- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامج الإيمان هو الخلق ، وما زلنا في رحلتنا المستمرة إن شاء الله ، علماً وإيماناً وتفهماً ووعياً ، في معيتي ومعية الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الأعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة في جامعة دمشق ، وفي الجامعات والكليات الشرعية في دمشق .
أهلاً وسهلاً ومرحباً أستاذي .
جزاكم الله خبراً وإياكم .
ربط اللاحق بالسابق :
سيدي الكريم ، كنا قد بدأنا في الحلقة الماضية في التعرف على فلسفة المصائب ، يسمح لي السادة المشاهدون بأن أربط بين الحلقات كانت تتحدث عن مقومات التكليف ، تحدثنا عن الكون ، والعقل ، والفطرة ، ثم من خلال الفطرة تبينا بأن الإنسان يتألم من المصيبة ، ويتأذى منها ، وينفر منها ، ويحب الإحسان إليه ، ويحب العطاء ، ويسعد بالعطاء ، ومن خلال الحلقة الماضية تبينا بأن الدار التي نعيش فيها وعليها ، ونستسكنها هي الدار الدنيا على الأرض هي دار ابتلاء ، ودار امتحان ، وهذا الامتحان في الحقيقة ليس مربوطا بزمن محدد ، وإنما متواصل طالما هنالك عيش لهذا الإنسان ، منذ ولادته وحتى وفاته ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وتبينا من خلال ما قدمت سيدي الكريم في الحلقة الماضية بأن المصائب هي الامتحان ، ورفع الدرجة ، وتبيان موقف هذا المرء في أثناء المصيبة ، وعززنا ذلك القول ، أو ذلك المفهوم بقوله تعالى عندما قال :
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
وقفنا عند نقطة كنت قد سألت أستاذنا الكريم عنها : أن المصائب التي يرفع المؤمن درجته ، أو تعلو بمكانته عند الله عز وجل ، هل هي ذات المصيبة التي تأتي على من فسق ، وعلى من جنح ، وعلى من خالف ، وتلك المصائب التي أتت على الأقوام التي سبقتنا ، هنالك الزلازل ، وهنالك الطوفان ، وهنالك المسخ ، وما إلى ذلك ، هل هذه من جنس هذه أم المصائب تندرج تحت أنواع ، وتحت أقسام ؟ .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
كل البشر مخلوقون لرحمة الله :
أستاذ علاء بادئ ذي بدء : البشر جميعاً مطلوبون لرحمة الله عز وجل ، لا يستثنى أحد .
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾
كل البشر من دون استثناء خلقوا لرحمة الله ، خلقوا لسعادة أبدية في الآخرة ، لذلك لو استثنى أحد من المعالجة الإلهية ، حتى الذي كما تفضلت يتبين أن مصيبته عقاب هو عقاب مغلف برحمة .
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
تقتضي رحمته أن يسوق لهؤلاء الذين انحرفوا ، وطغوا ، وبغوا شدائد تعيدهم إلى الصواب ، لأن الإنسان مهما عتا ، مهما تجبر ، مهما طغى ، مهما استكبر ، مهما تغطرس ، فهو مطلوب لرحمة الله .
ناجى أحدهم ربه فقال : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
قالها فرعون ، فكيف رحمتك بمن قال : سبحان رب الأعلى ، وإذا كانت رحمتك بمن قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ، وإذا قال العبد ، وهو راكع : يا رب ، يقول الله له : لبيك يا عبدي ، فإذا قال العبد وهو ساجد : يا رب ، يقول الله : لبيك يا عبدي ، فإذا قال العبد وهو عاصٍ : يا رب ، يقول الله له : لبيك ، ثم لبيك ، ثم لبيك .
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
النبي قدم لنا صورة رائعة ، إنسان ركب ناقته ، وعليها طعامه وشرابه ، يقطع عليها الصحراء ، والصحراء مظنة هلاك ، جلس ليستريح ، فلما استيقظ لم يجد الناقة ، أيقن قطعاً بالهلاك ، والموت محقق ، فبكى ، وبكى ، وبكى حتى أخذته سنة من النوم ، فلما استيقظ رأى الناقة ، اختل توازنه ، أنطق بالكفر ، قال : يا رب أنا ربك ، وأنت عبدي ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته ))
(( لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، ومن الظمآن الوارد ))
إذاً : الإنسان مخلوق للرحمة ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
النعم الباطنة هي المصائب :
قال العلماء : النعم الباطنة هي المصائب ، النعم الظاهرة المألوفة ، الصحة نعمة ظاهرة ، المرض نعمة باطنة ، الغنى نعمة ظاهرة ، الضيق المادي أحياناً نعمة باطنة ، الطمأنينة نعمة ظاهرة ، القلق نعمة باطنة :
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
وبعض علماء القلوب قال : ربما أعطاء فمنع ، وربما منعك فأعطاك ، وقد يكون المنع عين العطاء ، لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم ما رزقتني مما أحب ، فاجعله عوناً فيما تحب ))
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾
(( وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ))
المؤمن كما قال عنه النبي الكريم :
(( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سراء شكر وكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ))
لأنه فقه حكمة المصيبة ، وهذا اللقاء الطيب لعل الله سبحانه وتعالى ينفع الإخوة المشاهدين لفهم حقيقة الشدائد التي تُساق للمؤمنين أحياناً .
أنا والله مؤمن أشد الإيمان ، ومتفائل أنه سوف يأتي يوم نكتشف الإيجابيات والمكاسب التي حُققت من هذه الشدة التي سيقت للمسلمين ، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي .
كنت أقول دائماً : كان من الممكن أن يكون الطرف الآخر في كوكب ، ونحن في كوكب ، أن يكون الطرف الآخر في قارة ، ونحن في قارة ، في حقبة ونحن ، في حقبة ، ولكن قرار الله أن تكون معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، لأن الحق يقوى بالتحدي ، وأهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية ، والطرف الآخر عباد الله أيضاً ، يريد الله لهم الهداية والتوفيق ، فلعلهم يهتدون .
إذاً المصائب نعم باطنة ، ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ، وقد يكون المنع عين العطاء ، لكن أنا إيماني أنه يوم القيامة حينما يكشف الله جل جلاله لكل إنسان حكمة المصائب التي ساقها له يجب أن يذوب كالشمعة محبة لله ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ ﴾
البشر جميعاً مؤمنهم وكافرهم :
﴿ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
وليس في الإمكان أبدع مما كان .
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا ﴾
يوم القيامة :
﴿ لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾
سمى الله المصيبة رسولاً ، الآن تُستخدم بالأخبار الحديثة أنه صار في عرض عسكري ، هذه رسالة ، الآن في أسلوب الرسائل العملية ، أحياناً يقام بعمل آخر ، رسالة وجهت إلى الجهة الفلانية .
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ﴾
﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴾
فلذلك الذي يقع فيه حكمة بالغة جداً ، ملخص هذا الكلام :
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
إنسان يطوف حول الكعبة ، يقول : يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ كان الإمام الشافعي يمشي رواءه ، قال له : يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال له : سبحان الله ! من أنت ؟ قال : أنا محمد بن إدريس ، قال : كيف أرضى عن الله وأنا أتمنى رضاه ؟! قال : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله .
فالمؤمن راضٍ عن الله ، قال تعالى :
﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾
المذيع :
ليس بصادق في دعواه من لم يرضَ بضرب ، أو بمصيبة مولاه كما قال أهل التصوف في هذا ، أو يتلذذ .
من صفات المؤمن الصادق : الرضا بمكروه القضاء :
الدكتور :
وقال الإمام علي كرم الله وجهه : << الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين >>.
المصيبة تكشف وضع الإنسان :
هناك نقطة ثانية مهمة جداً : المصيبة أحياناً تكشف وضع الإنسان ، قد يتوهّم طالب أنه الأول في الرياضيات ، وهو ليس كذلك ، لولا المذاكرة في أثناء العام الدراسي ، وأنه أخذ ثلاثة من مئة لا يعرف أنه ضعيف في الرياضيات ، المتوهم لا يدرس .
فلذلك الله عز وجل يحجمنا ، كل إنسان يظن نفسه مؤمنا كبيرا ، يدعي ادعاءات فارغة ، أو يضعه في ظرف دقيق فيكشف على حقيقته ، هذا تعريف به ، الله يعلمه ، لأن الله علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن ، لو كان كيف كان يكون علم الله مطلق .
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى ﴾
عندنا شيء ظاهر ، يعرفه جميع الناس ، وشيء يخفيه الناس عمن حولهم ، لكن هناك شيء مخفي عنه .
الإنسان ثلاثة أثلاث :
الثلث الأول :
كنت أقول دائماً : الإنسان ثلاثة أثلاث ، قسم يعرفه الناس جميعاً ، مثلاً : المحامي ، الطبيب ، المدرس ، الطويل ، القصير ، الأبيض ، الأسمر ـ ما ظهر من الصفات ـ هذا الثلث الأول يعرفه الناس جميعاً .
الثلث الثاني :
القسم الثاني لا يعرفه إلا أقرب الناس إليه ، زوجته ، وأولاده ، شريكه ، رفيقه في السفر ، من تعامل معه في الدرهم والدينار ، من جاوره ، هؤلاء يعرفون الثلث الثاني .
الثلث الثالث :
لكن ثلثاً ثالثاً لا يعلمه إلا الله .
لما سيدنا الصديق ولّى سيدنا عمر ، قال : هذا علمي به ، فإن بدل وغير ، فلا علم لي بالغيب .
لذلك المؤمن إذا طُلب لشهادة يقول : أحسبه صالحاً ، ولا أزكي على الله أحدا .
(( إنما الأعمال بالنيات ))
ملخص هذا الكلام ـ مظنة صلاح ـ ملخص هذا الكلام :
﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
مصائب المؤمن :
1 – مصيبة الدفع :
لكن المؤمن أحياناً يكون سيره إلى الله بطيئاً ، تأتيه مصيبة دفع ليرفع سرعته رحمة به .
أخذ قبولا بالجامعة ، لكن هو ذكي ، كان من الممكن أن يأخذ جيد جداً ، ويستحق بعثة ، فهو قبل بالمقبول ، لم يستحق البعثة ، فالأب الرحيم يحث ابنه المتباطئ في الدراسة أن يرفع مستوى دراسته ، هذه مصيبة دفع ، أحياناً يلوح شبح مصيبة ، فالإنسان يسارع إلى باب الله عز وجل ، يسارع إلى التوبة ، يسارع إلى عمل صالح ، يسارع إلى إحكام صلته بالله عز وجل ، هذه مصيبة ، مصيبة الدفع للمؤمنين .
أحياناً الإنسان سرعته عالية ، لكنه يركب شاحنة حمولتها خمسون طنًّا ، وعلى كل طن مليون ليرة .
2 – مصيبة الرفع :
الآن أنت بالإمكان أن تكون أرقى من هذا ، هناك أعمال صغيرة ، وأعمال كبيرة جداً ، فلما يرضى الإنسان بعمل قليل تأتيه مصيبة من نوع الرفع لرفع العائدية والكفاءة ، هو عنده إمكانية .
لذلك أنا أقول : لما يمشي الإنسان بأعلى سرعة يكون قد حقق هدف من وجوده .
لسيدنا علي كلمة يقول فيها : << والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي >> ، العداد مغلَق ، أول مصيبة للمؤمنين دفع ، والثانية رفع .
الآية :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ﴾
فهنا فهماً توحيدياً ، ما فهما فهماً شركياً ، فهما فهماً سماوياً ، ما فيهما فهماً أرضياً ، لأن الله يقول :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
لكل شدة سببٌ :
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسوق الله لعباده شدة بلا سبب .
أستاذ علاء ، أيّ أب في الأرض يمكن أن يضرب ابنا له مجتهدا ومهذبا ونظيفا ، ويقدم خدمات لأهله ؟! مستحيل ، لذلك حينما يحقق إنسان وجوده في الدنيا يتوقف العلاج :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
<< ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بالتوبة >> .
هذه حقيقة مرة هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، هذه مصائب المؤمنين .
﴿ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾
الشدة سبب التوبة والرجوع :
بالمضمون وإنا إليه راجعون بها ، هي سبب رجوعنا إلى الله ، سبب تألقنا ، سبب إقبالنا على الله عز وجل ، سبب العودة ، الطرف العاصي الفاسق الفاجر هو عبد لله ، والله يحب أن يكون تائباً .
(( لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلى ، هذه إرادتي بالمعرضين ، فكيف بالمقبلين ))
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
الله عز وجل ينتظر عبده أن يتوب إليه ، ولو كان فاسقاً ، وعاصياً ، وغارقاً في المعاصي والآثام .
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ﴾
إذاً : كل إنسان مطلوب ، لكن مصائب هؤلاء من نوع آخر .
المذيع :
سيدي هنالك حديث النبي عليه الصلاة والسلام يرويه عن ربه في الحديث القدسي بما معناه أنه لو لم نعصه ونتوب ، ونعصيه ونتوب ، لاستبدلنا بقوم آخرين .
لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم ...
الدكتور :
هذا الحديث خطير جداً :
(( لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه تعالى فيغفر لهم ))
المعنى الصحيح للحديث :
هذا المعنى على ظاهره يسبب إشكالا كبيرا ، يبدو المعنى الظاهر : أنه لابد أن تقع في ذنب وتسارع إليه ، والمعنى الصحيح : لو لم تحسوا بذنوبكم ، إنسان ارتكب أكبر خطأ ، فرق بين زوجين ، سبب فساد شركة ، فساد علاقة ، نشر الفساد في الأرض ، هو مرتاح ، ما فعل شيئاً ، هذا ميت ، أما المؤمن حينما يغتاب لا ينام الليل ، فالإنسان متى يرحمه الله ؟ إذا شعر بذبه .
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
(( لو لم تذنبوا ))
لو لم تشعروا بذنوبكم ،
(( وجاء بقوم يذنبون ))
الآن المؤمن لو أخطأ ، لو أنه داس نملة عن قصد لا ينام الليل .
(( دخلت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار ؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ))
فما بالك فوق الهرة ؟ الإنسان يستحق النار بقتل هرة عمداً .
المذيع :
فما بالك الذي أتوا بأسلحتهم ويقتلون أمماً وشعوبا تحت ذريعة جلب الديمقراطية .
مصائب الكفار والشاردين ردعٌ أو قصمٌ :
الدكتور :
فلذلك قضية المصيبة حتى الطرف الآخر مطلوب .
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ))
الآن الكلام عن الطرف الآخر .
(( وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ))
فالله عز وجل يسوق المصائب للشاردين والعصاة والمجرمين ، ليعيدهم إليه مصائب ردع أو قصم ، إذا في أمل بسيط ردع ، ما في أمل قسم .
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ ﴾
مصائب الأنبياء كشفٌ :
بقي الأنبياء ، مصائبهم مصائب كشف ، لأن كمالا في أنفسهم لا يظهر إلا بحالة نادرة جداً :
أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى الطائف ومشى 80 كم ، عرض عليهم نفسه فكذبوه ، وأهانوه ، فمكنّه الله أن ينتقم منهم ، قال : لا أخي ، اللهم اهد قومي ، فإنهم لا يعلمون .
فهذه مصيبة كشف ، فصار للمؤمنين دفع ورفع ، للعصاة والشاردين قصم أو ردع ، وللأنبياء كشف .
المذيع :
أنا كنت والله أود أن أستمر في قضية معينة أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أعرض عنه قومه ، وأعرض عنه أهله ، وتمكن من أن يعاقبهم بأمر الله ، فتركهم ، وعفا عنهم بينما حصل مع الأنبياء الذين سبقوه بأنهم دعوا على قومهم ، هذه المسألة سنعرض عليها إن شاء الله ، ونمر عليها ، لكن نريد الموضوع العلمي ، ماذا اخترت لنا ؟.
الموضوع العلمي : الطيور :
الدكتور :
موضوع الطيور الذي بدأناه في الحلقة السابقة ، الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى يقول مرة ثانية :
﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾
الآن الفيلم متعلق بهجرة الطيور ، والحقيقة أنها شيء لا يكاد يصدق حينما نتحدث عن هجرة الطيور .
من علم الطيور تقنيات الطيران؟
أهم شيء في الموضوع أننا إذا رأينا أسراب طائرات تحلق في الجو تحلق على شكل رقم ثمانية
ذلك لأن الطائرة تخلف وراءها منفذاً هوائياً ، فلو سار الطائر خلف الطائر لقلت مقامة الهواء ، ولقل بذل الجهد ، فالآن أحدث تكتيك في طيران الطائرة هو أن تطير على شكل 8 ، طائر في المقدمة ، والذي بعده يستفيد من المنفذ الهوائي ، هو الخلخلة الهوائية ، تخف مقاومة الهواء ، ويقل جهد بـ 20%
هذا أحدث ما في الطيران الآن ، فمَن علم الطائر أنه في أثناء الهجرة أنْ يطير على شكل ثمانية
كالطيران الحديث تماماً ؟ هذا من تحليل الله له ، قال سيدنا موسى :
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
الحقيقة ثمة شيء لا يكاد يصدق ، فضلاً عن أن الطيور تطير على شكل ثمانية ، كما هو الطيران الحديث تماماً ، نقول : من علم هذه الطيور هذا النظام في الطيران ؟ لكن هذا الأول يبذل جهد كبير جداً ، أكثر من الذي يليه ، لذلك يتناوبون ، وكأن الأول قائد .
ألم يقل سيدنا عمر : << أنا أثقلكم حملاً >> .
فهذا كأنه قائد ، نظام الطيران ، هذا في المقدمة يتبدل من حين إلى آخر ، يواجه الهواء بكثافته
أما الذين وراءه فيأتيهم الهواء مخلخلا ، سماه العلماء المنفذ الهوائي ، المقاومة أقل بـ20 % والجهد أقل ، فهذه حادثة من حوادث الطيران .
لكن الذي لا يصدق أن رفة الجناح تتناغم مع الطيور فيما بينها ، أيضاً رفة الجناح تخلق منفذ هوائي
الخلخلة بالهواء يستفيد منها الذي خلف الطائر ، لا أقول : إن الحركة متساوية ، لكنها متناسقة ، متناغمة ، فهذا النظام ينظم حركة أجنحة الطيور في أثناء الطيران ، لأن الطير قد يقطع 17 ألف كم ، 86 ساعة بلا توقف .
قلت في الحلقة السابقة : إن أكبر موسوعة للطيور كُتب في مقدمتها : إن أكبر طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر ، يقول الله عز وجل :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾
حقيقة مقطوع بها : مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَانُ
الحقيقة أن بعض العلماء فسر هذه الآية : على أن أي تفسير امتداد الطائر إلى هدفه لم يثبت قطعاً ، هناك تخمينات ، وتأويلات ، أما الشيء الدقيق جداً فلم يثبت ، لذلك جاءت الآية :
﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَانُ ﴾
كأن الله تولى بذاته إظهار هذه الآية لبقية الخلق .
احترافية طائر اللقلاق في أثناء الهجرة الطويلة :
الحقيقة ندخل الآن في موضوع تفصيلي أكثر : أن اللقالق تأتي في مقدمة الطيور المحترفة في إيجاد الجهة
تقطع اللقالق كل سنة طرقاً بآلاف الكيلو مترات ، اللقالق المرتحلة من قارة إفريقيا تصل إلى قارة أوربا مروراً بالبحر المتوسط ، بفصل آخر ، واخضرار النبتات ، وبتغير المنظر الغطاء الأرضي لأوربا تماماً ، إذ كيف تجد اللقالق طريقها في منتصف إفريقيا إلى أوربا قاطعة البحر المتوسط
لذلك اكتشفت البحوث وجود نظام خاص في أجسام اللقالق ، يدرك هذا النظام جاذبية الأرض المغناطيسية لهذه البوصلة الطبيعية التي تتبع جاذبية المغناطيس
وتعلم الجهة بفضل هذا تتم رحلتها ،
تبلغ آلاف الكيلو مترات .
أستاذ علاء ، طيار معه هاتف لاسلكي ، معه إرشاد أرضي ، معه خرائط ، معه طيران آلي ، معه تنبيه دائم ، معه اتصال مستمر بالأبراج ، أما هذا الطائر فليس معه أجهزة ، ولا بوصلة ، ولا جهات ، ولا خرائط ، ولا توجيه خارجي يهتدي إلى هدفه ، هذا شيء لا يصدق .
الطائرة يضخ هواءها 8 أمثال ، ويقلُّ الضغط ، والطيارون الحربيون يضعون الأوكسجين
مضخات أوكسجين أمام وجوههم ، بينما الطائر يطير من دون كمامات ، من دون أوكسجين ، من دون ضح ، الهواء 8 أمثال ، له أجهزة تتناسب مع قلة الأوكسجين في المرتفعات العالية جداً .
الجهاز المغناطيسي في الطائر :
إذاً أول نقطة دقيقة : أن الطائر معه جهاز مغناطيسي يكشف له هدفه ، وليس هذا مؤكدا 100 % ، لكنه توقع ، أما الشيء المؤكد فلم يظهر حتى الآن :
﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَانُ ﴾
يهتدي في الليل ، ويهتدي في التضاريس ، ويمشي في الليل ، لو طرحنا نظرية المغناطيس ، ووضعوه بساحة مغناطيسية معاكسة لاهتدى إلى هدفه ، جاؤوا بطائر نقلوه إلى الهند من بريطانيا ، لو تصوروا أن الطريق شمال جنوب أخذوه شرقا ، وعاد إلى مكانه
﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَانُ ﴾
شيء آخر ، أحياناً تهتدي الطيور بالليل ، تهتدي بالنجوم أحياناً ، نحن بشر ، ومثقفون ، ومعنا شهادات عليا ، قد لا تهتدي بالنجوم ، لكن بعض الطيور تهتدي بالنجوم .
أنا أقول تماماً في مثل هذه اللقاءات : التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله ، لأنه يضعنا أمام عظمة الله .
خاتمة وتوديع :
المذيع :
كنا نتمنى أن نستزيد ، لكن الوقت أدركنا ، نشكر شكراً جزيلاً الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الأعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته