وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 7 - سورة المؤمنون - تفسير الآيات 73 – 91 أيحسبون أنما نمدهم به
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

استقامة دعوة الأنبياء :


 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السـابع من سورة المؤمنون .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ .. النبي عليه الصلاة والسلام فحوى دعوته أنَّه يدعو أمَّتَه ، ويدعو الناس جميعاً إلى صراطٍ ، والصراط هو الطريق ، وهذا الصراط مستقيم ، ومعنى مستقيم أي لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً ، ليس فيه خلل ، ليس فيه تناقض ، ليس فيه غموض . 

(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ . ))

[ صحيح الجامع الصغير ]

هذا الصراط هو الطريق ، وهذا الصراط مستقيم ، وأقصر طريقٍ بين نقطتين هو الطريق المستقيم ، مستقيمٌ إلى ماذا ؟ أو طريقٌ إلى ماذا ؟ الطريق ينتهي بغاية .. ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ﴾ أي إلى طريقٍ ، هذا الطريق أين ينتهي ؟ العلماء قالوا : ينتهي إلى الجنة ، أي إنَّك يا محمد تدعو قومك إلى سلوك طريقٍ ينتهي بهم إلى الجنة حيث السعادة الأبدية .. ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ إذاً الله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾  

[ سورة هود ]

الاستقامة أن تسير في طريق الله عزَّ وجل ، الطريقُ التي تفضي إلى الجنة هي الصراط المستقيم ، ولا تنسى أيها الأخُ الكريم أنَّك تقرأ الفاتحة في اليوم أكثر من خمسين مرة ، وفي الفاتحة تقول : 

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾

[  سورة الفاتحة  ]

كأن الله سبحانه وتعالى يَعْجَبُ من هؤلاء المعرضين كيف يكذبون النبي وهو يدعوهم إلى صراطٍ مستقيم ؟ كيف يقفون في سبيل هذه الدعوة سداً منيعاً وهو يدعوهم إلى صراطٍ مستقيم ؟ كيف يكيدون له وهو يدعوهم إلى صراطٍ مستقيم ؟ ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ لذلك لا ينبغي للواحد منا الآن أن يُسَلِّم نفسه هكذا ، قد يفعل الإنسان المعاصي فيأتي العلاج الربانِيّ قاسياً بعدها يتوب ، يُخطئ ويتوب ، ينحرف ، ويأتي العلاج ، ثم يتوب ، هذا طريق طويل ، طريق المعالجة ، وطريق المصائب ، وطريق الدفْع طريقٌ طويل وشاق ، لكن الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى صراطٍ مستقيم ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ أي يجب أن تستقيم ، إما أن نقول : يجب أن تسلك طريق الإيمان المستقيمة التي توصل إلى الله عزَّ وجل ، أو أن تستقيم على أمر الله ، إذا استقمت على أمر الله فأنت على صراطٍ مستقيم ، على كل الإنسان في أحواله الشخصية ، في علاقته مع ربه ، يجب أن يستقيم على أمره ، وفي علاقته بأسرته يجب أن يستقيم على أمر ربه ، وفي علاقته بزبائنه ، وفي علاقته بجيرانه ، وفي علاقته بأقربائه ، وفي علاقته فيمن حوله يجب أن يستقيم على أمر الله ، فإذا استقام على أمر الله أوصَله هذا الطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، هذا معنى الصراط ، الصراط الطريق ، والمستقيم هو أقصر طريقٍ يحقِق الهدف ، الطريق يُفْضي إلى الجنة ، فيا محمد إنَّك تدعوهم إلى الجنة ، تدعوهم إلى تحقيق الهدف من خَلْقِهم ، لماذا خلقهم الله عزَّ وجل ؟ خلقهم ليسعدهم سعادةً أبدية ، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى صراطٍ مستقيم .

 

الإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان :


﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)﴾ إنّ الدين مجموعة تكليفات ؛ تكليفات اعتقاديَّة ، وتكليفات تَعَبُّدِيَّة ، وتكليفات في المُعاملات ، ومعنى التكليف أن التكليف لابدَّ من أن ينتهي إلى الحساب ، ويوم القيامة هو يوم الحساب ، فإذا رفض الإنسان الآخرة فهو في حِلّ من كل هذه التكليفات ، لذلك : ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ .. طبعاً أركان الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ، لكن ربما كان أبرز شيءٍ في الإيمان بعد الإيمان بالله أن تؤمن بالآخرة ، فالذي يُسْقِطُ من حسابه اليوم الآخر فهو ليس مؤمناً إطلاقاً ، لأنه إذا أسقط من حسابه المسؤولية والجزاء فهو سيتصرَّف على هواه ، وَفْقَ هوى نفسه ، وفق شهواته ، وفق نزواته ، لذلك حجر الزاوية ومركز الثقل في الإيمان أن تؤمن باليوم الآخر ، إذا آمنت باليوم الآخر معنى ذلك أنك سوف تحاسب ، إذاً هذه تجوز وهذه لا تجوز ، هذه يمكن أن تفعلها ، وهذا الشيء لا يمكن أن تفعله ، ما دام في حياتنا شيء مباح ، وشيء حرام ، وشيء واجب ، وفرض ، ومكروه كراهة تنزيهية ، وكراهة تحريمية ، ومستحب ، وسنة مؤكَّدة ، وسنة غير مؤكدة ، معنى ذلك إنك ترجو ثواب الله عزَّ وجل ، ترجو رضاه وتخشى عذابه ، فعندما الإنسان يلغي من حياته الإيمان بالآخرة انتهى إيمانه كلياً ، فربنا عزَّ وجل في إيجازٍ بليغ قال : ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ لم يحدثنا عن عدم إيمانهم بالملائكة ، ولا عن عدم إيمانهم بالرسُل ، لما يلغي الإنسان الآخرة من حياته يلغي إيمانه ، أبرز شيء بالمؤمن أنه مؤمن باليوم الآخر ، لابدَّ من أن يقف بين يدي الله عزَّ وجل ليحاسبه على كل شيء ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : 

((  لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ : عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ – لأنه يوجد يوم آخر -  ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ ؟ ))

[  صحيح الترغيب : حسن صحيح ]

الفرق الدقيق بين المؤمن وبين غير المؤمن ، أن المؤمن في كل حركةٍ وسكنةٍ يَضَعُ في حسابه أنه سوف يقف بين يدي الله عزَّ وجل ليسأله عن هذا التصرف : لمَ فعلت كذا ؟ لمَ طلقتها ؟ هل كنت محقاً في هذا التطليق أم كنت ظالماً ؟ لِمَ غششت زيداً ؟ لمَ خدعت عُبَيداً ؟ لم احتلت على فلان ؟ لم أخذت هذا المال وهو ليس لك ؟ لم اعتديت على أعراض الناس ؟ هذه هي الآخرة ، سؤال دقيق ، لذلك الإنسان البطل هو الذي يُعِدُّ جواباً لكلِّ سؤالٍ ، قبل أن تقول هذه الكلمة هل تذكر أنه سوف تُسْأل عنها يوم القيامة ؟ قبل أن تُلقي هذه النظرة ، قبل أن تبتسم هذه الابتسامة الساخرة ، قبل أن تتكلم بهذا اللسان عن زيدٍ أو عبيد ، قبل أن تنقل هذا الخبر لفلان ، قبل أن تأخذ هذا المال ، قبل أن تُنْفِق هذا المال ، قبل أن تُعَنِّف فلاناً ، قبل أن تلوم فلاناً ، هل أعددت جواباً لكل هذه التصرفات لله عزَّ وجل ؟ الإنسان أحياناً يهيِّئ جواباً لإنسان ، القضية سهلة ، الإنسان علمه محدود ، فربما هيَّأت له جواباً مع وثيقتك ، معك حسن سلوك ؟ نعم ، أين هو ؟  تفضل ، أخذته من المختار ، وقد يكون سيِّئَ السلوك ، أما البطولة فأنّ تهيِّئ الجواب لله عزَّ وجل ، لله الـواحد الديَّان ، الذي يعلَم السرَّ وأخفى .

 

معالجة من انحرف عن الطريق المستقيم وأسقط الآخرة من حسابه :


لذلك : ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ .. تَنَكَّب الصراط أي انحرف عنه ، ومال عنه ، وخرج منه ، فدائماً قبل أن تناقش الإنسان انظر إلى استقامته ، هل هو مستقيم ؟ هو أهلٌ أن تناقشه ، فإذا كان منحرفاً ؛ ماله حرام ، مأكله حرام ، مشرَبه حرام ، غُذِّي بالحرام ، هذا إنسان تَنَكَّب الصراط المستقيم ، لم يرض أن يكون على الصراط المستقيم ، لأنه قطع أمله من الدار الآخرة ، لأن الدار الآخرة أسقطها من حسابه ، ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)﴾ أي منحرفون ، طبعاً هذا الكلام في كسب المال ، في إنفاق المال ، في علاقته بالنساء ، هناك علاقات منضبطة لا يرى إلا المحارم اللواتي سمح الله أن ينظر إليهن ، هناك إنسان مرن جداً ، عنده بحبوحة في حياته ، فهذا مُتَنَكِّب للصراط ، لماذا تنكّب الصراط ؟ لأن إيمانه بالآخرة غير صحيح ، هؤلاء الذين تنكّبوا الصراط ولم يستقيموا على أمره في كل علاقاتهم لابدَّ من أن يعالجهم .

 

الإصابة بالضر نوعٌ من المعالجة :


ربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ، ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾ .. معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى أصابهم بضُرٍ ، لماذا أصابهم بالضر ؟ معالجةً لهم ، ولكن هذا الضر لم يؤثِّر فيهم ، لم يستنبطوا منه حقيقةً أساسية ، لذلك قالوا : من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر ، فربنا عزَّ وجل يقول : 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

فالله عزَّ وجل ليس له أن يُعَذِّب إنساناً إلا بسببٍ وجيه ، لحكمةٍ بالغة ، فأنت إذا أصابك ما تكره اسأل هذا السؤال : ما يفعل الله بهذا العذاب إن كنت مؤمناً وشاكراً ؟ لابدَّ أن هناك تقصيراً في الإيمان ، أو تقصيراً في شكر الواحد الديَّان ، لابد ، فربنا عزَّ وجل يُصيب بعض الخلق بالضر ، إذاً هذا الضر ساقه الله لحكمة بالغةٍ بالغة ..﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾ لو أن الله عزَّ وجل أزال عنهم هذا الضر ، رفع عنهم هذا البلاء ، وجاءهم الرخاء ، وجاءتهم البحبوحة ، وشعروا بالأمن ، ماذا يفعلون ؟ يزدادون طغياناً ، هم طاغون في الشدة والرخاء ، في المَنع والعطاء ، في البحبوحة والضيق ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، إذاً هم بعيدون عن أن يفهموا على الله عزَّ وجل تصرفاته ، بعيدون عن أن يفقهوا حكمته ، هم يظنون أن هذا هو الدهر ، أخي قلَب له الدهر ظهر المِجَن .. ما هو الدهر ؟ أخي  القدر سخر منه .. ما هو القدر ؟ يعزو هذه المصائب ، وهذه المحن ، وهذه البلايا ساعةً إلى الدهر ، وقد يَسُبّ الدهر ، وساعةً إلى الحظ ، ويقول : لا حَظَّ لي ، أما أن يعزوها إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه المصيبة لحكمةٍ بالغةٍ بالغة ، وكأن الله عزَّ وجل يُريدنا أن نعرف تلك الحكمة من هذه المصيبة ..﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ هذا الذي هو يَبغي ويطغى في الرخاء والشدة هذا لا جدوى منه ، ولا رجاء منه ، ومَيؤوسٌ من صلاحه ، لهذا قال ربنا عزَّ وجل : 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

متى ؟ متى تأتيهم الدنيا على أوسع مصارع أبوابها ؟ متى ؟ ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أنت بين خيارين ؛ إما أن تكون مؤمناً فتفهم على الله عزَّ وجل أن كل شيءٍ يسوقه لك مما يزعجك إنما هناك حكمةٌ بالغةٌ وراءه يجب أن تعرفها ، يجب أن تعرف السبب كي تتلافى هذا التقصير ، وإما أن تكون كالرعاع والدهماء وسوقة الناس ، يُفَسِّر المصيبة تفسيراتٍ مضحكة ، ساعةً يقول : أخي لا أحدَ مرتاح ، وساعةً يقول : لا يوجد لي حظ ، وساعةً يقول : الدهر ضِدِّي ، هذا كلامٌ لا معنى له ، والبطولة أن تعرف أن الله عزَّ وجل حينما ساق هذه المصيبة إنما ساقها لحكمةٍ بالغةٍ لو عرفت هذه الحكمة لابتعدت عن السبب فزالت المصيبة .

 مثل بسيط ؛ حينما ينحرف إنسان عن طريق الحق ، حينما يَتَنَكَّب الصراط المستقيم يُقَيِّضُ الله له مصيبة ، هذه المصيبة مهما حاول ردها لا يستطيع ، لأنها من فعل الواحد القهَّار ، مهما بذل محاولاتٍ كي يزيحها لا يستطيع ، يُزيحها في حالةٍ واحدة ، إذا عاد إلى الله ، ورجع إليه ، واصطلح معه ، كان منحرفاً فجاءت هذه المصيبة ، فإذا استقام على أمر الله أُزيحت هذه المصيبة . لذلك .. 

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

القضية واضحة كالشمس ، غَيِّرْ حتى يغير الله عزَّ وجل ، لا تغير لا يغير ، ﴿ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ..

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾

[ سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ﴾  

[ سورة المائدة ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

آيات واضحة كالشمس ، اقرأها ، تدبَّرها ، سعادتك بيدك ، وشقاؤك بيدك ، لا يخافَنَّ العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه ، ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ ﴾ هذه حالة مرَضية مستعصية ، الآن ربنا عزَّ وجل يصف هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، هؤلاء الذين أسقطوا من حسابهم اليوم الآخر ، هؤلاء الناس لما أسقطوا من حسابهم اليوم الآخر تنكَّبوا الصراط ، خرجوا منه ، أي اعتدى على أعراض الناس ، أكل أموالهم بغير حق ، فعل ما لا يجوز ، ربنا عزَّ وجل رحمةً به يسوق له من الشدائد ، ساق له الشدة فبقي منحرفاً ، رفعها عنه فبقي منحرفاً ، معنى هذا لا يوجد إحساسً إطلاقاً . 

أحياناً يضع الطبيب السماعة على الصدر فلا يسمع صوتاً إطلاقاً ، يضع يده على النبض لا يوجد حركة ، يضع المصباح في قُزحية العين فلا تضيق ، يضع المرآة على فم الإنسان لعل بخار الماء ينطلق ، يقول لك : مات ، عظَّم الله أجركم ، ربنا عزَّ وجل يبعث للإنسان مصيبة لعله يبكي ، يتأثر ، يفكر ، يقول : ربنا رحيم ، ربنا عادل ، لا يزال في البغي ، والطغيان ، والانحراف ، والانغماس في الشهوات ، يبعث له الرخاء يقول لك : إنما أوتيته على علمٍ عندي ، كقارون ، إن بعث له الرخاء ، والبحبوحة ، والمال ، والأولاد ، والزوجة ، يقول لك : أنا خططت لحياتي ، من أنت ؟ خطط لحياته ، وهذا جهده الآن قطف ثماره ، وإن بعث له مصيبة يقول : يا أخي الحياة صعبة ، حظي سيِّئ ، يفسِّر المصيبة بالـحظ ، والرخاء بالجُهد ، هذا ميت ، لا يفهم على الله عزَّ وجل ..﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) ﴾ .

 

كلّ أنواع العذاب الذي يسوقه الله للناس في الدنيا من أجل أن يستكينوا لربِّهم :


﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) ﴾ .. هذه الآية دقيقة جداً ، كل أنواع العذاب الذي يسوقه الله للناس في الدنيا من أجل أن يستكينوا لربِّهم ، أي  أن يخضعوا له ، ومن أجل أن يتضرَّعوا ، وأنا أقول لكم هذا الكلام : ما منا واحدٌ إلا وقد تأتيه الأشياء على غير ما يريد ، فإذا جاءته الأمور على غير ما يريد في صحته ، في زواجه ، في أولاده ، في بيته ، في علاقاته ، في دخله ، في من حوله ، إذا جاءته الأمور على غير ما يريد فليراجع نفسه ، إيَّاك أن تراجع الله عزَّ وجل إنه عادلٌ ، إنه رحيمٌ ، إنه غني عن تعذيبك ، راجع نفسك ، انظر .. 

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشورى  ]

هل هناك آيةٌ أوضح من هذه الآية ؟ هذا كلام الله يا إخوان .. ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾  ..

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) ﴾

[  سورة الكهف  ]

أحياناً يقول لك : ثلاثون مليونًا تشرَّدوا بالفيضانات ، وقد ذكر ربنا عزّ وجل هذه الحالات في القرآن الكريم : ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا﴾ استكان أي خضع ،  لم يستكن : ﴿ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ ، والتضرُّع أن تدعو الله عزّ وجل ، أن تستغفره ، أن تسبِّحَهُ ، أن توحِّده ، أن تكبِّره ، أن تعترف بذنبك ، أن تمرِّغ جبهتك في أعتابه ، أن تعاهده على التوبة ، أن تراجع نفسك .. ﴿ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ فالإنسان المُعْرِض الغافل الذي أسقط الدار الآخرة من حسابه ، من هنا إلى يوم الله يفرجها الله ، أي أسقطها من حسابه نهائياً ، بان كل حياته على الدنيا ، هذا المال حرام ، حلال ، فيه شبهة يقول لك : لا بأس به ، لا تدقق ، هذه المرأة لك حق تنظر لها ، لا تنظر ، تصافحها ، تقعد معها ، يقول لك : أنا عقلي مفتوح ، مرن ، تفضل ، فعندما يتساهل الإنسان في أمور كسب المال ، وإنفاق المال ، وعلاقته بالمحرمات ، عندئذٍ يتركه ربنا عزَّ وجل ، ولكن عنده يوم واحد ، أحياناً تكون السنبلة تميل مع الرياح ، أما الشجرة الكبيرة تأتيها عاصفةٌ فتقتلعها من جذورها .

 

طريق الإيمان هو طريقٌ إلى الواحد الديَّان :


﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ .. هذا عذاب الموت ، هنا القَصْم حينما يُنهي الله سبحانه وتعالى حياة هذا الإنسان : ﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ نعوذ بالله من هذه الحالة ، الإنسان يأكل ، ويشرب ، وينام ، ويستمتع ، ويذهب ، ويسهر ، ويتنزَّه ، ويعود ، ويمزح ، ويُزعج فلاناً ، ويتكلَّم على فلان ، ويكسب المال الحرام ، ويحسب لكل شيء حسابه إلا ساعة الموت : ﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ لم تكن في حسبانه ، أن تنتهي دنياه ، أن تنتهي حياته ويساق إلى القبر ، هذه حالة خطيرة جداً ، لذلك المؤمن أحد أسباب سعادته أن هذه الساعة التي لابدَّ من أن تأتي قد أعدَّ لها ، وأدخلها في حسابه اليومي ، لذلك كان أحد الصالحين قد اشترى قبراً في حياته ، يضطجع فيه بالأسبوع مرة يوم الخميس ، ويتلو قوله تعالى : ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ فيقول لنفسه : قومي لقد أرجعناكِ ، الإنسان عندما يستيقظ صباحاً يجب أن يعرف أن الله عزَّ وجل سمح له أن يعيش يوماً جديداً : " ما من يومٍ ينشقُّ فجره إلا وينادي أن أيها الإنسان أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد فتزوَّد مني فإني لا أعود" ﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ إذاً ربنا عزَّ وجل في مجموعة هذه الآيات يبيِّن لنا أن طريق الإيمان هو طريقٌ إلى الواحد الديَّان ، طريقٌ إلى الجنة ، وهو طريقٌ مستقيم ، فإذا طبَّقت أحكام الشرع فأنت على هذا الطريق المستقيم ، إذا طبَّقت أحكام الشرع في زواجك ، في بيعك وشرائك ، في كل حركاتك وسكناتك ، في عباداتك ، في معاملاتك ، فأنت على الصراط المستقيم ، وهذا الصراط المستقيم لابدَّ من أن يُفْضي بك إلى الله عزّ وجل ، وإلى الجنة.

 

من عجيب خَلق الله السمع والبصر والأفئدة :


الآن : الآيات تأتي ولها علاقةٌ وشيجة بالآيات السابقة : ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ .. لماذا شَقَّ الله لك السمع ؟ أمن أجل أن تسمع الغناء ؟ لا والله ، من أجل أن تسمع الحق ، فالإنسان ممكن أن يجلس في مجلس علم ويسمع الحق ، فربنا عز وجل شَقَّ لك السمع من أجل أن تسمع الحق : ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ وشقّ لك البصر من أجل أن ترى آيات الله ، انظر إلى الشمس ، انظر إلى القمر ، انظر إلى السحاب ، انظر إلى الجبال ، انظر إلى البحار ، انظر إلى السهول ، انظر إلى الأشجار ، انظر إلى الثمار ، انظر إلى الأطيار ، انظر إلى الأسماك ، انظر إلى ابنك كيف خلقهُ الله عزَّ وجل ، انظر إلى حسن صورته ، إلى طباعه ، انظر إلى أسرتك ، انظر إلى الحاجات التي من حولك ، من خلقها ؟ فربنا عزَّ وجل يقول : لقد شققت لكم السمع والأبصار اسمعوا الحق أو انظروا في آياتي ، ﴿ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾ والأفئدة هنا بمعنى العقول ، أي خلق الله لنا حواساً نتحسس بها ما في الكون ، وخلق لنا عقلاً ندرك به المدركات ، عندنا محسوسات وعندنا مدركات ، بالحواس ندرك المحسوسات وبالعقل ندرك المفهومات ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ لماذا خُلِقَت ؟ خلقت من أجل أن تعرفه ، أصل الدين معرفته كما قال الإمام عليٌّ كرم الله وجهه ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ خلق لكم السمع والأبصار والأفئدة من أجل أن تعرفوه ، إذاً لابدَّ من أن يأتي بكم إلى الدنيا ، وأن يُسَخِّرَ لكم ما في السماوات والأرض تسخير تكريمٍ وتعريف ، وأن يودع فيكم الشهوات لترقوا بها إلى رب الأرض والسماوات ، وأن يَهَبَكُم العقل كقوةٍ إدراكيةٍ تميِّزون به الخير من الشر .

 

رحلة من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة :


إذاً : ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ .. شقّ لكم السمع والأبصار ، وأودع فيكم العقول ، وذرأكم في الأرض أي خلقكم فيها : ﴿ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ جئنا إلى الدنيا بالحياة ، ونذهب منها بالموت ، قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وكيف يكون الحياة والموت ؟ ﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ .. الزمن ، هذا اليوم يأتي بعد هذا الليل ، والليل بعد النهار ، مضى أسبوع ، أسبوعان ، شهر ، شهران ، سنة ، سنتان ، عقد ، عقدان ، أربعون ، خمسون ، ثلاث وستون ، أربع وسبعون ، عظَّم الله أجركم ، ﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الأمور تسير .. والإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه ﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ معنى اختلاف أن يأتي النهار بعد الليل ، وأن يأتي الليل بعد النهار : 

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[ سورة هود ]

خالفه إلى كذا أي ذهب إلى هذا المكان ، فالليل جاء ، والنهار جاء بعده وهكذا ، دورة الأرض حول نفسها ، دورتها حول الشمس ينشأ عنها الزمن ، مع مُضِيِّ الزمن تنتهي الحياة ، يأتي الموت ، إذاً يوجد عندنا علاقة في هذه الآيات ، ربنا عزَّ وجل خلقنا لنعرفه ، شقّ لنا السمع والأبصار ، أودع فينا العقول ، جاء بنا إلى الدنيا ، جعل الأيام يتلو بَعْضُها بعضاً ، امتدَّ بنا الزمن ، انتهى العمر ، جاء الموت ، جاء الحساب ، هذه حقائق كبرى في الدين .


  إنكار البعث طريق إلى فساد السلوك :


﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ﴾ .. هؤلاء الذين أسقطوا من حسابهم اليوم الآخر ، وتنكَّبوا عن الصراط ، ولم تؤثِّر بهم المصائب ، ولم تؤثِّر بهم العطاءات ، هؤلاء ماذا قالوا ؟   ﴿ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ هذا كلام فارغ ، هذا الذي يقوله الأنبياء : أساطير الأولين ، هذه غيبيَّات ، نحن واقعيّون ، نحن نعيش هذه الحياة ، الواقع ملموس ، علينا أن نعيش واقعنا ، علينا أن نتفاعل مع الواقع ، نحن نريد الواقع ، الواقع ما بعد الموت غير معروف ، العلم متعلِّق بالواقع ، هذه غيبيَّات ، هذه ما وراء الطبيعة ، هكذا يقول المعرضون : ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(83)﴾ هذه تقاليد قديمة ، وبعض الأفكار الشائعة عند الضعاف ، الإنسان من ضعفه توهَّم أن هناك إلهاً خلقه ، ركن إليه ، هذا شـعور طبيعي عند الضعيف ، أما إذا الإنسان سيطر على الطبيعة هو في غنى عن هذه الأفكار ، وعن هذه المشاعر ، وعن تلك المعتقدات ، هكذا يقول أعداء الدين .

 

الكون لله خلقاً وتصرفاً ومصيراً :


ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ .. لمن ؟ أي من يملكها مُلكاً حقيقياً ؟ الملك الحقيقي ألا يكون للمملوك وجودٌ بعيدٌ عن مالِكِهِ ، ألا يستقل المملوك بوجودٍ عن مالكه ، هذا الشيء يقوم على الإنسان وجوده مستمد من وجود الله عزَّ وجل ، كـن فيكون ، زُل فيزول ، فلو قطع عنه الإمداد لحظةً لانتهى وجوده ، ما هي الروح ؟

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[  سورة الإسراء  ]

يكون الإنسان ملء السمع والبصر ، شخصية مهمة جداً ، يفقد حياته صار جثة هامدة ، صار لحماً وعظماً ملقى على الأرض ، ما الذي فقده ؟ فالإنسان وجوده مستمدٌ من وجود الله ، فالإنسان مملوك وليس مالكاً ، المالك هو الله عزَّ وجل ..

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران  ]

ومعنى مالك أي مَلَك مُلْك تصرف ، ومُلك مصير ، ومُلك خلق ، أي خلق ويملك التصرُّف الكامل ويملك المصير : ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾ الأرض من يديرها ؟ الآية الكريمة : 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾

[ سورة فاطر ]

لو أنها خرجت عن مدارها لهُدِّم ما عليها ، من يجعلها في مدارها الصحيح وعلى خطها المستقيم ؟ ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ طبعاً هذا الجواب البديهي ، جواب الفطرة ، لا يوجد إلا الله عزَّ وجل هو المالك ، هو الخالق : ﴿ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ ما دام الله عزَّ وجل هو الخالق ، وهو المالك ، بيده الملك ، والتصرُّف ، والمصير ، فكيف تعصيه ؟ ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ .

﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) ﴾ المالك هو الرَّب ، لأن الرب هو المدبِّر ، المدبِّر والمالك هذان المفهومان يلتقيان ، والدليل : ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ ﴾ لم يقل : الله ، قال : لله قياساً على ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا ﴾ إذاً الله سبحانه وتعالى هو : ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ والعرش العظيم هو الذي منه تصدر الأوامر في تصرفات الله عزّ وجل ، له بحثٌ طويل ، أي العرش العظيم كما قال الإمام مالك : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول " ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كل شيء ملكوته بيد الله عزَّ وجل ، الملكوت غير المُلك ، الملك مع السيطرة هو الملكوت ، أي كل شيء من يسيطر عليه سيطرةً تامةً تامة ؟ الله سبحانه وتعالى ، الأرض بيده ، الشمس بيده ، السحاب بيده ، الأمطار بيده ، الرياح بيده ، تأتي رياح مدمرة ، أعاصير سرعتها أربعمئة أو خمسمئة كيلو متر تدمر كل شيء ، تسمعونها بالأخبار ، الإعصار بيد من ؟ الفيضان بيد من ؟ ثلاثون مليون مشرَّد ، ساعة فيضان ، ساعة إعصار ، ساعة زلازل ، ساعة براكين ..﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، قلبك بيد من ؟ الرئتان ، الشرايين ، الأوردة ، الدّسامات ، الكليتان ، الكبد ، البنكرياس ، النخامية ، الدرقية ، الكظر ، بيد من ؟ خلل طفيف في بعض الغدد تنتهي حياةُ الإنسان ، فربنا مالك الملك .

 

لا منجي ولا مجير إلا الله :


﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ .. يخلِّصك من أي جهة ، لكن إذا كان ربنا عز وجل أراد بإنسان شيئاً ليس جهة على وجه الأرض بإمكانها أن تخلصك منه . لذلك سأل مرة أحد الولاة أحد التابعين قال له : جاءني كتاب من يزيد بن معاوية وفيه توجيه لا يرضي الله عزَّ وجل ، قال له التابعي الجليل كلمة : إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيداً لا يمنعك من الله ﴿ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ إذا كنت معه نجَّاك من كل أعدائك ، فإذا لم تكن معه ليس في الأرض جهة بإمكانها أن تنجيك منه ، لذلك قالوا : " لا ملجأ منه إلا إليه" .. " كن مع الله تر الله معك " .. " إذا كان الله معك فمن عليك ؟ أما إذا كان عليك فمن معك ؟ " ليس معك أحد ، ﴿ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ ، هو ينقذك ، معنى يجير ، الجار في الجاهلية له حق كبير جداً ، فكان إذا إنسان استجار بإنسان ، هذا الإنسان المستجار به يجير ، فإذا الإنسان استجار بالله عزَّ وجل ، قطعاً الله سبحانه وتعالى يجيره ، أما إذا ابتعد عن الله عزَّ وجل ، وانحرف لا يجيره من الله أحد : ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) ﴾ الإنسان ما الذي يسحره ؟ ما الذي يغريه ؟ ما الذي يصرفه عن الدين ؟ ما الذي يخلب لبه ؟ الدنيا ؟ و " الدنيا جيفة طلابها كلابها " .. و " الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له " .

 

نفي الشريك والولد عن الله سبحانه :


﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ .

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ .. حينما خلق السماوات والأرض ، لم يكن معه إله أعانه ، أو شاركه ، ولا اتخذ ولداً بعد أن خلق السماوات والأرض ، ولو كان هذا كذلك : ﴿ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ﴾ يصبح هناك تنازع ، وشقاق ، ومخاصمة ﴿ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ..

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور