- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في أول حلقة من هذا البرنامج الذي يأتيكم إن شاء الله بمثل هذا الموعد من كل أسبوع ، هذا البرنامج الذي تحت عنوان : " الإيمان هو الخلق " ، وهذا العنوان أخذ من قول شهير لإمام وعالم كبير هو ابن القيم الجوزية .
الإمام ابن القيم عندما قال : " الإيمان هو الخلق " كان يختصر معاني كثيرة ، وكان له مرامي من وراء هذا العنوان ، والأخلاق هي التي تضبط إيقاع المرء في حياته ، وتضبط سلوكه في حياته ، وهي التي تثمر الخير ، وتثمر الاستقامة ، الأخلاق والخلق العظيم هو أفضل ما مدح به ربنا عز وجل نبيه الكريم حيث قال :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
لن أطيل ، سيكون هذا البرنامج في رحلة مديدة مع أستاذنا البحاثة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، لنبحث في هذا العنوان إن شاء الله تعالى ، وفي طياته ، وفي مراميه ، وفي مآله ، وكيف تكون الأخلاق ضوابط ومنابع ودوافع للخير ، واستقامة حياة الإنسان في أسرته ، في مجتمعه ، في وطنه ، ليكون فاعلاً ، ليكون بانياً .
أستاذنا الدكتور راتب ، قبل كل شيء هذا العنوان أُخذ من أن اخترته حضرتك من قول ابن القيم الجوزية ، نبدأ بالتعريف ، الخلق تعريفاً .
مقدمة مهمة : دوافع الإنسان في الحياة : الوجود ـ النوع البشري ـ التفوّق :
الدكتور راتب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، الإنسان كائن متحرك ، لماذا يتحرك ؟ لأن هناك دوافع عديدة ، من أبرزها أودع الله فيه رغبة في أن يأكل ويشرب ، وأودع الله فيه رغبة أن يتزوج ، وأودع فيه رغبة ثالثة أن يكون متفوقاً ، فالدافع الأول حفاظاً على الوجود ، على وجوده ، و الدافع الثاني حفاظاً على النوع البشري ، و الدافع الثالث حفاظاً على الذكر سماه العلماء تأكيد الذات ، فالإنسان بدافع الطعام والشراب ، وبدافع الزواج ، وبدافع التفوق هو مقرور في أن يتحرك ، و لولا هذه الدوافع لما وجدت شيئاً على وجه الأرض ، كل هذا الذي تراه من معامل ، من مؤسسات ، من طرق ، من جسور ، من جامعات ، تعود إلى هذه الدوافع الثلاثة ، وهذه الدوافع حيادية .
إذاً : أستخلص من هذه المقدمة أن الإنسان له حركة في الحياة ، مِن هذه الحركة الخُلق ، لابد من مثل :
لو أن إنساناً سافر إلى بلد ، وليكن باريس ، ونزل في أحد الفنادق ، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وسأل سؤالاً عجيباً غريباً فقال : إلى أين أذهب ؟ نسأله نحن : لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن جئت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن جئت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات ، وإن جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، ماذا نستنبط ؟ أن حركة الإنسان في مكان ما لا تصح ، ولا تثمر إلا إذا عرف سر وجوده ، وغاية وجوده .
أستاذ علاء ، أجري بحث علمي فوجد أن ثلاثة بالمئة فقط من البشر يعرفون أهدافهم ، فإما أن ترسم لك هدفاً واضحاً ، وإما أن تكون رقماً لا معنى له في خطة الطرف الآخر ، إما أن تخطط ، أو أن يُخطط لك ، فهذا الإنسان الذي ذهب إلى باريس إذا كان هدفه واضحا جداً ، نيل الدكتوراه مثلا ، الآن مليون جزئية من تصرفاته اليومية متعلقة بهذا الهدف ، مثلاً : يستأجر بيتاً قريباً من الجامعة توفيراً للوقت والجهد والمال ، يصاحب صديقاً يتقن اللغة الفرنسية ليتعلم منه ، يشتري مجلة متعلقة باختصاصه ، يأكل طعاماً يعينه على الدراسة ، حينما يتضح الهدف كل جزئيات الحياة ، أو حركة الإنسان في الحياة مرتبطة بهذا الهدف .
الأستاذ علاء :
إذاً دكتور ، ساحته الحيوية التي يتحرك فيها هي مقيدة بالهدف .
صحة الحركة ثمن السلامة والسعادة :
الدكتور راتب :
إذاً : إن صحت حركةُ الإنسان سلم وسعد ، ولو شققنا على صدر ستة آلاف مليون من بني البشر لما وجدت عندهم إلا طلب السلامة والسعادة بمفهومهم طبعاً ، إذاً : من أين يأتي الشقاء ؟ من الجهل ، الجهل أعدى أعداء الإنسان ، لذلك الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإن أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، حتى إن أزمة أهل النار و هم في النار هي العلم ، الدليل :
لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ
فلذلك حينما يعرف الإنسان سر وجوده ، وغاية وجوده تصح حركته ، فإن صحت سلم وسعد ، وهذا مطلب بشري ، مطلب إنساني ، ولا يأتي الشقاء إلا من الجهل ، ذلك أن في الإنسان حاجات عليا ، وفيه حاجات دنيا .
الحاجات الدنيا نحن وبقية المخلوقات فيها سواء ، لكن الحاجات العليا هي التي ميز الله بها الإنسان .
الأستاذ علاء :
من هنا أتى التكليف ؟
عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ
الدكتور راتب :
نعم :
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
هناك سؤال يتبادر إلى الذهن : أيعقل في المنطق أن يُعَلَّم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق ؟ أجاب بعض العلماء : هذا الترتيب ليس ترتيباً زمنياً ، بل هو ترتيب رتبي ، بمعنى أن وجود الإنسان في الدنيا لا معنى له من دون منهج يسير عليه .
سأضرب مثلاً : لو أتينا بجهاز ثمنه خمسين مليوناً لتحليل الدم آلياً ، ولم يأتنا مع الجهاز تعليمات الصانع ، إن استخدمناه من دون تعليمات أتلفناه ، وإن لم نستخدمه جمدنا ثمنه ، أليست التعليمات أهم من الآلة ؟
أستاذ علاء ، الإنسان مفطور على حب ذاته ، على حب وجوده ، و على حب سلامة وجوده ، وعلى حب كمال وجوده ، وعلى حب استمرار وجوده ، وهذا لا يتحقق إلا إذا اتبع تعليمات الجهة الصانعة ، لأن الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها ، لا لأنك تعظمها هي عظيمة جداً ، ولا لأنك تحبها هي محسنة جداً ، و لكن لأنك تحب ذاتك ، وانطلاقاً من محبة الإنسان لذاته ، وحفاظاً على وجوده ، وسلامة وجوده ، واستمرار وجوده ، وكمال وجوده يتبع تعليمات الصانع ، قال تعالى :
وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
هذه نقطة ، إذاً لا تصح حركتي في الحياة إلا إذا عرفت سر وجودي ، وغاية وجودي .
متى يَسعَد الإنسان ؟
الآن متى أسعد ؟ لو أن طالباً على مشارف امتحان مصيري ، امتحان التخرج ، وعنده أصعب المواد بعد يومين ، وجاء أصدقاؤه الذين يحبهم ، وأخذوه إلى مكان جميل ، واستمتع بالمناظر الرائعة ، وأكل أطيب الطعام يشعر بانقباض لا حدود له ، لماذا ؟ هو في مكان جميل ، والطعام طيب ، وهؤلاء الذين حوله يحبهم ، لأن هذه الحركة لا تتناسب مع غايته ، فلو جلس في غرفة قميئة ، وقرأ الكتاب المقرر ، واستوعبه لشعر براحة ما بعدها راحة .
إذاً : يسعد الإنسان إذا جاءت حركته مرتبطة بهدفه .
أستاذ علاء ، التاجر الآن إذا لم يوجد بيع وشراء بمكتبه الكولا والقهوة والشاي والصحف والمجلات يشعر بألم لا حدود له ، أما إذا كان الموسم جيدا ، ونسي أن يأكل ، وبقي واقفاً عشر ساعات هو في قمة السعادة .
تصح حركةُ الإنسان في الحياة إذا عرف سر وجوده ، ويسعد إذا جاءت هذه الحركة مطابقة لهدفه ، فالخلق هو الانضباط و العطاء .
الأستاذ علاء :
أي الانضباط والعطاء كوابح و دوافع .
الخُلق هو انضباط وعطاء وكوابح و دوافع :
الدكتور راتب :
أول كلمة سلبية : المؤمن لا يكذب ، يقول لك : لا أكذب ، لا أقترف المعصية ، لا آكل مال غيري ، لا أعتدي على عرض غيري ، كله لاءات ، أما العطاء فإيجابيات ، يعطي من وقته ، من ماله ، من خبرته ، من اهتمامه ، من كل شيء منحه الله إياه ، فإذا أردنا أن نضغط الخلق كله بكلمتين فهو الانضباط ، وطابعه سلبي ، والعطاء وطابعه إيجابي .
الأستاذ علاء :
دكتور راتب ، من خلال هذا التعريف ، وهذه المقدمة الجميلة التي مشيت بنا في مسيرتها نقلة نقلة مع الأمثلة لتوصلنا إلى الغاية في التعريف ، انضباط وعطاء ، الأول كوابح سلبي ، والثاني إيجابي ، هو لا يفعل ، لا كذا ، لا كذا ، لأنه يتمتع بالأخلاق ، لكن الأخلاق في طرفها الآخر هي دوافع ، وحوامل نحو العطاء والخير ، والتقدم نحو الآخرين في مد يد العون والمساعدة .
الآن هذا الانضباط والعطاء ، وهذا التعريف الذي أخذناه للبرنامج هل له صلة في القرآن والسنة وعند العلماء ؟
صلة الأخلاق بالعبادات الأخرى :
الدكتور راتب :
طبعاً ، أولاً أُخذ عنوان هذا البرنامج من قول لعالم كبير جداً لعل معظم العلماء في عصر النهضة كانوا عالة على إنتاجه ، هو ابن قيم الجوزية رحمه الله ، يقول : " الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان " .
فعنوان هذا البرنامج أخذ من قول لأكبر علماء المسلمين الذين تعد مؤلفاتهم مرجعاً كبيراً لكل الدعاة إلى الله .
الأستاذ علاء :
أنا لا أقطع التسلسل ، دكتور راتب ، إذاً " " من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان " ، نحن تصور الناس بشكل عام أن الزيادة ومقياس الزيادة هي العبادة ، أن شخصاً أكثر من الآخر عبادة ، أكثر من الآخر تهجداً ، أكثر من الآخر تمسكاً بأوقات الصلاة ، هذا التمايز ، لكن من خلال كلام ابن القيم لاحظنا بأن الأخلاق هي مقياس الزيادة بكل معنى الكلمة .
الدكتور راتب :
سأقدم لك الدليل ، العبادات خمسة :
1 – الشهادتان :
نبدأ بالنطق بالشهادة ، يقول عليه الصلاة و السلام :
(( من قال : لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ))
إذاً : كلمة الإسلام الأولى التي بها تدخل إلى الإسلام لا تصح ، ولا تقبل إلا إذا كانت ثمرتها الابتعاد عن كل معصية .
2 – الصلاة :
الصلاة التي هي الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال ، التي هي عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))
الأستاذ علاء :
مِن هنا يؤكد حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
(( مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ))
الدكتور راتب :
لأن الله قال :
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
أستاذ علاء ، في الأديان الوضعية طقوس هي حركات وسكنات ، وتمتمات وإيماءات ، و إيحاءات لا معنى لها ، وليست منطقية ، لكن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أشار إلى أن العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق .
كلام رب العالمين :
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
فهذا الحديث ربط الصلاة بالاستقامة .
حديث آخر ، عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ـ شيء عجيب ، أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً ـ قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا ، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
سقطت عبادتهم .
الأستاذ علاء :
إذاً : العبادة لم تحجبهم أبداً عن المحارم ، وعن الأذى ، فبالتالي سقطت ، وذهبت هباء منثوراً .
الدكتور راتب :
هذه أكبر فرض عبادي ، عماد الدين ، هذه الصلاة تسقط ، طبعاً أنا ماذا أقول ؟ أنا أقول كلاماً رائعاً : يجب أن تصلي ، لأنها فرض ، ويجب أن يسبق الصلاة استقامة كي تقطف ثمارها ، ولن تقطف ثمار الصلاة إن لم يسبقها استقامة .
3 – الحجُّ :
من حجّ بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، ينادى : أن لا لبيك ، ولا سعديك ، وحجك مردود عليك .
إذاً : الحج إن لم ترافقه توبة واستقامة لا يقبل .
4 – الصيام :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))
رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش .
5 – الزكاة :
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ
الأستاذ علاء :
هذا الكلام سيدنا يقودنا إلى قضية هامة ، أن كل هذه العبادات مرتبطة بمؤدى تصبّ في خانة الأخلاق .
لا تصح العبادات الشعائرية إلا بصحة العبادات التعاملية :
الدكتور راتب :
هذا الكلام يترتب عليه أن العبادات الشعائرية لا تقبل ، ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية .
قال أحد العلماء : لَتَرْكُ دانق من حرام ـ والدانق سدس الدرهم ـ خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( والله ، لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر ، واعتكافه في مسجدي هذا ))
شيء لا بكاد يصدق ، لذلك العبادة لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادات التعاملية .
أستاذ علاء ، أنا مضطر لمثل آخر : نحن عندنا عام دراسي فيه تسعة أشهر ، فيه دوام ، وانتباه للمعلم ، وكتابة وظائف ، ومراجعة الدروس ، هذا النشاط كله أهمله الطالب ، فلم يداوم ، ولم ينتبه للمدرس ، ولا كتب وظائفه ، ولا ذاكر ، جاء يوم الامتحان ومعه ستة أقلام في جيبه ، معه مشروبات ساخنة حتى ينتعش ، معه أسبرين ، وكل أموره المادية ميسرة ، لكن ماذا يكتب ؟ ما قيمة هذا الامتحان من دون دراسة ، ثلاث ساعات الامتحان هي العبادة الشعائرية ، والعام الدراسي هي العبادة التعاملية ، فإذا لم يكن هناك دوام ، و لا انتباه للمدرس ، و لا كتابة وظائف ، ولا مذاكرة للدروس فهذه العبادة الشعائرية لا ينتفع منها إطلاقاً ، ماذا يكتب ؟ مع أن كل وسائل الكتابة معه .
الأستاذ علاء :
فيزيائياً حضر إلى مكان الامتحان ، وجاء بمساعدات الخدمة ، ومساعدات الكتابة .
الدكتور راتب :
لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ ))
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))
السيدة الأولى السيدة عائشة قالت عن أختها صفية إنها قصيرة ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ :
مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا ، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ، قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ ، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا ، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً ، فَقَالَ : لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ))
لذلك من عدّ كلامه من عمله نجا ، الإنسان يتكلم بكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً .
قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، فالإسلام انضباط ، الإسلام عطاء ، الإسلام أخلاق ، هذه حقيقة دقيقة جداً .
نستنبط من هذا الذي ذكرته أن العبادات الشعائرية هي فرائض لابد من أن تؤدى ، لكن لا يمكن أن نقطف ثمارها ، أو نؤجر عليها ما لم تسبقها استقامة في العبادة التعاملية ، هذا الذي جاء به الإسلام ، و أنا أقول دائماً والله ، وأقسم : لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه نحن لما خرج من مكة المكرمة ، أما أن يصل إلى الصين شرقاً ، و إلى مشارف باريس غرباً فبهذا بالخلق .
لكن لابد من وقفة دقيقة ، قد نجد إنساناً متفلتاً من العبادات وله أخلاق .
الأستاذ علاء :
سيدنا ، هل الأخلاق مرتبطة بالدين والتدين ، أم هنالك أخلاق تأتي من غير متدين ، ومن غير متمسك ؟
هل نجد الأخلاق عند غير المستقيين ؟
1 ـ أخلاق العبادات :
الدكتور راتب :
الجواب : نعم ، ولا ، في نفس الوقت ، سأشرح لك ، حينما يعرف الإنسان الله ، وحينما يعرف سر وجوده ، وحينما يعرف غاية وجوده ، وحينما يتجه إلى الله متصلاً به يشتق منه الخلق الحسن ، لأن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، فمِن المستحيل أن تتصل بالرحيم ولا تَرحم ، ومستحيل أن تتصل بالعدل ولا تنصف ، ومستحيل أن تتصل بالعفو ولا تعفو ، هذه الأخلاق الأصيلة التي لا تتأثر لا بإقبال الدنيا ولا بإدبارها ، ولا بفقر و لا بغنى ، هذه أخلاق الدين ، أخلاق العبادات ، أخلاق الاتصال بالله ، أخلاق السمو النفسي .
2 ـ أخلاق المصالح :
لكن الإنسان قد يكون ذكياً جداً يكتشف أنه إذا كان صادقاً نجح في الحياة ، وإذا كان منصفاً أحبه من حوله ، وإذا كان عفواً علا عن مرتبة الانتقام ، فبدافع من حبه للنجاح في الدنيا فقط ، بدافع من حبه لنفسه ، من حبه لإكثار ماله ، من حبه لنجاح شركته ، للأنانية يستقيم ، و يصدق ، ويعفو فيرقى في الدنيا .
الآن أقدم لك مثلاً : لو أتينا بمؤسسة كبيرة ، وعلى رأسها مدير ملحد بوجود الله ، لكنه ذكي جداً ، يصدق ، و نصف ، ويعفو ، ويرحم يتألق ، تزداد أرباحه ، يلتئم حوله العمال ، لكن هذا الإنسان أراد من هذا الخُلق مصالحه في الدنيا ، وماله في الآخرة من خلاّق ، لو راقبناه ، وراقبنا إنساناً مدير عام آخر مؤمنا إيمانا بالله ، وأخلاقه عبادية ، وليست مصلحية لدهشنا أن النتائج واحدة .
3 ـ أوجه الاتفاق والاختلاف بين أخلاق العبادة وأخلاق المصالح :
يلتقي العمل العبادي مع العمل الذكي في النتائج ، ويختلف عنه في البواعث ، هذا أراد الدنيا فنالها ، الله عز وجل عدلٌ ، هذه الدنيا لمن يدفع ثمنها ، أنا حينما آخذ أسباب الدنيا أتملكها ، ولو كنت غير مؤمن بالله ،وهذا الذي نشاهده نحن أحياناً ، إذا أخذت بأسباب الدنيا تتملكها ، ولو لم تكن مؤمناً بالله ، وقد قيل : " الدنيا تصلح بالكفر والعدل ، ولا تصلح بالظلم والإيمان " ، وهذا كلام خطير ، هذه الدنيا الذي يدفع ثمنها ينالها مؤمن وغير مؤمن ، أما الآخرة فلا تصلح إلا بالإيمان والاستقامة .
أخلاق المصالح تجري مع المصالح وجودًا وعدَمًا :
إذاً : هذا قادنا إلى أن هناك خلقاً أساسه الذكاء ، لذلك المجتمعات المتقدمة جداً حينما تمس مصالحها تنقلب إلى مجتمعات متوحشة ، إعجاب أهل الأرض بجهة قوية جداً طرحت قيماً رائعة جداً ، والحقيقة أن هناك إعجابا كبيرا ، لكن بعد أن ضُربت مصالحها فعلت الأفاعيل ، فأنا أقول دائماً : كان الغرب قيمة حضارية كبيرة ، لكن بعد حين سقط كحضارة ، وبقي كقوة غاشمة .
أخلاق المؤمن ثابتة لا تغيرها الطوارئ :
أما أخلاق المؤمن فأخلاق أصيلة لا تتبدل لا بالمصالح إن تحققت ولا إذا لم تتحقق ، ولا تتبدَّل بالاستفزاز .
صلاح الدين الأيوبي لما فتح القدس ، حينما احتلت من قبل الإفرنجة ذبحوا سبعين ألفاً في يومين ، أما صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله تعالى ـ فلم يسفك قطرة دم ، لأن الإيمان قيد الفتك ، ولا يفتك مؤمن .
أنا أؤمن أن الذي يلجمني أن أفعل وفق هواي هو خوفي من الله ، أنا لا أصدق أشياء أخرى ، إن أردت أن تكون أخلاقياً تنفعك هذه الأخلاقية في الدنيا والآخرة فاختر أخلاق التدين ، أخلاق العبادة ، أخلاق الاتصال بالله ، أما إن أردت أن تكون أخلاقياً لتحقيق المصالح فهذا الشيء يحتاج إلى ذكاء .
إنّ الإنسان الذكي ينتزع إعجاب الآخرين ، وينجح في حياته ، وله الدنيا ، لكن الله عز وجل قال :
وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
خاتمة وتوديع :
الأستاذ علاء :
الحقيقة الوقت أدركنا في هذه الحلقة الأولى التي نمهد فيها لبرنامجنا الأسبوعي إن شاء الله ، وهناك الكثير من التمهيد لهذا البرنامج لم نمر عليه ، الحلقة القادمة إن شاء الله سوف نتبين النقاط التي لم نمر عليها ، ونشكرك جزيل الشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة دمشق ، وشكراً للسادة المشاهدين الذين تابعونا ، و ندعوهم لمتابعتنا في كل أسبوع في مثل الموعد الذي بثّ فيه هذا البرنامج ، ونعدكم أن نكمل التمهيد في الحلقة القادمة قبل أن نبدأ بموضوعات برنامجنا الإيمان هو الخلق ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .