن هدفه كبير ، وكان الشيخ بدر الدين الحسني ـ رحمه الله ـ لما يمشي أمام مقهى يقول : " سبحان الله ! لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم " .فلذلك التقليد الأعمى أساسه اللذة ، واللذة تحتاج إلى وقت ، وإلى صحة ، وإلى مال ، لحكمة بالغة هذه الأشياء الثلاثة لا يمكن أن تجتمع في وقت واحد ففي بدايات العمر لا يتوفر المال ، وتتوفر الصحة والوقت ، وفي منتصف الحياة الوقت قليل ، لكن هناك صحة ومال ، وفي النهاية لا صحة ، مع وجود المال والوقت .
حينما تتعرف إلى الله ، وتسعد به ، وتصطلح معه تنطلق بسعادة لا توصف ، لأن هدفك معك دائماً ، وهدفك واضح ، والوسائل واضحة .إنسان في محل تجاري ، أسّسه حتى يربح ، والبيع على أشدِّه ، هو تعبان ، لكن يحقق هدفه الكبير ، لو أن البيع قليل ، وجلس ، وارتاح ، وأحضروا له القهوة والشاي والصحف والمجلات لا يرتاح .
الأستاذ علاء :
سيدي ، من خلال ما مر كما تفضلت هنالك نقطة حينما يحس بالسعادة ، ويرضى عن ربه ، ثم يقنع بما لديه ، وقد يتساءل شخص ، أو قد ينفذ لهذا المعنى رأي للانتقاد : أن هذه القضية تدعو إلى الكسل ، وتدعو أن نرضى بهذا المرتقى ، وألا يكون لنا طموح في الحياة .
الدكتور راتب :
الاقتناع بالموجود لا يعني الكسل وعدم الطموح :
أنا أشكرك على هذا السؤال ، وهذه المداخلة ، الحقيقة يجب أن ترفع مستواك ، وأنا أقول هذا الكلام : حينما تبذل كل ما تستطيع من جهد لترفع المستوى ، ولا يتاح لك شيء لحكمة إلهة أرادها الله ، عندئذ ارضَ عن الله ، لكن إذا كان الدخل قليلا ، وعندي أولاد ، حينما أسعى إلى رفع دخلي ، وحينما أعطي أولادي حاجاتهم ، وحينما أربطهم بي ، وحينما أحقق لهم طموحهم فهذا لا ينافي القناعة ، فحبذا المال أصون به عرضي ، وأتقرب به إلى ربي .
أنا أقول : حينما أبذل كل ما أستطيع ، وأصل إلى هنا لحكمة أرادها الله لم أستطع أن أتابع ، عندئذ أرضى ، أما أن أرضى بمستوى بإمكاني أن أرفعه فهذا لا ينبغي ، لذلك قالوا : أصلح دنياك ، واعمل لآخرتك ، فيمكن أن توسع البيت ، عندك بنات ، وعندك شباب ، يمكن أن تجعل البيت صحيا وتوسِّعه ، وأن تقتني مركبة تريح أولادك ، وتأخذهم في نزهة كل أسبوع ، هذا شيء مطلوب ، أنا لا أرضى أن أكون بمستوى أقل من غيري إلا في الأشياء التي لا ترضي الله عز وجل ، أما أنا أسعى لرفع مستوى دخلي فهذا شيء طبيعي جداً ، لكن أنا أقول : في العالم الغربي إذا طمح الإنسان في شيء ، وما وصل إليه ينتحر ، لكن المؤمن لا ينتحر ، بل المؤمن يحمد الله على كل شيء .
الأستاذ علاء :
سيدي هذه الحلقة تبث ونحن نعيش أول العام الدراسي ، وأول ورود أبنائنا طلبة وتلاميذ إلى مدارسهم ، وتعلم سيدي الكريم أن المدارس ، ورغم أن التعليم في مجمله مجاني ، هنالك مدارس خاصة ، هنالك تكاليف ، فعلى الأهل أن يقتنوا الوسائل لأولادهم من ملابس ومن أشياء للرياضة ، ومن دفاتر وأقلام ، رغم أن التعليم في سوريا والحمد لله مجاني ، ولا يكلف الأهل الانتساب إلى مدرسة عامة أيّ مبلغ من المال ، هنالك في هذا المنحى التقليد الأعمى ، قال علماء النفس : هنالك حاجات وهمية ، وهنالك حاجات أساسية أو حقيقية ، ويريد هذا الولد حذاء للرياضة ، يريد ثيابا للرياضة ، يريد صدرية ، يريد ملابس للمدرسة ، يريد أقلاما ، هنالك قلم ثمنه كذا في السوق ، وهو من نوع معين ، كما قلنا في التقليد الأعمى ، هنالك حذاء للرياضة بماركة عالمية جد غالية ، يصل ثمن الحذاء إلى خمسة عشر ألف ليرة سورية ، وهناك حذاء من إنتاجنا ، وهو جيد ، هنا تبدأ الأم بالتقليد الذي تفضلت به فتضغط على زوجها .
الدكتور راتب :
بل هي تضغط أكثر فأكثر .
الأستاذ علاء :
لتشتري لأولادها كما عند جيرانها أو أقرانها في المدرسة من تلك الماركة ، أو ذلك المصنع ، ماذا نقول ؟
الدكتور راتب :
النفقة بالموجود مع عدم تكلُّف المفقود :
سيدي ، هناك ملاحظة علمية : سجادة وطنية من الصوف ، ولها نقش جميل جداً ، ثمنها بالآلف ، وهناك سجادة ثمنها ثمانمئة ألف ، وهي أجمل ، الفرق في الجمال بالمئة عشرة ، أما الاستعمال فهما سواء ، والاستعمال واحد ، صوف عازل دافئ في الشتاء ، وفيها جمال ، لكن ليس كالسجادة التبريزية أو الحرير ، دائماً عندنا مستوى استعمال ومستوى جمال ، والفرق في السعر كبير جداً ، فقد يكون مئة ضعف ، أما الفرق في الاستعمال فقد يكون عشرة بالمئة ، وحينما أقنع مَن حولي أن هذه الأشياء بأسعار معقولة نعيش حياة سعيدة كلنا .
عندنا نفقات معالجة طبية ، ونفقات نزهات ، ونفقات ألبسة ، وحين أضع كل دخلي للمظاهر يكون عندي حمق ، وهذه كلمة قاسية ، لكنها كلمة حق ، فلابد من الإنفاق بمستوى دخلي :
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)﴾
هذه تحتاج إلى إقناع من قِبل الأب والأم ، ونحن لا نوازن نفسنا مع الآخرين .
على الأغنياء مراعاة مشاعر الفقراء و ظروفهم :
أنا أتمنى لأصحاب الدخل المفتوح غير المحدود ألاّ يفسدوا أبناء أصحاب الدخل المحدود في المدارس ، فإذا اشتريت فاكهة فأهدِ منها لجارك ، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده ، ولا تؤذه بقتار قِدرك إلا أن تغرف له منها .
أنا أعطي ابني خمسمئة ليرة في الروضة ، والفقير أخذ من أبيه خمسين ليرة ، هذا عمل أنا لا أراه منطقياً إطلاقاً ، أو أعطي ابني أكلات مستوردة القطعة ثمنها مئة ليرة ، بل أعطي ابني عشرين ليرة ليشتري قطعتي حلوى ، فالذي أسرف بإعطاء ابنه المدلل الذي لا يحتمل أعطاه هذا المبلغ الكبير قد أفسد به عشرات الطلاب الذين حوله .
عندنا موقف كامل من أصحاب الدخل غير المحدود ، أطعم ابنك ما تشاء في البيت ، اشتر له أي لعبة تشاء في البيت ، أما أن تجعله هو طفل صغير يغيظ أصدقاءه أن تجعله يملأ قلب أصدقائه حقداً وحسداً ، فهذا شيء غير معقول ، وبصراحة يجب أن تعطيه فاكهة مما يأكل منها كل الناس ، تفاحة ، أما فاكهة غالية جداً ، أو قطع حلويات غالية جداً ، ومعه خمسمئة ليرة فهذا طفل جاهل يريد أن يفتخر ، ويقول : معي خمسمئة ليرة ، يشتري أشياء غير معقولة .
كما أن الفقير عليه أن يعتدل بإنفاقه عليه أن يشتري الشيء المناسب بالوقت المناسب ، وعلى أصحاب الدخل غير المحدود أن ينتبهوا لهذه الناحية ، ولا تؤذه بقتار قدرك ، إلا أن تغرف له منها ، وإذا اشتريت فاكهة فأدخلها سراً ، هكذا كان السلف الصالح ، يضع بعضهم غطاء من قماشٍ فوق السلة ، والمفروض من المؤمن أن يكون عنده إحساس عالٍ جداً ولو كان غنيًّا .
واللهِ أقول لك أستاذ علاء : المؤمن الغني تشتهي الغنى منه ، وقد قيل : " العدل حسن ، لكن في الأمراء أحسن ، والسخاء حسن ، لكن في الأغنياء أحسن ، والورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والتوبة حسن ، لكن في الشباب أحسن ، والصبر حسن ، لكن في الفقراء أحسن ، والحياء حسن ، لكن في النساء أحسن " .
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة على كل ما قدم وشرح ، وإن شاء الله نتمم موضوعنا في حلقات قادمة .