- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليه ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، نحن وإياكم في ضيافة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، أهلاً وسهلاً بأستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
أهلا بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ علاء :
مقدمة تذكيرية :
أستاذنا ، نحن تحدثنا في الحلقات السابقة عن مقومات التكليف ، بدأنا بالكون ، وأفردنا له الكثير ، والعقل وأفردنا له الكثير ، ووصلنا إلى الفطرة ، وكنا قد تحدثنا عن الفطرة ، وهذه الفطرة أو هذه الجبلة التي خلق الله الإنسان عليها ، وتحدثنا في هذه الفطرة ، وفي هذا التخليق ، وفي هذا الخلق ، هنالك نقاط ضعف عند الإنسان .
الدكتور راتب : هي كمال مطلق .
الأستاذ علاء : التي تحدثنا بأن تبينا من خلال الحديث معك بأنها كمال مطلق ، حيث تحدثنا في مسائل الضعف عند الإنسان ، وهو هلوع ، كما وصفه القرآن الكريم ، الهلع يقسم قسمين ، كما فسرت في الحلقة الماضية الجزوع والمنوع ، ثم الضعيف ثم العجول ، وفي كل هذه الصفات التي تبدو للعيان مباشرة بأنها هي صفات ارتكاس ، أو عدم كمال ، أو هي صفات تعني الضعف ، وتعني عدم الكمال في الخلق ، تبينا بأن هذه الصفات هي أساسية ، وهي ضرورية لهذا المخلوق لكي يكتمل خلقه ، ولكي يكتمل تشكيله ذاتياً نفسياً ومادياً ، وبالتالي فيها الكمال مع أن ظاهر هذه الصفات هو النقص .
الدكتور راتب :
ليحقق الهدف من وجوده .
الأستاذ علاء :
الآن سيدي الكريم نتحدث عن الفطرة ، وهنالك من يقول : هل الفطرة هي الصبغة ؟ هل الصبغة هي الطبع ؟ هل الفطرة والصبغة والطبع هي مقومات التكليف ، أو ما علاقة هذه الصفات بالتكليف ؟
الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ
الدكتور راتب :
شكراً أستاذ علاء ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، هذا الكتاب الذي بين أيدينا كتاب الله عز وجل فيه كل شيء ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، الله عز وجل يقول :
﴿ الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
أي لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ،
﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ ﴾
أي أنزله ، وكلف النبي الكريم أن يبينه .
﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾
هذا ترتيب رتبي ، وليس ترتيباً زمنياً .
معنى الترتيب الرتبي :
الأستاذ علاء : الترتيب رتبي وليس زمني .
الدكتور راتب : أي لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ، الآن القرآن يقول :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
عذاب الفطرة عند الخروج عن منهج الله :
صممت تصميماً رائعاً ، لأنها مجبولة بتوافقية عجيبة مع منهج الله ، فإذا ما خرجت عن منهج الله تكتئب ، وتتألم ، وتتيه ، فلذلك مقياس الإيمان الراحة النفسية ، مقياس البعد عن الله الضجر والقلق والعذاب النفسي والإحباط ، لكن الفطرة هي التي تعذب النفس ، لو أن الإنسان فطر على حب الكذب ، مثلاً يكذب ولا يتألم ، لو فطر الإنسان على الظلم لظلم ، ولا يتألم ، مِن أروع ما في الفطرة أنها مرجع ، الفطرة مقياس ، فأنت لو لم تطلب العلم ، لو لم تتعلم ، لو لم تفقه شيئاً عن كتاب الله ، لو لم تتابع دروس العلم فأنت حينما تخرج عن منهج الله لأن فطرتك متوافقة توافقاً تاماً مع منهج الله هي المرجع ، فالكآبة هي عذاب حينما تبتعد عن منهج الله ، إذاً الفطرة لا تعني أن الإنسان كامل إطلاقاً ، الفطرة تعني أن الإنسان يحب الكمال ، وفرق كبير بين أن يكون الإنسان محبا للكمال فحسب ، وبين أن يكون كاملاً ، لا تعني الفطرة أن الإنسان عادل ، لكنه يحب العدل ، فإذا ظلم تعذبه فطرته ، كأن الله سبحانه وتعالى جعل الفطرة مرجعاً أخلاقياً لنا ، قال تعالى :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾
فألهمها حينما تفجر إلهاماً داخلياً أنها فجرت ، من دون تدخل خارجي ، لو أن الإنسان جلس في جزيرة لم يتلقَ أية معلومة عن منهج الله ، فإذا ظلم أمه مثلاً يشعر بالضيق ، هذه من نعم الله الكبرى ، لذلك فقد منح الله الإنسان عقلاً كافياً لمعرفته ، منحه فطرة كافية لمعرفة خطئه .
الأستاذ علاء :
لتصحيح خطئه ، إذاً سيدي التفسير :
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
استطعت أن أفهم من حديثك تفسير ألهمها أي بمعنى علمها كيف تتحسس بالخطأ ، وكيف تتحسس للتقوى ، وتسر بها ، وليس ألهمها كما يظن العوام والعياذ بالله المعنى الجبري .
المعنى الجبري مرفوض عقلا وشرعا :
الدكتور راتب :
ولا شل الأمة الإسلامية في عصور تخلفها كعقيدة الجبر ، النقطة الدقيقة جداً أن الإنسان مخير ، وفي اللحظة التي نتوهم خلاف ذلك ألغينا الجنة ، ألغينا النار ، ألغينا الثواب ، ألغينا العقاب ، ألغينا العدل ، ألغينا الرحمة ، ألغينا التكليف ، ألغينا حمل الأمانة ، وأصبحت الحياة تمثيلية سمجة ، لذلك لما سأل سيدنا عمر عن إنسان يستحق إقامة الحد عليه في شرب الخمر قال : والله يا أمير المؤمنين ، قدر عليّ ذلك .
بالمناسبة أستاذ علاء ، الإنسان يرغب أن يعزو أخطاءه إلى القدر فقال : << أقيموا عليه الحد مرتين ، مرة لأنه شرب الخمر ، ومرة لأنه افترى على الله ، قال : ويحك يا هذا ، إن قضاء الله لن يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار >> .
مرة ثانية ، في اللحظة التي يتوهم فيها الإنسان أن الله أجبره على أفعاله كلها هذه اللحظة تعني ألغي التكليف ، ألغيت الأمانة ، ألغي الثواب ، ألغي العقاب ، ألغيت الجنة ألغي النار .
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له إيّاك إياك أن تبتل بالماء
***
الأستاذ علاء :
ما دور العقل مع الجبر ، لا معنى للعقل مع الجبر .
دور العقل مع الجبر :
الدكتور راتب : أنا ما سمعت إنساناً حقق تفوقاً قال : إن الله قدّر لي هذا التفوق ، لماذا في الأمور الإيجابية ينسبها إلى ذاتك ، وفي الأمور السلبية تنسبها إلى الله عز وجل ؟ قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
هناك كلمات يقولها العوام هي الكفر بعينه ، يقول لك : " طاسات معدودة بأماكن محدودة " ، كأن الله أجبره على أن يشرب الخمر ، تقول له : أدِ ما عليك من عبادات ، فيقول لك : حتى يأذن الله ، وكأن الله لم يأذن له ، وهذا كله خلاف نصوص القرآن الكريم ، لذلك أنا أنصح الإخوة المشاهدين أن يجروا جرداً لمعتقداتهم ، هناك معتقدات وصلت إلينا من كلام العوام ، من دعاة لا يعرفون حقيقة الدين ، هذه تشل الإنسان .
إن الطالب يأتيه من يقول له : إن المدرس سوف يعطيه الأسئلة ، فانتهت دراسته ، لا يدرس ، والفكرة لا أصل لها .
أستاذ علاء ، لولا أنه ما من شيء تعتقده إلا وينقلب إلى سلوك لولا هذه الحقيقة لقلتُ : اعتقد ما شئت ، لكن ما من عقيدة ، ما من تصور ، ما من فهم ، ما من شيء استقر في ذهن الإنسان إلا ويترجم إلى سلوك ، لذلك كما قلت في الحلقة السابقة : الخطأ في الميزان لا يصحح ، أما الخطأ في الوزن فلا يتكرر .
إذاً : لولا أن النفس فطرت فطرة كاملة لما كانت مرجعاً للأخلاق .
الأستاذ علاء :
أنا أخذت من وقت الحلقة في هذا الموضوع لأهميته .
الدكتور راتب :
أضرب بعض الأمثلة ، أليس هناك حيوانات تعيش في المياه المالحة السوداء ، وهي في أشد حالات الراحة النفسية ؟ معنى ذلك أن هذه الحيوانات جبلت على هذه المياه المالحة ، الخنزير يأكل الفطائس ، يأكل الجيف ، وعندنا أمثلة في الخلق .
هناك حيوان يأكل الشيء الذي يستقذره الإنسان ، معنى ذلك أن له جبلة خاصة ، فالإنسان لأنه مكرم عند الله فطره فطرة عالية هي مرجع له ، وهي محاسب له ، وهي كما تفضلت سبب لتصحيح سلوكه ، فالفطرة لا تعني أن الإنسان كامل ، لكنه يحب الكمال ، الإنسان المتفلت يقدس إنسانة ملتزمة ، مع أنه يريدها متفلتة ليحقق شهوته ، لكنه يقدس الملتزمة .
مرة رجل من أكبر الملحدين في سان فرانسيسكو أستاذ رياضيات ، هذا الرجل بسبب أنه انتقد أستاذ الديانة سابقاً طرده والده من البيت ، واعتنق الإلحاد ، لكنه على مستوى من الذكاء مذهل ، فكان الأول في الرياضيات ، وكان أستاذه يقول له : اخرج من القاعة ، ولك علامة تامة ، لأنه كان يربكه ، وهو في أعلى منصب في جامعة سان فرانسيسكو تأتيه طالبة شرق أوسطية متحجبة ، يقول في كتاب ألفه ، وترجم إلى اللغة العربية : هذه الإنسانة شعر أنها تنطوي على مبادئ وقيم نادرة ، فالفتيات في الصيف في أمريكا شبه عرايا ، إنها محجبة حجاباً تاماً ، فقال : أنا رأيتها إنسانة قديسة ، ولم أستطع أن أحدّق في وجهها ، ولأنها تحضر دكتوراه في الرياضيات ، فأنا أخذت فكرة أخرى عن فتيات الشرق الأوسط ، وعكف من توه على قراءة القرآن الكريم ، وصل إلى آية :
﴿ فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدِنِكَ ﴾
فاعتبر هذه الآية من أغلاط القرآن الكريم ، فاتصل بصديقه موريس بوكاي رئيس المشرحة في فرنسا ، وقال له : هذه الآية ما تفسيرها ؟ قال : هذا الذي قال الله عنه :
﴿ فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدِنِكَ ﴾
جيء به إلى هذه المشرحة ، ورممته ، ورأيت آثار الملح في فمه .
الأستاذ علاء :
وهو فرعون الذي تبع سيدنا موسى .
الدكتور راتب :
الإنسان يحب الكمال ، وليس ضرورياً أن يكون كاملاً :
هذا جيفري لنك الملحد أستاذ الرياضيات ، هو الآن أكبر دعاة أمريكا الإسلاميين ، لأنه رأى إنسانة عندها قناعات تنطلق من فكر ، من مبادئ ، من قيم ، فأنا أقول لك أستاذ علاء : معنى الفطرة أن الإنسان يحب الكمال ، وليس ضرورياً أن يكون كاملاً ، الإنسان يحب الكمال ، يحب الصدق ، يحب الأمانة ، يحب الوعد الصحيح ، يحب الإنصاف ، يحب العدل ، هذه فطرة الإنسان في كل زمان ومكان ، من آدم إلى يوم القيامة ، حتى الذي يسرق يوزع السرقة على فريق عمله بالتساوي بالعدل ، كما قلت البارحة : الفطرة لا أن تكون كاملاً ، أن تحب الكمال ، والفطرة مرجع أخلاقي ، إذا صح أن العقل مقياس علمي فالفطرة مقياس أخلاقي ، الآن أحدث الطائرات والمركبات الفارهة جداً العدادات لوحة بيضاء في خلل يظهر على الشاشة ، والإنسان بأعلى درجة من الإتقان :
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
فالفطرة لا تعني الكمال ، لكنها تعني حب الكمال ، التفوق إلى الكمال ، وأشد الناس بعداً عن الله أشد الناس انغماساً في الرذائل وفي المعاصي والآثام يحب الكمال .
إن امرأة بغي إذا رأت إنسانة تحمل ولدها ، وهي ربة أسرة ، أنا أتأكد أنها تذوب شوقاً إلى أن تكون سيدة منزل شريفة .
الأستاذ علاء :
سيدي ، حتى لا تحب لابنتها ما كان عليه حالها .
الدكتور راتب :
هناك شيء يكاد لا يصدق ، الذي له موقع في محاربة الدين يحرص على أن تكون ابنته متدينة ، شيء عجيب ، هذه الفطرة .
الأستاذ علاء :
نأتي الآن الصبغة ، ما الفرق بين الفطرة والصبغة ؟
الفرق بين الفطرة والصبغة :
الدكتور راتب : إذا كانت الفطرة أن تحب الكمال ، ولا يعني أن تكون كاملاً فالصبغة هي أن تكون كاملاً ، وخزائن مكارم الأخلاق مجموعة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، ومستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تتصل بالرحيم ، وأن تكون قاسياً ، قال تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد عند اتصالك بنا كنت رحيماً ، مستحيل أن تتصل بالعدل ، وأن تكون ظالماً ، مستحيل أن تتصل بالحكيم ، وأن تكون غير حكيم ، مستحيل ـ أستاذ علاء ـ هي الثمرة الكبرى من الصلاة أن تتخلق بالكمال الإلهي ، لكن هذه الصلاة كما قلت البارحة : ليس كل مصل يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكفّ شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب .
الصبغة إحدى أكبر ثمار الصلاة ، الفطرة أن تتوق إلى الكمال ، لكن الصبغة أن تكون كاملاً ، لا كمالاً ذكائياً ، الإنسان الذكي جداً يستطيع أن يقوم بدور تمثيلي رائع في الأخلاق ، أما إذا هددت مصالحه ينقلب وحشاً ، وقد بدا بعد أحداث أيلول أن هذه الحضارة الكبيرة التي خطفت أبصار أهل الأرض ، وأنهم أعجبوا بها ، وكان الذي يحمل البطاقة الخضراء كأنه داخل إلى الجنة ، هذه الحضارة سقطت في الوحل ، وبقيت قوة غاشمة ، أنا أقول : هناك كمال أساسه الذكاء ، ذكي جداً ، لكن هذه حالة مادامت مصالحه مؤمَّنة ، وإذا هددت مصالحه يصبح وحشاً كاسراً ، لذلك قال تعالى :
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
هذه الآية تنطبق على الأفراد ، وعلى الدول .
إن دولة ترفع شعارات حرية وديمقراطية ، وحقوق إنسان والعدالة الاجتماعية ، و العولمة واحترام جميع الأديان ، حينما تصاب مصالحها تنقلب إلى دولة متوحشة ، إذاً الفطرة أن تحب الكمال ، والصبغة أن تكون كاملاً لا كمالاً ذكائياً مصلحياً طارئاً هدفه كسب الأموال .
هناك شركات عملاقة في العالم صادقة ، بضاعتها متقنة ، وهذا الشيء رائع ، لكن هذا يندرج تحت نجاحها في عملها فقط ، أما حينما يتصل الإنسان بالله يصطبغ بصبغة الكمال الإلهي ، فلذلك أنا أقول : مستحيل وألف ألف مستحيل أن ترى مؤمناً كاذباً ، أو مؤمناً محتالاً ، أو مؤمناً منحرفاً ، أو مؤمناً قاسي القلب ، قال تعالى :
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾
تتصل بالرحيم ، وتقسو على خلق الله ؟! الإنسان بنيان الله ، وملعون من هدم بنيان الله .
والله الذي لا إله إلا هو أنا لا أصدق أن يستطيع المؤمن أن يدوس نملة قصداً ، فهؤلاء الذين يقصفون البلاد والعباد ، ويدمرون الشعوب من أجل مصالحهم ، ويكذبون على الناس ، هؤلاء قطعاً ما عرفوا الله .
الأستاذ علاء :
وليس بينهم وبين الله أي صلة ، الصبغة إذاً هل هي التخلق بأخلاق الله عز وجل ؟
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم
الدكتور راتب :
نعم هكذا ، لكن الآية الدقيقة :
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾
الآية التي توضح المعنى بشكل أدق ، قال تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، فلما كنت ليناًَ لهم التفوا حولك ، ولو كنت بعيداً عنا لامتلأ القلب قسوة ، وترجمت القسوة إلى غلظة وفظاظة ، فلو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، قال تعالى :
﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
ونحن الآن في أمسّ الحاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضاً ، الإنسان يحتاج إلى من يرحمه ، نحتاج إلى أخوة إيمانية نحتاج إلى وحدة نحتاج إلى تعاون نحتاج إلى تضامن لأن العالم أصبح وحشاً كاسراً ، طبعاً هناك موضوع الطبع إن شاء الله في حلقة قادمة .
الأستاذ علاء : والآن مفاجأة .
مِن آيات الله في مخلوقاته : سمك السلمون :
الدكتور راتب :
مفاجأة في موضوع علمي يتحدث عن سمك السلمون ، وإلى الموضوع العلمي والفيلم المتعلق بسمك السلمون .
يعيش على شواطئ الأنهار في شرق أمريكا الشمالية ، وفي غربها واحد من أغرب الرحالين في العالم ، إنه سمك السلمون
هذا السمك يواجه أقسى الظروف ، وكأنه آية من آيات الله الدالة على عظمته ، فالصنعة تدل على الصانع ، والخلق يدل على الخالق ، هذا السمك يضع بيوضه في أعالي الأنهار في الجبال في أمريكا الشرقية والغربية
هذه البيوض حينما تفقس تخرج السمكة ، ومعها محفظة غذائها كما ترى
هذا صنع الله الذي أتقن كل شيء .
تبدأ رحلتها من أعالي الأنهار باتجاه المحيطات شرقاً باتجاه المحيط الأطلسي ، وغرباً باتجاه المحيط الهادي ، وقد تطول الأنهار إلى آلاف الكيلو مترات ، وتستمر هذه الرحلة أشهراً عديدة كي تصل إلى ساحل البحر
وتمر في المياه الجارية ، كانت سمكة صغيرة ومعها محفظة غذائها ، وبدأت تنمو في النهر ، لكن هذا السمك من فضل الله عز وجل وحكمته ورحمته وتنفيذاً لقوله تعالى :
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
لأن هذه الأسماك لها رحلة قاسية جداً تواجه ظروفاً صعبة جداً مزودة بدورة قوية
تبدأ آلاف أسماك السلمون بالهجرة على طول النهر في أول فصل الربيع ، وتصل بعد مدة طويلة إلى مكان فسيح ، وليكن في هذا الفيلم المحيط الهادئ ، وتسير من سواحل أمريكا الشمالية باتجاه ألاسكا ، كما يأتي السهم ، وتنزل إلى أن تصل إلى سواحل اليابان ، رحلات بآلاف الكيلو مترات
أستاذ علاء ، وبمجرد وصولها إلى مياه البحر المالحة تحدث فيها تغييرات بنيوية في بنيتها الوراثية من أجل أن تتكيف بمياه البحر .
بالمناسبة ، الأسماك التي تعيش في المياه العذبة لا يمكن أن تعيش في المياه المالحة ، يجري عليها تطويرات بنيوية كي تتكيف مع مياه البحر المالحة ، وقد تستغرق رحلتها أربع سنوات ، وتقطع عشرات ألوف الأميال .
الآن وصلت إلى شواطئ اليابان
كيف تهتدي أسماك السلمون إلى مسقط رأسها؟
وأرادت أن تعود إلى مكان ولادتها ، حيث ولدت ، الشيء الذي لا يكاد يصدق كيف تعرف النهر ؟ هي مزودة بجهاز مغناطيسي ينبئها بجهة الشمال المغناطيسي ، وهذا من آيات الله الدالة على عظمته ، لكن السؤال الآخر : كيف تعرف مصب النهر لو اختلفت زاويتها درجة واحدة لجاءت بعد ألف كيلو متر ، هي الأسماك الوحيدة التي لها حاسة شم تشبه حاسة شم الكلاب ،
لكل نهر رائحة خاصة ففضلاً عن أنها تتجه من اليابان إلى سواحل أمريكا الغربية ، أو من الأطلسي من فرنسا إلى سواحل أمريكا الشرقية عن طريق المغناطيس الشمالي .
الآن عندها حاسة شم رائعة جداً تكشف لها رائحة النهر الذي أتت منه ، الآن تصارع الشلالات كما بدأ في الفيلم قبل قليل ، تقفز أربعة أمتار كي تتجاوز الشلالات ،
ولا يستقر بها المقام إلا إذا عادت إلى مكان ولادتها .
وصلت الآن إلى مصب النهر الذي خرجت منه وبعدها .
الأستاذ علاء :
تتعرف .
الدكتور راتب :
وبعدها تعود إلى النهر الذي خرجت منه ، وتعود إلى رأس النهر الذي ولدت فيه ، وكيف تهتدي عبر فروع النهر ، وعبر مصباته ، وعبر شلالاته شيء لا يصدق .
الحقيقة أن هذه الأسماك زودت بجهاز مغناطيسي يرشدها إلى جهة الشمال دائماً
فبهذا الجهاز تتجه من سواحل فرنسا إلى شواطئ أمريكا الشرقية ، ومن وساحل اليابان إلى شواطئ أمريكا الغربية ، وأجريت دراسات على هذه الأجهزة التي زودها الله بها أجهزة المغناطيس ، وأجهزة الشم كي تكتشف رائحة النهر الذي خرجت منه ، هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾
﴿ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾
الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن:
الآيات الكونية في القرآن الكريم تزيد على ألف وثلاثمئة آية ، وكلها تبين عظمة الله عز وجل ، ولأنه هذا القرآن كلام الله ، ولأن هذا القرآن لكل البشر ، ولكل الأمم والشعوب إلى يوم القيامة يجب أن يكون أنه دليل كلام الله ، والآيات الكونية التي فيه والتي تزيد على ثلث القرآن تؤكد أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .
الأستاذ علاء :
الحقيقة ، تابعنا هذا الفيلم في إعجاز لله عز وجل في خلقه كيف أن السلمون ولد وفقس بيضه في أعالي الأنهار ، وعاد إليه بعد آلاف الأميال ، وفيها تفرعات ، وأيضاً عكس مجرى النهر ، ثم يعاكسه .
الدكتور راتب :
مزود ببنية رائعة جداً وقوية .
الأستاذ علاء :
كما تفضلت هذا يدل على عظمة الخلق ، عظمة خالق هذا الخلق ، وعلى الدقة التي ما فيها فطور ، قال تعالى :
﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾
الدكتور راتب :
كيف يُعصى هذا الإله العظيم ؟!
هذا الإله ألا يخطب وده ؟ ألا ترجى جنته ؟ ألا تخشى ناره ؟ هذا الإله العظيم يعصى ؟ أنعرض عنه ؟ لعل الله سبحانه وتعالى يهدينا إليه .
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
لا يسعنا إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة دمشق ، شكراً لهذا الحديث ، سنلتقي إن شاء في الحلقة القادمة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .