- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (014)سورة ابراهيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
أيها الإخوة المؤمنون ... يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
ما الحكمة من هذا النهي؟
هذه اللام ناهية، والإنسان متى يَنْهَى؟ متى تنهى أخاك عن القلق؟ إن رأيته قلقاً، هذا النهي يعني أن هناك أناساً كثيرين يظنون أن الله غافلٌ عما يعمل الظالمون، لأن هناك أناساً كثيرين يظنون ويتوهمون أن الله غافلٌ جاء قوله تعالى :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا ﴾
إذاً النهي في هذه الآية يقتضي أن هناك من يظن أن الله غافلٌ عما يعمل الظالمون .
كيف يظن الإنسانُ أن الله غافل؟
كيف ظنَّ هذا الإنسان أن الله غافلٌ؟ فكيف تظن أن فلاناً نائم؟ إن رأيته قد أغمض جفنه، لابدَّ أن هذا الذي ظننته نائماً بدا لك منه شيءٌ توهَّمت من خلاله أنه نائم، فإذا أغمض الرجل عينيه وتوهَّمته نائماً فقال لك: لا تحسبني نائماً، فربنا عزَّ وجل ما دام ينهانا عن أن نظنَّه غافلاً عما يعمل الظالمون، هناك أناسٌ كثيرون يتوهَّمون خطأً، يظنون خطأً أن الله غافلٌ عمَّا يعمل الظالمون .
ما الذي بدا لهم من الله حتى توهموا أنه غافل؟ يبدو أن الذي بدا لهم من الله حتى توهموا أنه غافلٌ أنه أَمَدَّ الكفار بالمال والبنين والقوة، يقول ربنا سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى :
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
يؤكد في آياتٍ كثيرة الله جل جلاله أنه يمدُّ للظالمين مدا، أيضاً، يقول سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
إذاً: آياتٌ كثيرة في كتاب الله تؤكِّد أن الله سبحانه وتعالى يُمِدُّ للكافر، يمده بالصحة، يمده بالقوة، يمده بالمال، يمده بالبنين، لا يزال الله يمد الكافر بالحياة، والقوة، والمال، إلى أن يظن هذا الكافر أن الله سبحانه وتعالى غافلٌ عنه، أو أن الله سبحانه وتعالى لن يحاسبه، و هذا هو الغَلَطُ الكبير .
لماذا يمدّ اللهُ الكافرَ بالقوة وأسباب الرفاه؟
الآن سؤال دقيق: لماذا يمد الله الكافر بالقوة والمال وأسباب الرفاه إلى أن يظن هذا الكافر أن الله غافلٌ عنه؟ إذا كان عندك صانعٌ في محلك التجاري، وأنت من عادتك أنك تأتي هذا المحل في الساعة الثامنة تفتحه بيدك، وتجلس خلف الصندوق حتى نهاية الدوام، ولا يستطيع هذا الصانع أن يقترب إلى الطاولة التي أنت عليها ولا ثانيةٍ واحدة، هل تستطيع أن تكشف ما إذا كان خائناً أم أميناً ؟ لا، مستحيل، لم تتح له فرصةً كي يكشف حقيقته، لكنك إذا تغافلت عنه يظهر ما إذا كان أميناً أو خائناً، لا تظهر أمانته، لا يظهر معدنه إلا إذا تغافلت عنه، فهذا التغافل تربوي، ربنا عزَّ وجل يتغافل بمعنى يُمِدُّ الكافر بالمال والبنين والصحة ليمتحنه، هذا المعنى الأول، أي أنه ما كان لهذا الكافر أن يظهر على حقيقته، ما كان لهذا الكافر أن يُكْشَفُ معدنه إلا إذا شعر أن الله غافلٌ عنه، لو أن الله سبحانه وتعالى عاقب العباد على كل غلطةٍ بعقابٍ مباشرٍ تواً وفوراً لما ظهر صدق الصادق ولما ظهر كذب الكاذب، ولما عصى إنسانٌ الله سبحانه وتعالى، لا يعصونه لا خوفاً ولا حباً، ولكن ابتغاء السلامة من العقاب السريع، ربنا سبحانه وتعالى :
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
علَّة الخلق الابتلاء، والابتلاء لا يكون إلا إذا ظننت أن الله غافلٌ عنك، مع أن الله ليس بغافلٍ عن أحد .
إنها كلمة سبقت من الله إلى أجلها :
شيءٌ آخر، آيةٌ ثانية تلقي ضوءاً على هذه الآية، يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾
أي كان لزاماً إهلاك العصاة، كان لزاماً إهلاكُ الكافرين، كان لزاماً تدمير المنحرفين .
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾
ما هذه الكلمة التي سبقت من الله عزَّ وجل ؟ أنه خلقنا ليسعدنا، فمدير الثانوية الناجح الذي يتمتع بقلبٍ كبير، وحرصٍ بالغٍ على مصلحة الطُلاب، لا يتخذ قراراً بفصل الطالب لأول سببٍ أو لأول ذنبٍ يرتكبه، ليس القصد فصله، القصد تهذيبه وتعليمه، لذلك يتأخَّر في إنزال العقوبة القانونية بالطالب المقصر، لأنه حريصٌ على مستقبله، هذا مثل .
لو أن العبد ارتكب ذنباً يستحق الهلاك، فأهلكه الله لمات كافراً ولدخل النار إلى الأبد، ولكن هذه الكلمة؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليسعدهم، هذا الذي يؤخِّر العقاب، هذا الذي يجعل الكافر يتوهَّم أن الله غافل، الله ليس بغافل، ما من شيءٍ، ما من حركةٍ، ما من سكنةٍ، ما من لفظٍ إلا والله سبحانه تعالى عليه رقيبُ وشهيد .
حينما يتوهَّم الإنسان أن الله غافلٌ يكون قد ارتكب حماقةً ما بعدها حماقة، حينما يظن الإنسان أن الله غافلٌ عن عمله يكون قد وقع في خطأٍ كبير، حينما يتوهَّم الإنسان أن الله لن يحاسب أحداً، ولن يعاقب أحداً، لأنه يرى أن الله يعطي فلاناً صحةً ومالاً وجمالاً وذكاءً، وهو يزداد كفراً وفسقاً وفجوراً، إياك أن تستنبط من هذا أن الله غافل، إياك أن تستنبط، أن الله إذا أعطى الإنسان قوةً ومالاً وجمالاً وذكاءً هو غافلٌ عنه .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
إياك أن تظن أن الله غافل :
يقول ربنا سبحانه وتعالى :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا ﴾
معنى ثم هذه على التراخي .
﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
أي أن هذا المكذِّب قد يمده الله بالمال، وبالقوة، وبالذكاء، وبالجمال، ويزداد علواً في الأرض، وينغمس في الملذات والشهوات، ولكن بعد حين تأتي البَطْشَةُ الكبرى، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾
فمن البلاهة، والغباء، والحُمْقِ أن يتوهم الإنسان أن الله غافل :
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾
﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾
﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
نفسك صفحةٌ مكشوفةٌ عند الله عزَّ وجل، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، إن الله يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
إذا ظَلمت إنساناً، وظننت أن الله غافلٌ فهذا هو محض الحُمْقِ، هذا الذي يظلم زوجته، يظلم شارياً من دكانه، يبيعه بضاعةً فاسدة، يبيعه بضاعةً قد انتهى مفعولها، يوهِمه أنها من مصدرٍ وهي من مصدر آخر، ويظلمه بهذا، ويظن أن هذا ذكاء، وهذا بيعٌ وشراء، وهكذا التجارة، فهو في حمقٍ شديد، سيدفع الثمن غالياً، سيكال له الصَّاعُ صاعين .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
هذا الذي يظلم زوجته، يُرْهِقُها بما لا تطيق، يظلمها بالنفقة، يظلمها بالعمل، ويظن أن هذه الزوجة لا أحد من أقرباء يستطيع أن يدافع عنها فقد وقع في غَلَطٍ كبير .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
والقِصَصُ على هذه الآية لا تعدُّ ولا تحصى، وقد سمعت عن إنسانٍ عَذَّبَ حيواناً لسببٍ تافه، وبعد عشرين عاماً عُذِّبَ هذا الإنسان بالطريقة نفسها التي عَذَّبَ بها الحيوان، كيف مات هذا الحيوان على يديه كانت موتة هذه الإنسان على يد إنسان آخر بالطريقة نفسها .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا، وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))
لو أنك تلبَّسْتَ بظلم هِرَّةٍ فالله سبحانه وتعالى لا يغفل عنها، لا يفغل عن هذا الظلم .
(( يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم فلا تَظَّالموا ))
﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾
﴿ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾
﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾
مستحيل أن يظلمهم الله عزَّ وجل ..
﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
إذاً: هناك من يتوهَّم أن الله غافلٌ عما يفعل الإنسان، إذا عاملت حيواناً، إذا عاملت هرةً، إذا عاملت طفلاً، إذا جاءك طفلٌ يشتري حاجةً، هذا الطفل لا يستطيع أن يحاسبك، إذا ظلمته فسيأتي من يقول لك كلاماً ترتعد له فرائصك، هذا الذي يأتيك، وأنت في غفلة يقول لك: أين وثيقة هذه البضاعة، أين هويَّتك؟ هذا قد يأتي بعد أن تكون قد تلبست بظلمٍ .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
في بيعك، وشرائك، في بيتك، في طريقك، في أية حركة، في أية سكنة، في أية علاقة، في أية معاملة، إياك أن تظن أن الله غافلٌ .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
ضع يوم الحساب نصب عينيك قبل أن يشخص بصرك فيه :
هذا هو اليوم الموعود، يوم الحساب .
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
هذا اليوم يوم الدين، يوم الدينونة، يوم يدين الإنسان للحق سبحانه وتعالى ..
﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107)قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾
﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
شخوص البصر كِنايةٌ عن شدة الخوف، من شدة الخوف يَشْخُصُ بصره .
﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ﴾
إذاً ..
﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
لذلك الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> .
تُبقبل أن يُغلق الباب فلا يُفتَح :
البطولة أن تقف في هذا اليوم وأنت قد زُحْزِحْتَ عن النار :
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
ليست البطولة أن تدخل مع خصمك في المحاكم حتى تنتزع منه البيت وتقول : أنا بطل، لا، البطولة أن تنجو غداً من عذاب الله، أن تنجو غداً من نار جهنم، أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ولا شائبة عليك .
﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26)يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه ﴾
أيها الإخوة الأكارم، نحن أحياء جميعاً، وما دمنا أحياء فباب التوبة مفتوح، باب الإصلاح مفتوح، أيُّ ذنبٍ مهما عظم يُغْفَر ما دام في القلب نبضٌ، ما دام قلبك ينبض فأكبر ذنبٍ يغفر، أما إذا جاء ملك الموت فلا توبة عندئذٍ ..
﴿ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾
﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
قال فرعون آمنت برب هارون وموسى .
﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
قال :
﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
هذا إيمانٌ جاء بعد فوات الأوان، لا فائدة منه، البطولة أن تؤمن وأنت صحيحٌ شحيح، وأنت في أَوْجِ شبابك، وأنت في أوج قوتك، وأنت في بحبوحة، وأنت في صحة، وأنت في سلام، هذا هو الإيمان العظيم، ما دام القلب ينبض فباب التوبة مفتوح .
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ ﴾
انظر إلى حال الكفار يوم الحساب :
مسرعونإلى الحساب كرهًا :
أي مسرعين إلى تلبية نداء ربِّهم بالحساب، ليس هناك تلكُّؤ، قد تدعى أنت في الدنيا لحسابٍ ما، تدعي أنك مشغول، تتهرَّب من التبلغ، تقول: لست متفرِّغاً لهذا الحساب، هذا يحدث في الدنيا، أما يوم القيامة حينما يُدعى الناس للمثول بين يدي الله عزَّ وجل لا يستطيعون التخلُّف، ولا التأخُّر .
﴿ مُهْطِعِينَ ﴾
بمعنى مسرعين ..
رافعون رؤوسهم من شدة الخوف :
﴿ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾
أي رافعي رؤوسهم من شدة الخوف .
﴿ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾
تطرف أعينهم خوفا :
أعلى درجات الخوف ألا تطرُف عين الإنسان .
﴿ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾
قلوبهم فارغة :
هذا وصفٌ دقيق، معنى هواء أي فارغة، وهذا يؤكد أنه لا فراغ تام في الأرض، أي فراغٍ يشغله الهواء مباشرةً، أي فراغٍ يشغله الهواء .
﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾
بمعنى أنها فارغة، خائفة، وجِلَة .
﴿ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾
وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
هذه مقولة الكسالى :
هذا الذي يقع فيه الناس في المستقبل، قولتُهم المشهورة كما يقول الطُلاَّب الكُسالى في الصف إذا جاء وقت الامتحان: يا أستاذ أخِّر لنا الامتحان، لا يطالب بتأخير المذاكرة إلا الطالب الكسول، وهؤلاء يوم القيامة يطلبون عبثاً :
﴿ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾
الإخبار بهذا المشهد من رحمة الله بالعباد :
هذه رحمة الله، فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى قبل فوات الأوان عمَّا سيكون قبل أن يكون، ما قولك بإنسان أعطى الأسئلة قبل الامتحان، أي استعد لها، والله سبحانه وتعالى من رحمته أخبرنا ونحن في الدنيا عن المفاجآت الصاعقة التي سوف يُصْعَقُ لها الناس يوم القيامة، أما قول الظالم الذي ظَلَمَ من حوله، أما قول الكافر :
﴿ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾
لابد من اتباع الرسل :
إذاً لابدَّ من اتِّباع الرُسُل، يجب أن تجيب دعوة الله بالإيمان به والتعرُّف على أسمائه، وأن تتبع الرسول فيما يأمرك به ..
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
﴿ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾
الجواب الإلهي :
يأتي الجواب من قِبَلِ الحضرة الإلهية :
﴿ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾
لسان حال ومقال أهل الدنيا : الدنيا كلُّ شيء :
يقول أهل الدنيا: الدنيا هي كل شيء، السعيد فيها من كان غنياً، والشقي من كان فقيراً، من الذي مات، ورجع فأخبرنا أن هناك آخرة وحساب وعقاب؟ هذه هي الدنيا، هي كل شيء ..
﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾
﴿ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾
﴿ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾
أي أنَّكُم تتصرفون في الدنيا وكأنَّكم خالدون فيها، أعمالكم، بيوتكم، مشاريعكم تُنْبئ أنكم فيها مخلَّدون، وأنه لا موت، وكأن الموت على غيرنا كُتِبْ، إذا مات إنسان قلنا: مسكين لماذا مات؟ ما المرض الذي أصابه؟
لابد من ساعة الموت :
من لم يمتْ بالسيف مات بغيره تنوَّعت الأسباب والموت واحدُ
لابدَّ من الموت .
***
الليل مهما طال لابدَّ من طلوع الفجر والعمر مهما طال لابدَّ من نزول القبر
***
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
فإذا حملت إلى القبور جنــازةً فاعلم بأنَّك بعــدها محمولٌ
***
لابدَّ من ساعةٍ يُسَجَّى فيها الإنسان على طاولةٍ من خشب يغسَّل عليها، لابدَّ من خروجٍ من هذا البيت بشكلٍ أفقي مرَّةً واحدة في الحياة، لابدَّ من أن تأخذ على جواز سفرك تأشيرة خروجٍ بلا عودة، وبشكل إجباري، لابدَّ من مفارقة الزوجة مهما راقت لك، لابدَّ من الخروج من هذا البيت مهما بالغت في تزيينه، لابدَّ من ترك هذه المكانة الرفيعة مهما جهدت في دعمها، لابدَّ من ترك هذا المال الوفير مهما حَرِصْتَ على زيادته .
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ :
(( يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لاَقِيهِ ))
﴿ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44)وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾
ألم تذهبوا إلى بعض الآثار؟ ألم تذهبوا إلى تدمر ؟ هذه آثار التدمريين، أين هم الآن ؟ تحت أطباق الثرى، ألم تذهبوا إلى بعض المدارج الرومانيَّة ؟ هذه آثار الرومان، أين هم ؟ تحت أطباق الثرى، ألم تشاهدوا الأهرامات ؟ هذه آثار الفراعنة، أين هم ؟ تحت أطباق الثرى ..
﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعل هذه الآثار باقية لتكون درساً بليغاً، وموعظةً بليغةً لنا ..
﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ﴾
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ
في السابقين قصص للاعتبار :
وفي حياتنا جميعاً كل إنسان بحسب محيطه لابدَّ من شخصٍ في حياته؛ قريب، صديق، جار، قد تجاوز الحد المعقول فبطش الله به، هذا ما من واحدٍ منَّا إلا ويعرف قِصَصَاً عديدة عن أناسٍ تجاوزوا الحدَّ المعقول، طغوا وبغوا فأنزل الله بهم العقاب السريع .
وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ ﴾
هذه أمثالٌ باقية، أمثالٌ حيَّة، أي أن هناك مصحفاً ينبئك بالحقائق، وهناك كونٌ ينبئك بالحقائق، وهناك حوادث يوميَّة تنبئك بالحقائق، الكون بما فيه من آياتٍ بيِّنات، والقرآن بما فيه من آياتٍ بيِّنات، والحوادث اليوميَّة بما فيها من آياتٍ بيِّنات كلُّها تتطابق وتؤكِّد لك أن الله عزَّ وجل ليس غافلاً عمَّا يعمل الظالمون .
﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
مكرُ الكافرين مذ بدأ لم ينته :
أي أن هؤلاء الكفَّار منذ القِدَم، وحتى يوم القيامة يجهدون في المكر والكيد للمؤمنين، إيَّاك أيُّها الأخُ الكريم أن تتفاجأ بأنَّ الكافر يَمْكُرُ بك، هذه سنَّة الله في الخَلق، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل مخلوقٍ سؤْلَهُ، وأعطى كل مخلوقٍ خياراً في أن يفعل حقاً أو باطلاً، خيراً أو شرَّاً، أن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم، أو أن ينحرف في سلوكه، فكل عملٍ له عند الله جزاؤه، والله سبحانه وتعالى يبلو بعضنا ببعض، ويمتحن بعضنا ببعض، فلذلك :
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ﴾
وقد قيل : " لا يكْمُل إيمان الرجل حتى يُبْتَلى بأربع، بطعن الجهلاء، وبلوم الأصدقاء، وبشماتة الأعداء، وبحسد العلماء ... "، فلابدَّ من طعن الجهلاء، ولابدَّ من شماتة الأعداء، ولابدَّ من حسد العلماء، ولابدَّ من .. لوم الأصدقاء، والنبي عليه الصلاة والسلام عانى من قومه ما عانى.
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ﴾
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ﴾
المكر قوته في كتمانه :
دائماً وأبداً يجهد أهل الكفر في المكر بالمؤمنين، ولكنَّ هذا المكر قوَّته في كتمانه، قوَّة المَكر في كتمانه، لو أن ملكاً عنده قائدٌ لجيشه، فإذا أراد هذا القائد أن يمكُر بالملِك متى تنتهي قوَّته؟ إذا كُشِفَت خطَّته، المكر قوته في كتمانه، وما دام الله لا يخفى عليه شيء ..
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾
وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ
أيها المؤمن اطمئن كل تخطيطات الكفار معروفة عند الله :
أي أن المكر الذي يمكرونه هو عند الله معروف، معلوم، مكشوف، واضح، الله مطلع عليهم وهم يفكرون، الله مطلع عليهم وهم يمكرون ويكيدون .
(( يا صفوان بن أميَّة، لولا ديونٌ ركبتني، ولولا أولادٌ أخشى عليهم العَنَت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه "، كان يقول هذا خارج مكَّة المكرَّمة أي في ظاهر المدينة، لا أحد يسمعه، فقال صفوان : " أما أولادك فهم أولادي ما امتدَّ بهم العمر، وأما ديونك فهي عليَّ بالغةً ما بلغت فامض لما أردت "، مضى هذا الرجل وهو عمير بن وهب إلى المدينة وفي نيَّته أن يقتل النبي عليه الصلاة والسلام فقد ضمن أولاده بعد موته، ضمن ديونه جعلها على عاتق صفوان، أسقى سيفه السُم، ركب راحلته وتوجَّه بها إلى المدينة، رآه عمر رضي الله عنه بفِراسته قال : عدوُّ الله عمير جاء يريد شراً "، قيَّده بحمَّالة سيفه وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " يا رسول الله هذا عدو الله عمير جاء يريد شرَّاً "، قال النبي: ابتعد عنه يا عمر " ابتعد عنه، " أطلقه " فأطلَقَه، " ادن مني يا عُمير " اقترب منه، " اجلس "، جلس، " سلِّم علينا "، قال : عمت صباحاً يا محمَّد، قال : " قل السلام عليكم " قال : لست بعيد عهدٍ بالجاهليَّة، قال : " ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ " قال: جئت أفدي أخي، قال : " وهذا السيف التي على عاتقك ؟ " قال : قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال : " ألم تقل لصفوان بن أميَّة لولا ديونٌ ركبتني، وأطفالٌ أخشى عليهم العنت، لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ؟ " فوقف وقال : أشهد أنَّك رسول الله، قلت هذا القول ولا أحد يسمعني إلا الله وصفوان ..))
ليس هذا هو القصد، القصد أن صفوان بن أميَّة أمضى أياماً في نشوةٍ عارمة، لماذا؟ لأنه ما هي إلا أيام وحتى يأتي نبأ مقتل محمد عليه الصلاة والسلام، فكان يقول لكفَّار قريش: " انتظروا خبراً سارَّاً "، مضى يومٌ ويومان، وأربعة أيَّام، وأسبوع ولم يأت هذا الخبر السار، إلى أن صار يقف في ظاهر مكَّة يتلقَّى الركبان، فسألهم : " ما فعل عُمَيْر " ؟ قالوا: " أسلم عمير " ..
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾
وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ
المعنى الأول :
أي أن هؤلاء الكفَّار يضعون مكراً تزول منه الجبال لشدَّته، ولعنفه، ولقسوته، ولخطورته .
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾
هذا المعنى الأوَّل، أي لو أن إنساناً أعدَّ خطَّةً على ورقةٍ ليكيد لعدوِّه، هذه الورقة خلال ساعة كانت عند عدوِّه وهو أقوى منه، فمكر هذا العدو كان عند العدو ..
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾
أي أنهم مكروا وهذا المكر مكشوف عند الله عزَّ وجل .
المعنى الثاني :
وعند الله جزاء مَكْرِهِم، قد يقول قائل : لك عندي حساب، لك عندي جزاء، لك عندي عقاب، لك عندي ثواب .
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ﴾
أي أنهم عند الله سوف يُحاسبون على مكرهم ..
﴿ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ
هناك من يظن أن الله أخلف وعده رسله :
هذه آيةٌ ثانية، إذاً هناك من يظن أن الله قد أخلف وعده، فالنبي عليه الصلاة والسلام في معركة بدر انتصر على أعدائه، في أحد انتصر بنوعٍ من الانتصار، جاءت معركة الخندق، جَيَّشَ الكفَّار أكبر جيشٍ عرفته الجزيرة، عشرة آلاف مقاتل أحاطوا بالمدينة، حُفِرَ الخندق، ظهر المسلمون قد فُتِحَ عليهم، نقض اليهود وهذه عادتهم عهدهم مع النبي وتواطؤا مع الكفار على أن يأتي الكفار من خلف ظهور المسلمين، أحدق بهم الخطب، احلولَكَت الأيَّام، بدا اليأس على بعض المسلمين ..
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾
حتى قال قائلٌ منهم: " أيعدنا صاحبكم أن تُفْتَح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟! "، أي أن هناك من كفر بمحمَّد، هناك من رأى وعوده لا معنى لها .
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾
تأخير النصر لحكمة ربانية بالغة :
ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة يؤخِّر النصر، ليكشف الناس على حقيقتهم، هذا يكفر، هذا يقول : " ما وعدنا إلا غروراً "، هذا يقول: الدين شيء خرافي، هذا يقول : أين الله لِمَ لا ينصرنا ؟ كل إنسانٍ يظهر حسن ظنِّه بالله، أو سوء ظنه، وهذه حكمةٌ أخرى، لابدَّ من تأخير النصر ..
﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾
لا يتخلف وعد الله أبدا :
والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يُخْلِفَ وعداً وعده لمؤمن، إذا وعدك بالحياة الطَيِّبة فأبشر لابدَّ من أن تحيا حياةً طيِّبة، إذا وعدك بالتوفيق لابدَّ من أن تُوَفَّق، إذا وعدك بالنصر لابدَّ من أن تُنْصَر، إذا وعدك بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض لابدَّ من أن تصل إليها .
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾
عليك بحسن الظن باللهوالثبات في الابتلاء والامتحان :
إيَّاك أن تحسب هذا، هذا سوء ظنٍّ بالله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( حسن الظنِّ بالله ثمن الجنَّة ))
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾
أنت مستقيم، دخلك قليل والله عزَّ وجل وعدك بالحياة الطيبة في الدنيا، إيَّاك أن تزيغ عيناك، إياك أن تزلَّ قدمك، إياك أن تقول: أين هذا الدخل الكبير الذي وعدني الله به؟ أين هذا التوفيق في التجارة؟ الأسواق باردة، أين التوفيق في الزواج، لا أعثر على زوجة؟ أين هذا الوعد الإلهي؟ إياك أن تستبطئ وعد الله، إياك ..
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾
لابدَّ من أن يؤخِّر الله وعده من أجل أن يمتحنك ماذا تقول ؟ ما الذي يخطر في بالك؟ أترتدُّ كما كنت؟ أتنكص على عقبيك؟ أتُسيء الظن بالله عزَّ وجل؟ أتقول: أين الله؟ لِمَ لا ينصرني؟ لِمَ لا يرزقني؟ أين وعده؟ تأخير النصر ابتلاءٌ للإنسان، وامتحانٌ له، وكشفٌ لحقيقته النبي عليه الصلاة والسلام انتصر على أعدائه، ولكن متى؟ بعد أن صبر، قال في الطائف :
(( يا رب، أشكو إليك ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا ربَّ المستضعفين، إلى من تكلني ؟ إلى غريبٍ يتجَهَّمني أم إلى عدوٍ ملَّكته أمري، يا رب، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى لكنَّ عافيتك أوسع لي ))
قد ينزل مرضٌ بالمؤمن، هذا المرض لكي يُمْتَحن به، أيقول : أين الله؟ لماذا أمرضني ؟ ماذا فعلت معه ؟ سقط بالامتحان، أم يقول الحمد لله على كل حال ؟ يا رب أنا راضٍ عن فعلك، راضٍ بقضائك، ماضٍ فيَّ حكمك، سارٍ فيَّ قضاؤك ..
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴾
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
انتقام الله من الكافر من لوازم عزَّته :
لابدَّ من أن ينصر رسله، سبحانك إنه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت، مستحيل أن يعزَّ من عاديت، ومستحيل أن يذلَّ من واليت..
﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴾
لو لم ينتقم الله من الكافر المجرم الذي طغى وبغى ما كان الله عزيزاً، هو عزيز لأنه ذو انتقام، وترى المجرمين ..
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ﴾
مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة :
تغيُّر الأرض والسماوات :
هذا يوم الدين، يوم الجزاء، يوم الدينونة ..
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ﴾
لا جبال فهي قد نُسِفَت، البحار قد سُجِّرت، والوحوش قد حُشِرَت ..
﴿ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾
لا شمس فهي قد كوِّرت، ولا نجوم قد انكدرت ..
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾
وصفٌ لهذا اليوم الذي تُعَطَّلُ فيه السنن الأرضيَّة، تعطَّل فيه دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس، تُنْسَفُ جبالها ..
﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾
تُكَوَّرُ الشمس، يُخْسَفُ القمر، تنكدر النجوم، تُفْتَحُ السماء ..
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾
البروز لله تعالى :
سبحان من قهر عباده بالموت، مهما علا الإنسان لابدّ من أن يموت، قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( سبحان الله إن للموت لسكرات ))
﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾
معنى البروز بين يدي الله :
معنى برزوا أي ظهروا على حقيقتهم، قد يخفي الإنسان في الدنيا شيئاً ويظهر شيئاً، قد يخفي عملاً قبيحاً ويُظْهراً عملاً جيِّداً، هذا في الدنيا أما في الآخرة لابدَّ من أن يظهر الإنسان على حقيقته ..
﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾
المجرمون مربوطون بالأصفاد :
الأصفاد هي القيود، مقرَّنين أي جُمِعَ بعضهم إلى بعض، الزناة مجموعة، شاربوا الخمر مجموعة، المرابون مجموعة، المُفسدون مجموعة، النمَّامون، المغتابون، آكلوا المال الحرام مُقَرَّنين، قرناء ..
﴿ الْأَصْفَادِ(49)سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ﴾
جلود المجرمين مصابة بالجرب مطلية بالقطران :
أي أن جلودهم أصابها الجَرَب وهو من أبشع أمراض الجلد، ودواء الجَرَب القطران وهو من أسوأ الأدوية، له ريحٌ نتن ومنظرٌ قبيح ..
﴿ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾
تعلو وجوههم النار :
النار في القرآن تطلع على الأفئدة، على القلوب، أي أن أشرف عضوٍ باطني هو القلب، تصله النار، ويصاب الوجه وهو أشرف عضوٍ ظاهري، قد تصاب يد الإنسان بمرض الموات فتُقْطَع، تصاب رجله فتقطع، أما إذا أُصيب رأسه هل يُقْطَع؟ إذا قُطِعَ رأسه انتهى، لأن الله سبحانه وتعالى جعل في الرأس أشرف الأجهزة؛ الدماغ، والسمع، والبصر، والنطق، هذا العضو المُكَرَّم تلفحه النار ..
﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾
ولا ينكر عذاب النار إلا كافر، عذاب النار العذاب المادي ..
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾
﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾
﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾
أما قوله تعالى :
﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(49)سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ(50)لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
لابد من الحساب :
هذه اللام لام التعليل، أي لابدَّ من الجزاء، إن لكل سيئةٍ عقاباً، ولكل حسنةٍ ثواباً .
﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾
(( إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم، ثم أوفِّيكم إياها، من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
معنى : ِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
سريع الحساب لها معنيان :
المعنى الأول :
أن الله عزَّ وجل إذا حاسب العباد فهو سريع الحساب، لا يشغله عبدٌ عن عبدٍ، لا يشغله حسابٍ عن حساب، أما المُحاسب فقل له: أعطني كشف حساب لفلان، ينهمك في كتابة الكشف، قل له: أعطني لفلان أيضاً، يقول لك: انتظر، أنا الآن مشغول بهذا الموضوع، الإنسان يشغله شيءٌ عن شيء، لكنَّ الله سبحانه وتعالى سريع الحساب، يحاسب العباد كلَّهم دفعةً واحدة، لا يشغله شيءٌ عن شيء، ولا حسابٌ عن حساب، هذا المعنى الأول أي أنه إذا حاسب العباد فهو سريع الحساب، ولا يتذوَّق هذه الآية إلا المحاسبون لأنهم يرون أعباء المحاسبة فوق طاقتهم ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
المعنى الثاني :
أنه إذا فعل الإنسان عملاً قد يقصمه الله عزَّ وجل مباشرةً، قد يحاسبه في الدنيا حساباً سريعاً، قد تمتد يده للحرام فتُقْطَع، قد يتحدَّى القُدرة الإلهيَّة فيُقضى عليه ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
إذاً: إما أنه سريعٌ في محاسبة الخلائق إذا حاسبهم، أو أن العقاب قد يأتي إثْرَ المعصية مباشرةً، قد يحلف الإنسان يميناً غموساً فيُشَلُّ فوراً ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
تأخير العقاب الدنيوي وتعجيله كلٌّ لحكمة ربانية :
لدينا آيتان: الأولى :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾
الفاء هنا للترتيب مع التعقيب، وهناك آية أخرى :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا ﴾
قد تقتضي حكمة الله أن يؤخِّر الحساب، هذه على ثم، الحساب إما على معنى الفاء للترتيب مع التعقيب أو على معنى ثم .
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(51)هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ﴾
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ
معنى بلاغ لها معنيان :
المعنى الأول :