- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، الذي يأتيكم ظهيرة كل اثنين بمشيئة الله عبر الفضائية السورية ، وكنا قد بسطنا لهذا البرنامج في حلقتين متتاليتين ، وفي نفس هذا الموعد مع أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
أهلاً وسهلاً بكم أستاذنا .
تذكير بالسابق وربط باللاحق :
الحقيقة أنك قد بسطت في الحلقتين عن مسألة تغيب عن الكثير منا ، عندما شرحت كلام ابن قيم الجوزية : " الإيمان هو الخلق " ، واخترت لهذا البرنامج هذا العنوان مقتبساً من ابن القيم في قوله ، وتبينا في الحلقتين الماضيتين بأن ميزان التفاضل بين الناس إيماناً من خلال الخلق ، فمن زاد على أخيه في خلقه زاد عليه في الإيمان ، وتبينا في تعريف الخلق والأخلاق بأنها انضباط وعطاء ، الانضباط هو الكابح المعنى السلبي ، العطاء هو المعنى الإيجابي ، الدفع نحو البذل والخير والجود والكرم ، أما الانضباط فلا أؤذي ، فلا أشتم ، فلا أتناول أحداً في مكروه ، إذاً كبح أو منع ثم عطاء ، هذا هو التعريف الذي وصلنا إليه من خلال بسطتم في الحلقتين الماضيتين ، وتبينا أن العبادة طاقة وطاعة ، وأن العبادة توصل إلى مراتب علية ، وأن العبادة إن لم ترطبت بأهدافها فتذهب هباء منثورا ، ولا يستفيد منها من قام بالطاعة ، رغم أن الطاعة يجب أن يؤديها ، ولكن لا يقطف ثمارها .
جئت بمثال أستاذنا ، كمَن يدخل الامتحان ولم يحضر دروسه ، ولم يحضر لمواده ، ولم يداوم ... وجاء إلى الامتحان ، وقد وضع مجموعة من الأقلام الصفراء والخضراء ، وأتى بكل عُدده المساعدة ليتقدم إلى الامتحان هو حضر ، أدى الشكل ، لكنه لم يجِب عن أي سؤال ، ولم ينجح .
وصلنا إلى مسألة هامة جداً عندما امتدح الله عز وجل خاتم أنبياء بمديح ، هذا المديح يعتبر ثناء ، ويعتبر وساماً ربما تفرد به النبي عليه الصلاة والسلام عن بقية الأنبياء والرسل ، وقال :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
توقفنا في الحلقة الماضية عند هذا المحض ، كيف نفسح فيه ، وسننتقل منه إلى مفاصل أخرى .
ثناء الله على أخلاق النبي عليه الصلاة ة والسلام :
الدكتور :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاء الله خيراً ، الله عز وجل منح نبيه الكريم خصائص كثيرة لا تعد ولا تحصى ، منحه الوحي ، منحه المعجزات ، منحه الفصاحة ، منحه البيان ، منحه التأييد ، منحه الجمال ، منحه أشاء كثيرة ، لكن الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما أثنى عليه لم يثنِ عليه لكل هذا الذي منحه إياه ، بل أثنى عليه لخلقه العظيم .
سأوضح المعنى بمثل : لو أنك قدّمت لابنك مركبة ، هل يعقل أن تقيم حفلا تكريميا له لأنك قدمت له هذه المركبة ؟ لا معنى لهذا الحفل ، لكن إذا نال الدرجة الأولى في الثانوية تقيم له حفلا تكريميا ، لأن التفوق من كسبه ، ومن اجتهاده .
1 – الخُلُق جُهدٌ بَشريٌّ :
فالخُلق جهد بشري ، عملية ضبط ، الخلق عطاء ، الخُلق أن تخرج من ذاتك ، الخلق أن ترحم من حولك ، الخلق أن تكون قدوة لهم .
2 – تزويد الله نبيَّه بأدوات الدعوة :
إن الله عز وجل أعطى نبيه الكريم أدواة الدعوة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))
أعطاه فصاحة اللسان ، أعطاه ذاكرة تفوق حد الخيال .
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى
أعطاه المعجزات ، أعطاه الوحي ، أعطاه القرآن ، عرج به إلى السماء ، إلى سدرة المنتهى ، ولم يذكر الله هذه العطاءات لأنها من الله عز وجل ، وقد تلقاها بفعل أنه هيأه الله ليكون الداعية الأول في العالم .
3 – وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ :
لكن حينما أثنى عليه ، أنثنى على خلقه :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
أما نحن فقد نجد أحدنا ذا خلق ، ولكن لا كما وصف النبي :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( على ) تفيد الاستعلاء .
أنا أحياناً أُستفز ، أدخل في صراع مع نفسي ، أنتقم لا أنتقم ، فإذا انتقمت ما النتيجة ؟ قد أنتصر في النهاية على نفسي ، فإذا انتصرت على نفسي فأنا ذو خلق ، لكن لا على خلق عظيم ، مع أنه متمكن إلى درجة أنه لا يدخل في الصراع ليكون أخلاقياً متمكنا من أخلاقه لدرجة كأنه في قمة جبل ، لكن نحن على الساحل ، قد تأتي موجة فتأخذنا إلى البحر ، فنحاول أن نتفلت منها ، نحن في صراع ، وقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق في قمة جبل .
تقريباً : إذا كان هناك ميزان ، في الكفة الأولى شهوات الإنسان ، وحاجاته وغرائزه ، وفي الكفة الثانية قناعاته ، لو تصورنا أن شهواته بوزن خمسة كيلو ، وكلما سمع درسا ، أو سمع محاضرة ، يوضع في الكفة الثانية خمسة غرامات أو عشرة غرامات ، مادامت الشهوات والحاجات والميول والغرائز لها ثِقل كبير فهو مع المعصية والإثم والتفلت ، إلى أن تصبح الكفة الثانية فيها قناعات بوزن شهواته ، هنا دخل في الصراع ، أذهب لا أذهب ، أنتقم لا أنتقم ، أخالف لا أخالف ، أما إذا أصبحت القناعات مئات الكيلو غرامات والشهوات خمسة كيلو دخل في الأعماق ، لذلك قال تعالى :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
فأَقلُّ إغراء يأخذه إلى المعصية ، أو أقلّ ضغط ، أما المؤمن إذا كان في الأعماق فلا تثنيه عن هدفه لا سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة ، هذا هو الثبات ، أحدُ أحد ، كما قال سيدنا بلال .
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
الأنبياء قِمم البشر :
إذاً :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
شيء رائع جداً ومتمكن ، هو ليس في صراع في الأعماق ، بل هو في قمم الجبال ، لذلك الأنبياء قمم البشر ، ولا ينبغي أن نقبل قصة وردت في بعض التفاسير من الإسرائيليات تأخذ من مكانتهم ، أو تأخذ من كمالهم ، هم قمم البشر ، وقدوة لبني البشر ، ونبينا عليه الصلاة والسلام على رأس هؤلاء القمم من البشر .
المذيع :
أستاذنا ذكرت ما قاله تعالى :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
كأكبر وسام وضع على هامة النبي عليه الصلاة والسلام ، نأتي إلى ما قبل ذلك بقليل ، عند بداية الوحي ، وعند نزول الوحي ، ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحنث في الغار ، وجاء وقال :
(( دثِّروني دَثِّروني ))
وموقف السيدة خديجة أم المؤمنين في حوارها مع النبي في تثبيته ، لأنه شيء جديد نزل عليه ، قالت له مجموعة أشياء ، تصب في بوتقة وخانة ولوحة :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
الإنسان مفطور على التديُّن :
الدكتور :
والله هناك ملمح رائع جداً قد يغفل عنه بعض الناس ، مَن علّمها ؟ ولم ينزل الوحي بعد ، أن الله لم يخيبه ، وفي الجاهلية لم يخزِه ، لأنه يصل الرحم ، ويحمل الكَلَّ ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الدهر ، من علمها هذه الفطرة؟ هذا أكبر شاهد على أن الإنسان مفطور على التدين ، وبفطرتها أدركت أن هذا الإله العظيم لا يمكن أن يخزي إنساناً محسناً يقري الضيف ، يحمل الكَلّ ، يعين على نوائب الدهر ، يصل الرحم ، بفطرتها ، لم يأتِ الوحي بعد إطلاقاً .
لا يستوي المحسن مع المسيء : مع السيدة خديجة :
وأنا والله أقول من أعماقي لكل شاب مؤمن ، لكل شابة مؤمنة : تفاءل ، وثق بالله عز وجل .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
أستاذ علاء ، هذا لا يتناقض مع عدل الله فحسب ، بل يتناقض مع وجوده ، أن يستوي المحسن مع المسيء ، الصادق مع الكاذب ، المستقيم مع المنحرف ، المنصف مع الجاحد ، هذا شيء مستحيل وألف ألف ألفِ مستحيل أن يكون .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
قد نتوهم هذا في الآخرة ، لا ، في الدنيا .
﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ﴾
مكانة المؤمن بيته ، زوجته ، أولاده ، وصحته ، تألقه ، هذا في حساب ، هذه مكافأة الله في الدنيا .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ﴾
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
والله الذي لا إله إلا هو ، وأقول هذا الكلام ، وأنا أعني ما أقوله كلمةً كلمَةً : أن يستوي عند الله المحسن مع المسيء ! والمستقيم مع المنحرف ! والصادق مع الكاذب ! هذا لا يتناقض مع عدل الله فحسب ، وإنما مع وجوده ، ويجب أن نطمئن ، وأن أطمئن كل شاب وشابة ، وكل مشاهد لهذا البرنامج ، أنه إذا استقام على أمر الله فله معاملة خاصة ، أكدَّها بدء الوحي من خلال السيدة خديجة ، لم يأتِ شيء من الوحي بعد ، لم تتعلم شيئاً من النبي ، لكنها بفطرتها أدركت أن هذا الإله العظيم الذي خلق السماوات والأرض لا يمكن أن يعامَل إنسانٌ يصل الرحم ، ويحمل الكَلّ ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الدهر ، كما يعامَل إنسانٌ منحرف ، متفلت ، مسيء للبشر .
المذيع :
ونعود في هذه المحطة ، حتى المشركون قالوا عنه : الصادق الأمين ، ولما خرج أبو سفيان على قيصر ، وقال : أخبروني عن صاحبكم ، فشهد بأخلاقه ، وشهد بأنه يؤدي الأمانة ، وأنه على خلق كبير ، وأنه يتحلى بأشياء لا يتحلى بها غيره من الناس .
حُسنُ خُلق النبي وسلوكُه السوي مع الطرف الآخر :
الدكتور :
لذلك المسلمون حينما فهموا دينهم فهماً مغلوطاً ، واستباحوا أموال الطرف الآخر ينقدهم النبي بسلوكه ، قبل أن يهاجر ترك ابن عمه علياً رضي الله عنه ، وخاطر بحياته من أجل أداء الأمانات ، وأموال المشركين ليسوا مؤمنين ، أرأيت إلى هذه الدقة ؟ هذا الذي يستبيح أموال الطرف الآخر بدعوى أنه ليس مسلماً ، فلنأخذ ماله يخالف منهج النبي عليه الصلاة والسلام ، بل إن النبي لما قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس منا من غشَّ ))
في رواية :
(( من غشَّنا ))
لو غششت غير مسلم تقع في إثم كبير ، لأن الطرف الآخر إذا أسأت إليه لا يقول : فلان أساء إلي ، يقول : الإسلام سيء ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ))
كل مسلم سفير الإسلام ، والله وأنا أقول : لو أن الجاليات الإسلامية في العالم طبَّقتْ منهج الله لكان موقف الغرب من الإسلام غير هذا الموقف .
المذيع :
الآن سيدي الكريم ، ننتقل إلى ما بعد أن امتدحه الله عز وجل بقوله :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
فقد بدأت الدعوة ، وبدأ الاحتكاك مع الصحابة الكرام ، ومع العالم ، وبدأ المجتمع مِن حوله يكبر ، وبدؤوا يعركون شخصية النبي عليه الصلاة والسلام في تماس يومي مع النبي عليه الصلاة والسلام ، في المعاملات ، في الطاعة ، في التوعية ، في الحياة اليومية ، معه لساعات طويلة ، نزلت الآية الكريمة التي تقول :
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
نقف عند هذا المعنى .
معادلة رياضية :
1 – رحمة ـ لين ـ التفاف :
الدكتور :
هذه الآية معادلة رياضية ، معناها أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا ،
﴿ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
فلما
﴿ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
التفوا حولك ، إذاً : رحمة ، لين ، التفاف .
2 – فظاظة ـ غلظة ـ انفضاض :
ولو كنت منقطعاً عنا لقسا قلبك ، فانعكس قلبك غلظة ، فانفضوا من حولك ، رحمة ، لين ، التفاف ، قسوة ، غلظة ، انفضاض .
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
هذا المخاطَب نبيٌّ فكيف بإنسانٍ دونَه ؟!
لكن هنا ملمح رائع ، يا محمد أنت أنت ، على كل ما أوتيت من علم ومعرفة ، ووحي ، ومعجزات ، وفصاحة ، وبيان ، وجمال ، وحكمة ، كل خصائصك على ما أنت فيه من هذه الميزات المذهلة ، أنت أنت بالذات ، مع هذا :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
فكيف بإنسان لم تؤتَ الوحي ، ولم يؤتَ الفصاحة ، ولا الوسامة ، ولا الحكمة ولا المعجزات ، وفظ غليظ .
جاء واعظٌ بعضَ الملوك ، قال له : سأعظك ، وأغلظ عليك ، قال له : ولمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أتى مَن هو خير منك إلى من هو شر مني ، أرسل الله موسى إلى فرعون فقال له :
فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ))
فهذا العنف ، وتلك القسوة في الدعوة إلى الله مخالفة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام .
المذيع :
اسمح لي آخذ هذا المعنى إلى جانب هو إكرام للنبي عليه الصلاة والسلام صاحب الخلق الرفيع والرحمة ، وعدم الغلظة ، لما قال الله عز وجل في كتابه :
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
الإكرام لهذا الخلق ، حتى لو أساءوا فبوجودك بينهم :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ : آيةٌ فيها حلٌّ لمشكلات المسلمين :
1 – معنى الآية بعد وفاة النبي :
الدكتور :
أرأيت إلى هذه الآية ؟ لعل فيها حلاً لمشكلات المسلمين ، إضافة إلى المعنى الذي تفضلت به ، يعني يا محمد ، ما دامت سنتك ومنهجك قائمة في حياتهم بعد موتك ففي وجودك إكرام لك ، فلِمَ يعذبون ؟ ولن يُعذَّبوا ما دمت فيهم ، أما إذا غادرت الدنيا فما كان الله ليعذبهم وسنتك قائمة فيهم ، في بيوتهم ، في أعمالهم ، في كسب أموالهم ، في إنفاق أموالهم ، في حلهم ، في ترحالهم ، في لهوهم ، في أحزانهم ، في أفراحهم ، ما دام منهج النبي قائماً في حياتنا فنحن في مأمن من عذاب الله ، ونحن في بحبوحة ، وهناك بحبوحة أخرى :
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
إما أن تكون على منهج الله فأنت في مأمن ، وإما أن تخطئ فتندم فأنت في مأمن ، هاتان بحبوحتان وأمنان من الله لأمة النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
المذيع :
دكتور ، نأتي إلى مسألة الضبط الذاتي ، أن ينضبط الإنسان بخلق أصيل مرتبط بالسماء ، أو أن ينضبط كما تفضلت في حلقات سابقة بالذكاء والعقل ، ولكن هذا الذي ينضبط بالذكاء والعقل ، وهو غير مؤمن ، وليست البواعث الأخلاقية لديه ، كانت اصطباغية سماوية بذكاء وعقل ، هذا إذا ما استنفرته ، أو ما أتيت عليه ، أو دست على طرفه خرج عن كل قيمة وغال ، وتعسف في الرد ، واستباحة حرمات الآخرين .
الآن نأتي إلى آية قرآنية نتبين من خلالها مسألة الضبط ، ومسألة العلم بالشيء ، وآلية الضبط عند الإنسان ، الله عز وجل يقول :
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً
القدرة والعلم ، والانضباط مع القدرة والعلم .
الضبط الذاتي :
1 – نظام الكون وانضباطه على سلوك منتظَم :
الدكتور :
أستاذ علاء ، السؤال الأكبر : مثلاً : هناك نجم يبعد عن الأرض عشرين مليار سنة ضوئية ، هذا الكون العظيم ما علة ووجوده ؟ بنص هذه الآية :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾
هذه اللام لام التعليل :
﴿ لِتَعْلَمُوا ﴾
من أجل أن نعلم ، من أجل أن نعرف الله ، من أجل أن نحبه ، من أجل نطيعه ، من أجل أن نسعد بقربه ،
﴿ لِتَعْلَمُوا ﴾
لكن متى تسعدون بقربه ؟ إذا أطعتموه ، كيف تطيعونه ؟
2 – انضباط المخلوق مع مخلوق مثله يطوله علمُه وقدرتُه :
لا بد من مثل : مواطن يركب مركبته ، وقف عند الإشارة الحمراء ، والشرطي واقف ، والشرطي الآخر على الدراجة ، ونقيب في الشرطة في سيارة ، هو مواطن عادي ، لا يمكن أن يتجاوز هذه الإشارة ، لماذا لا يمكن ؟ لأنه مركَّب في أعماقه أن علم واضع قانون السير يطوله من خلال هذا الشرطي ، وأن قدرته تطوله من خلال جهاز المركبة ، فمادام علم واضع قانون السير يطوله من خلال هذا الشرطي ، وأن قدرته ، وصلاحية وزير الداخلية تطوله من خلال حجز المركبة ، ولا بد أن يدفع الغرامة ، فلا يمكن أن يعصي المواطن هذا القانون إلا بحالتين ، في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، حيث لا يطول علم واضع القانون هذا المواطن ، فقد يتجاوز ، أو إذا كان هذا المواطن أقوى من واضع القانون فيتجاوز ، أما إذا كنت موقناً أن عِلم واضع القانون يطولك ، وأن قدرته تطولك فلا يمكن أن تعصيه .
الآن : لمجرد أن توقن أن الله يعلم ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه وهذا أصل في الأخلاق ، الأخلاق انضباط ، آلية الانضباط أن تعلم أن علمه يطولك ، وأن قدرته تطولك انضبط الإنسان .
مثل آخر : مواطن يستورد ما دام تذهب نسخة من المعاملة إلى المالية ، فلابد من أن يُعلن للمالية عن هذه الصفة ، وإلا أهدرت حساباته ، ودفع مبالغ طائلة ، فالمواطن حفاظاً على سلامته ، وعلى ماله يُبلغ المالية عن كل صفة يستوردها ، فإن لم يبلغ أهدرت حساباته ، أي مواطن ، في أي نبد ، في أي نظام ، إذا أيقن أن واضع القانون يطوله علمه وتطوله قدرته لا يخالف ، يخالف إذا ظن أن علمه لا يطوله ، أو إذا ظن أن قدرته لا تطوله .
3 – آلية الانضباط :
فأنت حينما توقن وأفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه .
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
إذا علم أن الله معه ، وأنه يعلم ، وأنه سيحاسب ، وأنه سيعاقب لا يمكن أن يعصيه .
المذيع :
الآن بما تبقى من وقت دكتور هل نستطيع أن نقف عند مفصل أخير في حلقتنا عندما نأتي إلى أركان الإسلام ، الأركان الخمسة ، نتبين من هذه الأركان الضوابط والبواعث ، وكيف تصب في لوحتنا التي نتحدث عنها الإيمان هو الخلق ؟ .
حقيقة الإسلام وحقيقة الجاهلية في نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
الدكتور :
سأقدم للإخوة المشاهدين خطبة خطبها صحابي كبير جداً أمام النجاشي حين قال للصحابة : حدِّثونا عن هذا النبي الذي جاء به نبيكم : فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ :
(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ))
هذا مضمون دعوة الله .
الإسلام بناء من خمسة قواعد ذو مضمون أخلاقي :
الآن أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، إذا قلنا : بني الإسلام على خمس ، الإسلام أين هو ؟ هذه لا الخمس ، هذه عبادات شعائرية ، أما مضمون الإسلام فهو مضمون أخلاقي ،
(( وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ))
هذا مضمون منهج الله في الأرض ، وما العبادات الشعائرية إلا مناسبات لتلقي الجائزة على العبادات التعاملية ، وما الامتحان إلا مناسبة إلا لعرض قدرة الطالب العلمية التي حصلها في العام الدارسي كله ، والعام الدراسي كله هو العبادة التعاملية ، وساعات الامتحان الثلاث هو العبادة الشعائرية .
خاتمة وتوديع :
المذيع :
إذا سمحت لي دكتور سوف نبتدئ في الحلقة القادمة إن شاء الله في الأسبوع القادم من حيث انتهينا ، نعود إلى خطبة سيدنا جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي ، ونفسح ، ونتكلم على الحامل والمحمول ، أركان الإسلام ، والمحمول هو الإسلام ، والجوائز التي تحدثت عنها .
أشكر فضيلة الأستاذ محمد راتب الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، شكراً لكل هذا الشرح ، ونعدكم أعزائي المشاهدين بأن نلتقي إن شاء الله في الأسبوع القادم يوم الاثنين في الموعد المخصص .
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته