وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الإنسان - تفسير الآيات 1-3 الثواب و العقاب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الأول من سورة الإنسان:

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

معاني الآية:

هل حرف استفهام قد تأتي للتقرير، وقد تأتي للنفي

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

أي لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ( هذا استفهام تقريري بمعنى: قد )، وقد تأتي هل بمعنى الإنكار، هل جحدت لك حقك ؟ لم تجحد لي حقي، هل قصرت في واجبي ؟ لم تقصر في واجبك، فإما أن تأتي هل استفهام تقريري بمعنى قد، وإما أن تأتي هل استفهام إنكاري بمعنى لا.
قال علماء التفسير: هذه بمعنى قد، يعني استفهام تقريري(أي لقد أتى)كل شخص له عمر من الأخوة الكرام الحاضرين، لو رجعت إلى الوراء إلى أكثر من تاريخ ميلادك، إنسان ولد بالثلاثينات، بالأربعينات، بالخمسينات، ارجع عشر سنوات إلى ما قبل تاريخ ميلادك، هل كان لك وجود ؟ هل كان لك ذكر ؟ هل أحد يعرفك ؟ هل أحد يفكر فيك ؟ أنت مخلوق حادث، لم تكن من قبل، لم يكن لك وجود، لم يكن لك ذكر، لم يكن لك اسم، لم يكن لك خطر، لا أحد يعرفك، ولا أحد يذكرك، ولا أحد يعلم بوجودك، لم تكن بالأساس، فالمخلوق حادث، فالذي خلقك ولم تكن من قبل شيئاً، هل هو لا يقدر على أن يعيد خلقك مرة ثانية ؟

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾

لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.

النعم التي أنعم الله بها على الإنسان:

1 – نعمة الإيجاد:

أحياناً إنسان يتصفح كتاب، يفتح صفحته الأخيرة أو الأولى فيرى أنه قد طبع سنة كذا، إذا كان هذا العام يسبق ميلاده في أثناء صف أحرف هذا الكتاب، في أثناء طبعه أين كنت أنت ؟ الله عز وجل تفضل عليك بنعمة الإيجاد، هذه من أعظم النعم، هذه من أجل النعم أوجدك

﴿ لم يكن شيئاً مذكوراً ﴾

لماذا أوجدك ؟ أوجدك ليسعدك، أوجدك ليرحمك، أوجدك لجنة عرضها السماوات والأرض.

﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

( سورة هود )

هذه آية قطعية الدلالة، كل بني البشر خلقوا ليرحمهم الله عز وجل في الدنيا و الآخرة، وما المصائب التي تحل بالبشر إلا لأنهم خالفوا منهج الله عز وجل.

الإنسان هو المخلوق الأول:

الإنسان مخلوق متميز، الإنسان مخلوق أول والدليل:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)﴾

( سورة الأحزاب )

أنت في رأس قائمة المخلوقات، لأن الأمانة عرضت على السماوات والأرض أبين أن يحملنها، أشفقن منها، وحملتها أنت، وقلت أنا لها، أنا لها، أنا لها، فلما قَبِلت حمل الأمانة سخرت لك السماوات والأرض.

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

( سورة الجاثية )

أيهم أكرم على الله المسخر أم المسخر له ؟ المسخر أقل من المسخر له، الكون كله مسخر لك لأنك قبلت حمل الأمانة.

ما الأمانة التي قبل الإنسان حملها:

ما الأمانة ؟ نفسك التي بين جنبيك، قال تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

( سورة الشمس )

الأمانة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تزكي نفسك لتكون مؤهلة لجنة الله عز وجل، أصل الخلق للجنة، لدار النعيم، لدار القرار، لدار الخلد، لدار التكريم، لدار التشريف، لدار لهم ما يشاءون فيها، لدار قطوفها دانية، لدار جنات تجري من تحتها الأنهار، لدار وحور عين مخلوق للجنة، لا تعب، ولا نصب، ولا برد، ولا حر، ولا مرض، ولا قهر، ولا فقر، ولا خوف.

(( قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))

[أخرجه البخاري عن أبي هريرة ]

ثمن الجنة:

هذه الجنة الأبدية، ثمنها أن تأتي إلى دنيا محدودة، سنوات معدودة، أيام وليالي، وتطيع الله فيها ( الطاعة محدودة، والعطاء لا نهاية)، تطيعه في سنوات محدودة، وتستحق جنة الله اللا محدودة، ما حرمك من شيء، ولكن نظم لك الشهوات، حينما قبلت حمل الأمانة

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾ 

حمل الأمانة أن تزكي نفسك، أن تؤهلها للجنة، كيف ؟ 

مقومات التكليف:

1 ـ الكون:

بادئ ذي بدء أن تعرفها بالله، فالكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى، الكون كله تعبير عن عظمة الله عز وجل، فقد قال تعالى: 

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

( سورة يونس )

ما الذي يدلك على الكون:

1 ـ خلق الله:

خلق الله يدلك عليه، خلق الله يدلك على أن لهذا الكون إله موجود واحد، كامل، يمكن أن تجمع كلمات الله الحسنى بكلمات ثلاث إله عظيم، موجود، واحد، كامل، الكون أحد مقومات السفينة، لأنه ينطق بوجود الله.

وفي كل شيء له آيـــــة تدل على أنه واحــــــد
*** 

2 ـ ما حولك من أشياء:

طعامك وشرابك، نفسك التي بين جنبيك، جسمك، ما حولك من أنهار، من أمطار، من جبال، من سهول، من وديان، من بحار، من بحيرات، طعامك، أنواع النباتات، أنواع الحيوانات، أنواع الأطيار، أنواع الأسماك، أنواع الكواكب، المجرات، الليل، النهار، الشمس، القمر، كل ما حولك، ينطق بوجود الله، ينطق بوحدانية الله، ينطق بكمال الله. 

3 ـ العقل:

حينما قبلت حمل الأمانة سخر الله لك السماوات والأرض، وجعل السماوات والأرض تنطق بوجوده، ووحدانيته، وكماله.
ما قيمة السماوات والأرض من دون جهاز إدراكي ؟ أودع فيك قوة إدراكية هي العقل، كرمك بالعقل، وكل إنجاز حضاري، تدهش منه، يأخذ بلبك، إنما هو ثمرة متواضعة من ثمرات العقل، لكن الإنسان الذي شرد عن الله عز وجل يستخدم عقله لغير ما خلق له، يستخدمه للدنيا، العقل خلق في هذا الإنسان ليكون أداة معرفة الله. 

مبادئ العقل:

مبادئ العقل تتناسب مع مبادئ الكون و هي: 

1 ـ مبدأ السببية:

العقل في مبدأ السببية لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا سبب. 

2 ـ مبدأ الغائية:

أي عقلك لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا غاية. 

3 ـ مبدأ عدم التناقض:

العقل لا يقبل التناقض.
هذه مبادئ العقل الثلاثة، وهذه المبادئ الثلاثة هي هيكل الكون الأساسي، نظام السببية، نظام الغائية، نظام عدم التناقض، فإذا أعملت عقلك في الكون، هداك بلطف إلى وجود الله، كل شيء له سبب، من سبب وجود هذا الكون ؟ الله جل جلاله، كل شيء له غاية، لماذا خلقنا ؟ سخر لك الكون، منحك العقل. 

3 ـ الفطرة:

ثم أعطاك فطرة ؛ هذه الفطرة نفس مبرمجة على الخير، مبرمجة على الطاعة، جبلتها أن تعرف الله، وأن تطيعه، وأن تركن إليه وأن تحتمي به، وأن تلجأ إليه، فكل نفس خرجت عن فطرتها تعذبت سمي هذا العذاب كآبي، سمي هذا العذاب تأنيب ضمير، سمي هذا العذاب شعور بالنقص، سمي هذا العذاب شعوراً بالذنب، مسميات أسماء لمسمى واحد، الفطرة أحد مقومات التكليف أعطاك كوناً، وأعطاك عقلاً، وأعطاك فطرة. 

4 ـ الشهوة:

ثم أعطاك شهوة، هي المحرك إلى الله، لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، يوجد ميول و يوجد غرائز و يوجد شهوات، بعضها مسموح به، بعضها محرم، عملية ضبط هذه الأهواء وفق منهج الله. 

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ 

( سورة القصص: 50) 

المعنى المخالف: لو أنك أتبعت هداك وفق هدى الله لا شيء عليك، أودع فيك الشهوات لترقى بها، تارة صابراً، وتارة شاكراً إلى الله عز وجل، لولا الشهوات لما كان هناك جنات، لولا الشهوات لما كان هناك قربات، لولا الشهوات لما كان هناك درجات عند الله، بقدر ما أودع فيك الشهوات، بقدر ما ترقى عند الله، أعطاك الكون، أعطاك العقل أعطاك الفطرة، أعطاك الشهوة. 

5 ـ حرية الاختيار:

ثم منحك الله حرية الاختيار ليثمن عملك، فلو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً بالقدرة، فالله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل الكثير، فأنت مخير، وعاقل، وذو فطرة عالية، و أودعت فيك الشهوات، قال تعالى: 

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

( سورة آل عمران )

6 ـ الشرع:

ثم فوق كل ذلك أعطاك ميزاناً علمياً ( العقل )، و أعطاك ميزاناً نفسياً ( الفطرة )، و أعطاك ميزاناً مركزياً لا يخطئ ( هو الشرع )، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، أعرض ميزان عقلك على الشرع، أو أعرض ميزان عاطفتك على الشرع، فإن توافقا فهو الحق والصواب، وإن اختلفا كن مع الشرع ولا تكن مع العقل، لأن العقل قد يضل، ولأن العقل كالعين لا معنى له من دون وحي يهتدي به، كما أن العين لا معنى لها من دون نور تهتدي به. 

7 ـ القوة:

ثم أعطاك قوة من أجل أن تحقق اختيارك فيما يبدو، أعطاك قوة تتحرك، تصلي، تذهب إلى مجلس علم، تتكلم، تتصرف، قوة، واختيار، وشهوة، وعقل، وفطرة، وكون، وشرع، هذه مقومات التكليف هذه مقومات التكليف.
لذلك:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾ 

لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.

 

الحدث الخطير في حياة الإنسان:

 

أيها الأخوة: الحياة رحلة، لها بداية ولها نهاية، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، كل واحد من أخوتنا الحاضرين له عمر، كيف مضت الأربعون عاماً ؟ الثلاثون عاماً ؟ العشرون عاماً ؟ الخمسون عاماً ؟ الستون عاماً ؟ ويمضي ما تبقى، وفجأة ترى نفسك أمام حدث خطير، حدث مغادرة الدنيا. 

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

( سورة الملك )

بدأ بالموت لأن الحياة أمامك آلاف الاختيارات، أما الموت لا بد من سلوك أحد الطريقين طريق إلى الجنة أو طريق إلى النار،

(( فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار )) 

الخيار صعب جداً، أنت في الحياة في بحبوحة و اتساع، هناك آلاف الحرف، هناك إنسان غني وفقير وبينهما آلاف المراتب، هناك إنسان عالم وجاهل وبينهما آلاف المراتب، هناك إنسان قوي وضعيف وبينهما آلاف المراتب، خيارات واسعة جداً، أما عند الموت إما إلى جنة أبدية يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفد عذابها، لا يوجد خيار طريقان لا ثالث لهما، مصيران لا ثالث لهما، نتيجتان لا ثالث لهما جنة أو نار. 

﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾

( سورة آل عمران )

نَعَم الجنة:

1 ـ فيها ما تلذ الأعين و تشتهي الأنفس:

قال تعالى: 

﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)﴾

( سورة النحل )

2 ـ النظر إلى وجه الله الكريم:

قال تعالى: 

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

(سورة القيامة)

3 ـ أن تنال رضوان الله و محبته:

وفوق هذا وذاك: 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾

(سورة التوبة )

في مكان، وجمال، ونبات، وحور عين، و ولدان مخلدون هي الجنة الحسية، و يوجد جنة أرقى منها أن تنظر إلى وجه الله الكريم، و جنة أرقى من هذه وتلك أن يشعرك الله أنه يحبك، وهو راض عنك، وهذا أثمن شيء يصل الإنسان إليه من دون استثناء، أن تصل إلى رضوان الله، إلى أن يرضى الله عنك، إلى أن يقربك.

 

عذاب النار:

1 ـ شدة العذاب في النار:

النار والعياذ بالله، حدث ولا حرج. 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56)﴾

(سورة النساء )

2 ـ البقاء و الخلود فيها:

﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

( سورة الزخرف )

3 ـ تمني الموت:

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾

( سورة الحاقة )

معاني لم يكن شيئاً مذكوراً:

1 – في وقت من الأوقات ليس للإنسان أي وجود:

أيها الأخوة الكرام:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾

 

كل واحد منا له تاريخ ميلاد، وقبل هذا التاريخ لك يكن شيئاً مذكوراً، لا أحد يعرفه، لا أحد يذكره، ليس له وجود، ليس له ذكر، ليس له اسم، ليس له هوية، ليس له اسم بالجدول، أنت موظف لك اسم بالجداول، لك اسم بدائرة النفوس، يوجد معك هوية، أي لا يوجد إنسان ليس له هوية، أما في وقت من الأوقات ليس لك وجود إطلاقاً، هذا معنى.

 

2 ـ نسيان من سهل له الخروج من بطن أمه بعد أن كان شيئاً منسياً:

يوجد معنى آخر: المعنى الآخر:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾

لما كنت صغيراً، طفل يرضع من ثدي أمه، طفل توضع له الفوط، طفل لا يفقه شيئاً، لا يعلم شيئاً، ضعيف التفكير، ساذج، فطري، بعد ذلك أصبح ذا شأن كبير، معه شهادة علمية عالية جداً، أو له حجم مالي كبير جداً، أو يحتل مركزاً مرموقاً جداً، نسي أنه قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، عظماء العالم كانوا أطفالاً، وحينما كانوا أطفالاً لا أحد يعبأ بهم، عظماء العالم كلهم، كانوا أطفالاً، فحينما كانوا أطفالاً كانوا بحاجة ماسة إلى ثدي أمهم، إلى من تنظفهم، إلى أب يرعاهم، إلى أب يأتيهم بالطعام ليأكلوا، إلى طبيب يعالجهم، إلى رعاية مكثفة من أمهم أو أبيهم، فلما أصبح إنساناً كبيراً، إنساناً ذا خطر، إنساناً ذا مكانة، ذا حجم مالي كبير، نسي طفولته، ونسي أصله، وتغطرس على عباد الله، نسي أصله وطفولته، واستعلى على عباد الله.
نسي أصله وطفولته وبنى مجده على أنقاض الناس، أو بنى غناه على إفقارهم، أو بنى حياته على موتهم، نسي الذي خلقه، نسي الذي صوره في بطن أمه، نسي الذي سهل له السبيل (الخروج) من بطن أمه.

 

﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾

( سورة عبس )

منعكس المص عند الإنسان:

نسي الذي هداه الثديين، نسي الذي أعطاه منعكس المص، لولا منعكس المص لما كنا في هذا المسجد، لما رأيتم واحداً على وجه الأرض منعكس المص، الطفل بمجرد أن يولد من دون تعليم، من دون توجيه، من دون أن يخضع لدورة، من دون أن يقرأ كتاباً، يضع شفتيه على ثدي أمه، ويحكم إغلاقهما ويسحب الهواء، عملية معقدة، لو أن هذا المنعكس لم يكن مع هذا الصغر، وأراد الأب من ابنه الذي يولد لتوه أن يعلمه كيف يمص ثدي أمه، تفضل علمه، اعمل له دورة، قل له باللغة العربية يا بني ضع شفتيك على ثدي أمك وأحكم إغلاقهما ثم اسحب الهواء، من أجل أن تعيش، لولا هذا المنعكس الذي أودعه الله فينا لما رأيتم على وجه الأرض إنساناً.
بعد ما كبر صار شخصية مرموقة حجمه المالي ثلاثمائة مليون، يحتل منصباً رفيعاً جداً، يحمل أعلى شهادة، نسي الله، ونسي أنه من نطفة، ونسي أنه كان صغيراً، ونسي أنه يرضع من ثدي أمه، ونسي كيف كان يملأ الفراش صباحاً، هذا كله نسيه ونظر إلى معطفه، وإلى مركبته، وإلى ما على كتفيه، أو إلى منصبه الرفيع، أو إلى حجمه المالي، أو إلى مكتبه التجاري، أو إلى صفوته، أو إلى جماعته، أو إلى أتباعه:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾

 

الإمام الشافعي يقول كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي.

 

آيات الله في الإنسان:

 

أحد الخلفاء الكبار الذي كان إذا نظر إلى سحابة يقول لها: اذهبي أينما شئت يأتيني فرجك، سأل مرة وزيره، أو سأله وزيره يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا منع عنك ؟ قال بنصف ملكي، قال: فإذا منع إخراجه ؟ قال بنصف ملكي الآخر، كل ملكه لا يساوي كأس ماء، وأجهزتكم الدقيقة في أجسامكم آية من آيات الله.

 

أهمية الهرمونات في جسم الإنسان:

 

لو تعطل جهاز، لو اختل هرمون واحد ( الغدة الدرقية تفرز اثنا عشر هرموناً ) الهرمون الواحد لو تعطل لأصبحت حياة الإنسان جحيماً، من هذه الهرمونات:

 

1 ـ هرمون النمو:

لولا هذا الهرمون لكان الناس أقزاماً. 

2 ـ هرمون الجنس:

فلولاه لما كان هناك رجل وامرأة، الغدة النخامية ملكة الغدد. 

3 ـ هرمون توازن السوائل:

لولا هذا الهرمون لأمضيت الوقت كله في شرب الماء وطرحه، لا تستطيع أن تفعل شيئاً، قد يشرب الإنسان خمسة براميل ماء ويطرحهما هي وظيفته، شرب وطرح لولا هذا الهرمون الذي لا يرى بالعين.
والغدة النخامية تفرز اثنا عشر هرموناً ووزنها نصف غرام، وهي ملكة الغدد. 

4 ـ هرمون الاستقلاب:

من هذه الهرمونات هرمون الاستقلاب، هي التي تأمر الغدة الدرقية بالعمل ( الدرقية خطيرة جداً ) تحول الغذاء إلى طاقة، هذا الاستقلاب تحويل الغذاء إلى طاقة، لو تعطل هذا الهرمون لرأيت الناس كسالى أوزانهم تزيد، ونشاطهم يقل، لو أفرزت زيادة عن المعقول لا تنام الليل يوجد نشاط ليس له حدود.
فبالتوازن الدقيق بين هرمون الدرقية الذي يثبت النخامية، وهرمون النخامية الذي يثبت الدرقية يتمتع الإنسان بالحياة المنعشة، ينام، يتحرك، يأكل، يزداد الوزن، أو يقل الوزن، فالإنسان حينما ينسى أن أصل من نطفة خرجت من عورة ودخلت إلى عورة وخرجت من عورة، وكان صغيراً لا يضبط نفسه، ولا ينطق، ولا يتكلم، ولا يمشي، شيئاً فشيئاً صار شخصاً. 

هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً:

ليس له أي قيمة، الآن عظماء الناس لهم احترام كبير، لهم طقوس كبيرة جداً، إذا ذهبوا إلى مكان تطلق لهم المدافع، يحيّون بسلم من حرس الشرف، وتنشد الأناشيد، هؤلاء كانوا صغاراً، إذا شخص أعطاه الله شيئاً، أعطاه منصباً رفيعاً، أعطاه علماً، أعطاه طلاقه لسان، أعطاه مالاً، أعطاه زوجة، أعطاه أولاداً، أعطاه خبرة تجارية، أعطاه اختصاصاً معيناً، أعطاه ذكاء، أعطاه طلاقه لسان لا ينسى أصله، قال تعالى:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾ 

ثم يقول الله عز وجل: 

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)﴾

المورثات و عملها:

نطفة، ما هي النطفة ؟ حوين، الرجل يفرز باللقاء الزوجي خمسمائة مليون حوين، تحتاج البويضة إلى حوين واحد، هذا الحوين له غلاف، له هيلولة، لو نواة، على النواة مورثات، الآن شغل العالم الشاغل الهندسة الوراثية، كم مورث ؟ وَاللَّهِ لا أعلم، سمعت أرقاماً كثيرة، سمعت رقم خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، على النوية التي في الحوين المنوي، وسمعت مليون وسمعت مائة ألف، إلى أن الشيء الثابت إلى الآن اكتشف ثمانمئة مورث.
أية صفة ثانوية في الجسم يقابلها مورث، مورث الكولسترول، مورث الاستقلاب، مورث اللون، مورث الشعر، يعني الإنسان مبرمج برمجة دقيقة، فمورثات البويضة مع مورثات الحوين المنوي يجتمعان ويختلطان ويشكل الجنين من أقوى المورثين، وهذا من نعمة الله الكبرى، يعني الحوين فيه نقطة ضعف بالاستقلاب، مورث الاستقلاب في الأنثى قوي، القوي يغلب الضعيف، فيأتي الجنين بصفات أحد الأبوين، أما في الاستنساخ الشيء لا يكون، لا يوجد بالاستنساخ

﴿ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ 

في طقم واحد، فالخطأ يتكرر. 

الاستنساخ:

يزعمون أنهم صنعوا إنساناً عن طريق الاستنساخ، مئات المحاولات سبقتها، ومئات الحالات الشاذة والمنحرفة ظهرت معهم، أما حينما وصلوا إلى شكل مقبول هو الذي ذكروه، فكلمة

﴿ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾

هذه تنفي الاستنساخ، لأنه في ذكر وفي

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)﴾

جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أعطاك الله سمعاً، بإمكانك أن تسمع الحق.

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

( سورة الملك )

 

أعطاك العين لترى بها آيات الله عز وجل.
وأعطاك الأذن لتسمع بها، كلام الله عز وجل.
أعطاك سمعاً وبصراً من أجل أن يبتليك بهما، إن السمع والبصر، وإذا جاء الفؤاد مع السمع والبصر فهو العقل.

 

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)﴾

( سورة الإسراء )

محاسبة الله تعالى للإنسان:

إن هذا الذي يستخدم الحواس لمعصية الله، يستخدمها في المعاصي و الآثام، لا في الطاعات والقربات، ينظر إلى عورات المسلمين لا إلى آلاء الله عز وجل، يستمع إلى ما فحش من الكلام، وإلى الغناء لا إلى آيات الله تتلى عليه

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ً ﴾

 

لأن الله جعلك بصيراً سيحاسبك.

 

﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106)﴾

( سورة المؤمنون )

 

بل إن الله سبحانه وتعالى يسمع الحق.

 

﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)﴾

( سورة القصص )

 

الله عز وجل قال:

 

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾

( سورة الليل )

 

على إذا جاءت مع لفظ الجلالة تعني الإلزام الذاتي، الله عز وجل ألزم نفسه بالهدى، قضية الهدى على الله.

 

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

( سورة الأنفال )

 

لو في الإنسان ذرة خير لأسمعه الله الحق.

 

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾

( سورة النحل )

وعلى الله بيان سبيل القصد إليه، السبيل الموصل إلى الله على الله بيان السبيل

﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾

 

العلماء قالوا: وعلى الله بيان سبيل القصد إلى الله.

 

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

(سورة العنكبوت )

الإنسان مخير بمعرفة الحقيقة:

 

ولكن الإنسان مخير، مخير بمعنى أنه إذا أراد الحقيقة اتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة، أي شيء يدله على الحقيقة، الأقدام تدل على المسير، لا يحتاج إلى حاسوب، ولا إلى مجهر، ولا مرصد، ولا إلى مخبر، ولا إلى كتب، ولا إلى ترجمات، الأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، والبعرة تدل على البعير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدلاني على الحكيم الخبير ؟

 

البحث عن الحقيقة:

 

إن اتخذ الإنسان قراراً بالبحث عن الحقيقة، أي شيء يدله على الله، كأس الماء عينه سمعه، لسانه، قلبه، جسمه، عظامه، عضلاته، طعامه رغيف الخبز أمامه، كأس الحليب أمامه، الدجاجة، البقرة، الفواكه النباتات الشمس، القمر، إن أردت الحقيقة كل شيء يدلك عليها، وإن لم ترد الحقيقة، قد تحمل أعلى شهادة بالطب، وقد تحمل أعلى شهادة في الكيمياء والفيزياء، وقد ترى من أسرار الكون ما لا يراه معظم الناس، وترى من أسرار البحار ما لا يراه معظم الناس، وترى من أسرار النبات ما لا يراه معظم الناس، ومع ذلك لا تعرف الله ولا تطيعه، لأنك ما أردت الحقيقة.
مثلاً: ائتِ بأرخص آلة تصوير بسيطة جداً، لا تغير فتحة، ولا تغير سرعة، ولا تقريب ولا إبعاد، أبسط آلة، أرخص آلة، علبة فيها عدسة، هذه الآلة مع الفيلم تعطيك صورة، وائتِ بأرقى آلة تصوير ثمنها ثمانمئة ألف، بلا فيلم لا تعطيك شيئاً، فإذا كان الإنسان ذكياً جداً معه شهادات عالية جداً، وأتيح له أن يرى أسرار الكون، ولم يطلب الحقيقة لا يرى شيئاً، وإنسان بثقافة متواضعة جداً، بمعلومات أولية، بأشياء بسيطة، إن أراد الحقيقة يصل إليها، ولا تنسوا مثل آلة التصوير أرخص آلة مع فيلم تعطي صورة، وأغلى آلة بلا فيلم لا تعطي شيئاً لذلك:

 

﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)﴾

( سورة العنكبوت )

 

إن أردتم الإيمان.

 

﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

( سورة البقرة )

 

إن أردت التقوى هذا الكتاب يهديك.

 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)﴾

( سورة الأحزاب )

معنى الهدى:

 

قضية الهدى قضية دقيقة جداً، لخصتها في هذا الكلام: إن أردت الهدى كل شيء يدلك عليه، ولا بد من أن تصل إليه، وزوال الكون أهون على الله من ألا تصل إليه، إن أردت الهدى أردت الحقيقة، والحقيقة واحدة، الحقيقة لا تتعدد، والحق لا يتعدد، إن أردت الحقيقة أنت وأردتها أنا لا بد من أن تلتقي بها.

 

الخصومات بين الناس:

 

كل أنواع الخصومات، كل أنواع التفرقة بين البشر بسبب أنهم ما أرادوا الحقيقة أرادوا المصلحة، أرادوا الدنيا، الدنيا تفرق، والحقيقة تجمع، لو أنهم أرادوا الحقيقة لاجتمعوا، وتوحدوا، وتكاتفوا، وتعاونوا، وتناصروا وتضامنوا، وقهروا أعداءهم، أما لأنهم أرادوا الدنيا، الدنيا فرقتهم وجعلتهم شيعاً وأحزاباً، وجعلتهم ممزقين.

 

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾

( سورة الأنفال )

الحق يجمع والباطل يفرق، الباطل مكاسب مادية، والمكاسب المادية لا يمكن أن تتوزع بالتساوي، كل يريدها كلها له، تنشأ الخصومات، أما الحق قيم، مبادئ، هذه توزع بالتساوي على الناس أجمعين، لا تبتعد كثيراً، اجلس مع أصدقائك في سهرة، حدثهم عن الدنيا، النفوس تضطرب، هذا حدثنا عن رحلته، وكم أنفق على هذه الرحلة، يوجد شخص فقير بين الحاضرين يشعر بالحقد، هذا تحدث عن منجزاته أوتي حظاً عالياً، كان له منجزات، هذا ما عنده منجزات، لو أنك تحدثت عن الله عز وجل لاجتمعت القلوب، فالحق يجمع والدنيا تفرق، الحق يؤلف والدنيا لا تؤلف، قال تعالى:

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) ﴾

طريق الهداية:

 

الآن:

 

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾

أي دللناه على أول الطريق

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾

و على الله الهدى

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾

الله عز وجل تكفل بذاته العلية أن يبين لنا السبيل

﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾

فالإنسان مخير، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً بالقدرة، الإنسان مخير.
جيء برجل شارب خمر لسيدنا عمر قال أقيموا عليه الحد، قال: وَاللَّهِ إن الله قدر عليّ ذلك ؟ قال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأن افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، والذي يعتقد بالجبر يعتقد اعتقاد فاسداً باطلاً لا أصل له:

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾

هو

﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

( سورة البقرة )

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

( سورة الأنعام )

الآيات المحكمات و الآيات المتشابهات:

قال علماء التفسير: هذه الآية أصل في اختيار الإنسان:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

وقال علماء الأصول: الآية محكمة، الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمة مهما قلت.
كيف الآيات المتشابهة مهما كثرت تحمل على الآيات المحكمة مهما قلت ؟ أي إذا قلت القمح مادة خطيرة، ما معنى هذا الكلام ؟ يعني قنبلة ؟ لا ! ماذا أقصد بخطيرة ؟ إذا قلت بعد قليل القمح مادة أساسية في حياة الإنسان، معنى خطيرة هي كلمة متشابهة (تحير) فإذا قلت القمح مادة أساسية في غذاء الإنسان.
إذاً: كلمة خطيرة تعني أنها مادة أساسية، فالآيات المتشابهة لو أننا شممنا من آية أن الله أجبرنا على الضلال مثلاً قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾

 

هذه الآية المحكمة تفسر كل الآيات المتشابهة، بل إن الإضلال إذا عزي إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري يؤيد هذا قوله تعالى:

 

﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾

( سورة الصف: 5 )

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾

ملاحظة هامة:

 

ملاحظة: شاكر اسم فاعل، وكفور اسم فاعل لكن مبالغ به، كافر وكفور، و يوجد شاكر وشكور، لو أن الله إما شكوراً وإما كفوراً لا يوجد مشكلة، لو قال إما شاكراً وإما كافراً، لا يوجد مشكلة، أما لماذا قال شاكراً من دون مبالغة وكفوراً بصيغة المبالغة ؟ قال بعض العلماء: الإنسان لن يستطيع أن يشكر الله مهما فعل، لأن عطاء الله لا يكافأ، فأعلى إنسان شكر الله اسمه شاكر، النبي الكريم الذي جاء الحياة فأعطى ولم يأخذ، عاش ثلاثة وستين عاماً في الدعوة كلها لله، وفي تحمل المتاعب، وفي تجشم المصاعب، ومع ذلك اسمه شاكر، أما الكفور حينما تتغافل عن نعمة الله العظمة أدنى تغافل فهذا مبالغة بالكفر، يعني الأم لو قلت لها أف لكنت عاقاً، أف، لأنها هي موجودة من أجلك، كل عملها من أجلك، فلا ينبغي أن تقول لها كلمة أف.

 

الشاكر و الكفور:

 

مهما شكر الإنسان ربه لا يمكن أن يكون شكره مساوياً لنعم الله عز وجل فجاءت شاكراً، وأما الكفور أي لو أنك تركت فرض صلاة.
أعظم إنسان شكر الله يسمى شاكراً، لأن إنساناً ما في الكون لا يستطيع أن يوفي فضل الله حقه، يوجد قصة على ذمة الروايات أحد الصحابة الكرام اسمه عبد الله بن رواحة يعينه النبي قائد ثالثاً في مؤتة، الأول سيدنا زيد، والثاني سيدنا جعفر، والثالث عبد الله بن رواحة، فأول قائد أمسك الراية بيمنه وقاتل بها حتى قتل ( استشهد سريعاً )، أخذها جعفر سريعاً فحمل اللواء قاتل به حتى قتل، جاء دور ابن رواحة كان شاعراً تردد ثلاثين ثانية قال:

 

يا نفس إلا تقتـــلي تموتي هذا حمـام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضـــيت و إن توليت فقد شقيـــت
* * *

وأخذ الراية فقاتل بها حتى قتل، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه الوحي وهو في المدينة قال:

(( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني أرى مقامه في الجنة، ثم قال وأخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل وإني أراه في الجنة يطير بجناحين ))

فسمي جعفر الطيار، ( وهناك مشروع إن شاء الله إن شاء مسجد بالمطار اسمه جعفر الطيار يتناسب مع المطار)، ثم سكت النبي فسكوت النبي أقلق الصحابة على الصحابي الثالث، قالوا يا رسول الله ما فعل عبد الله ؟ قال:

(( ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه ))

 

تردد ثلاثين ثانية ببذل حياته، فأنت أمام فضل الله عز وجل مهما بذلت لا تقدم شيئاً، أما أقل معصية معنى هذا أنت في كفر شديد.
لذلك سيدنا عمر سأل سيدنا حذيفة بن اليمان ( أمين سر رسول الله ) قال له: بربك هل اسمي مع المنافقين ؟ عملاق الإسلام من شدة خوفه من الله سأل هذا السؤال، هذا بعض ما قاله العلماء حول إما شاكراً من دون مبالغة وإما كفوراً مع المبالغة، وقال بعضهم الشاكرون قليلون، وأما المنحرفون كثيرون.

 

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) ﴾

( سورة الأنعام )

﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ﴾

( سورة سبأ )

الوفاء بالعهد:

 

حينما أرى حول الكعبة المشرفة حجاج بيت الله الحرام وهم بالملايين، يقفون عند الحجر الأسود، ويتجهون نحوه، ويرفعون أيديهم، ويقولون: بسم الله، الله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، و اتباعاً لسنة نبيك، وعهد على طاعتك، فإذا عادوا إلى بلادهم، عادوا كما ذهبوا، لهذا قال الله تعالى:

 

﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ﴾

( سورة الأعراف: 102 )

 

ما أكثر ما يعاهد المسلم ربه ثم ينقض العهد ثم يقع في الحرام ثم يأكل المال الحرام ثم يغتاب، أما البطولة حينما قال الله عن سيدنا إبراهيم قال:

 

﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) ﴾

(سورة النجم )

 

نبي آخر:

 

﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (43) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ(44)﴾

(سورة ص )

فالله عز وجل إذا أطلع عليك من أنت ؟ هل أنت عند عهدك ؟ هل يراك الله صابراً ؟ هل تستحي من الله ؟ عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟!
هل كلما قرأت هذه الآية

﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾

تذكر عهد الله ؟ أنت حينما عاهدته على الطاعة تعاهد خالق الكون، لا تأخذك لومة لائم، امضِ بما أردت

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾

الدعاء:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه وأرنا الباطل باطلاً و

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور