وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 7 - سورة ابراهيم - تفسير الآيات 32 – 34 الشمس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  تسخير الشمس والقمر للإنسان :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي في سورة إبراهيم إلى قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ(32)وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ ..

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ الشمس على عظمتها ، والقمر على عظمته مُسَخَّران للإنسان ، أيهما أعظم عند الله مكانةً المُسَخَّرُ له أم المُسَخَّر ؟ إنه المُسَخَّرُ له ، الله سبحانه وتعالى جعل كل ما في الكون مسخراً من أجلك أيُّها الإنسان ، أنت ماذا فعلت ؟ كيف قابلت هذا الإكرام ؟ هل قابلت هذا الإكرام بالطاعة أم بالمعصية ؟ هل قابلت هذا الإكرام بالشكر أم بالجحود ؟ هل قابلت هذا الإكرام بالعمل الصالح أم بالعمل السيئ ؟ هل قابلت هذا الإكرام بذكر الله أم بالغفلة عن الله ؟ كيف قابلت هذا الإكرام ؟ 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ ﴾ .. ما من واحدٍ منَّا إلا وهو يعلم أنه لا حياة من دون الشمس ، إنها تَهَبُ الأرض ومن على الأرض الحرارة ، ولولا الشمس لأصبحت الحرارة على وجه الأرض أقلَّ من مئتين وخمسين درجةً تحت الصفر ، تصبح الأرض كوكباً متجمِّداً لا حياة فيها ، والشمس تهب الأرض الضوء ، والنبات لا ينبت إلا بالضوء ، لولا ضوء الشمس لما أكلت شيئاً ، إذا مات النبات مات الحيوان وتبعه الإنسان . 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ ﴾ تستنير بضوئها ، وتدفأ بحرِّها ، والشمس تعقم ، الكائنات الضارَّة لا تعيش إلا في الظلام فإذا جاءت الشمس طهَّرت كل شيءٍ يؤذيك ، والشمس كما تعلمون تبعد عن الأرض مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، أي مليون وثلاثمئة ألف أرض توضع في الشمس ، والأرض انظر إليها ، تأمَّل حجمها ، تأمَّل أبعادها .

والشمس تزيد حرارتها السطحيَّة عن ستة آلاف درجة ، بينما تزيد حرارة نواتها عن عشرين مليون درجة ، لو وُضِعَت الأرض في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، يقدِّر العلماء عمر الشمس بخمسة آلاف مليون سنة . ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ الشمس والقمر مُسَخَّرانِ للإنسان ، ربنا عزّ وجل قال على لسان سيدنا إبراهيم حينما خاطب النمرود ، قال :

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) ﴾

[  [ سورة البقرة ] ]

هل تستطيع قوَّةٌ على وجه الأرض أن تغيّر مسار الشمس  ؟ أو أن تعطِّل شروقها  ؟ أو أن تمنع غروبها ؟ أو أن تغيِّر توقيتها  ؟ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ ..

 

تثبيت أشياء وتحريك أشياء لحكمة بالغة من الله عز وجل :


أما معنى قوله تعالى : ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾ شيءٌ دقيقٌ جداً هو أن الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ أرادها ثَبَّتَ أشياء وحَرَّكَ أشياء ، شروق الشمس ، وغيابها ، وتوقيتها ، ومسارها ، وفلكها ثابتٌ لا يتغيَّر ، ولا يتبدَّل ، ولا يتحوَّل ، ولا يُعَدَّل ، ولا يُعطَّل ، هكذا أراد الله عزّ وجل من أجل أن تنتظم حياتنا ، لولا شروق الشمس في أوقاتٍ منتظمة لاضطربت حياتُنا ، ثبَّت الله عزَّ وجل أشياء كثيرة ، لا أحد يقلق أن يستيقظ في اليوم التالي والشمس لم تُشْرِق ، وليس في الشرع دُعاء الشروق ، هناك دعاء الاستسقاء ولكن لا يوجد دعاء الإشراق ، لأن الله عزَّ وجل جعل الشمس هكذا ، هكذا أرادها أن تكون ، ثابتة ، دائبة ، من أجل استقرار حياتنا ، من أجل انتظام حياتنا ، لأن حركة الشمس ، وحركة الأرض ، وحركة القمر يتبعها نظام الزمن ، فكلمة : ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾ بمعنى استمرار الحركة ، عدم تغيُّر الحركة ، ثبات نظام الشمس هذا من نِعَم الله عزَّ وجل ، ثبَّت ربنا أشياء كثيرة ، ثبَّت البذور ، إذا زرعت بذر التفاح ينبت التفاح ، لا أحد في تاريخ البشريَّة زرع بذراً ونبت نبات آخر ، ثبات إنتاج البذور هذه من نعم الله عزَّ وجل ، وهناك أشياء حرَّكها ، حرَّك الأمطار ، السماء قد تُمْطِر وقد لا تُمْطِر ، قد تأتي سنواتٌ خصبة وقد تأتي سنواتٌ شحيحة ، لو أن الله سبحانه وتعالى ثبَّت كل شيء بما في ذلك الأمطار ، بما في ذلك أجهزة الجسم لاستغنى الإنسان عن ربِّه ، وباستغنائه عن ربِّه يشقى بهذا الاستغناء ، فدقِّق ، وراء الأشياء التي ثبَّتها الله عزَّ وجل حكمةٌ بالغة ، ووراء الأشياء التي حرَّكها حكمةٌ بالغة ، ثبَّت الشمس والقمر دائِبَيْن ، البشريَّة لم تقلق ولا تقلق ولن تقلق من جهة الشمس لأنها مسخَّرة .

 

الشمس آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته :


لكن :

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)  ﴾

[ سورة يس  ]

لابدَّ من يومٍ تنتهي وظيفة الشمس ..

﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)  ﴾

[  سورة التكوير  ]

الإنسان الغافل يستضيء بنور الشمس ، وينعم بدفْئِها ، ولكنَّه لا يعرف الله من خلالها ، إذاً استمتاع الإنسان الغافل بالشمس كاستمتاع البهيمة بالشمس ، ولكنَّ المؤمن إذا نظر إلى الشمس رأى الله من خلالها ، دَلَّته على الله لأن الشمس آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته..

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)  ﴾

[  سورة فصلت  ]

الأقوام السابقة الغافلون عن الله عزَّ وجل عبدوا الشمس ، لماذا عبدوها ؟ لِمَا رأوا من خيراتٍ ناتجةٍ عنها ، لو دقَّقوا ، وتأمَّلوا ، وفكَّروا لانتقلوا منها إلى خالقها ..

﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)﴾

[  سورة الأنعام  ]

إلى أن قال :

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

انتقل سيدنا إبراهيم من الشمس إلى الله ، والمؤمن ينتقل من كل شيءٍ إلى الخالق ، لذلك استمتاع المؤمن بالشمس استمتاعٌ بحقيقتها ، واستمتاعٌ بموجِدِها ، أي حينما يتأمَّلها ينتقل منها إلى موجدها فيخشع قلبه ، فإذا خشع قلبه ، وانهمرت دموعه ، وأقبل على الله عزَّ وجل ، عرف أن الشمس كانت دليلاً له إلى الله عزَّ وجل ..

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)  ﴾

[ سورة النحل ]

 

كل ما في السماء مسخر للإنسان بأمر الله عز وجل :


الآية الثانية : ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ ﴾ أي كل ما في السماء ﴿ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ مسخَّراتٌ للإنسان بأمر الله ، تأتمر بأمر الله ، تتحرَّك ، تشرق ، تغيب ، لها فلكٌ دقيق بأمر الله عزَّ وجل . يقول الله عزَّ وجل في آية أخرى :

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)  ﴾

[ سورة يونس  ]

الشمس ضياء ، ضوءها شديد ، ضوءها كشَّاف ، لكن القمر كما أن الإنسان أحياناً يرغب إذا أوى إلى فراشه أن يبقى في الغرفة بصيص ضوءٍ يريه معالم الأشياء ، كذلك ربنا سبحانه وتعالى من رحمته بنا ﴿ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ أي جعل القمر ضوء خافت (نواصة) في الليل .. إذا أطللت من نافذتك إلى الحقل الذي جانب غرفتك ترى معالم الأشياء بضوء القمر ..

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)  ﴾

[  سورة الزمر  ]

أي إن هذا السير له حَد ، هذه الشمس وسيلة إيضاح إلى أن يأتي يوم الامتحان تُرفع هذه الوسائل ، ويُمتَحن الإنسان ، ويظهر عمله .

 

حركة الأرض الحقيقيَّة أو حركة الشمس الظاهرة آية من آيات الله :


 شيءٌ آخر :

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)﴾

[ سورة الفرقان  ]

هذه آية من آيات الله عزَّ وجل ، تكون جالساً في بستان فترى ظلَّ الشجرة ، هذا الظل يتحرَّك ، قد يكون أصغر من الشجرة بُعَيْدَ الظهر ثم يمتدُّ الظل إلى أن يصبح في طولٍ مثل طول الشجرة ، إلى أن يصبح قدر طولين أي ضعفي طولها ، إلى أن يصبح ممتدَّاً إلى مسافاتٍ بعيدة ، من الذي حرَّك هذا الظّل ؟ حركة الأرض الحقيقيَّة أو حركة الشمس الظاهرة ، هذه آية ، يجب أن تستنبط أنَّ هناك حركة ، هناك شيء يتحرَّك ، الإنسان الساذج ينظر بعينيه ، لكن الإنسان المفكِّر يرى بفكره أشياء لا تراها عينه ، هذه العين لا ترى حركة الأرض ، ولا ترى حركة الشمس ، لكنَّها ترى حركة الظل ، وما دام الظل متحرِّكاً فلابدَّ من حركةٍ ما من قِبَلِ الشمس أو من قِبَلِ الأرض . 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾ سكون الظل يعني وقوف الأرض عن الحركة ، أو وقوف الشمس عن الحركة .

 

بقاء كل شيء في الكون بمساره آية من آيات الله الكبرى :


﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾   لولا أشعَّة الشمس لما عرفت حركة الأرض .. ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ الشمس دليلٌ على الحركة .

﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)  ﴾

[ سورة يس ]

أي تنظيم ، الآن لابدَّ للطائرات من قيادةٍ حكيمة في أبراج المطارات ، هذه الطائرة تُعطى الخط الأول ، خط دمشق باريس مثلاً  ، هناك خطوط في الجو ، لو أن موظَّفي الأبراج في المطارات أخطؤوا وأعطوا طائرتين خطَّاً واحداً لكانت كارثة مروِّعة ، وهذا ما حدث من قبل ، طائرتان كل طائرة فيها أربعمئة راكب تحطَّمتا ، ومات جميع ركَّابها ، لماذا ؟ لأن موظَّف البرج أعطى طائرتين خطأً خطَّاً واحداً ، لن تستطيع الطائرةٌ أن تُقْلِعَ من المطارٍ إلا بعد أن تأخذ خطاً من برج إقلاعها وبرج وصولها ، هذا الخط تستقلُّ به ، فإذا طارت طائرةٌ أخرى تُعْطَى خطاً آخر أعلى أو أدنى ، كم طائرة موجودة في الأرض ؟! لنفرض أنهم خمسة آلاف طائرة ، أو خمسين ألف طائرة ، كم موظف في كل مطار يعمل على تنظيم حركة هذه الطائرات ؟!

كل مجرَّة فيها مليون مليون نجم ، وفي الكَوْن العدد الأولي التقريبي حتى الآن التقدير مليون مليون مجرَّة ، أي مليون مليون ضرب مليون مليون ، أي اثنا عشر صفراً باثني عشر صفراً ، أي واحد أمامه يوجد أربعة وعشرون صفراً ، كل ثلاثة ألف ، لم يحدث أن ارتطم نجمٌ بنجم .. ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ كل نجمٍ له فلكه ، كل نجمٍ له مساره ، هناك آية أخرى توضِّح هذا المعنى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَ ا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[  سورة فاطر ]

معنى تزول أن تخرج عن خطِّ سيرها ..﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾ أي أن تبقى الأرض في مسارها ، والشمس في مسارها ، والقمر في مساره ، والنجوم في مسارها ، هذه آيةٌ كُبرى من آيات الله عزَّ وجل ، لو أن قطاراً خرج عن سِكَّتِهِ لكانت كارثة كبرى ، لو أن قطاراً يمشي على طرف وادٍ سحيق وخرج عن سكَّته لكان كل من في القطار لأصبحوا ضحايا ، ماذا يحدث لو أن الأرض خرجت عن خطِّ سيرها ودخلت في خطٍّ آخر وارتطم النجمان ؟ لا يبقى على وجه الأرض شيء من عِظَمِ الصدمة .

﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)  ﴾

[  سورة الرحمن  ]

هناك حسابٌ دقيق ، قال العلماء : لو أنه حدثت بعض الانفجارات في الشمس ، فارتفعت حرارتها ، وذابت الكتل الجليديَّة في القطبين ، لارتفع البحر إلى مسافة ثلاثةٍ وتسعين متراً فوق مستواه الحالي ، لغَمَرَ ثُلُثَي اليابسة ، لو أن انفجاراً حدث في الشمس أذاب هذا الانفجار الجبال الثلجية في القطبين فذابت فارتفعت مياه البحر ثلاثةً وتسعين متراً فانغمر من الأرض أو من اليابسة ثُلُثاها ، إذاً : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ .

 

التعرف إلى عظمة الله والاستقامة على أمره عند التفكر في الكون :

 

الآن بعد الشمس عن القمر ، بعد الأرض عن الشمس ، بعد الأرض عن القمر ، بعد القمر عن الشمس ، هذه كلُّها وَفَق حساباتٍ دقيقةٍ دقيقة ، يقول الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى :

﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) ﴾

[ سورة نوح  ]

الشمس مُتَأَلِّقة ، القمر عاكس ، ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾  ، أي آن الأوان أن ينطلق هذا الفكر من عِقاله ، آن الأوان أن يجول هذا الفكر في ملكوت السماوات والأرض ليتعرَّف إلى عظمة الله ، ليخشى قلبه ، ليستقيم على أمره ، ليعمل الصالحات تَقَرُّباً له ، ليسعد في الدنيا والآخرة .

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾ الشمس والقمر ، لا حياة من دون الشمس ، لا ضوء ، ولا دفء ، ولا تعقيم ، الحياة تنتهي ، فالشمس مسخَّرةٌ لنا . 

 

من تفكر في الليل والنهار رأى الله من خلالهما :


﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ ... قال ربنا عزَّ وجل :

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

يستمتع أهل الدنيا بالنهار المُشْمِس في أيَّام الربيع والخريف ، ينطلقون إلى النُزُهات ، يستمتعون بالليلة القَمْراء ، ينطلقون إلى السَهَرات ، إنهم يستمتعون بالليل والنهار ولو أن الإنسان فكَّر في الليل والنهار لرأى الله من خلالهما ، لذلك : ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ تجد ظلاماً دامساً ، الأشياء لا تُرى ، قلق ، خوف ، إذا سار الإنسان في غابةٍ ليلاً يرى آلاف الأشباح ، ينخلع قلبه من الخوف أحياناً ، فإذا سار في هذه الغابة نهاراً اطمأنَّ قلبه . 

عن التنوخي النصراني رسول هرقل :

(( سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟  ))

[ ضعيف الجامع : حكم المحدث ضعيف ]

وأين النهار إذا جاء الليل ؟ تكون مسافراً ، الشمس مشرقة ، والطريق واضح المعالِم ، وأنت مطمئن ، فإذا جاء الليل بدأت تُبَحْلِقُ في الطريق ، وتتوهَّم أن هذه المركبة قادمةٌ نحوك ، وهذه تبتعد ، والطريق من اليمين ، أين النهار إذا جاء الليل ؟ يقول ربنا عزَّ وجل :

﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)  ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

اختلاف لها معنيان ، إما أن الليل يَتْبَعُ النهار ، اختلاف الليل والنهار ، وإما تفاوت الليل والنهار في الطول والقِصَر ، من جعل الليل يطول في الشتاء والنهار يطول في الصيف ؟ من جعل اختلاف الليل والنهار ؟ الله سبحانه وتعالى ، قد يستمتع الإنسان في الشتاء بالليل ، يؤذِّن العشاء في وقتٍ مبكِّر ، يأتي الصيف حيث النهار الطويل ، إن كنت في عملك في الصيف ترى أن الوقت ممتد والليل قصير ، وفي الشتاء ترى أن النهار قصير والليل مُمْتَد ، فلذلك : ﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ هذا عائدٌ له ، من تقديره وحكمته .

 

إيلاج الليل في النهار من أعظم الآيات :


﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

أَوْلَجَ بمعنى أدخل ، انظر ساعة الغروب كيف أن الليل يأتي من هاهنا ، والنهار يُدْبِر من هاهنا ، إذا نظرت إلى الأفق الغربي ترى أثر ضوء الشمس ، ترى الشفق الأحمر ، فإذا نظرت إلى الأفق الشرقي ترى الظلام ، تنعكس الآية عند الفجر ، إذا نظرت إلى الأفق الشرقي ترى خيطاً أبيض ، فإذا نظرت إلى الأفق الغربي ترى الظلام دامساً ، فربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾ وإيلاج الليل في النهار من أعظم الآيات ، ما قولك لو أن الشمس غابت فجأةً ؟ في بعض القرى حيث محرِّكات الكهرباء تدور وتتوقَّف في الساعة الثانية عشرة ، تنطفئ الكهرباء قبل الساعة الثانية عشرة بعشر دقائق لدقيقةٍ واحدة ثم تعود ، إشعاراً إلى أنه قد قَرُبَ وقت انقطاع النور فهيِّئ نفسك للنوم ، كذلك ربنا عز وجل لو أن الشمس تنطفئ فجأةً لوقع الإنسان في متاهة ، أغنامه متفلِّتة ، حاجاته لم تجتمع بعد ، أولاده ، لكن الشمس تغيب بالتدريج ، يغيب قرص الشمس وتبقى الأرض مُنيرة لساعةٍ وربع تقريباً ، إلى أن يغيب الشفق الأحمر فهذا هو العشاء ، كذلك الشروق ، لو أن الشمس تُشْرِق فجأةً لحدث انبهار للعيون ، لكن حكمة الله عزَّ وجل حينما تشرق الشمس ، وحينما تكون على مستوى النظر تكون حمراء اللون لا تؤذي شبكيَّة العين ، فإذا ارتفعت في السماء ابْيَضَّ قُرص الشمس وصار النظر إلى الشمس يؤذي العين ، حينما تكون الشمس فوق الرأس تكون متوهِّجة ، فإذا كانت مقابل العينين كانت الشمس لطيفة ، هذه آية من آيات الله عزَّ وجل ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ .

 

الليل سكون وهدوء :


﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾ ... سكون ، ترى السكون قد خَيَّمَ على أشدّ البيوت ضجيجاً في الساعة الثانية ليلاً ، لا ترتاح أعصاب الإنسان إلا بالسكون ، وسُمِّي المسكنُ مسكناً لأن الإنسان يسكن فيه ، ترتاح أعصابه في بيته .

الفضل لله عزَّ وجل في أنه جعل في الأرض نظاماً موحَّداً ، حينما تغيب الشمس تأوي المخلوقات إلى أوكارها ، والإنسان إلى بيته ، أما أن يسهر الإنسان يمضي هذا الوقت الذي أعَدَّه الله لراحته ، أعدَّه الله لاسترجاع نشاطه ، أعدَّه الله لصحَّته ، يمضي هذا الوقت في حديثٍ فارغ ، وفي علاقاتٍ ساذجة لا قيمة لها هذا مخالفٌ للسنَّة : 

﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) ﴾

[  سورة الأنعام ]

قرأت ذات مرَّة مقابلة مع طبيب أستاذ في الجامعة ، أعرف هذا الطبيب ليس فيه أيُّ اتجاهٍ دينيٍّ إطلاقاً ، إلا أنه قال : من عاداته التي يصرُّ عليها النوم باكراً حفاظاً على صحَّته  ، ولو أن الإنسان ألْزَمَ نفسه أن ينام باكراً لذاق طعم الحياة ، لأن ..

عن أبي هريرة  رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :

(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا ، ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا. ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي الدرداء  ، وأبي ذر رضي الله عنهما : يَا بنَ آدَمَ  ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ .  ))

[ الترمذي وحسنه الذهبي في "السير  ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع". ]

﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)  ﴾

[ سورة المزمل ]

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)  ﴾

[  سورة الإسراء  ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)  ﴾

[  سورة الرعد ]

 يأتي الليل كالغشاء يُغَشّي الأرض ..

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)  ﴾

[  سورة الشمس ]

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) ﴾

[ سورة يونس  ]

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ﴾ الليل راحة ..﴿ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا - هذه لام التعليل - لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ تصوَّر يا أخي ليس هناك ليل ولا نهار ، ألغيت الحسابات كلَّها ، كم عمرك يا أخي ؟ أي عُمُرٍ هذا  ؟ لا يوجد عمر ، لا أدري ، لو أن الشمس مشرقة دائماً ، لا توجد حركة .

 

اختلاف الليل والنهار واختلاف الفصول من تنظيم الله عز وجل :


﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ .. لولا دورة الأرض حول نفسها لما كان ليلٌ ولا نهار ، لو أنها دارت على مستوىً أفقي لما كان ليلٌ ولا نهار .. لو دارت هكذا والشمس من هنا هذا النصف مشرق إلى الأبد ، وهذا النصف الآخر مظلمٌ إلى الأبد ، لو دارت هكذا .. لا يكفي أن تدور ، لابدَّ من أن تدور على محورٍ غير محور دورانها ، إن كان محور الدوران مطابقاً لمستوي دورانها حول الشمس يبقى الليل سرمديَّاً والنهار سرمديَّاً  ،  ولكنَّها إذا دارت على محورٍ عمودي مع مستوي الدوران يكون ليلٌ ونهار ، ولكن لا يختلف الليل والنهار ، النهار بطول الليل تماماً وتنعدم الفصول . 

ما الذي يجعل الفصول ؟ أن محور الأرض مائلٌ هكذا ، فالشمس تأتي عموديَّةً على نصف الكرة الشمالي فيكون الصيف ، وتأتي مائلةً على نصف الكرة الجنوبي فيكون الشتاء ، فإذا دارت الأرض حول الشمس هكذا جاءت الشمس عموديَّةً على نصف الكرة الجنوبي فكان الصيف ، وجاءت مائلةً على نصف الكرة الشمالي فكان الشتاء ، لولا ميل هذا المحور لما كان صيفٌ ولا شتاء ، ولا ربيعٌ ولا خريف ، لولا دوران الأرض لما كان ليلٌ ولا نهار ، لو دارت على محورٍ أفقيٍّ موازٍ لمستوى دورانها لأُلغي الليل والنهار ، إذا كان المحور مائلاً كان الليل والنهار ، وكان اختلاف الليل والنهار ، وكانت الفصول ، تصميم من ؟ هندسة من ؟ ترتيب من ؟ تنظيم من ؟ الله سبحانه وتعالى . 

 

الحكمة من خلق الليل :


﴿ وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ﴾ من نعمة الليل الإنسان في أثناء النهار يكون في محلَّه ، في عمله ، في وظيفته ، في معمله ، في تجارته ، مشكلة وراء مشكلة ، وراء مشكلة ، وراء قضيَّة ، وراء قضية ، في عملٍ دائب ، لولا الليل لكان الإنسان في عملٍ دائب إلى أن يموت ، يأتي الليل ، يعود إلى البيت ، يجلس ، يبدأ التأمًّل ، يبدأ التفكير ، أين كنت ؟ وإلى أين المصير ؟ من خلقني ؟ قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ وَمِنْ اللَّيْلِ ﴾ حيث السكون ، الأولاد نائمون ، الزوجة نائمة ، الأعمال معطَّلة ، المحل مُغْلَق ، الأمور كلُّها ساكنة .. ﴿ وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ﴾ كأنَّ الله عزَّ وجل قد خلق الليل من أجل التَهَجُّد ، من أجل التأمُّل ، من أجل العبادة ، لذلك :

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)  ﴾

[  سورة القدر ]

لم يقل في نهار القدر ، النهار فيه عمل ..﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ :

﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)  ﴾

[  سورة النور ]

حياتنا منوَّعة ؛ فيها ليل ، فيها نهار ، فيها صيف ، فيها شتاء ، فيها ربيع ، فيها خريف .

 

نعمة النوم نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها :


﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)  ﴾

[  سورة الفرقان ]

النوم سُبات ، هذا الجهاز العصبي يُسْتَهلك في النهار ، فإذا جاء الليل واستراح ، وتباعدت الخلايا العصبيَّة ، وانقطعت السيَّالة الكهربائيَّة ، نام الإنسان ، يستيقظ وكأنه لم يتعب من قبل ، استعاد كل نشاطه ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾ حدَّثني أخ سافر إلى بلد أوروبي فقد النوم دون أن يدري ما السبب ، أول يوم ، ثاني يوم ، في اليوم الثالث ، الرابع ، قال لي : عشرون يوماً ما ذُقْتُ طَعْمَ النوم ، ذهب إلى الطبيب الأول ، فالطبيب الثاني ، إلى مستشفى ، حاروا في أمره ، فاضطرَّ أن يعود إلى بلده ، في أول ليلةٍ عاد إلى بلده نام نوماً عميقاً ، وشيءٌ يحيِّر ‍‍لو أن الله سبحانه وتعالى سلب الإنسان النوم ، هذا الكلام لا يعرفه إلا من سُلِبَ هذه النعمة ، الأرق لا يُحْتَمِل ، يكاد الإنسان ينفجر ، هذا الذي يذهب إلى فِراشِه ويضع رأسه على الوسادة وينام هذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾ .


 الليل والنهار صُمِّما خصيصاً للإنسان :

﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) ﴾

[  سورة الفرقان  ]

أنت في أثناء النهار في عملك ، بالليل في بيتك ، بالنهار هناك نشاط وبالليل همود .. ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ هذا الذي قلته قبل قليل ، حكمة الليل أن تذكر الله فيه ، والآية الدقيقة جداً :

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)﴾

[  سورة القصص  ]

لو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الأمر إلى الأرض أن تقف عن الدوران ، فبقي الليل مستمرَّاً ، ماذا يفعل سكَّان الأرض ؟ لو اجتمعوا واتخذوا قراراً ماذا يفعلون ؟ هل تستطيع أقوى جهةٍ على وجه الأرض أن تأمر الأرض بالحركة ؟ ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ ..

﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)  ﴾

[ سورة يس  ]

شيء دقيق جداً ، الأصل هو الظلام ، الفضاء الخارجي مظلمٌ ظلامٌ دامس ، والشمس استثناءٌ من هذه القاعدة . 

إذاً : ﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ :

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)  ﴾

[  سورة الفجر  ]

 الليل يسري ، يتحرَّك ..

﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)  ﴾

[ سورة الفجر  ]

ما من ثانيةٍ على وجه الأرض إلا وقد دخل فيها الليل تواً ، أبداً ، ما من ثانية ، الأصحُّ من ذلك أن كل مكانٍ على وجه الأرض له توقيتٌ خاص للشروق والغروب ، ما دامت الأرض كرةً والشمس من هاهنا والأرض تدور إذاً النهار تدريجي والليل تدريجي ، ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ(32)وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ لا تنسوا كلمة لكم ، أي أن الليل والنهار صُمِّما خصيصاً لكم أيُّها البشر ، هل أنتم شاكرون ؟ هل أنتم ذاكرون ؟ 

 

سؤال الله عز وجل بلسان المقال أو الحال أو الاستعداد :


﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ قال العلماء : آتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، فهل أنتم سألتموه النجوم ؟ هل سألتموه المجرَّات ؟ هل سألتموه الشمس والقمر ؟ هل سألتموه أنواع الأطعمة المنوَّعة ؟ هذه الدابَّة تأكل نوعاً واحداً طوال حياتها ، هل عرفتم قبل أن تُخْلَقوا أن هناك أنواعاً منوَّعة من الطعام سألتموه إيَّاها ؟ لا ، استنبط العلماء من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ابتدأنا بالنعم من دون أن نسأله إيَّاها ، فلمَّا خُلِقْنا على وجه الأرض سألناه بعضها .. ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾   ، ما دام توجد من للتبعيض ، ومن كل ما لم تسألوه . 

شيءٌ آخر ؛ هذا السؤال يا تُرى بلسان الحال أم بلسان القال ؟ الإنسان أحياناً يسأل الله عزَّ وجل مثلاً : يا رب ارزقني مثلاً عملاً صالحاً أتقرَّب به إليك ، يا رب ارزقني زوجةً صالحة تُعينني على أمر ديني ، دعاء ، يا رب ارزقني بيتاً آوي إليه ، ارزقني ولداً ينفع الناس من بعدي ، ارزقني مالاً حلالاً أتقوَّى به على طاعتك ، هذا سؤال ، لكن الإنسان أحياناً لا يسأل ، فإذا ربنا سبحانه وتعالى ييسِّر له حاجاته ، هو محتاج إلى شيء يقيه البرد ، خلق له الصوف ، مهما كان البرد شديداً ترتدي هذا اللباس الصوفي فتحس بالدفء ، جسمك يسأل الله عزَّ وجل بلسان الحال لا بلسان المقال ، يأتي الصيف تشعر بالحر تشتهي فاكهةً مفعمةً بالماء ، يأتي البطيخ ، يأتي الشتاء تشتهي الدفء ، خلق الله لك الوقود ، الحَطَب ، أو الوقود السائل ، حينما تدخل غرفةً تشتعل فيها المدفأة وكنت في بردٍ شديد تُحِسُّ بالنعيم وتقول : والله النار فاكهة الشتاء ، هذا الجسد يحتاج إلى الدفء خلق الله له ما يسدُّ هذه الحاجة ، قد يحتاج الرجل إلى إنسانٍ يسكن إليه ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ إنسان له تفكير ، وله مشاعر . 

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ فسألتموه ، إما أن تسأله بلسان الحال وإما أن تسأله بلسان المقال ، إذا رأى الأب الرحيم ابنه محتاجاً إلى معطف والشتاء قد اقترب ، من دون أن يدري الابن ، من دون أن يسأل ، يأتي هذا الأب الرحيم بمعطفٍ لابنه قُبيل فصل الشتاء ، فالابن لم يسأل لكن حالته تقتضي معطفاً ..﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ ..

شيءٌ آخر ؛ قال بعض المفسِّرين : وآتاكم من كل ما سألتموه بلسان الاستعداد .

 أحياناً يكون لدى الإنسان إمكانيَّات عالية يجد شيئاً يسدُّ هذه الإمكانات ، أحياناً يتوقُ إلى المعرفة يجد من العلوم ما يسدُّ هذه الحاجة ، إما بلسان القال ، أو بلسان الحال ، أو بلسان الاستعداد ، أحياناً يوجد عند مخترع شوق إلى أن يخترع شيئاً ، فالله سبحانه وتعالى يلهمه الاختراع ، لذلك الشيء الثابت أن كل المخترعات الحديثة التي كشفها الإنسان إنما هي في الحقيقة إلهامٌ من الله عزَّ وجل ، لأن هذا المخترع عنده استعداد ، فجاء الله سبحانه وتعالى وآتاه سؤلَهُ .

سُئل أحد المخترعين واسمه أديسون عن الاختراع فقال : الاختراع تسعٌ وتسعون بالمئة عرق ، بذل جهد ، وواحد في المئة إلهام ، أي الله سبحانه وتعالى ألهم المخترعين فكرة الطائرة ، وفكرة أي جهازٍ يخترعونه ، والدليل قوله تعالى :

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)  ﴾

[  سورة النحل  ]

ألهم الفكرة ، وخلق المواد ، وخلق الوقود ، إذاً تُعْزَى إليه ، إذاً إنك تسأله بلسان المقال ، أو تسأله بلسان الحال ، أو تسأله بلسان الاستعداد .

 مثلاً : لو أن الطالب صدق في حلِّ مسألة عويصة في الرياضيّات لألهمه الله حلَّها ، كأنني أنتقل بهذا الموضوع إلى موضوع الاختيار ، أي حينما خلق الله الإنسان على وجه الأرض تَعَهَّد الله عزَّ وجل أن يؤتيه سؤلَهُ ، لو أن إنساناً طلب من الله أن يطير في الأجواء ألهمه وسائل هذا الطيران ، لو أنه طلب أن يغوص في أعماق البحار آتاه سؤله ، لو أنه طلب أن ينقُل صورةً من قارَّةٍ إلى قارَّة ألهمه سؤله ، فأي شيءٍ تقع عليه عينك في هذه الأرض إنما هو إلهامٌ من الله عزَّ وجل ، ولكن بحسب الطلب ، ليس بحسب الطلب غير الصادق بل بحسب الطلب الصادق ، أي اصدق في أي شيء تنله ، هذا ملخَّص الملخَّص ، أيّ شيءٍ إذا صدقت فيه يجب أن تناله ..

 طفل في قرية من القرى النائية ، صار في مستقبل أيَّامه رئيساً للجامعة ، انتقل مشياً من قريته إلى أقرب مدينة ، عمل في مدرسةٍ بطعامه فقط كي يصبح فيها مدرِّساً ، تقلَّب من مدرسة إلى مدرسة إلى أن نال أعلى الشهادات وصار رئيساً للجامعة ، لماذا صار كذلك ؟ لأنه طلب من الله ذلك .

 

الصدق في الطلب :


﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

أقول لكم : اصدقوا في طلب أي شيء لابدَّ من أن يحقَّق لكم ، أما الشيء الذي لم تصل إليه لست صادقاً في طلبه ، الشيء الذي وصلت إليه أنت صادقٌ في طلبه ، والذي لم تصل إليه لست صادقاً في طلبه ، ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ .

إذاً اطلب من الله ما شئت ، ولابدَّ إن كنت صادقاً في طلبك من أن يحقِّق الله طلبك ، لكنك إذا كنت عاقلاً فاسأله نعيماً مقيماً ، اسأله الدار الآخرة ، اسأله شيئاً لا ينتهي بالموت ، أي شيءٍ في الدنيا ينتهي بالموت إلا معرفة الله عزَّ وجل ، لذلك لم يسمّ الله سبحانه وتعالى الدنيا عطاءً ، إنها أحقر من ذلك ..

عن سهل بن سعد الساعدي :

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))

[  المنذري : الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن  ]

 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟ فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ  ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟ فَقَالَ : فَوَ اللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ . ))

[ صحيح مسلم ]

 اسأله ما شئت ، أي شيءٍ تسأله إيَّاه في صدقٍ يحقِّقه لك ، قول واحد ، ولكن إن كنت عاقلاً اسأله ما لا يفنى ، إذا سألته ما يفنى فقد استهلكت هذا العطاء الكبير في أمدٍ يسير ، لكنك إذا سألته ما يبقى سعدت بهذا العطاء إلى الأبد . 

 

نعم الله عز وجل لا تحصى :


شيءٌ آخر ؛ ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ نعمة ، بعض المفسِّرين قالوا : نعم الله ، الله لم يقل نعم الله ، قال : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ ﴾ أي وإن تعدوا الخيرات من نعمةٍ واحدة لا تعد خيرات نعمة السمع ، لا تعد خيرات نعمة الزوجة ، نعمة الأولاد ، نعمة الصحَّة ، نعمة الخَلْقِ .

شيءٌ آخر في الآية ، إن كنتم لن تستطيعوا إحصاءها فهل تستطيعون شكرها ؟ أنتم عاجزون عن إحصائها فما بالكم في شكرها ؟! أنتم عاجزون عن إحصائها فقط لا النعم كلها ، نعمة واحدة ، يعجز البشر جميعاً مجتمعين ومتفرِّقين عن إحصاء خيرات نعمةً واحدة ، فكيف بكل الخيرات ؟ وكيف بالشُكر ؟ أي نحن عاجزون عن إحصاء خيرات نعمة واحدة .. مثلاً المثانة ، لو لم تكن المثانة لكانت حالة الإنسان صعبةً جداً ، لو كانت ولم تكن مزوَّدةً بالعضلات لكانت حالة الإنسان صعبةً جداً ، نعمة طَرْحِ الفضلات ، نعمة أن الرئتين تعملان وحدهما بتقدير عزيزٍ عليم ، لو أن الله عزَّ وجل أوْكَل هذا العمل لك لما وُجِدَ النوم أبداً ، تنام فتموت ، نعمة ضربات القلب ليست إراديَّة ، وإلا ما بقي أحد حياً ، يقف قلبه لأي سبب فيموت ، القلب لا يأتمر بأمرك ، هذه نعمة ، أي أن نعمة الله لا تحصى ..

 

ظلمُ النفس أشدُّ أنواع الظلم :


﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ .. حينما يغفل عن ربِّه ، وحينما يغفل عن آخرته ، وحينما يغفل عن المهمَّة التي جاء من أجلها ، وحينما يغفل عن معاده ، إنه ظلوم يظلم نفسه ، وكفَّار يجحد خالقه ، أي يظلم نفسه ويجحد نِعَمَ خالقه .. ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ ﴾   ، إذا غفل عن هذه النِعَم ، إذا غفل عن الله ، إذا غفل عن الآخرة ، إذا انغمس في الدنيا .. ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ ، يظلم نفسه ، وظلمُ النفس أشدُّ أنواع الظلم ، ويكفر ربَّه ، وليس من جريمةٍ أبشع من أن يكفر الإنسان بربه الذي خلقه من قبل ولم يكن شيئاً .

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور