- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (014)سورة ابراهيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مقام التبليغ مكلَّفٌ به كل مؤمن :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي وفي سورة إبراهيم عليه وعلى نبيِنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) ﴾
(( وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك . ))
أي أنت مؤمن مكلَّفٌ بنصِّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا فهمت آيةً ، إذا فهمت حديثاً ، إذا فهمت حكماً شرعيَّاً أن تبلِّغه للناس ، لأنه ما من صدقةٍ أفضل عند الله من قول الحق .
وقد مرَّ بنا كيف أنَّ الكلمة الطيّبة
(( عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ﴾
(( عن عبد الله بن عمر :
(( عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
فالنبي عليه الصلاة والسلام مأمورٌ أن يبلِّغ رسالة ربِّه ، ونحن إذا قمنا بزيارته المشرَّفة تقول أمام مقامه الشريف : يا سيدي يا رسول الله ، أشهد أنك بلَّغت الرسالة ، وأدَّيت الأمانة ، ونصحت الأمَّة ، وكشفت الغمَّة ، ومحوت الظُلمة ، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد ، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد .
فالإنسان المستمع فقط مستهلك ، أما الإنسان الداعية إلى الله عزَّ وجل هذا منتج ، أي مقامك عند الله بحجم عملك الصالح .
الدعوة إلى الله أعلى مقامات العمل الصالح :
ما من رجلٍ إلا وله عند الله مقامٌ معلوم ، وهذا المقام المعلوم حجمه بحجم عمله الصالح ، قال تعالى :
﴿
فأنت لك عند الله مقام ، هذا المقام يتحدَّد بمقدار عملك الصالح ، وإذا سلسلنا الأعمال الصالحة تقع هداية الخلق في رأس القائمة ، أي ما من عملٍ صالح يفوق أن تنقذ إنساناً من الظلمات إلى النور ، من الضياع إلى الهدى ، من الشقاء إلى السعادة ، ما من عملٍ صالح يفوق هذا العمل ، والله سبحانه وتعالى شاكرٌ عليم ، يشكرك وهو ربُّ العزَّة على أنك دعوت إليه ، وعلى أنك وجَّهت الناس إلى طاعته ..
﴿
معنى يعصمك من الناس أي يحفظك ، ولا يستطيع أحدٌ أن يصل إليك لأنك بأعيننا ، ولكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب ، إذا كنت مخلصاً لله عزَّ وجل تولَّى الله سبحانه وتعالى حفظك من كل مكروه ، ما دامت النيَّة طيّبة ، وما دام العمل مخلصاً لله عزّ وجل فأنَّى لأحدٍ أن يصل إليك ؟!
صفات الداعية الصادق :
وصف ربنا عزَّ وجل الدعاة الصادقين فقال :
﴿ ﴿
يُبَلِّغُها ..
الفائدة من إضافة العباد إلى الله :
بنو آدم مكرَّمون عند الله سخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض :
(( يا سعد لا يغرَّنَّك أنه قد قيل : خال رسول الله ، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له . ))
باب الله مفتوح .
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
اللقاء مع الله بابه مفتوحٌ لكل الخلق بشرط أن يدفعوا الثمن ، والثمن هو العمل الصالح ، فمن كان عمله صالحاً قَبِلَهُ الله عزَّ وجل وتجلَّى عليه ورَحِمَهُ ..
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
بنو آدم مكرَّمون عند الله ، سخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، ودائماً المسخَّر له أكرم من المسخَّر ، إذا سُخِّر شيءٌ لك فأنت أكرم من هذا الشيء بآلاف المرَّات ..
﴿
﴿
تقييد العباد بالإيمان والفائدة منه :
إذاً :
﴿
يا من تظنُّون أنفسكم مؤمنين آمِنوا بالله ، يا من تلقّيتم الإيمان عن طريق الوراثة ، بحكم العادة ، عن طريق التقليد آمِنوا لأن الإيمان الذي تأخذه بفعل الوراثة هذا الإيمان لا يصمد أمام الشهوات ، لا يصمد أمام الضغوط ولا أمام الإغراءات ، الإيمان الذي يصمد والذي لا تزحزحه الضغوط مهما كَبُرَت ، ولا المُغْرِيات مهما تألَّقت هو إيمانٌ بني على بحثٍ ذاتي ، أما الإيمان الذي تأخذه عفواً من دون تفكُّر ، من دون بحث ، من دون تأمُّل فهذا الإيمان لا قيمة له و ..
من أخذ البلاد بغير حربٍ هان عليه تسليم البلادِ
***
(( عن عمر بن الخطاب : عن النبي صلى الله عليه وسلم : قدِم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسبْيٍ ، فإذا امرأةٌ من السَّبيِ تسعَى ، إذ وجدت صبيًّا في السَّبيِ فأخذته وألصقته ببطنِها وأرضعته ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أترون هذه طارحةً ولدَها في النَّارِ ؟ قلنا : لا واللهِ ، وهي تقدرُ أن لا تطرحَه ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : اللهُ أرحمُ بعبادِه من المرأةِ بولدِها. ))
العبرة لا أن تقف لتصلي العبرة أن تقيم الصلاة وإقامة الصلاة تعني الاستقامة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا . ))
إذاً :
اتباع الشهوات سبب إضاعة الصلاة :
هذا الأمر العظيم ، هذا الأمر الكبير ، هذا الأمر الأوَّل في الإسلام ضَيَّعَهُ المسلمون ..
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
لا أدري أهم قد ضيَّعوا الصلاة لأنهم اتبعوا الشهوات أم اتبعوا الشهوات لأنهم أضاعوا الصلاة ؟ كِلا الحالين صحيح ، لماذا اتبعوا الشهوات ؟ لأنهم أضاعوا الصلاة ، لماذا أضاعوا الصلاة ؟ لأنهم اتبعوا الشهوات ..
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ﴾
وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة يلقون غيَّاً تحت سمعنا وبصرنا ، يكفي أن يتألَّم الإنسان ، يكفي أن يقول لك : إني مظلوم ، يكفي أن تضيق به الدنيا ، يكفي أن يرى المصائب تأتيه من كل مكان ..
اكتمال الصلاة بالإنفاق :
من علامات آخر الزمان أن يذهب الحياء من وجوه النساء ، وترفع النخوة من رؤوس الرجال ، وتنعدم الرحمة من قلوب الأمراء ، لا رحمة في القلوب ، ولا حياء في الوجوه ، ولا نخوة في الرؤوس ، هذا من علامات آخر الزمان .
فالإنفاق في سبيل الله الله سبحانه وتعالى أعطاك المال كي تنفقه في طاعته ، أعطاك هذه الزوجة كي تأخذ بيدها إليه ، أعطاك هذا الابن كي تربّيه تربيةً صالحة ، أعطاك هذا العلم كي تنفقه ، أعطاك هذه الخِبْرَة كي تخدم بها المسلمين فترقى عند الله عزَّ وجل ، يقول لك الآن : هذه العمليَّة تكلِّف ثمانين ألفاً ، وهذه ثمانمئة ألف ، أين أَجْرُهُ عند الله ؟ تقاضى ثمنها أضعافاً مضاعفة حتى أنهك المريض ، وحتى جعله يبيع بيته ، الطب عمل إنساني ، عمل إنساني إذا كان أجره معقولاً ، أما إذا كان المريض سيضَّطر إلى بيع بيته من أجل إجراء عمليِّةٍ يأخذها الطبيب ليضيف رقماً فوق ثروته لم يعد هذا الطبُّ عملاً إنسانيَّاً ، بل صار ابتزازاً ، وكذلك كل المهن الراقية التي يسمّيها الناس راقية إن لم يكن علمك مسخَّراً لخدمة الخلق تقرُّباً إلى ربِّهم فهذا العلم لا أجر لك به ، هذه حرفة تحترفها ، تصبح من خلالها غنيَّاً مُتْرَفَاً ، فالإنسان بلا عمل صالح لا قيمة له في الدنيا ، لا شأن له عند الله ، صغيرٌ في عين الله ، أخذ عن كل حركةٍ وسكنةٍ وكلمةٍ مبلغاً طائلاً ، يقول له يوم القيامة : هل فعلت شيئاً من أجلي ؟ أبداً ، فلذلك :
حرفتك طريقك للوصول إلى الله :
ليس عطاء الله إكراماً ولا منعه حرماناً :
إذاً :
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ
أما الكفَّار فيقال لهم يوم القيامة ..
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أنتم استهلكتم هذا الذي جعلتكم فيه خلفاء ، بالمال ترقى ، وتدخل الجنة ، استهلكته على متعتك الرخيصة ، بالزوجة ترقى وتدخل الجنَّة استخدمتها لمتعتك الشخصية ، ولم تبالي بدينها ، أصلَّت أم لم تصلِّ ، أتحجَّبت أم لم تتحجَّب ، أعرفت ربَّها أم لم تعرفه ، المهم أنها في خدمتك ، وتحقق رغبتك في الحياة ، إذاً ضيَّعت الزوجة وكان من الممكن أن تكون سبباً لك إلى الجنَّة ، ضيّعت المال وأنفقته في المعاصي ، وكان من الممكن أن يكون سبباً لك في دخول الجنَّة ، لذلك :
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) ﴾
هذه مقالة العبد ، والله سبحانه وتعالى لم يوافق عليها ، يقول بعدئذٍ : كلا ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، إنما عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء ، إذا ضاقت عليك الدنيا لا تظنُّ أن هذا إهانةً لك حاشا لله ، إذا ضيَّق الله عليك ..
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾
الله سبحانه وتعالى لا ينسى أحداً من فضله ، وهو الغني لا يبخل ، وهو الحليم لا يعجز .
التقرب إلى الله بخدمة الخلق والإنفاق عليهم :
إذاً :
(( أن النبيَّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ ، فقال : ما هذا يا بلالُ ؟ ! ، قال : شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ ، فقال : أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ ؟ ! أَنْفِقْ بلالُ ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا . ))
﴿
ربُّ العزَّة في عليائه يسأل عبده أن يقرضه لا عن حاجة ، ولكن عن تفضّلٍ عليه ، أقرضني يا عبدي ، افعل هذا العمل خالصاً من أجلي ، ارحم المسلمين ، وفِّر لهم حاجاتهم ، تلطَّف بهم ، خفِّف من آلامهم ، ارفع عنهم مآسيهم ، أقرض الله قرضاً حسناً ، افعل المعروف مع أهله ، ومع غير أهله فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله فأنت أهله ..
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) ﴾
اجعل علمك في طاعة الله ، ابذل علمك للناس ، ابذل خبرتك ، ابذل مالك ، ابذل جاهك ، الناس أحياناً بحاجةٍ إلى جاهك ، إلى مكانتك ، إلى قوَّتك ، ابذلها في طاعة الله ، انصر الضعيف بها ..
الإنفاق سراً وعلانية :
بعضهم قال : الفرض يؤدَّى علانيَّةً ، والنفل يؤدَّى سرَّاً ، أي أن الزكاة تؤدَّى علانيَّةً ، أما الصدقة فتؤدَّى سرّاً .
بعضهم قال : " الإنفاق في السر يُطْفِئ غضب الرب " ، صدقة السر تطفئ غضب الرب ، لماذا ؟ لأنها تؤكِّد إخلاصك لله عزَّ وجل .. لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك .
من تاب إلى الله وعاهده على الطاعة تجلى على قلبه وشعر بسعادة لا توصف:
والله الذي لا إله إلا هو لو تمَّ الصلح مع الله لكنتم في سعادةٍ لا توصف ، إذا تُبْتَ إلى الله توبةً نصوحَاً ، وعاهدته على الطاعة التامَّة عندئذٍ يتجلَّى على قلبك ، وإذا تجلَّى على قلبك ليت شعري ماذا خسرت ؟ يا رب ماذا وجد من فقدك ؟ وماذا فقد من وجدك ؟ الذي وجدك ماذا ضاع منه ؟ ضاع منه بيتٌ في الطابق الثالث ؟ لم يضع عليه شيء ، تأتيك الدنيا وهي راغمة ، يتجلَّى الله على قلبك فتنسى الدنيا وما فيها ، قال أحد العارفين : لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف ..
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنــــــــــا فإنا منحنا بالرضا من أحبنــــــــــــــــــا
ولذ بحمانا واحتمِ بجنــابنـــــــــــــــــــا لنحميك مما فيه أشرار خلقنـــــــــــــــا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغـــــــــــل وأخلص لنا تلقى المسرة والهنـــــــــا
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكــن فما القرب والإبعاد إلا بأمـــــــــــــرنــــا
فـلو شاهدت عيناك من حسننـــا الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبـــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــــــا
***
الجماعة رحمة والفرقة عذاب :
لو يعلم الإنسان ما عند الله لزهد في الدنيا ، من عرف الله زهد فيما سواه ، هؤلاء الذين عرفوا الله ، وأفنوا عمرهم في طاعته ، وفي محبَّته ، وفي التقرُّب إليه كانوا هم الرابحون ، والذين التفتوا إلى الدنيا ، وحسَّنوها ، وزيَّنوها ، وزخرفوها ، وانغمسوا في مباهجها هم الخاسرون..
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) ﴾
أي الشيء الوحيد الذي يندم عليه المرء عندما يموت هو أنه في الدنيا لم يتخذ إلى الله سبيلاً مع الرسول ، أثمن ما في الدنيا أن تكون في طريق الحق بصحبة عارفٍ بالله ، بصحبة دليلٍ على الله عزَّ وجل ، تُحَلِّل وتُحَرِّم وحدك ، تفكِّر تفكيراً شخصياً فتقول : هذه حلال ليس فيها شيء ، فإذا هي تقطعك عن الله عزَّ وجل ، قد تحرِّم ما أحلَّ الله لك ، وقد تحلِّل ما حرَّم الله عليك ، وقد تتيه في الأرض ، لكنَّك إذا كنت بصحبة عالمٍ كبير ، قال الله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ﴾
﴿
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾
(( عن النعمان بن بشير :
وليس من شيءٍ أثمن في الأرض من أن تعرف كلام الله عزَّ وجل ،
العاقل من يستعد للموت قبل أن يأتيه :
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ﴾
أي بالجنازة يموت ، الموت والله الذي لا إله إلا هو أقرب إلى الإنسان من لمح البصر ، كنت مع رجل من أهل العلم جلس إلى جانبي رحمة الله عليه ، وتحدَّثت معه ، وبعد أقل من أربعين دقيقة كان ميتاً ، بأكمل صحَّةٍ ، وأكمل وضعٍ ، وأكمل هيئةٍ ، كنَّا في مكان تحادثنا ثم خرج إلى البيت ، وصل إلى البيت فشعر بضيقٍ فاضَّطجع على سريره ، ذهبوا لإحضار الطبيب فلما عادوا إذا هو قد فارق الحياة ، أي لا مرض ولا شيء إطلاقاً .. عن عائشة أم المؤمنين :
(( لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ ، وُعِكَ أبو بَكْرٍ ، وبِلالٌ ، قالَتْ: فَدَخَلْتُ عليهما ، فَقُلتُ : يا أبَتِ كيفَ تَجِدُكَ ؟ ويا بلالُ كيفَ تَجِدُكَ ؟ قالَتْ : فَكانَ أبو بَكْرٍ إذا أخَذَتْهُ الحُمَّى يقولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ... والمَوْتُ أدْنَى مِن شِراكِ نَعْلِهِ وَكانَ بلالٌ إذا أقْلَعَ عنْه الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ ويقولُ : أَلا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً... بوادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِياهَ مَجَنَّةٍ... وهلْ يَبْدُوَنْ لي شامَةٌ وطَفِيلُ قالَتْ عائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرْتُهُ فقالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنا المَدِينَةَ كَحُبِّنا مَكَّةَ ، أوْ أشَدَّ وصَحِّحْها وبارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها ، وانْقُلْ حُمَّاها فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ . ))
قد يكون الإنسان في أوجّه ويأتيه ملك الموت ، فعلى الإنسان أن يستعد ، عليه أنه إذا أصبح أن يقول : قد لا أُمسي ، وإذا أمسى قد لا أصبح ، وإذا خرج قد لا أعود ، وإذا دخل قد لا أخرج ، وإذا اشترى بيتاً قد لا أسكنه ، حدَّثني صديق يبيع غرف نوم قال لي : جاءني رجل يريد شراء غرفة نوم من أعلى نوع ، سمع أن خشب الجوز أحسن شيء ، ذهبنا واشترينا الخشب ، وعتَّقهم سنتين حتى جفوا ، وظل ستَّة أشهر ينتقي نماذج حتى وجد نموذجاً جميلاً جداً ، وكان يزورني في الأسبوع مرَّة أو مرَّتين يتفقَّد العمل ، قال لي : انبطح مرّة تحت الغرفة مخافة أن يكون في الأرجل عقدة من الداخل ، بعدما انتهت صار على الغرفة طلب لأنها جميلة جداً ، تعال خذها يا فلان ، أُدَهِّن الغرفة ، دهَّن الغرفة ، وركَّب ستائر ، تعال خذها ، أمهلنا يومين آخرين ، بعد هذا الموعد اتصل النجار هاتفياً يوم الخميس فسمع في البيت وضعاً غير طبيعي ، فلمَّا أصرَّ ، قيل له : مات صاحبها ، ثلاث سنوات يهيئ غرفة نوم ، ما تمكَّن أن ينام عليها ليلة ، قال لي : انبطح انبطاحاً حتى ينظر من الداخل هل هناك عقدة في الرجل ؟ أين هو ؟ فالموت أقرب لأحدنا من شِراك نعله ، يستعد الإنسان ، يستعد بالعمل الصالح ، بالاستقامة التامَّة ، بتحرير الذمَّة ، بإعطاء الناس حقوقها وإلا يكون حسابه عندئذٍ عسيراً ، من حاسب نفسه حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة عسيراً ، ومن حاسب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً .
يوم القيامة لا بيع فيه ولا خلال :
أهمية التفكر في حياة الإنسان :
من أجل أن تسعد تصلي ، ومن أجل أن تصلي يجب أن تنفق ، ومن أجل أن تعرف الله عز وجل يجب أن تفكر.
موضوعات للتفكر ، موضوع خلق السماوات والأرض ، موضوع المطر ، موضوع النبات ، موضوع البحار ، موضوع الأنهار ، موضوع الشمس ، موضوع القمر ، موضوع الليل ، موضوع النهار ، آيات صارخة دالة على عظمة الله ، لا يكفي أن تقول : والله الليل يا أخي الليل آية عظيمة ، أين عظمتها ? أين ? لا يكفي أن تبقى في الكليات ، الكليات لا تفعل شيئاً ، يجب أن تعرف أن الليل والنهار ناشئ عن دورة الأرض حول نفسها ، وأن اختلاف الليل والنهار معناه تعاقبهما ، أو معناه اختلاف طولهما ، ويجب أن تعلم أن الفصول لا تكون إلا عن طريق ميل المحور ، فهذه عناوين موضوعات ، موضوع خلق السماوات والأرض ، موضوع المطر ، موضوع النبات ، موضوع البحار ، موضوع الأنهار ، الشمس والقمر ، الليل والنهار ، لو أن أحدكم فكر في آية من هذه الآيات ، لو فكر في الليل والنهار، أو فكر أحدكم بالشمس أو بالقمر ، الدرس القادم إن شاء الله سوف نفصل في هذه الآيات ، هذا طريق الإيمان إذا فكرت في هذه الآيات تؤمن فإذا آمنت فأنت معني بهذه الآية صلِّ كي تسعد ، وأنفق كي تصلي ، أنفق فتصلي فتسعد ، آمن فأنفق فتصلي فتسعد ، وهذا هو الطريق الوحيد إلى الأبدية ، إلى أن تكون سعيداً إلى الأبد ، وأما الدنيا فتنتهي بالموت ، وأي دنيا تنتهي بالموت.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين