الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة المؤمنون .
﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ .. نحن كُلفنا أن نعتقد بوجود الله ، وبربوبيَّته ، وبألوهيَّته ، وبأسمائه الحُسنى وصفاته الفُضلى ، والكون كله يؤكِّد هذه الحقيقة ، لذلك إذا أمرنا أن نؤمن به فما أكثر الآيات الدالَّة عليه ، إذا أمرنا أن نؤمن بعظمته فالكون كله ينطق بعظمته ، إذا أمرنا أن نؤمن برسوله فالنبي عليه الصلاة والسلام صفوةُ خلقه ، لو أمرنا أن نؤمن برسوله ولم يكن هذا النبي الكريم في المستوى المطلوب لوقعنا في حَرَجٍ ، صار تكليفاً حرجاً ، لكن هذا رسولي وهو قِمَّة البشر ، في الكمال والعلم ، والعصمة والتبليغ ، فربنا سبحانه وتعالى قال : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ..
2 ـ التكليف التعبدي :
أما تكليف العبادات فجعل الصلاة لا تزيد عن ركعات ، فلو أن الصلاة عشرون ركعة في كل وقت لكان في هذا التكليف حَرَجاً علينا ، الصلاة أربع ركعات ، أو ركعتان ، أو ثلاث ، هذا هو الفرض ، ولك أن تقرأ في كل ركعة ما تيسَّر من كتاب الله ، فلذلك ليس هناك تكليفٌ حرجي في العبادات ، والصوم ثلاثون يوماً في السنة ، أياماً معدودات ، لو كان الصوم ستين يوماً كلكم يشعر في رمضان أنه في أواخر هذا الشهر يصبح الصيام عبئاً عليه ، فربنا سبحانه وتعالى هو الخالق ، وهو يعلم الأيام المعدودة التي تناسب الصيام ، إذاً لم يكن في أمره إيانا بالصيام تكليفٌ حرجي ، ولا في الزكاة لم يقل : أعطوا كل أموالكم ، ولا أعطوا نصف أموالكم ، ولا ربع أموالكم ، واحد في الأربعين ، اثنان ونصف في المئة ، شيء مقبول ، ضمن الوسع ، وكذلك الحج قال :
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) ﴾
[ سورة آل عمران ]
فمن لم يستطع فلا حج عليه ، إذاً عندما قال ربنا عزَّ وجل : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ليس في تكليف الاعتقاد ، ولا في تكليف العبادات ، ولا في تكليف المعاملات ما يُحْرِج ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) ﴾
[ سورة الشورى ]
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾
[ سورة البقرة ]
هذا التكليف يَسَع الخلق كلهم .. ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ .
3 ـ التكليف في المعاملات :
حتى في المعاملات ، حتى في البيع ، في الشراء ، لم يكلفنا تكليفاً حرجاً ، التكليف من وسع الإنسان ، لذلك الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة يقول :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
[ سورة البقرة ]
هذه الأوامر وتلك النواهي بإمكان كل إنسانٍ في كل زمانٍ ومكانٍ أن يطبِّقها في بحبوحة ، أما الناس ماذا يقولون ؟ أخي والله شيءٌ صعب ، هذا كلام خلاف كلام الله عزَّ وجل ، ما كان الله عزَّ وجل ليكلفنا بما هو شاق ، أحياناً الصلاة غير شاقَّة ، ولكنها تُصْبِحُ في بعض الحالات شاقة على المريض ، فربنا سبحانه وتعالى رفع الحرج .
﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)﴾
[ سورة النور ]
لك أن تصلِّي قاعداً ، لك أن تصلي مستلقياً ، لك أن تصلي بالإيماء ، إذا كان الماء يؤذيك فلك أن تتيمم ، إذا كان غُسل الجنابة يؤذيك فلك أن تتوضأ ، الأمر كلما ضاق اتسع ، فلذلك : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أحياناً الأب يتعنت في تزويج ابنته ، الشرع دقيق جداً ، تستطيع هذه الفتاة أن ترفع أمرها إلى القاضي ، والقاضي يسأل الأب : لماذا لا تزوِّجها ؟ فإما أن يقتنع القاضي وينضم إلى الأب ، وإما ألا يقتنع فيزوِّجها هو مباشرةً ، لا يوجد حرج إطلاقاً ، الأمر كلما ضاق اتسع .. ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ .
4 ـ التكليف الأخلاقي والسلوكي :
هذه التكاليف التي كُلفنا بها من اعتقاديات إلى عبادات ، إلى معاملات ، إلى أخلاقيات كلها في وسع الإنسان أن يفعلها ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان التكليف مشقَّةً ، ولكان عدم التطبيق مبرراً ، أما هذا الذي يقول : أين أذهب بعيني في الطريق ؟ نقول : أنت لا تعرف ، بإمكانك أن تَغُضَّ بصرك ، من أين آكل إذا امتنعت عن أكل مال الحرام ؟ نقول له : أنت لا تعرف .. إياك أن تظن أن في الإسلام حِرْماناً ، أبداً .. أية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً يمكن أن تُفَرَّغ من خلالها ، فالزواج مُفَتَّحَةٌ أبوابه ، الشهوة التي أودعها الله في الرجال يمكن أن تنصرف في الزواج ، وليس هناك قناةٌ أُخرى ، حبّ المال يمكن أن يكون من طريقٍ مشروع ، حبّ العلوِّ في الأرض يمكن أن يكون عن طريق العَطاء ، إذا أعطيت المجتمع رفعك المجتمع فوقَ الأَكُف ، إذاً : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ هذه الآية أتمنى عليكم إذا خطر على بالكم خاطر من أن أوامر الدين شاقة ، هذه الآية ترد هذه الأكذوبة ، وهذه الفِرْيَة ، أوامر الدين ليست شاقة ، إن أوامر الدين ليست تقييداً لحرية المؤمن أو الإنسان إنما هي ضمانٌ لسلامته ، أي إذا كنت في حقلٍ ورأيت لوحة كُتب عليها : احذر حقل ألغام ، هل تظن أن هذه اللوحة وضعت لتَحُدَّ من حريتك ؟ لا .. من أجل أن تضمن بها سلامتك .. أقرب من هذا .. هذا مثل بعيد ، إذا وقفت أمام عمودٍ كهربائي كُتِب عليه : خطر الموت تَوَتُّر عالٍ ، هل تحس بنقمةٍ على من وضع هذه اللوحة أم تشكره من أعماق نفسك ؟ إن هذه اللوحة ليست تقييداً لحريتك ، إنما هي ضمانٌ لسلامتك ، لذلك : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ في أمر الزواج ، في أمر الطلاق ، في أمر البيع ، في أمر الشراء ، في العبادات ، في الـمعاملات ، في الاعتقاديَّات ، في الأخلاقيات ، أيُّ أمرٍ من أوامر الدين هو من عند الخبير ، من عند الصانع .
أنت إذا اقتنيت آلةً معقدة ، ورأيت مع الآلة نشرةً فيها تعليمات دقيقة لطريقة التشغيل ، وطريقة الصيانة ، وهناك شخصٌ قال لك : هذه التعليمات صعب تنفيذها ، لا تعبأ بها ، افعل كذا وكذا ، أنت بالفطرة تعتقد أن الصانع وحده هو الذي بإمكانه أن يعطيك التعليمات ، لأنه خبير ..
﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) ﴾
[ سورة الملك ]
الصانع وحده .
لا حجة للإنسان بصعوبة التكاليف :
هذا المخلوق الذي هو الإنسان ، من خلقه ؟ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ لذلك : ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ .. من هنا تأتي المُشْكلة ، المشكلة أن الإنسان عليه الحُجَّة ، لو أن أوامر الله عزَّ وجل لم تكن في وسع الإنسان لفتح الإنسان فمه على مصراعيه إن صح التعبير وقال : هذا التكليف يا رب فوق طاقتي ، لا .. ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فالإنسان عندما يَحْتَج أمام نفسه حُجَّة واهية أن هذه التكاليف صعبة ، هذه الأوامر شاقة ، هذه الأوامر لا أقوى على تنفيذها ، ليس في إمكاني أن أطبقها ، هذا كلام الشيطان .
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) ﴾
[ سورة آل عمران ]
لكلّ إنسان عند الله كتاب مسجل فيه كل حركاته وسكناته :
﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ .. الكتاب بعضهم قال : القرآن ، وبعضهم قال : اللوح المحفوظ ، وأوجه التفسيرات كتاب الأعمال ، أنت موظف ، تتحرك وتأتي متأخراً أو باكراً ، ترتكب المخالفات ، تعمل أعمالاً طيبة ، وأنت في مقابلةٍ للمدير العام طلب إضبارتك ، فإذا في هذه الإضبارة كلُّ شيء ، كل المكافآت ، وكل العقوبات ، وكل التقصيرات ، وكل الأعمال الطيبة ، هذه الإضبارة فيها كل شيء ، فإذا كان في وسع الإنسان أن يتَّخذ لمن عنده من الموظفين إضبارة فيها كل شيء ، فما قولك بالواحد الديان ؟ ..﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ كل حركاتك ، وكل سكناتك ، كل التجاوزات ، كل المخالفات ، كل التقصيرات ، كل الأعمال الطيبة ، الأعمال السيئة ، الأعمال التي لا ترضي الله كلها مسجلة ، بعضهم قال : مسجلة مع صورتها ، لقوله تعالى :
﴿ كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) ﴾
[ سورة المطففين ]
فيه الرَّقْمُ ، أي فيه الصورة ، وبعضهم قال : صفحات هذا الكتاب مرقمة لا يمكن أن تنتزع .
على كل ليكن في علمكم أن كلاً منا له عند الله كتاب ، أعماله كلُّها منذ سن التكليف وحتى يحين الحين ، مسجلةٌ عليه واحدةً واحدة .. ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ هذا الكتاب ليس كتاباً مقروءاً ، أبلغ من مقروء ، كتاب مسموع ، أحياناً يضعون في السيارة عدَّاداً يشير إلى شيء من الأشياء ، فإذا نظرت إليه عرفت ، وإذا لم تنظر إليه وقد أشار إلى الخطر وقعت الكارثة ، الآن العدادات أبلغ من ذلك ناطقة تقول لك : انتبه ، الوقود سينتهي ، انتبه ، الشيء الفلاني فيه خلل ، فالكتاب الناطق أبلغ من الكتاب المقروء ، أبلغ بكثير ، لأن الإنسان أحياناً يقول : هذا الشيء يَكَاد ينطق لشدة الوضوح وشدة البلاغة يكاد هذا الكتاب ينطق ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ بكل شيءٍ فعلوه من دون تَحَيُّز ، من دون محاباة ، من دون تجنّ ، من دون جحود بالحق ، أحياناً الإنسان يُكتب الضبط في المخفر على خلاف الحق لمصلحة أحد الطرفين ، أحياناً يكون الطرف الأول غائباً ، الطرف الثاني يُمْلي الحادثة كما يريد ، فهذا الضبط كتاب ، لكنه مخالفٌ للحق ، لم يكن الأمر كذلك ، لكن هذا الكتاب الذي هو عند الله عزَّ وجل ينطق بالحق ، لا يوجد فيه زيادة ، لا يوجد فيه نقص ، لا يوجد فيه محاباة ، لا يوجد فيه جحود ، لا يوجد فيه مبالغة ، لا يوجد فيه تقليل ، الإنسان قد يحابي نفسه ، فإذا طُلب منه أن يكتب إفادته يخفف المسؤولية عن نفسه ، يوجه الإفادة توجيهاً ليتحلل من المسؤولية ، فإذا طُلب إليه أن يكتب إفادة عن خصمه يُبالغ في تحميله المسؤولية ، فهذا الضبط مخالفة للحق ؛ لكن الله سـبحانه وتعالى كتابه الذي ينطق بالحق هو بالـحق من دون زيادةٍ أو تزوير .
كتاب كل إنسان ينطق بالحق ولا يظلم مثقال ذرة :
﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ .. لأن الكتاب ينطق بالحق إذاً .. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ من أين يأتي الظلم ؟ إذا كان الكتاب على غير الحق ، بعضهم قال : " الكتاب هو القرآن الكريم " و ..﴿يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام يتلوه على مسامع الناس ، فكأن هذا الكتاب ينطق ، ينطق به النبي الكريم ، هذا معنى آخر ، على كل ..﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ هناك تناسب بين المعنى الأول والمعنى الثاني ، إنه كتابُ الأعمال الذي ينطق بالحق ..﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ إذا كان الله سبحانه وتعالى ينفي الظلم عن تصرُّفاته ، فهل يُعقل أن تسمعنا قصةً مفادها أن فيها ظلماً شديداً ؟ إذا كان الله عزَّ وجل ينفي الظلم أتثبته أنت ؟ أتثبته بخلاف الواقع ؟
دعوى مشقة التكاليف من عمى القلب وتيه النفس :
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا﴾ .. لماذا هم كذلك ؟ لماذا هم لا يفعلون ما يؤمرون ؟ لماذا هم يدَّعون أن هذه التكاليف فوق طاقتهم ؟ لماذا ؟ لماذا يقصرون ؟ لماذا ينحرفون ؟ لماذا يخالفون ؟ لأن قلوبهم في غمرة ، أي هم في تيهٍ وعمى ، في تيه شهواتهم ، إنهم مقبورون في شهواتهم ، إنهم غارقون في متاعبهم ، إنّ شهواتهم هي حجبٌ كثيفةٌ بينهم وبين الحقيقة ، لذلك : ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا﴾ ما هذا ؟ من هذا ، هذا : اسم إشارة ، إلى أي شيء يشير ؟ قال : إلى قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ هؤلاء قلوبهم في غمرةٍ من أن يكونوا مُشفقين .. ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ قلوب هؤلاء في غمرةٍ من أن يؤمنوا بآيات الله .. ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴾ في غمرةٍ من هذا .. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ قلوبهم في غمرةٍ من هذا ، وبعضهم قال : قلوبهم في غمرةٍ من أن يعتقدوا أن كل الأوامر الإلهية في وسع الإنسان ، أي وصف المؤمنين ، ووصف الشرع الحكيم لا ينطبق على هؤلاء لأنهم غارقون في شهواتهم ، محجوبون بميولهم ، بعيدون عن الحقيقة لأنهم حجبوا أنفسهم عنها .. ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا﴾ أحياناً تلتقي مع إنسان ، تراه غارقاً في شهوته ؛ لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يعي ، على قلبه وَقْرٌ ، على قلبه خَتْمٌ ، وفي أذنه وَقْرٌ ، وعلى عَيْنَيْهِ غِشاوة ، فكأنه لا يرى ، ولا يسمع ، ولا يعقل :
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾
[ سورة الأعراف ]
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾
[ سورة الحج ]
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا﴾ مادام غارقاً في شهوته إذاً لابدَّ من أن ينحرف ، لأن منطق الشهوة يدعو إلى أن تُرَوِّيها بحلالٍ أو بحرام ، إذا الإنسان تشبَّث بشهوةٍ ما يسعى إلى إروائها من أي طريق ، فلذلك أَنَّى لهذا الضال أن يستقيم ؟ ما كان له أن يستقيم .
العلاقة بين مجاوزة الحدود والابتعاد عن الحق :
﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ .. لهم أعمالٌ خسيسة ، أعمالٌ دنيئة ، أي هذا الذي لا يعبأ بالدين..
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) ﴾
[ سورة الماعون ]
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
[ سورة القصص ]
تأكَّد إذا قال لك الإنسان ، إذا أنكر هذا الدين العظيم ، أنكر فريضته ، أنكر الصلاة ، أنكر الصيام ، أنكر الاستقامة .. ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ لابدَّ من أن يعتدي على أعراض الناس ، لابدَّ من أن يعتدي على أموالهم ، لا بدَّ من أن يأخذ ما ليس له ، لابدَّ من أن يطغى ، لابدَّ من أن يبغي ، لابدَّ من أن يَشْتَط ، لابدَّ من أن يتجاوز .. ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ يعملونها لأنهم في عمى ، يعملونها لأنهم في صمم ، يعملونها لأن الشهوة هي دَيْدَنُهُم ، يعملونها لأن الشهوة استحوذت عليهم ، إنهم غارقون فيها ..﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ آيةٌ بليغة ، أي .. ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) ﴾ أرأيت هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى ؟ انظر إلى أعماله ، انظر إلى خلله ، انظر إلى قذارته ، انظر إلى دناءته ، انظر إلى ميوله المُنْحَطَّة ، انظر إلى أنانيته .
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) ﴾
[ سورة العلق ]
الآن .. ﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ انظر إلى أمانته ، انظر إلى شجاعته ، انظر إلى استقامته ، انظر إلى ورعه ، انظر إلى عفافه ، هكذا ، فلذلك : ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ نتيجة قطعية وحتمية أن الذي يبتعد عن الحق لابدَّ من أن يتجاوز الحدود ، ولابدَّ من أن يقع في الحرام ، ولابدَّ من أن يأخذ ما ليس له ، أحياناً إذا الإنسان انغمس بشهوته يعتدي على حقوق مُقَدَّسة ، ولا يبالي بها .
المترف إنسان بعيد عن الحق :
ثم يقول الله عزَّ وجل : ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ﴾ .. هؤلاء المترفون كما قلت في درسٍ سابق في ثمانية مواضع على سبيل القصر والحصر جاء المترف كافراً .. ﴿ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ فالمترف دائماً إنسان بعيد عن الحق ، جعل الدنيا أكبر همِّه ، ومبلغ علمه ، جعل الدنيا كل شيء ، جعل آماله كلها في الدنيا ، لم يرض غير الدنيا ، لم يعبأ بما بعد الموت .
العقاب الأليم عاقبة من عصى ربه واعتدى على أعراض الناس :
لذلك : ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ .. جأر أي تضرَّع بصوت مرتفع : يا رب ..﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ﴾ كالدرس الماضي : ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ الإنسان أحياناً يَصْدُرُ أمرٌ من الله عزَّ وجل بإيقاع العقاب فيه ، يأخذه بالعذاب ، عذاب في جسده ، عذاب في ماله ، عذاب في أهله ، عذاب قصم يُنْهيه عن آخره .. ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ أي يضرعون إلى الله بصوتٍ مرتفع .. ﴿لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ هذه الاستغاثة جاءت بعد فوات الأوان ، تماماً لو أن إنساناً قتل إنساناً ، وسيق إلى المحاكمة ، وحُكِمَ عليه بعد محاكمةٍ طويلةٍ دقيقةٍ عادلةٍ ، حُكم عليه بالموت لأن هناك أدلةً قطعيةً على ارتكابه الجريمة ، وصُدِّق الحكم ، وسيق إلى تنفيذه ، أي لو أنه استغاث بهم ، هل تجزيه هذه الاستغاثة ؟ لو أنه توسَّل إليهم ، لو أنه رجاهم ، لو أنه قَبَّل أقدامهم ، لو أنه بكى ، لو أنه ضحك ، هذه بعد فوات الأوان ، فَكِّر قبل أن تُقدِم على هذه الجريمة ، فكر قبلها ، الأمور دقيقة ، الإنسان أحياناً يكون في بحبوحة ، أما إذا كان غافلاً ، والأمر يجري وهو يعصي الله عزَّ وجل ، فجأةً يصدر أمر إلهي بإيقافه عند حده ، ساعتئذٍ الأمر وقع ، فالذي أرجوه ، والذي قلته لكم في درسٍ سابق : لا توصلوا علاقتكم مع الله إلى هذا المستوى ، إلى طريقٍ مسدود ، لا توصل علاقتك مع الله إلى أن تدعوه فلا يستجيب لك ، الإنسان أحياناً يطغى ، يتجاوز الحدود ، يأخذ ما ليس له ، يُطَلِّقُ ظلماً ، يعتدي على أموال الناس ، على أعراضهم ، يركب رأسه ، عندئذٍ يأتي العقاب الأليم .
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ﴾
[ سورة البروج ]
عندئذٍ لا ينفع الدعاء ، ولا ينفع الرجاء ، ولا التوسُّل ، ولا أن تجأر .. ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ(65)﴾ جاء هذا بعد فوات الأوان ، هذا لا يُجْدي ، فعلت ما فعلت ولم تفكر فيم فعلت ؟
العاقل من يتعظ عند معرفته لآيات الله قبل فوات الأوان :
استمعوا يقول الله عزَّ وجل : ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ .. وأنتم في الدنيا ، وأنتم في بحبوحة ، وأنتم في شبابكم ، وفي أحوالكم الطيِّبة ؛ لكم بيوت ، ولكم زوجات ، ولكم أولاد ، وفي أكمل حالات صحَّتكم ، أعضاؤكم سليمة ، حواسُّكم سليمة ، صحتكم جيدة ، دخلكم وفير ، مركزكم قوي ..﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فقد كانت آياتي تُتلى عليكم صباحاً مساء ، آيات القرآن الكريم تُتلى عليكم ، ألم تحضروا تعزيةً ؟ ألم تسمعوا كلام الله ؟ ألم تحضروا احتفالاً بُدِئ بكلام الله ؟ ألم تجلسوا في مجلس علمٍ سمعتم فيه تفسير كلام الله ؟ ألم تحضروا خطبةً فُسِّر فيها بعض آيات الله ؟ ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هذه الشمس آية أما قرأت عنها ؟ أما سمعت عنها ؟ أن حجمها يتسع إلى مليون وثلاثمئة ألف أرض ، أن حرارتها في سطحها ستة آلاف درجة وفي نواتها عشرون مليون درجة ، وأنها تَتَّقِدُ منذ خمسة آلاف مليون سنة ، من أعطاها هذه الطاقة ؟ وأنها تَبْعُد عن الأرض مئةً وخمسين مليون كيلو متر ، وأن نجماً يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، وأن هذه العين فيها مئة وثلاثون مليون عُصَيَّة ومخروط ، وأن في الإنسان مئة وخمسين كيلومترًا أوردةً وشرايين ، وأن قلبه يضخ ثلاثمئة ألف متر مكعب من الدم في عمره المديد ما تملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم ..﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ألم تسمعوا هذه الآيات ؟ ألم تقرأ عن القمر ؟ عن الشمس ؟ عن الأرض ؟ عن الجبال ؟ عن الأنهار ؟ عن البحار ؟ نهر الأمازون ثلاثمئة ألف متر مكعب في الثانية ، أين خزَّاناته ؟ هذه الآيات في الجبال ، والصحارى ، والسهول ، والوديان ، والأغوار ، والبِحار ، مليون نوع من السمك في البحار ، مئة ألف نوع من الطيور ، ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع من القمح ، أنواع المحاصيل ، أنواع الفواكه ، أنواع الخُضراوات ، أنواع الحيوانات ، في الإنسان أجهزة معقدة جداً ..﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ألم تسمعوها ؟ ألم تستعظموا ؟ ألم تلفت نظركم هذه الآيات ؟ ألم تتأثروا ؟ ألم تقولوا : الله عظيم يجب أن نطيعه ؟ أبداً ؟ إما أن تفسِّرها بالقرآن : ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وإما أن تُفَسِّرها بآيات الكون ، على كل كلها آيات : ﴿تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تسمعونها صباحاً مساء ، تُتْلى على مسامعكم ، ما أكثر ما حضرتم بعض المحاضرات ذُكِرَت فيها بعض آيات الله ، البترول آية ، من أودع هذه الطاقة الهائلة في باطن الأرض ؟ الهواء آية ، الماء آية ، الكهرباء آية : ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ .
الشهوة والشبهة مانعان من سماع الحق :
﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴾ .. تتراجع إلى شهوتك ، تتراجع إلى عاداتك ، إلى تقاليدك ، إلى مصلحتك ، إلى الدنيا ، تَخْلُدُ إلى الأرض ، هذه الآيات تكفي أن تعرف الله عزَّ وجل ، هذه الآيات تكفي أن تستقيم على أمره ، لكن هذا الإنسان يرجع إلى شهوته ، يرجع إلى عاداته السقيمة ، يرجع إلى تقاليده المَقِيتة ، يرجع إلى المادَّة ، يرجع إلى مصالحه .
الابتعاد عن القيل والقال واستغلال الوقت بطاعة الله عز وجل :
﴿ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾ .. أنتم فوق ذلك ؟ أنتم أكبر من أن تؤمنوا ؟ أنتم أكبر من أن تُصَلُّوا ؟ يمشي في جنازة ، تقف أمام المسجد ، فيقف ويدخن ، أنت أكبر من الصلاة ؟ من أنت ؟ أنت أكبر من أن تُصَلِّي ؟ أن تخلع حذاءك وتتوضَّأ وتصلي في المسجد ؟ من أنت ؟ ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ هنا سامراً بمعنى حال ، أي تمضون أوقاتكم في السمر ، تسهرون إلى ساعاتٍ مُتَأَخِّرة في الغيبة ، والنميمة ، وفي كلامٍ فارغ ، وفي الحديث عن زيدٍ وعُبيد ، وفي القيل والقال ، تسمرون في أحاديث لا تُرضي الله عزّ وجل ، تسمرون في أحاديث لا معنى لها ، لا غاية منها ، لا فائدة منها ، لا جدوى منها : ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ أي في جلساتكم ، في سهراتكم ، في ندواتكم ، في أُمْسِياتكم ، في حفلاتكم ، في مطاعمكم ، في متنزهاتكم ، في هذه الأماكن ، الحديث عن الله معدوم ، الحديث عن الدنيا ، عن الشهوات ، عن النساء ، عن الألبسة ، عن الأسعار ، عن أشياء لا تُقَدِّمُ ولا تُؤخِّر : ﴿ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُصَلِّي العشاء في ثلث الليل الأول ، أحياناً كان يؤخِّرها عن وقتها إلى ثلث الليل الأول ، وكان يكره النوم قبلها والسمر بعدها ، يكره النوم قبلها لئلا تضيع عليه في أفضل أوقاتها أو في كلِّ أوقاتها ، ويكره السمَر بعدها لئلا يرتكب الآثام في السمر ، ختم هذا النهار بصلاةٍ جيِّدة يجب أن ينام عليها ، وكان عليه الصلاة والسلام يكره الحديث بعد صلاة العشاء ، وكان من العلماء الأجِلاء من يكره الحديثَ بعد صلاة العشاء ، إلا أن العلماء أجازوا أن تَسْمُرَ في إصلاح ذات البين ، أو في تعلُّم العلم ، أو في الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، إذا أردت أن تقنع إنساناً بحقيقة ما ، أردت أن تصلح بين اثنين ، أردت أن تدعو إلى الله ، أردت أن توضِّح بعض آيات الله ، هذا مباحٌ فيما بعد العشاء بشـرط أن يكون الحديثُ محصوراً في ذكر الله عزّ وجل ، أو في الأمر بالمعروف ، أو في النهي عن المنكر ، أو في إصلاح ذات البين ، أما الحديث الفارغ عن الطعام والشراب ، وعن أحوال الناس ، وعن أحوال البيع والشراء ، وعن أسعار الحاجِيَّات ، أن يكون هذا بعد العشاء ، أغلب الظن أن الإنسان يقع في بعض الإثم ، لذلك اختم يومك بصلاة العشاء ، ولا تتحدث بعدها بشيء إلا إذا كان في طاعة الله عزّ وجل .
الدعوة إلى تدبُّر القرآن :
﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ القول هو : القرآن الكريم في أوجه التفسيرات .. القرآن ..﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ .. هذا الكلام كلام إله ، إلهٌ عظيم ، لماذا لا تؤمن به ؟ إذا قال لك :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾
[ سورة النور ]
فهذه الآية غير مهتم بها ؟ إذا قال لك :
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾
[ سورة البقرة ]
هذا الكلام ألا تؤمن به ؟ إن الله يُدَمِّر هذا المال كله إذا كان فيه ربا ، يوجد أشخاص يقرؤون القرآن ويقولون لك : تباركنا ، يقَبِّل المصحف من أطرافه الست ويخالفه ، لذلك : ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ أي لماذا لا يدققون فيما يقرؤون ؟ لماذا لا يتدبَّرون هذا القرآن ؟ لماذا لا يقفون عند حلاله وعند حرامه ؟ عند أمره ونهيه ؟ عند وعده ووعيده ؟ لماذا لا يتعظون بأمثاله وقصصه ؟ لماذا لا يصدقون أخباره ؟ لماذا لا يخافون مما سيكون فيما أخبر به القرآن الكريم ؟
ليس للظالم استثناء من نار جهنم :
﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ .. معهم استثناء من العذاب ؟ أحياناً يقول أحدهم : يا أخي أنا معي استثناء خطي ، أنا مستثنى من العقوبة ، هل معك استثناء من الله أنك أنت فلان الفلاني ابن فلان ، أمه فلانة ، خانة كذا ، مستثنى من عذاب جهنم ، هل يوجد عندك وثيقة خطِّية نضعها في الكفن وفي القبر أن هذا معه استثناء يا ربي ؟ ﴿ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي هل معهم استثناء ؟ أو أن هذا القرآن ( أم بمعنى بل ، من معانيها للتسوية ، أما في بعض معاني هذه الآية أم بمعنى بل ) بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ، جاءهم من الله نور ، جاءهم منهج ، جاءهم دستور ، جاءهم نظام ، جاءتهم أحكام فيها حلالٌ وحرام ، فيها أمرٌ ونهي ، هذا المعنى الثاني ..
إنكار الرسول واتهامه بالجنون :
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ .. كُلُّ هذا الكمال ، كل هذه الأمانة ، كل هذه العِفَّة ، كل هذه الاستقامة ، كل هذا الصدق ، كل هذه المكارم ، كل هذا الفضل ما عرفتموه بعد ؟ أخذتم عليه شيئاً ؟ هل جرَّبتم عليه كذباً قط ؟ هل جرَّبتم عليه خيانةً قط ؟ ومع ذلك لا تعبؤون به ، لا تستجيبون له ..﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ لماذا هذا الإنكار ؟ ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أخي مجنون ، أين الدليل على أنه مجنون ؟ إذا لم يعجبك إنسان تقول عنه : مجنون .. يكون القائل هو المجنون .. إذا التقى إنسان برجل متديِّن يقول لك : هذا مجنون لم ير شيئاً ، لا يفهم شيئاً ، سجن نفسه في البيت ، متقوقع ، لم يذهب ولم يأت ، يوجد في الحياة مباهج ، فيها مقاصف ، فيها حفلات ، فيها أشياء جميلة ، هذا مجنون لا يفهم شيئاً ، وسوف نعلم من هو المجنون ؟
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
[ سورة القلم ]
أنت لست مجنوناً .. لا ..
﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) ﴾
[ سورة القلم ]
﴿ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)﴾
[ سورة الذاريات ]
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ ..
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
[ سورة هود ]
أي المؤمن في رحمةٍ كبيرة لكنَّها عُمِّيَت على معظم الناس ، إذاً يتهمونه بالجنون وهم المجانين .
الحق حقّ والباطل باطل :
﴿ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ َ﴾ كل إنسان يريد ديناً على قدر شهواته ، يقول لك : أخي لا هذه لا يمكن أن تكون حراماً ، لا هذا تزمُّت ، من أين جئت بها ؟ حتى ولو كانت آية قرآنية يقول لك : لا .. هذا مبالغة ، الدين يُسر ، الدين مَرِن ، يقول : مرنٌ حتى يلغي الدين كله ، لم يبق هناك دين أبداً ، هذه ليس من المعقول أن تكون حراماً ، وهذه أنت تزودها ، وهذه تزمت ، لم يبق هناك دين أبداً ، ذهب الدين كله ، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ .. الحق حق ، والباطل باطل ، إذا شرع الله للناس ديناً يتوافق مع أهوائهم وشهواتهم ، تصبح السماوات والأرض فاسدة ، وهم معها .
مثلاً إذا قلنا : هذه المدرسة سنراعي فيها رغبات الطلاب ، فالدوام حُر ، تأتي الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة ، عندما تقوم مرتاحاً من الفراش تأتي إلى المدرسة ، هذا قال : سآتي ظهراً الساعة الثانية عشرة ، هذا عند سفر الآن لن أداوم ، إذا تركنا الأمر للطلاب على حسب حريتهم ، الدوام كيفي ، وكذلك لا يوجد امتحان في هذه المدرسة ، لأن الامتحان يسبب إرهاقاً للأعصاب ، تقضي سنة فتنجح إلى صف أعلى منه ، أنا أقول مثلاً ، هل من المعقول أن هذه المدرسة تحقق أهدافها ؟ الدوام حر ، والدراسة حرة ، ولا توجد امتحانات ، ولا مذاكرات ، ولا يوجد عقاب ، ولا يوجد ثواب ، ولكن كل شيء فيها حسب راحتك ، فهل هذه مدرسة ؟ هناك دوام ، إذا غبت أسبوعين تُفْصَل ، توجد مذاكرات ، يوجد امتحان ، يوجد منهج مقرر ، توجد قاعة محاضرات ، يوجد فحص شفهي ، يوجد فحص عملي ، يوجد فحص كتابي ، هذه هي المدرسة . فإذا كنت تحب أن تكون الأرض كما يحب الناس ، أكبر مثل أوروبا وأمريكا ، لا يوجد عندهم دين ، ولا يوجد عندهم مبادئ ، بل يوجد عندهم عقل فقط ، فالعقل أوصلهم إلى أن هناك عشرين مليون لوطي في أمريكا ، معهم بطاقات رسمية يفتخرون بها ، مرض الإيدز تفضل هذا مثل واضح ، هذا الشـرق والغرب الذين تركوا الدين كلياً ، واتبعوا أهواءهم ماذا حلَّ بهم ؟ تفكُك اجتماعي ، انهيار الحياة الاجتماعية ، أسرة منهارة ، أطول زواج لمدة سنتين فقط ، لأن الزوجة لها صديق ، وتَمل من زوجها بعد سنتين ، تريد غيره ..﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ الحق حق ، هذا حرام ، هذا حلال .
الدعوة إلى الله مبذولة بلا مقابل :
﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ أتيناهم بكتابٍ يرفع من ذكرهم ، يرفع شأنهم ، يجعلهم مُكَرَّمين ..﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بكتابٍ فيما لو طبَّقوه رفعَ الله لهم ذكرهم ، وجعلهم في عباده الصالحين ..﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ﴾ .. الدعوة إلى الله هل يوجد عليها رسم تسجيل ؟ هل أخذ منكم أحد رسماً لدخول المسجد ، المتحف له رسم ، سبحان الله ! الدعوة إلى الله مبذولة بلا مقابل ، لا يوجد أي رسم ، ولا يوجد أي دفع ، ولا أي شيء ، لوجه الله تعالى ..
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾
[ سورة يس ]
فعلامة الهداية أن هذا الذي يدعوك لا يَسْألك شيئاً لا معنوياً ولا مادياً ..﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ أحياناً يَخْدُم إنسان إنساناً ، يقول له : لم تعطني أجراً ، لو خدمته لوجه الله لأعطاك الله أضعافاً كثيرة ، يوجد إنسان لا يوجد له شيء عند الله لأن كل خدماته قبض ثمنها الباهظ ، يوجد إنسان يخدم لوجه الله عزّ وجل ، فهذا الذي خَدَمَ لوجه الله له عند الله ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، أما هذا الذي لا يتحرك إلا بالأجر أخذ شيئاً زهيداً ، قليلاً ..﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ .
والحمد لله رب العالمين