- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (014)سورة ابراهيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر أزليّةٌ أبديَّة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي من سورة إبراهيم عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى :
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ وإذا أردتَ أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، حسْبُكَ الله ونِعْمَ الوكيل ..
﴿
﴿
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
﴿
عباد الله الصالحون هم من يرثون الأرض وهذا من سنن الله الثابتة :
﴿
هذا وعدُ الله الثابت .
﴿
الجبَّار العنيد صفتان تلازمان الكافر :
﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) ﴾
الاستفتاح هنا طلب الفتح ..
الماء الصديد هو شرب الكافر يوم القيامة :
الإنجازات الضخمة التي يتبجَّح بها الكفَّار لا شأن لها عند الله :
الآن الآية الكريمة :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
وفي آيةٍ أخرى :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أيْ هذه الإنجازات الضخمة التي يتبجَّح بها الكفَّار لا شأن لها عند الله ، لا قيمة لها عند الله ، لا تُسْعِدُ أصحابها يوم القيامة ، يبحثون عنها فلا يجدونها .
لو أن طالباً وقف أمام امتحانٍ شفهي ، وطُرِحَ عليه سؤالٌ دقيق ، فلم يملك الإجابة عنه ، وَقَعَ في حرجٍ شديد ، صار مصيره في النجاح مهدَّداً ، تذكَّر أنه البارحة تناول طعاماً طيِّباً ، وأمضى في إعداده الساعات الطِوال ، هذا العمل صنعه لهذا الطعام الطيِّب ، واستهلاكه وقته الثمين في إعداد هذا الطعام هل يستطيع هذا العمل الذي قام به البارحة أن ينجِّيه مِن هذا المأزق الحرج ؟ لا يستطيع ، هؤلاء الكفَّار لهم أعمالٌ ضخمة بمقياس الناس ، فالفراعنة الذين أشادوا الأهرامات أين هم ؟ ما قيمة هذا الإنجاز الضخم إن كان صاحب هذا الإنجاز يُعَذَّبُ على أعماله السيئة ؟
هناك أعمالٌ إنشائيَّةٌ ضخمة قام بها بعض الناس ، سور الصين مضرب المثل ، آثار الأَنْباط ، آثار التدمريين ، المسارح التي أقامها الرومان أين هي ؟ وأين هم ؟..
كل عملٍ لا يعود بالنفع على الأمَّة هذا العمل لا قيمة له في الآخرة :
ربنا عزَّ وجل يقول : أنت في الدنيا في مهمَّةٍ خطيرة فإذا غابت عنك هذه المهمَّة فأنت في خسرانٍ كبير ..
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
بالأخسرين أعمالاً ، هذا نوبل اخترع البارود ، وبعد أن اخترع البارود شعر أنه اخترع شيئاً مؤذياً للبشريَّة ، فكم من قتيلٍ في أطراف الأرض ؟! كم من قتيلٍ بريء ؟! كم من طفلٍ ؟! كم من امرأةٍ ماتت وقضت نحبها بسبب هذا المخترَع الذي اخترعه نوبل ؟! هل يسمَّى هذا إنجازاً ضخماً ؟
أعمال الكافر من أجل السمعة والشهرة والمال :
إذا كان هناك بعض الأعمال التي تعود بالنفع على بعض الأفراد إنَّ أثمانها الباهظة جعلتها سلعةً تجاريَّة يفعلها صاحبها بُغْيَةَ الربح الوفير ، والذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى يعمل أعمالاً قد تبدو إنسانيَّة ولكنَّه يبتغي منها السمعة ، والشهرة ، والسيط الحسن ، وأن يكون نجمُهُ متألِّقاً في سماء المعرفة ، لذلك الأعمال إن لم تكن خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى ، وإن لم تعد بالنفع على الأمَّة..
وما مقصودُهم جنَّـــــــــات عدنٍ ولا الحور الحسان ولا الخياما
سوى نظرِ الحبيب فذا مـُــناهم وهذا مطلـــــب القـــــــومِ الكراما
***
هذه الآية واللهِ وقفتُ عندها طويلاً ، أعمال ضخمة بذلوا من أجلها عشرات السنوات ، دُفِعَت من أجلها مئات مئات ألوف اليرات ، وفي النهاية :
هذا الذي نجح في الزراعة ، أو نجح في الصناعة ، أو نجح في التجارة ، وحقَّق أرباحاً طائلة ، عاش في بحبوحة وفي رفاهٍ عجيب ، يأتي يوم القيامة يقول الله له : ماذا فعلت مِن أجلي ؟ ماذا فعلت من أجل هذه الحياة الأبديَّة ؟ بماذا خدمت العباد ؟ ماذا قدَّمت لهم ؟ يقول : يا رب ، فعلت هذا العمل ، هذا تقاضيتَ عليه أجراً باهظاً ، أرهق الناس ، ماذا فعلت من أجلي ؟ هل رحمتهم ؟ هل أنصفتهم ؟ هل أكرمتهم ؟ هل كان قلبك رقيقاً لمآسيهم أم أنك عشت وحدك ؟ هذا كلُّه يوم القيامة ، فالنتيجة خطيرة جداً ، الإنسان لا ينظر لمظهر العمل ، أندم الناس يوم القيامة عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنَّة ودخل هو بعلمه النار . يرونه يوم القيامة ألستَ فلاناً ؟ يقول : نعم ، ما الذي جاء بك إلى هنا في جهنَّم ؟ يقول :
عن أسامة بن زيد :
(( قِيلَ لِأُسَامَةَ : لو أتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ ، قالَ : إنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أنِّي لا أُكَلِّمُهُ إلَّا أُسْمِعُكُمْ ، إنِّي أُكَلِّمُهُ في السِّرِّ دُونَ أنْ أفْتَحَ بَابًا لا أكُونُ أوَّلَ مَن فَتَحَهُ ، ولَا أقُولُ لِرَجُلٍ أنْ كانَ عَلَيَّ أمِيرًا : إنَّه خَيْرُ النَّاسِ ، بَعْدَ شَيءٍ سَمِعْتُهُ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، قالوا : وما سَمِعْتَهُ يقولُ ؟ قالَ : سَمِعْتُهُ يقولُ : يُجَاءُ بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ فيُلْقَى في النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أقْتَابُهُ في النَّارِ ، فَيَدُورُ كما يَدُورُ الحِمَارُ برَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أهْلُ النَّارِ عليه فيَقولونَ : أيْ فُلَانُ ، ما شَأْنُكَ ؟ أليسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بالمَعروفِ وتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ ؟! قالَ : كُنْتُ آمُرُكُمْ بالمَعروفِ ولَا آتِيهِ ، وأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وآتِيهِ. ))
قضيَّة العمل من أخطر قضايا الإنسان :
قضيَّة العمل قضيَّة من أخطر قضايا الإنسان ، لا يوجد واحد منَّا إلا وله عمل ، إذا كان طالحاً فهو طالح ، سيئ ، سيُحَاسَب عليه ، أما المشكلة إذا كان صالحاً ، حتى العمل الصالح يحتاج إلى إخلاصٍ لله عزَّ وجل .
(( مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ . ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ، فَأُتِيَ بِهِ ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ ، فَقَدْ ، قِيلَ : ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ ، وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ . ))
الحديث الآن عن الأعمال الصالحة ، الأعمال السيئة مفروغ منها ، هذه سيحاسب عَلَيِهْا الإنسان ، الأعمال التي تبدو للناس طيّبة ما النوايا التي وراءها ؟ ما الباعث الذي وراءها ؟ فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول :
(( عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ . ))
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾
قيمة العمل تَنْبُعُ من شيئين :
أيها الإخوة الأكارم ؛ العملُ مَطِيَّتُك إلى الله عزَّ وجل ، والقبر صندوق العمل ، وقيمة العمل تَنْبُعُ من شيئين : أن يكون ذا نفعٍ عام ، وأن تكون نواياه خالصة لوجه الله عزَّ وجل ، هناك انحرافٌ حتى في الأعمال الصالحة ، قد يتعلَّم الإنسان العلم ليقال عنه عالم ، قد يخدم الإنسان الناس لينتزع ثناءهم واستحسانهم وتشجيعهم ، هنا النوايا مشوبة ، فلذلك الأعمال التافهة تافهةٌ ، والأعمال الجليلة لابدَّ لها من شرطين ؛ أن تعود بالنفع على الناس ، وأن يكون الذي فعلها إنما فعلها تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل ، فدعاء العارفين بالله : " إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي " .
العمل للدنيا ينتهي بالموت :
كل شيء خلقه الله عز وجل خلقه بالحق :
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) ﴾
أي كل شيءٍ بلغ من الحكمة غايتها ، ومن دقَّة الموضع غايته ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، طعامنا ، شرابنا ، النبات الذي من حولنا ، نظام الأسرة ، نظام البذور ، أيُّ نظامٍ تراه عيناك إنه على أبدع ما يكون ، هذا معنى بالحق ، أحياناً تُحَرِّك العدسة إلى أن تصبح الصورة واضحةٌ جداً هذا الموضع الدقيق بالحق ، لو غيّرت مكان العدسة لأصبحت الصورة ضبابية ، لو قرَّبتها أو بَعَّدَّتها ، في هذا المكان الدقيق الدقيق نقول : هذا المكان بالحق ، أي يعطي الصورة واضحةً تماماً ، فكل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل من صغير المخلوقات إلى كبيرها ، من جليلها إلى حقيرها أخذ وضعه الكامل ، فبالحق تعني كل شيء ، أي كل شيءٍ لو غيّرت صفاته الفيزيائيَّة أو الكيميائيّة لو أن الحديد لا يصدأ ليس بالحق ، صدأ الحديد بالحق ، عدم صدأ الذهب بالحق ، لينُ الرصاص بالحق ، كون الهواء على نسبٍ ثابتة بالحق ، قُدْرَة العين على الرؤية بالحق ، عين الصقر تزداد قدرة رؤيتها ثمانية أضعافٍ بالحق ، أي شيءٍ خلقه الله بالحق ، معنى بالحق أي بالوضع الأكمل ، بالحكمة البالغة ، بالدرجة المناسبة ، بتقدير العزيز العليم ، معنى بالحق أي ليس في الإمكان أبدع مما كان ..
هذه العين أودع الله فيها مادةً مضادَّةٌ للتجمُّد ، لو ذهبت إلى فنلندا أو ، إلى ألاسكا ، أو إلى القطب الشمالي ، وكانت البرودة تزيد عن سبعين درجة تحت الصفر ماذا يحصل ؟ تحس ببردٍ شديد ، لا شكَّ أنك ترتدي معطفاً سميكاً ، وقفَّازاتٍ صوفيَّة ، وغطاءً للرأس ، وواقية للأنف ، بقي العينان ، هل تستطيع أن تغطيهما بشيء صوفي ؟ كيف تمشي في الطريق ؟ لابدَّ من أن تبقى العينان معرَّضتين للهواء مباشرةً ، فإن لم تكن فيهما هذه المادَّة المُضادَّة للتجمُّد معنى ذلك أن كل إنسانٍ هبطت الحرارة في بلده ، أو في بيته ، أو في بيئَتِهِ عن الصفر تجمَّد ماء العين وفقد البصر ، فهذه المادَّة التي أودعها الله في العين والتي تمنع التجمُّد بالحق .
رؤية الإنسان محدودة ، لو أنَّك ترى كل شيء كالميكروسكوب لما أمكنك أن تشرب كأس الماء ، ترى الكائنات ، والبكتريا ، والديدان ، والعصيَّات تعاف نفسك شرب الماء ، فدرجة النظر بالحق .
لو أن هذه الأذن تسمع أكثر مما تسمع لما أمكنك أن تنام الليل ، لسمعت صوتَ اصطدام الهواء بجسمك ، لو أن الأمواج الصوتيَّة لا تتخامد لما أمكن الحياة على وجه الأرض ، أصوات المعامل كلّها من شتَّى بقاع الأرض في أذنك ، أصوات الأمواج الصاخبة في شتَّى بحار الأرض في أذنك ، الضجيج ، لكن هذه الأصوات من نعمة الله بعد ثلاثين ، أربعين ، خمسين متراً تتخامد فينعدم الصوت ، بالحق إذاً ، تخامد هذه الموجات بالحق .
هذه الآية واللهِ الذي لا إله إلا هو لو ألَّفنا عليها آلاف الكتب لما كَفَتْ ، كل شيء تراه عينك بالحق ، أيُّ شيءٍ تقع عينك عليه بالحق ، هذه البعوضة التي إذا وقفت على يدك قتلتها ، هل تعرف هذه البعوضة التي قتلتها ماذا فيها ؟ فيها جهاز رادار ، إذا كنت نائماً على وسادة ، وكان الظلام دامساً ، وكانت في أعلى الغرفة تطير إلى جبينك مباشرةً من دون أن تخطئ الهدف ، والظلام دامس ، فيها جهاز تحليل دم ، تحلِّل هل هذا الدم يناسبها ، ينام أخوان على فراشٍ واحد ، يقوم أحدهما وقد لدغه البعوض طوال الليل ، يقوم الآخر لا شيء ، ما تفسير ذلك ؟ تملك هذه البعوضة جهاز لتحليل الدم فإذا وقعت على الجلد خَدَّرت الموضع ، جهاز تخدير ، من أجل ألا تقتلها قبل أن تأخذ الدم ، والدم له لزوجة لا تعينها على امتصاصه ، تفرز مادَّةً لتمييع الدم ، جهاز رادار ، وجهاز تحليل ، وجهاز تخدير ، وجهاز تمييع ، وجناحا البعوضة يَرِفَّان في الثانية الواحدة أربعة آلاف رَفَّة ، عندئذٍ يصبح صوتها طنيناً تسمعه في أذنك ، ولهذه البعوضة ثلاثةُ قلوب: قلبٌ مركزي ، وقلبٌ لكل جناح ، وإذا وقفت البعوضة على سطحٍ أملس فلها محاجم تعتمد على تفريغ الهواء ، وإذا وقفت على سطح خشن لها مخالب تعينها على الوقوف على مكان خشن ..
﴿
ذكرها الله عزَّ وجل في القرآن :
﴿
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلمة بالحق ، والله الذي لا إله إلا هو تنقضي السنوات ولا ينقضي الحديث عنها ، بالحق ، لو أن هذا الظُفْر له أعصاب حس ، إلى أين أنت ذاهبٌ يا أخانا ؟ والله إلى المستشفى لأجري تخديراً موضعيَّاً حتى أقلِّم أظافري ، لا يوجد غير هذا الحل ، إلى أين أنت ذاهبٌ ؟ إلى المستشفى ، لماذا ؟ لأجري تخديراً حتى أقصَّ شعري ، لو أن للشعر أعصاب حس ، أو للأظفار أعصاب حس هذا الخلق ليس بالحق .
لو أن شعر الأنف في الفم ليس هذا بالحق ، لو أن العين هنا على الجبين ، لما نجا من العمى إلا واحد بالألف ، لكنَّها في حصنٍ حصين ، العين في المحجر ، والدماغ وهو أخطر عضوٍ في الإنسان في الجمجمة ، وبين الدماغ والعظم سائل لامتصاص الصدمات ، والجمجمة لها مفاصل ثابتة على شكل خط مُنْكَسِر ، هذه المفاصل الثابتة إذا وقع الطفل على الأرض هذه المسافات البينيَّة الدقيقة تمتص الصدمة ، بالحق ، والقلب وسط القفص الصدري ، بالحق ، والنخاع الشوكي وسط العمود الفقري ، والرحم وسط الحوض ، وأخطر معملٍ في الإنسان معمل الكريات الحمراء داخل نِقْيِ العظام ، بالحق ، هذه الآية تمضي السنوات ولا ينتهي شرحها ، بالحق .
التفكر من أجل معرفة الله :
فكِّر ، العلم حرف والتكرار ألف ، ليكن لك جولاتٌ في هذا الكون ، هذا البطيخ الذي نأكله كيف نقطفه ؟ هل نُكَلِّف صاحب الحقل أن يمسك هذه البطيخة ويغزُّها ويضربها ليعرف ما إذا كانت ناضجة أو لا ؟ خيطٌ من النبات بعد مكان اتصالها بأمِّها على شكل حلزون إذا نضجت تراه يابساً ، فإن كانت فجَّةً تراه طريَّاً ، بالحق ، الله قال :
﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) ﴾
لو أن موسم الفواكه في الصيف ، نضج الكرزُ ، والمشمش ، والتفَّاح ، والأجاص ، والدرَّاق ، والتوت في يومٍ واحد ، ماذا نفعل ؟ كيف نجني هذه الفاكهة ؟ كيف نوَضٍّبها ؟ كيف نسوِّقها ؟ كيف نبيعها ؟ كيف نستهلكها ؟ مستحيل ، كل أسبوعين أو ثلاثة موسم ، أول شيء الكرز ، بعد ذلك المشمش ، بعده الدرَّاق ، الأجاص ، التفَّاح ، أي خلال أربعة أشهر ، ثم العنب ، وقبلها الزيتون ، توزُّع هذه المحاصيل وهذه الفواكه على فتراتٍ مديدة كل ذلك بالحق ، الفاكهة الواحدة لو أنها تنضج في يومٍ واحد ، هل نأكل في اليوم مئة كيلو مشمش ؟ نأكل هذه الفاكهة خلال شهر تقريباً ، كل يوم نأكل كيليين ، معقول ، هذه الفواكه تنضج بالتسلسُل .
قال لي بعض الأشخاص : ضمنت حقلاً للبطيخ ، قال : والله قطفت منه تسعين قطفة كل يوم قطفة ، أي كل يوم أملأ شاحنة ، مَن جعل هذا المحصول ينضج على التدريج ؟ بالحق .
لو أن القمح ينضج بالتدريج كان بالباطل ، تمسك كل سنبلة فتنظر إذا كانت نضجت ، فتصبح عملية انتحار ، لكنَّ المحاصيل تنضج في يومٍ واحد ، وتحصدها في يومٍ واحد ، بالحق ، هذه السنبلة ساقها يعدُّ غذاءً أساسياً للحيوان ، مهما اشتريت للحيوان علفاً يبقى التِبْنُ سيِّد العلف بالنسبة للحيوان ، مَن جعل هذا النبات ثماره للإنسان وساقه للحيوان ؟ بالحق .
هذا الشجر ، الحور الطويل ، الذي نستخدمه كجسور ، قال : جذره ليفي ، له كمية جذور قليلة جداً لأن هذا الشجر يُزْرَع كي يُقْلَع ، ليُسْتَفَاد من خشبه ، أما أشجار الزيتون ، الأشجار المثمرة التي تُعَمِّر مديداً هذه تبقى جذورها ضاربةً في أعماق الأرض ، بالحق .
أيها الإخوة الأكارم ؛ فكِّروا ، هذا الفكر الذي وهبه الله لنا ، وهذا الكون المعجز الذي أكرمنا الله به من أجل أن نعرف الله من خلاله ، لا من أجل أن نأكل كما تَأكل الأنعام ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
الآية التالية تثبت قدرة الله على بعث الإنسان بعد الموت :
الآية التالية تمثِّل مشهداً رهيباً من مشاهد يوم القيامة ساقه الله قبل أن يقع رحمةً بنا :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين