وضع داكن
21-12-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - الندوة : 05 - تعريف الطاعة
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الأخلاق .
كنا قد بدأنا في رحلة من حلقات أربع مع الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، رحلة مطولة خلال أربع حلقات عن الأخلاق ، ومعنى الأخلاق ، ومعنى الخلق ، وتبينا دكتور من خلال هذه الحلقات الماضية بأن الأخلاق انضباط وعطاء ينضبط المعنى السلبي ، هو الكبح والمنع ، ثم الأخلاق هي دوافع للعطاء وللتقديم الخير .
ومررنا من خلال الحلقات الماضية عن الإنسان ، سر وجود الإنسان على الأرض ، كيف لازمه الخلق ، كيف الخلق يساعده في استقامة حياته ، يفتح له الطريق يحرك له كل طاقاته باتجاه البناء والإعمار .
مررنا في الحلقة الماضية عن الإنسان المخلوق الأول رتبة ، المكرم الذي سخر له ربه ما في السماوات وما في الأرض ، واليوم نحط معك الدكتور حول مسألة الإنسان المكلف ، ونستذكر الآية الكريمة حيث يقول الله تعالى : 

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

( سورة الأعراف الآية : 26 )

إذاً : كما يستر اللباس عورات الإنسان جسداً ، ومفاتن الإنسان جسداً ، هنالك التقوى ، يستر اعتوار الإنسان وزواياه الضعيفة ، يأتي الخلق ، التقوى العبادة بمفهومها بمؤداها لتستر اعوجاج الإنسان طريقاً وسلوكاً ، وممارسة وعملاً .
الآن نتوقف دكتور عند الإنسان المكلف بالعبادة ، نعرف العبادة للسادة المشاهدين .

التفكر في الكون من أرقى العبادات :

الدكتور :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، لا بد من مقدمة تسبق تعرف العبادة ، أنا حينما أدخل إلى جامعة ، وأطاع على المباني ، وعلى المخابر ، وقاعات التدريس ، والحدائق وبيوت الطلبة ، أستنبط استنباطات عديدة جداً ، أن وراء هذا البناء مهندسا ، ومصمما ، وله خبرة عريقة في الجامعات ، وفي حاجات الطالب الجامعي ، وله خبرة عريقة في طريقة إلقاء الدروس ، صممت القاعات على شكل مدرجات ، فيها عوازل ، وتكبير للصوت ، حينما أدقق في جامعة وفي أبنيتها ، وفي مرافقها ، وفي مخابرها ، وفي قاعات التدريس فيها أستنبط أشياء كثيرة جداً ، ها الاستنباط يكون عن طريق العقل ، لكن هل يمكن مهما كنت عبقرياً أن أعرف من هو رئيس الجامعة ، ومن هم عمداء الكليات ، وما نظام القبول ، وما نظام النجاح والرسوب لا بد من كتاب ؟
فالتفكر في خلق السماوات والأرض أرقى عبادة على الإطلاق ، لأنك بالكون تعرفه ، لكن لماذا خلقني ؟ ولماذا أوجدني ؟ ولماذا كلفني ؟ لا بد من أرجع إلى وحي السماء إذاً أنا أتفكر في الكون في أتعرف إلى عظمة الله ، إلى قدرته ، إلى علمه ، إلى رحمته ، إلى حكمته ، أما حينما أقرأ القرآن أعرف من خلاله لماذا خلقني ، وماذا يريد مني ، وما المنهج الذي ينبغي أن أسير عليه ، وما أسباب سلامتي ، وما أسباب سعادتي .

علّة خَلق الإنسان العبادة والطاعة :

إذاً القرآن الكريم يقول :

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

( سورة الذاريات )

أي أن علة وجود الإنسان على سطح الأرض أن يعبد الله ، تماماً لو سافر طالب إلى باريس ، وله هدف واحد لا ثاني له ، أن ينال الدكتوراه ، الهدف وحيد ، وواضح ، وجلي ، فلأن هذا الهدف واضح جداً فكل حركة وسكنة وهو في باريس متعلقة بهذا الهدف ، فيستأجر بيتا قريب من الجامعة ، ويصاحب الصديق متقن الفرنسية ، يشتري المجلة المتعلقة باختصاصه ، يأكل الطعام المناسب لدراسته .
إذاً : يقول الله عز وجل في القرآن الكريم : 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

هناك آلاف المقولات ، إما الشاردة أو التائهة ، أو المنحرفة ، ولكن الذي خلق هو وحده الذي ينبغي أن نتبع تعليماته ، هو يقول لنا : خلقتكم للعبادة ، والعبادة يعني الطاعة والطاعة يعني القرب ، والقرب يعني السعادة في الدنيا والآخرة . 

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ

( سورة هود الآية : 119 )

خلقنا ليرحمنا ، خلقنا ليسعدنا في الدنيا والآخرة ، ويأتي الشقاء من الجهل . 

لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ

( سورة الملك )

تعريف العبادة :

أما تعريف العبادة : هي طاعة طوعية ، ولم تكن العبادة طاعة قسرية ، طاعة طوعية ، لو أن الله أرادها قسرية لكان كذلك ، لكن هذه الطاعة القسرية لا ينتج عنها سعادة إطلاقاً .

لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً

( سورة الرعد الآية : 31 )

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ

( سورة يونس الآية : 99 )

ولكن أراد أن نأتيه طائعين ، بمبادرة منا ، باختيار منا ، بدافع الحب له ، أراد أن تكون العلاقة بينه وبين العباد علاقة محبوبية ، لذلك قال :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

العبادة طاعة طوعية ، ولم تكون قسرية ، الأقوياء قد يلزمون أتباعهم على الطاعة القسرية ، هذه لا ينتج عنها سعادة ، ولا تألق ، ولا نمو نفسي ـ هذه الطاعة بالقوة ـ لا قيمة لها إطلاقاً ، لذلك : 

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ

( سورة البقرة الآية : 256 )

الذي خلق الإنسان ، وبيده حياته ، موته ، ورزقه ، ما أجبره على أن يعبده .

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

الآن طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، فما عَبَد الله من أطاعه ولم يحبه ، وما عبد الله من أحبه ولم يطيعه .

تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك اعمري في المقال شنيع
لـو كان حبك صادقا لأطعته إن الـمحب لمن يحب يطيع
***

لذلك ابن القيم صاحب المقولة الشهيرة : " الإيمان هو الخلق " قال : " من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه ، ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه " ، فلابد من طاعة الله عز وجل ، الطاعة الطوعية ، الممزوجة بالمحبة القلبية .
في حلقة سابقة أستاذ علاء ـ جزاك الله خيراً ـ بينت أن الله سبحانه وتعالى سخر لنا ما في الكون تسخير تعريف وتكريم ، فكل شيء خلقه الله من أجل أن نعرفه من خلاله ، وذكرت قوله تعالى : 

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا

( سورة الطلاق الآية : 12 )

فعلة خلق السماوات والأرض أن نعرف الله ، فأعطانا الكون ، أعطانا الوجود ، أعطانا الإمداد ، أعطانا الإرشاد ، أعطانا الأسرة ، أعطانا الزوجة ، أعطانا الأولاد ، أعطانا البحار ، أعطانا الأسماك ، الأطيار ، كل شيء بالحياة ، فهذا العطاء يقتضي الشكر ، لذلك لمجرد أن تؤمن به ، وأن تشكره حققت الهدف من وجودك ، الهدف الأكبر ، وعندئذٍ تتوقف المعالجة . 

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ

( سورة النساء الآية : 147 )

إذاً هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .

جوانب العبادة : معرفي ـ سلوكي ـ جمالي :

هذا التعريف أستاذ علاء ـ جزاك الله خيراً ـ يقال عنه : جامع مانع ، فيه جانب معرفي ، وجانب سلوكي ، وجانب جمالي ، السلوكي هو الأصل ، يعني الدين كله بكل نشاطاته ، بكل اتجاهاته ، بكل تنوع طلب العلم فيه ، يجب أن يصب في خانة واحدة ، أن تستقيم على أمر الله ، وما لم تستقم على أمر الله فلن تقطف من ثمار الدين شيئاً ، يغدو ثقافة كأي مثقف آخر ، وما لم تستقم على أمر الله فلن تقطف من ثمار الدين شيئاً .
سُئل الإمام الغزالي رحمه الله تعالى عن إنسان حفظ كتاب الأم للشافعي ، كتاب مِن تسعة أجزاء ، كتاب حفظه شبه مستحيل ، وقد حفظه ، وابتسم ، وقال : " زادت نسخة " .
إذاً : هي طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، المعرفة هي السبب ، والسلوك هو الأصل ، والجمال هو الثمرة ، الإنسان عنده حال إلى الجمال ، لكن الجمال درجات ، إما أن تتعلق بجمال مادي فانٍ ، أو تتعلق بجمال مطلق ، جمال الله عز وجل ، لذلك :

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لــــــغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خـلعت عنك ثياب الــــعجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المـحبة ذرة عذرت الــــذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولـــــو نسمت من قربنا لك نسمة لـــمت غريباً واشتياقاً لقربنا
***

فكل إنسان عنده حاجة إلى الجمال ، الجمال الذي يفنى يعقبه كآبة كبيرة ، لأن هذه النعم المادية التي نحن فيها إما أن تفارقنا ، وإما أن نفارقها ، نفارقها بموت ، وتفارقنا بأن يفقد الإنسان حركته أحياناً ، أو سمعه ، أو يصره ، لذلك من أدعية النبي الرائعة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فَيَقُولُ :

(( اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي ، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ يَظْلِمُنِي ، وَخُذْ مِنْهُ بِثَأْرِي ))

[ الترمذي ]

لذلك أنا أرى أن من أبلغ تكريم الإنسان ، أن يجعل الله له نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة .

الدين استقامة :

إذاً : النقطة الدقيقة جداً أن الاستقامة هي مركز الثقل في الدين ، وما لم تستقم على أمر الله فلن تقطف شيئاً من ثمار الدين ، وعندئذٍ يغدو الدين ثقافة ليس غير ، هذا معه ثقافة حقوقية ، هذا ثقافة علمية ، هذا ثقافة طبية ، هذا ثقافة دينية ، لا تقدم ولا تؤخر ، الدين منهج ، الدين التزام ، الدين صدق ، الدين أمانة ، الدين عفة ، الدين رحمة ، الدين عفو الدين إنصاف ، هذا هو منهج هذا البرنامج .
المذيع :
دكتور مررت على محطة أشممتنا شيئاً ، ثم غدوت بنا إلى مكان آخر ، وهذه المحطة هي جميل أن يقف عند شجرتها الإنسان ، هي قضية المحبة ، المحبة التي تورث السلوك ، والطاعة ، وتحسس الإنسان بعلم الجمال ، حبذا لو نوسع في هذا الموضوع كما قال عمر بن الفارض :

على نفسه فليبك من ضاع عمره سدىً وليس له فيها نصيب ولا سهم
***

هذه الحالة التي شاعت بين كثير ، بين اتجاه ، بين مدرسة طويلة عند أهل التصوف ، عندما تلذذوا ، واستشعروا ذلك الحب ، وهذا الحب أثمر طاعة ، وأثمر تذوقاً لعلم الجمال كما تفضلت الجمال المطلق .

طعم المحبة في الطاعة :

الدكتور :
أستاذ علاء ، أنت حينما تأكل الفاكهة ، الاستمتاع بطعم الفاكهة لثوان معدودة في أثناء البلع ، هناك أعصاب حس في سقف الحلق ، ففي أثناء البلع تمس هذه اللقمة أعصاب الحس فتشعر بطعم التفاحة ، أو طعم الطعام النفيس ، أو طعم الطعام العادي ، ما هو شعور الجمال في حياتنا ؟
أنت تتصل بشيء جميل ، قد يكون منظر البحر جميلا ، أو منظر الجبل الأخضر مع البحر جميل ، أو عندك طفل جميل جداً ، كلما ألقيت النظر على هذه امتلأ صدرك راحة ، فإذاً : الإنسان يحب الجمال ، وبالمناسبة ويحب الكمال ، ويحب النوال ، هذه في فطرته ، الجمال كل شيء جميل يحبه ، والكمال الموقف الأخلاقي ، لو أنك لا علاقة لك به لكن تترنم به ، لذلك بذكر الصالحين تتعطر المجالس ، ولو أنك ذكرت إنساناً لئيماً قاسياً ظالماً في مجلس لتعكر المجلس كله .
وأنا أنصح إخوتنا الكرام إذا جلسوا في رمضان ، وبعد رمضان ، أن يتذاكروا قصص البطولات ، قصص الأبطال ، قصص الأخلاقيين ، هؤلاء تملأ قصصهم النفس الطمأنينة ، الإنسان يثق بالإنسان ، أما إذا كنت تستمع إلى قصص اللؤماء فشيء آخر ، ألم يقول سيدنا علي : << والله ، والله ، مرتين ، لحفر بئرين بإبرتين ، وكنس أرض الحجاز بريشتين ، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ـ هذه كلها مستحلات ـ أهون عليّ من كلب حاجة من لئيم لوفاء دين >> .
حينما تحب إنساناً أخلاقياً أنا أشبه ذلك بقطعة لحم طازجة مشوية ، وأنت جائع ، وأمامك قطعة لحم أخرى متفسخة ، رائحتها تجعلك تخرج من جلدك ، والقطعتان قطعتا لحم واحدة ، تنفر منها نفوراً لا حدود لها ، والثانية تتمنى أن تأكلها ، والإنسان كذلك إذا اتصل بالله عز وجل اشتق منه الكمال ، والرحمة ، والود ، واللطف ، والعطف ، والإنصاف ، والعدل ، والعفة ، أنا لا أؤمن بأخلاق حقيقية أصيلة إلا عن طريق الاتصال بالله عز وجل .
حينما تستمتع بمنظر جميل ، أو بأكلة طيبة ، وبوجه طفل بريء لا شك أن أشياء جميلة جداً أخذت من جمال الله مسحة ، أصل الجمال هو الله ، فكيف إذا اتصلت بمطلق الجمال ؟
المذيع :
إذا اتصلنا بانعكاسات الصور على المرآة .

أثر حب الله في المسلم :

الدكتور :
أحيانا تجلس في فندق ، وأمامك برٌّ أخضر ، وبحر ، لا ترتوي من هذا المنظر الجميل .
أحياناً تجد فاكهة لها شكل جميل جداً ، الفاكهة لها هدف جمالي ، غير تذوق طعمها ، الله عز وجل جميل يتجلى على بعض مخلوقاته بالجمال ، فأنت بحاجة إلى الجمال ، أما المؤمن عرف أصل الجمال ، والله حي باق على الدوام ، أما الذي يتعلق بجمال أرضي موقت فهذا عند الفراق يموت قبله .
لذلك أستاذ علاء ، إسلام من دون حُب جثة هامدة .
مرة خطر في بالي مثل : انظر إلى وردة مصنوعة من البلاستيك ، تضعها في البيت ، بعد أيام تملّ منها ، انظر إلى وردة حقيقية ، برائحتها الفواحة ، بألوانها المنسجمة ، بنعومتها ، بملمسها ، بتناسقها .
هناك فرق بين المسلم الذي يعرف الحب والي لا يعرف الحب ، فالثاني عبارة عن أفكار ومعلومات فقط ، قناعات ، أدلة ، هذا متصحر ، أو وردة بلاستيك ، تصور وردة حقيقية ، الآن الزنبق له رائحة فواحة عطرة تملأ البيت بهجة ، لذلك فرق كبير بين إنسان يحب الله والذي لا يحب .
أنا أقول لك بكلمة واضحة : الصحابة الكرام الذين فعلوا المعجزات ، لأنهم أحبوا الله بالحب ، الحب يفجر الطاقات ، الحب يصنع إنساناً بطلاً ، الحب يجعل الواحد كألف ، ومن دون حب يكون الألف كأف .
أستاذ علاء ، سيدنا الصديق جاءه رسالة من سيدنا خالد ، يطلب منه المدد ، لأنه كان يواجه جيشا من 300 ألف ، هو عنده 30 ألفا ، طلب منه خمسين ألفا مددا ، فانتظر حتى جاءه المدد ، رجل واحد ، اسمه القعقاع بن عمرو ، قال له : أين المدد يا قعقاع ؟ قال له : أنا المدد ، قال له : أنت ؟ قال له : أنا ، معه كتاب ، قرأ الكتاب ، يقول سيدنا أبو بكر : << فو الذي بعث محمد بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم >> ، إنه شيء مثل الخيال ، ويقسم بالله أن جيشاً فيه القعقاع بن عمر لا يهزم ، والواحد رجح كفة المعركة .
الإنسان بالحب يكون الواحد كألف ، وبل كمليون ، والمليون كأف ، هذه هي المشكلة ، فإذا أهملنا الحب ، أهملنا الاتصال بالله ، أهملنا الإخلاص ، أهملنا التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة بقي الإسلام ثقافة ، معلومات ، كتبا ، مراجع ، أشرطة ، أقراصا ، مؤتمرات ، أبنية فخمة ، أقواس إسلامية ، أخذنا من الدين شكله فقط ، والقلب فيه حسد ، وفيه غيبة ، وفيه نميمة ، وفيه بغضاء ، وفيه كبر ، وفيه استعلاء ، وفيه أنانية .

أقسام الدعاة إلى الله : داع إلى الله وداع إلى الذات :

لهذا أنا أقول دائماً : الدعاة إلى الله نوعان :

1 – سمات الداعية المخلص :

داعية مخلص ، من سماته الأساسية الاتباع لا الابتداع ، التعاون لا التنافس ، الاعتراف بالطرف الآخر ، والثناء عليه.

2 – سمات الداعية إلى الذات :

أما الداعية الذي يدعو إلى ذاته بدعوة مغلفة بدعوة إلى الله فهذا يبتدع ولا يتبع ، يتنافس ولا يتعاون ، هذا يلغي الطرف الآخر .
حينما تحب الله تحب عباده ، تحب المؤمنين جميعاً ، وأنا أقول كلمة دقيقة جداً : لا يمكن أن يعد الإنسان عند الله مؤمناً ما لم يكن انتماءه لمجموع المؤمنين ، هذا الانتماء لفقاعات صغيرة في الإسلام ، هذه الانتماءات الصغيرة تفرق المسلمين ، أما فأنا أنتمي لمجموع المؤمنين في الأرض ، هذا المؤمن أخي ، أما حينما أدخل في حظوظ ، ومصالح ، وأهواء ، طبعاً أتنافس ، فالإخلاص يورث التعاون . 

الإنسان بين الطبع والتكليف :

بالمناسبة ، هناك قضية دقيقة جداً ، الإنسان له طبع ومعه تكليف ، مثلاً : طبعه أن يخلد إلى النوم ، والتكليف أن يستيقظ ، طبعه أن يملأ عينه من محاسن المرأة ، والتكليف أن يغض البصر ، طبعه أن يأخذ المال ، والتكليف أن ينفقه ، طبعه يقتضي أن يخوض في فضائح الناس ، والتكليف أن يكف لسانه ، يبدو من هذه المفارقات أن التكليف ذو كلفة مجهد ، لأنه يتناقض مع الطبع ، أما التكليف فيتوافق مع الفطرة ، فحينما تستيقظ إلى صلاة الفجر ترتاح نفسك ، وحينما تستر إنساناً ، وتصمت ، ولا تتكلم في مشكلته تشعر أنك إنسان كبير ، حفظت سره ، وحينما تنفق المال ، والمال محبب للنفس هذا الإنفاق يجعلك تتألق . 

التطبع فردي والتكليف جماعي :

الآن تمهيد لفكرة : التطبع فردي ، والتكليف جماعي ، فإذا عاد الإنسان إلى طبعه يحب أن يعيش وحده ، وأن يبني مجده على أنقاض الآخرين ، ويبني حياته على موتهم ، وأن يبني أمنه على خوفهم ، وعزه على ذلهم ، وغناه على فقرهم ، أما حينما تتصل بالله عز وجل تقوي الجانب العبادي ، وهو التعاون ، قال الله تعالى : 

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ 

( سورة المائدة الآية : 2 )

أنا أقيس الإنسان ، أقيس إخلاصه بتعاونه ، وأقيس عدم إخلاصه بتفلته من التعاون ، وفرديته المقيتة .
نحن الآن بحاجة إلى تعاون ، وهذا يعبر عنه أحيان بالوحدة الوطنية ، لأن الطرف وضعنا في سلة واحدة جميعاً ، إذا ينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد .
المذيع :
إذاً دكتور ، من خلال ما تقدمت من الحديث التكليف هو ضوابط وكوابح الطبع ، والتكليف عودة بالإنسان الذي يحمل طبائع إلى الفطرة السليمة ، لأن الحاجز بين الفطرة وأن نمارس هذه الفطرة الإنسان في حياته ، الطبع الذي يقف حاجزاً بين فطرته ، وبين ما هو مطلوب منه أن يكون عليه ، لذلك جاء التكليف ليكبح ، أو ليقلل هذا الحاجز الذي يكمن بين الفطرة وبين الإنسان .

بين السعادة واللذة :

الدكتور :
أريد أن أقول كلمة أستاذ علاء ، وأنا لا أبالغ إطلاقاً ، ما لم تقل : أنا أسعد الناس جميعاً ، أسعد من كل الناس إلا أن يكون أحد أتقى مني فأنت لم تذق طعم الإيمان ، لأن الإيمان قرب من الله ، الكمال كله عند الله ، والقوة كلها عند الله ، والعدل كله عند الله ، عز وجل ، فحينما تتصل بالله الاتصال الحقيقي الذي أراده الله فأنت أسعد الناس ، فالسعادة لا تنبع من الخارج تأتي من الداخل .

خصائص السعادة واللذة وشروط وجودهما :

بالمناسبة هذا موضوع دقيق جداً ، اللذائذ تأتي من الخارج ، أنت تحتاج إلى مال ، تحتاج إلى وقت ، تحتاج إلى صحة ، ولحكمة بالغةٍ بالغة أن هذه الشروط الثلاثة للذة غير متوافرة معا ، دائماً هناك واحدة ناقصة .
الإنسان في بداية حياته صحته جيدة ، ومعه وقت فراغ ، لكن ليس معه مال ، والمال مادة الشهوات ، وفي منتصف حياته أسس عملا فوق عمله ، الصحة موجودة ، والمال موجود ، لكن ليس لديه وقت ، وفي خريف العمر صار عنده وقت ، و مال ، لكن ليس عنده صحة ، فاللذائذ تحتاج إلى مال ، وإلى صحة ، وإلى وقت .
أما السعادة فلا تأتي من الخارج ، وإنما تنبع من الداخل ، اللذة تحتاج إلى إنسان ، إلى مال ، إلى مركبة ، إلى بيت جميل ، إلى مكانة ، أما السعادة فتأتي من الداخل .
لذلك قال أحد العارفين بالله : " والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف " .

خاتمة وتوديع :

لا يسعني أعزائي المشاهدين إلا أن أشكرك الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، نتابع الموضوع موضوع العبادة بعد أن عرفناها ، ولنتبين إن شاء الله في الحلقة القادمة الفرق بين العابد والعالم ، وبين العبادات المرتبطة بالظرف ، المرطبة بالمناخ ، المقدمة على غيرها حسب الأحوال ، وحسب الموضوع .
شكراً دكتور راتب ، وإلى اللقاء إن شاء الله يوم الاثنين القادم في الثانية ظهراً شكراً جزيلاً. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور