وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة المؤمنون - تفسير الآيات 1 – 7 ، قد أفلح المؤمنون
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  فضل سورة المؤمنون :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة المؤمنون .

سورة المؤمنون على الحكاية ، قد يقول أحدكم : لماذا لا نقول : سورة المؤمنين على أنها مضاف إليه ؟ المؤمنون اسمٌ علمٌ على هذه السورة ، فتبقى مرفوعة بالواو ، فسورة المؤمنون على الحكاية ، الحكاية هكذا ، إذاً مع الدرس الأول من سورة المؤمنون .

بسم الله الرحمن الرحيم ، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .. يقول عليه الصلاة والسلام  ، عن عمر بن الخطاب  :  

(( كان إذا أُنزِلَ على رسولِ اللهِ الوحْيُ نَسمعُ عندَ وَجهِهِ كدَوِيِّ النَّحلِ، فسَكتْنا ساعةً، فاستقْبَلَ القِبلةَ، ورَفَعَ يدَيْهِ، فقالَ: اللَّهُمَّ زِدْنا ولا تَنقُصْنا، وأَكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأَعطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنا، ولا تُؤثِرْ علينا، وارضَ عنَّا وأَرْضِنا. ثُمَّ قالَ: لقد أُنزِلَ عَلَيَّ عشْرُ آياتٍ، مَنْ أَقامَهُنَّ؛ دَخَلَ الجنَّةَ. ثُمَّ قَرأَ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) . ))

[  الحاكم : المستدرك على الصحيحين : خلاصة حكم المحدث : صحيح الإسناد ]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) ﴾ هذه هي الآيات العشرة التي من أقامَهُن دخل الجنة . 

فقد : حرف تحقيق ، إذا جاءت قبل الفعل الماضي ، وتأتي قد حرف تقليل إذا جاءت قبل الفعل المضارع ، تقول : قد نجح فلان لتحقيق الوقوع ، وتقول : قد ينجح فلانٌ لاحتمال الوقوع ، بين تحقق الوقوع وبين احتمال الوقوع مسافةٌ كبيرة ، فقد إذا جاءت قبل الفعل الماضي تُعْرَب حرف تحقيق ، وإذا جاءت قبل الفعل المضارع تعرب حرف تقليل ، فهنا : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي الفلاح تحقق ، أما أي فلاحٍ آخر ينجزه الإنسان في الدنيا قد لا يكون محققاً ، لو اشترى بيتاً فخماً ، وبالغ في تزيينه ، قد تعاجله المنية قبل أن ينتهي ، فهذا النجاح ليس محققاً ، وقد ينال المرء شهادةً عالية ، وقد تعاجله المنية قبل أن يستفيد منها ، وقد يقبض الإنسان مبلغاً كبيراً ، وقد تعاجله المنية قبل أن ينفقه ، فأيُّ نجاحٍ على وجه الأرض ليس محققاً أكيداً .

 

ورود فعل أَفْلَح في القرآن في ثلاث آياتٍ فقط :


 لكن الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .. ولو تتبَّعت فعل أفلح في القرآن الكريم لوجدت أن هناك ثلاث آيات فقط :  

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) ﴾

[  سورة الشمس  ]

و :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) ﴾  

[ سورة الأعلى  ]

و : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .. وفلح الأرض أي شقَّها ، والفلاح هو النجاح ، لو أن إنساناً خطط لمستقبله ، أراد أن يكون طبيباً فاجتهد في الشهادة الثانوية حتى حقق مجموعاً يتيح له أن يدخل كلية الطب ، ودخل إلى كلية الطب ، وتخرَّج فيها طبيباً ، ثمَّ تخصص ، ونال أعلى شهادةٍ في العالم ، وعاد إلى بلده ، وافتتح عيادةً ، وذاع صيته ، وحقق دخلاً كبيراً ، فاشترى بيتاً ، وتزوج ، واشترى مركبةً ، وكان دخله فوق حاجته ، نقول : هذا الطالب أفلح في دنياه ، أي رسم خطة ، وهذه الخطة تحققت ، فالفلاح هو النجاح ، والفلاح هو الـفوز ، والفلاح هو التفوُّق ، والفلاح هو تحقيق الهدف ، والفلاح هو تحقيق المراد .

 

النجاح الدنيوي لا قيمة له لأن النجاح الذي أراده الله لعباده هو النجاح الأبدي : 


الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي الذين حققوا الهدف من خلقهم هم المؤمنون ، هناك من يتفوَّق في الدنيا ؛ هناك أصحاب الأموال الطائلة ، هناك أصحاب المراتب العليِّة ، هناك أصحاب الشهادات الرفيعة ، هؤلاء حققوا أهدافهم في الدنيا ، لكنَّ الحياة الدنيا إذا قيست إلى الحياة الآخرة ليست بشيء ، فالنجاح في الدنيا لا يعني النجاح الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى لعباده ، لأن النجاح الذي أراده الله سبحانه وتعالى لعباده هو النجاح الأبدي : 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران  ]

وما الحياة الدنيا إلا كمخيطٍ غُمس في مياه البحر ، فلينظر أحدنا بما يرجع ، إذا كانت الآخرة بحراً ، محيطاً كبيراً ، الحياة الدنيا نقطة ماءٍ يحملها مخيطٌ دقيق ، فالفلاح في الدنيا لا يُعَدُّ عند الله فلاحاً ، قد يُعد عند الناس فلاحاً ، هذا له ثروة طائلة ، وهذا له مرتبة عالية ، وهذا له دخلٌ كبير ، وهذا له أولادٌ نجباء ، وهذا له زوجةٌ تروق له ، وهذا له قوةٌ في الأرض يخافها معظم الناس ، هذه نجاحات الدنيا ، ولكن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، إذاً النجاح الدنيوي لا قيمة له ، يقول الإمام علي كرَّمَ الله وجهه : " الغنى والفقر بعد العرض على الله " ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ لكن الفلاح الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، لكن الفلاح الذي ينتظره الله سبحانه وتعالى من عباده هو الفلاح الذي يمتدُّ أثره إلى الدار الآخرة ، لا الذي ينتهي في الدنيا ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، فهل يسمَّى الذكي في الدنيا فالحاً عند الله ؟ لا .. قد يكون فالحاً عند الناس ، هل يسمى القوي في الدنيا فالحاً عند الله ؟ لا .. قد يكون فالحاً عند الناس ، هل يسمى الوسيم في الدنيا فالحاً عند الله ؟ قد يكون فالحاً عند الناس ، ولكنَّ الفلاح كلَّ الفلاح ، والنجاح كُلَّ النجاح ، والفوز كل الفوز أن تنال فلاحاً يمتدُّ إلى الدار الآخرة ، أن يكون النجاح متصلاً إلى الحياة الأبدية ، فهذا الذي ينقطع في الدنيا لا قيمة له ، الدنيا دار بلاءٍ وانقطاع  ،  والعبرة التي يغفل عنها معظم الناس أنَّ كل شيءٍ يجمعه الإنسان في الدنيا بدءاً من أموال ، إلى بيوت ، إلى متنزهات ، إلى مركبات ، إلى مكانة ، إلى جاه ، إلى قوة ، هذا كلُّه يغادره الإنسان وهو خِلْوٌ من كل شيء ، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : "  كفى بالموتِ واعِظًا وَكفى باليقينِ غِنًى " .

 

ضرورة تطابق مقياس الفلاح عند الله مع مقياس الفلاح عند البشر :


المشكلة الكُبرى أن يتطابق مقياس الفلاح عندك مع مقياس الفلاح عند الله عزَّ وجل ، إذا كان لك مقياس للفلاح ، ولله سبحانه وتعالى مقياس آخر هذه هي الخسارة ، لابدَّ من تطابق مقياس الفلاح الذي تعتقده مع مقياس الفلاح الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، الله سبحانه وتعالى جعل الإيمان هو الفلاحُ الذي يريده لعباده ، فربنا عزَّ وجل مثلاً يقول : 

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]

إذا ظلم إنسانٌ زوجته ، ظلم جيرانه ، أكل حقوق الآخرين ، اعتدى عليهم ، اعتدى على أعراضهم ، استطاع أن يستغلَّهم ، أن يحتال عليهم ، هذا لا يسمَّى ذكاء ، ولا تفوقاً ، ولا شطارة كما يقول الناس ، إنه غباءٌ بعينه ، ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ إذا بعت شيئاً أخفيت عيبه هل تُعد ذكيّاً ؟ لا .. لأن هذا ظلم ، ظلمت المشتري بإخفاء العيب ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ ، ويقول : 

﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

هذا الذي أدار ظهره للدين ، وجحد نعمة الله عزَّ وجل ، ولم يلتفت إلى الله عزَّ وجل ، والتفت إلى الدنيا فحقق نجاحاً كبيراً ، هذا عند الله ليس بفالح ، والدليل قوله تعالى : ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ ، لذلك ربنا عز وجل قال : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .

من الآيات الأخرى التي تشير إلى نوع الفلاح قوله تعالى : 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)﴾

[  سورة البقرة  ]

أي استنيروا بنور الله عزَّ وجل ، اقتبسوا من الله نوراً يريكم الخير خيراً والشر شراً ، والحق حقاً والباطل باطلاً لعلكم تفلحون . 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾

[  سورة المائدة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾

[ سورة الحج ]

﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)﴾

[ سورة الأعراف ]

إذا ذكرت آلاء الله ، آيات اللهِ الدالة على عظمته ؛ من شمسٍ ، وقمرٍ ، ونجومٍ ، وليلٍ ، ونهارٍ ، وسحابٍ ، ومطرٍ ، وبحرٍ ، وجو ، وسمكٍ ، وطيرٍ ، وطعامٍ ، وشرابٍ ، هذه آلاء الله عزَّ وجل ، ﴿ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ، ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ، ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ فأن تتقي الله ، وأن تجاهد نفسك وهواك ، وأن تبتغي إليه الوسيلة ، ومن الوسيلة طلب العلم ، أن تأتي إلى مجلس علم وتستمع إلى تفسير كتاب الله عزَّ وجل ، هذه وسيلة من وسائل معرفة الله عز وجل ، وأن تنظر في ملكوت السماوات والأرض هذه وسيلة ، وأن تجاهد نفسك وهواك هذه وسيلة ، وأن تلازم أهل الحق هذه وسيلة ، وأن تنفق من مالك في سبيل الله هذه وسيلة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ هل أنت من المؤمنين ، الصادقين ، الطائعين ، المخلصين ، القانتين ، الصائمين ، الصادقين ؟ 

﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

فلذلك الظلم ليس فلاحاً ، والكفر ليس فلاحاً : ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ ، ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ أما تقوى الله فهي الفلاح ، وابتغاء الوسيلة هي الفلاح ، ومجاهدة النفس والهوى هي الفلاح ، وذكر آلاء الله هي الفلاح ، هذه طرق الفلاح ، ولكن الفلاح كل الفلاح أن تكون مؤمناً : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .

 

الفلاح الذي يحققه المؤمنون فلاحٌ محققٌ :


قد أفلح : قد حرف تحقيق ، أيُّ نجاحٍ تحققه في الدنيا قد لا يكون محققاً في النهاية ، قد تبيع ، وتشتري ، وتأتي ضربة واحدة تأخذ منك كل الربح ، فلذلك يقول المختصُّون : " هذا ربحٌ ليس محققاً " ، لم يتحقق الربح بعد ، حتى يكون الرصيد فيه زيادةٌ عن رأس المال ، أما إذا كان هناك ديون ، وهناك بضاعة تالفة ، وهناك زبائن لا يدفعون ، فهذا ربح غير محقق ، لذلك ربنا عزَّ وجل وصف الفلاح الذي يحققه المؤمنون بأنه فلاحٌ محققٌ ، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ..ويقول عليه الصلاة والسلام في موضوع الفلاح :  عن عبد الله بن عمرو بن العاص  :

(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ . ))

[ أخرجه مسلم  : السلسلة الصحيحة  ]

ألا تحب أن تكون من المفلحين ؟ أي إذا امتن الله عزَّ وجل على أحدنا بالصحة ، وبراحة بالٍ ، وبأهلٍ صالحين ، ورزقٍ كفافٍ يكفيه فقط دون أن يزيد عليه ، فقد أحبَّه الله سبحانه وتعالى ، وقد أحبَّه النبي عليه الصلاة والسلام ، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ)) .. رضي بهذه الزوجة ، وبهذا البيت ، وبهذا العمل ، وبهذا الدخل ، وبهؤلاء الأولاد ، وبهذه السُكنى ، وبهذه الصحة ، وبهذا القِوام ، وبهذا الشكل رضي به ، هذا الذي رضي بما قسمه الله له عاش حياةً سعيدة ، عن أبي ذر الغفاري  ويقول عليه الصلاة والسلام : 

(( قدْ أفلحَ منْ أخلص اللهُ قلبَهُ للإيمانِ ، وجعل قلبَهُ سليمًا ، ولسانَهُ صادقًا ، ونفسَهُ مطمئنةً ، وخليقتَهُ مستقيمةً ، وجعل أُذنَهُ مستمعةً ، وعينَهُ ناظرةً ، فأمَّا الأُذُنُ فقمِعٌ ، وأما العينُ فمُقِرَّةٌ لما يوعِي القلبُ ، وقدْ أفلحَ منْ جعلَ قلبهُ واعيًا  . ))

[ ضعيف الجامع :  خلاصة حكم المحدث  : ضعيف  ]

هذا هو الفلاح ، هذا الذي له عينٌ ترى الحق ، ترى آيات الله ، تعتبر ، أمرت أن يكون  صَمتي فكرًا ، ونطقي ذكرًا ، ونظري عبرًا .

 

الفالح هو من أخلص قلبه للإيمان :


هذا الذي جعل عينه ناظرةً للحق ، وجعل أذنه مستمعةً للحق ، وجعل خليقته مستقيمةً لا زيغ ، ولا انحراف ، ولا اعوجاج ، ولا ختل ، ولا مخادعة ، ولا ازدواجية ، ولا نفاق ، ولا تذبذب ، وجعل خليقته مستقيمة ، وجعل نفسه مطمئنةً بطاعة الله عزَّ وجل : 

﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)﴾

[  سورة الفجر ]

إن الله سبحانه وتعالى يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين (( قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان)) هذا القلب وعاء أفرغه من كل شيء سوى الله عزَّ وجل ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)﴾

[ سورة الأحزاب ]

إما أن يمتلئ هذا القلب حباً لله ، أو أن يمتلئ حباً للدنيا ، لذلك قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان ، وجعل قلبه سليماً من كل مرض ؛ من الكبر ، من العجب ، من الاستعلاء ، من الغيبة ، من النميمة ، من حبّ الذات ، هذه كلها أمراض مهلكة، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا ، وَلِسَانَهُ صَادِقًا ، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً ، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً ، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً ، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً ،  ..))  

وفيما ترويه بعض الأحاديث القدسية أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الجنة قال لها : عن أنس بن مالك :

(( خلق اللهُ جنةَ عَدْنِ  ، وغرس أشجارَها بيدِه  ، فقال  : لها تَكَلَّمِي  ، فقالت  : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) . ))

[ ضعيف الجامع  : حكم المحدث : ضعيف ]

وفي حديثٍ آخر قالت :  قد سعِد من دخلني ، فهذه الآيات العشرة التي بين أيدينا ، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق يقول : (( ..مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ  ..))   ، لكن يوجد نقطة واضحة جداً أريد أن تكون واضحة لكم ، عندنا قاعدة في المنطق ، أن الصفة قيدٌ ، أي لو قلت : إنسان ، هذه الكلمة تشمل خمسة آلاف مليون إنسان ، أليس كذلك ؟ إذا وصفت هذا الإنسان بأنه إنسان عربي ، هذه الدائرة التي كانت تتسع لخمسة آلاف مليون ضاقت حتى أصبحت تشمل مئة مليون ، أليس كذلك ؟ فإذا قلت : إنسان عربي مسلم ضاقت إلى تسعين مليونًا ، فإذا قلت : إنسان عربي مسلم مثقَّف ، ضاقت إلى عشرين مليونًا ، فإذا قلت : إنسان عربي مسلم مثقف طبيب ، خمسمئة ألف ، إنسان عربي مسلم مثقف طبيب .. طبيب قلب .. يمكن ألف ، جراح قلب يمكن واحد ، كلَّما أضفت صفةً ضاقت الدائرة فالصفة قيد .

 

صفات المفلحين :


إذا قال أحدهم : أنا مؤمن ، والحمد لله أنا فالح ، نقول له : انتظر ، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أول صفة ، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ فرضاً خمسة آلاف مليون .. ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ ضاقت الدائرة ، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ ، ضاقت .. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) ﴾ كلما أضيفت صفةٌ ضاقت الدائرة ، فلذلك الفلاح الذي عناه الله سبحانه وتعالى ليس لمن يَدَّعي الإيمان ، وليس لمن يتوهَّم أنه مؤمن ، ولكن لمن انطبقت عليه كل هذه الشروط .

 

الفلاح دنيوي وأخروي :


إذاً : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .. قال بعضهم : الفلاح في الدنيا البقاء ، أن يكون عمره مديداً ، والغنى ، والعِز ، وقال بعضهم : أما الفلاح في الآخرة فهو بقاءٌ بلا فناء ، وغنىً بلا فقر ، وعزّ بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، وهذا ينطبق على أهل الآخرة ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام كلَّما وقعت عينه على بيتٍ جميل ، أو على شيءٍ من حُطام الدنيا ، أو على بستانٍ جميل ، أو على شيءٍ يروق للناس كان يدعو ويقول : عن أنس بن مالك  :

(( اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ ، فأصْلِحِ الأنْصارَ والمُهاجِرَهْ . ))

[ صحيح البخاري ]

لأن هذا مؤقَّت ، هذا لا بدَّ من أن يذهب ، سيدنا عمر رضي الله عنه أمسك تفَّاحةً شهية ، فقال : <<أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت >> ، فكل شيء تستهلكه يذهب ، أما إذا أنفقته يبقى ، من هم السعداء ؟ الذين قَدَّموا أموالهم أمامهم إلى الآخرة ، فإذا وافتهم المنيَّة رأوا لهم مقاماً عند الله رفيعاً .

 

تعريف بالمؤمنين :


شيءٌ آخر : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ من هم المؤمنون ؟ ما هو الإيمان ؟ قال :  

وكلٌ يَدَّعي وصلاً بليلى                  وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا

***

لو سألت ألف مليون مسلم الآن : هل أنت مؤمن ؟ يقول لك : نعم ، الحمد لله أنا مؤمن ، وقد يكون غارقاً في المعاصي ، فهل ادعاء الإنسان أنه مؤمن يجعله مؤمناً ؟ إذا قلت : إنَّك تحمل دكتوراه ، وأنت لا تقرأ ولا تكتب ، فهذا الكلام هل يجعلك تحمل هذه الشهادة ؟ هذا ادعاء ، كلنا يتمنى أن يكون مؤمناً ، ولكن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ، لك أن تلبس ثوباً أبيض ، وتضع مصحفاً في جيبك ، ومسواكاً في الجيب الثاني ، يمكن أن تضع على دكانك التجاري آية قرآنية .. 

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)  ﴾

[ سورة الفتح  ]

أو الحاج فلان ، ممكن ، هذا تحلٍّ ، ممكن أن تضع على مركبتك مصحفاً تحت المرآة ، معنى ذلك أنت مؤمن ؟ لا ..  ليس الإيمانُ بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي ، إذا كان الإنسان لا يقرأ ولا يكتب ، ارتدى ثوباً أبيضَ ، ووضع نظَّارات ، ووضع سماعة بأذنه ، وأحضر دفتراً أبيض كتب فيه ، فهل أصبح طبيباً ؟ وآخر معه بورد ، وبالمظهر نفسه ، شتَّان بين هذا وذاك ، نريد عملاً يؤكِّد إيمانك ، نريد قلباً مفعماً بالإيمان ، ولساناً يلْهَجُ بذكر الله عزَّ وجل ، ومصداقية في العمل .. ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام ، نريد مصداقية في العمل ، المؤمن صادق ، المؤمن لا يكذب ، المؤمن لا يخون ، المؤمن لا يزني ، الله عزَّ وجل قال : 

﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) ﴾  

[ سورة الفرقان ]

ومن الزنى زنى النظر ، ومن الزنى زنى السمع ، وزنى اليد ، فالإيمان ما وقر في القلب ، وأقرّ به اللسان ، وصدَّقه العمل . 

 

من تعريفات النبي عليه الصلاة والسلام للإيمان :


والنبي عليه الصلاة والسلام أعطى تعريفاتٍ عدةً للإيمان :  

(( عن أبي هريرة وأبي ذر الغفاري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بازراً للناس ، فأتاه رجل فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان ؟ قال : أن تُؤمن بالله ، وملائكته ، وكتابه ، ولقائه ، ورُسُلِهِ ، وتؤمنَ بالبعث الآخر ، قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبُدَ الله ، لا تُشْركُ به شيئاً ، وتُقيمَ الصلاةَ المكتوبة ، وتؤدي الزّكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لم تره فإنَّه يراك ، قال : يا رسولَ الله ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلَمَ من السَّائل ، ولكن سأُحَدِّثُكَ عَنْ أشْراطها : إذا ولَدت الأمةُ ربَّتها . ))

[ صحيح البخاري ]

وتؤمن بالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، إذا كان الإنسانُ أمام شخصين هل يفعل عملاً قبيحاً أم يستحي ؟ فإذا آمنت بالملائكة ؛ ملك اليمين وملك الشمال استحييت منهما ، وأنت إذا صلَّيت تقول : السلام عليكم ورحمة الله ، على من تسلم ؟ على الملكين ، فأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ، فإذا قرأت القرآن وقلت : صدق الله العظيم ، ولم تؤثر المؤمن في تزويج ابنتك فأنت لست مصدقاً لهذا الكتاب ، فأن تؤمن بالله أنه معك ، سميعٌ ، بصيرٌ ، مجيبٌ ، قوي ، غنيٌ ، عادلٌ ، أن تؤمن بأسمائه الحسنى ، وصفاته الفُضْلى ، وملائكته ، وكتبه ، ورسوله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، والإيمان معرفةٌ بالقلب وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان ، والإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله .. و ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد . لا إله إلا الله نهاية العلم . قال تعالى :  

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾

[ سورة الشعراء ]

وأدناها ((إماطة الأذى عن الطريق)) ..  هذا الذي يزيح عن طريق المسلمين الأذى ، لو أنها شوكة ، أو قطعة زجاج ، هذا نوع من الإيمان ، هو يرجو مرضاة الله عزّ وجل بهذا الأذى الذي أماطه عن طريق المسلمين .. عن أبي هريرة رضي الله عنه  : 

(( الإيمَان بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ . ))

[ صحيح البخاري ]

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو :

(( إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ ، إذا لَمْ تَسْتَحْيِ فافْعَلْ ما شِئْت . ))

[ صحيح البخاري ]

ويقول عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه :  

(( الإيمانُ قَيدُ الفَتْكِ ، وَلا يَفْتِكُ مُؤمِنٌ .  ))

[ سنن أبي داود  : حكم المحدث : صحيح لغيره ]

أي إنسان فيه ذرَّة إيمان يفتك بأخيه الإنسان ظلماً وعدواناً وتشفياً ؟ يفتك بحيوان ؟ يفتك بنملة ؟ لا والله . 

﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ  قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)﴾

[  سورة النمل  ]

((فالإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكِ ولا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ)) المؤمن يتجنى على إنسان ؟ يفتري على إنسان ؟ يسبب الأذى لإنسان ؟ يعتدي على ماله ؟ يعتدي على سمعته عن قصد وتصميم وهو مؤمن ؟ كذبٌ والله ((الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكِ ، ولا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ)) .. فالواحد منا لا يظن نفسه مؤمناً ،  في الحديث :  عن أبي هريرة رضي الله عنه  : 

(( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ . ))

[  صحيح مسلم  ]

والإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ ، و : ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ .. .))   .

 

منزلة الـصـلاة في الكتاب والسنة :


إذا قال ربنا عزّ وجل : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي هؤلاء الذين تنطبق عليهم تعريفات النبي عليه الصلاة والسلام : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾ ..

(( عن أبي مالك الأشعري  : الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام : الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ ، والصَّلاةُ نُورٌ ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ ، أوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها ، أوْ مُوبِقُها . ))

[ صحيح مسلم ]

إذا اتصلت بالله اتصالاً صحيحاً قذف الله في قلبك النور ، فرأيت به الخير خيراً والشرَ شراً ، رأيت به الحق حقاً والباطل باطلاً ، والصلاة كما قال الله عزّ وجل : ذكرٌ لله ..  

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

فإذا وقفت بين يديه ، وقد نسيت أن تذكره جاءتك الخواطر من كل حدبٍ وصوب ، وطاحت بك الخطرات ، فأين هو الذكر ؟ ﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ والله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) ﴾

[ سورة العلق  ]

الصلاة قرب من الله عزّ وجل : عن أبي هريرة رضي الله عنه  : 

(( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ . ))

[ صحيح مسلم ]

والصلاة ذكر   .. ﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ((والصَّلاةُ نُورٌ)) ، والصلاة طهور : 

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

والصلاة خشوع : 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ﴾

[ سورة المؤمنون ]

والصلاة وعي : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) ﴾

[ سورة النساء ]

فهذا الذي لا يعلم ما يقال في الصلاة كأنه سكران ، في حكم السكران تماماً ، ما دام الله سبحانه وتعالى قال - وهذه الآية طبعاً منسوخة- :﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ لماذا ؟  ﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ .. فهذا الذي لا يعلم ما يقول في حكم السكران تماماً ، والصلاة مناجاةٌ ، لو يعلم المصلي من يناجي ما التفت ، أي ما التفت عن صلاته ، والصلاة عقلٌ ، ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ، الذي عقلته من صلاتك هي الصلاة ، وما سواها لا قيمة لها ، الصلاة معراج المؤمن ، الصلاة ذكر.. ﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ،  والصلاة نورٌ ، والصلاة طهورٌ ، والصلاة وعيٌّ : ﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ ،  والصلاة خشوعٌ ، والصلاة قربٌ :  ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ ، والصلاة مناجاةٌ ، والصلاة عقلٌ ، والصلاة عروجٌ .

 

أهمية الخشوع في الصلاة وحكمه :


إذاً : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ﴾ .. أي الخشوع في الصلاة ، تصور أنك تقابل إنساناً يقع في قمة المجتمع ، المجتمع مثل الهرم تماماً ، آخر حجر في الهرم ، أعلى حجر هو قمة هذا الهرم ، لو أنك تقابل إنساناً يقع في قمة هذا الهرم الاجتماعي ، كيف تقابله ؟ هل تعبث أمامه بسبحةٍ ؟ هل تقرأ أمامه صحيفةً يومية ؟ هل تتمطى أمامه ؟ هل تتثاءب ؟ لا والله ، هل تفكر في غير موضوع المقابلة ؟ راقب نفسك لو قابلت موظفاً مهماً ، وأنت في حضرته هل تفكر في موضوعٍ آخر غير موضوع المقابلة ؟ إذا كنت بحضرة إنسانٍ ذي شأنٍ تقف هذا الموقف الخاشع فكيف إذا وقفت بين يدي الله عزّ وجل ؟ الخشوع السكينة والوقار ،  فالعلماء قالوا : " الخشوع محله القلب ، ومظهره في الجوارح " ، فلو خشع قلب الإنسان لخشعت جوارحه ، فهذا الذي ينظر في الصلاة إلى الأعلى ، أو إذا وقف في مسجد فخم ؛ اللوحات ، الثريات ، الستائر كم مروحة يوجد في السقف ؟ ما هذه الصلاة ؟  لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، فربنا عزّ وجل لم يطلق الفلاح في الصلاة . قال : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ﴾ .. أي أن الخشوع ليس من فضائل الصلاة ، لا .. بل من فرائض الصلاة ، ليس من فضائلها ، بل من فرائضها ، فلو اختل الخشوع اختلَّت الصلاة ، يوجد أشخاص يعدون دراهمهم في أثناء الصلاة ، ولكن ليس في بلادنا ، في بلاد أخرى ، ينظر إلى الساعة ، يغيِّر من وضع هندامه في الصلاة ، هذا كلُّه يتنافى مع الخشوع﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ﴾ لذلك عدّ أبو حنيفة رضي الله عنه أن أكثر من ثلاث حركات تفسد الصلاة ، لأن هذه الحركات تتناقض مع الخشوع.

 

من صفات المؤمنين اجتناب اللغو :


﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾ .. اللغو في أجمل تعاريفه : كل ما سوى الله لغو ، أنت أمام عمل ينتهي أثره بالموت فهو لغو ، أو يمتد أثره بعد الموت فهو حق ، فكن مع الحق دائماً ؛ في حديثك ، في مزاحك ، في حركتك ، في غضبك ، في رضاك ، في لهوك ، في عملك ، في تفكيرك ، في نشاطك ، كن مع الحق دائماً ، كن مع عملٍ إذا فعلته امتد أثره إلى الآخرة ، أما هذا الذي يفعل عملاً ينقطع عند الدنيا فهذا لغو ، كل ما سوى الله باطل : 

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ            وكـل نـعيمٍ لا مـحالةَ زائلُ

*** 

قائل هذا البيت شاعر مخضرم اسمه لبيد ، فقال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة  :

(( إن أصدق بيتٍ قاله لبيد :  ألا كل شي ما خلا الله باطلُ .  ))

[ صحيح البخاري ]

فقط ولم يكمل اللهم صلّ عليه لأن الشطر الثاني غير صحيح ، وكل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ ، قال : لا ، نعيم أهل الجنة لا يزول ، هذا كلام شعر فيه حق ، وفيه باطل ، ولكن أول شطر صحيح : ألا كل شي ما خلا الله باطلُ  ، فاللغو حديث : عن أبي هريرة  :

(( من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ . ))

[ حديث حسن  ، أخرجه الترمذي وابن ماجه ]

عن المغيرة بن شعبة  :

(( إن الله كره لكم قيل وقال وإضاعة المال . ))

[ صحيح مسلم ]

 فهذا لغو ، موضوع سخيف ، إن الله يحب معالي الأمور وأشرافَها ، ويكره سفسافها ، هذا لغو ، هناك لغو بالأقوال ، ولغو بالأعمال ، ولغو بالنشاطات ، والمؤمن يستهلك وقته ، وجهده ، وذكاءه ، وعمله ، وعضلاته في سبيل مرضاة الله عزّ وجل .

 

من صفات المؤمنين إنفاق المال :


لذلك : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)﴾ .. ينفقون من أموالهم ، من أجل تطهيرها توسلاً لتطهير نفوسهم بهذا الإنفاق ، أي هناك طهارتان : طهارة المال ، وطهارة النفس ، والمال الذي يزكَّى عنه مالٌ طاهر يحفظه الله سبحانه وتعالى ،  وما تلف مالٌ في برٍ أو بحرٍ إلا بحبس الزكاة ، ومن أدى زكاة ماله ذهب عنه شرُّه ، أي شر المال ، والمال قد يطغي ، والعلماء يقولون : " أي مالٌ دفعت زكاته فليس بكنز مهما كان كبيراً ، وأي مبلغٍ مهما كان قليلاً إذا امتنع صاحبه عن دفع زكاته فهو كنز ، ولا يحق لك أن تصف إنساناً يؤدِّي زكاة ماله بالشُّح " ، برئ من الشُح من أدَّى زكاة ماله ، وانتهى الأمر ، فهؤلاء المؤمنون فضلاً عن أنهم قد أفلحوا لأنهم مؤمنون ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) ﴾ ، أي :

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

[ سورة التوبة ]

إذا دفعوا من أموالهم تقربوا إلى ربهم فأقبلوا عليه فزكت نفوسهم ، سميت الزكاةُ زكاةً لأنها تزكو بالنفس ، فالمؤمن نفسه طاهرة ، نفسه بريئة ، صافية ، عنده تواضع ، عنده إخلاص ، عنده صدق ، عنده أمانة ، هذه الصفات العالية لما النبي الكريم بعث إلى قريش قال أحدهم :

(( كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء  . ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد ]

إذاً هذه الصفات العالية تأتي من الاتصال بالله عزّ وجل ، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ ينفقون من أموالهم ليطهروا أنفسهم بالإقبال على الله عزّ وجل ، والحقيقة الإنسان كله كلام بكلام حتى ينفق من ماله ، فإذا أنفق من ماله الذي اكتسبه بعرق جبينه عندئذٍ يرقى عند الله عزّ وجل ، لأن الإنفاق يؤكِّد الإيمان ، سميت الصدقةُ صدقةً لأنها مصداق صاحبها ، لأنها دليل صدق صاحبها في طلب مرضاة الله عزّ وجل ، أي " من شاء صام ومن شاء صلَّى" ، هكذا قال سيدنا عمر ، الصلاة سهلة لا تكلف شيئاً .. من شاء صام ، وفَّر طعاماً ، ومن شاء صلى ، ولكنها الاستقامة ، وربنا عزّ وجل عندما قال : 

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾

[  سورة آل عمران  ]

من هم المتقون ؟  

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

[ سورة آل عمران ]

 لماذا بدأ الله سبحانه وتعالى حينما وصف المتقين بأنهم ينفقون في السرَّاء والضرَّاء؟ لأن الإنفاق وحده هو الذي يؤكِّدُ صدق إيمانهم .

 

من صفات المؤمنين حفظ الفرج :


﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) ﴾ .. سبحان الله ! قال بعض العلماء ولاسيما في تفسير القرطبي : " إن الله سبحانه وتعالى ربط فلاح الإنسان بحفظه لفرجه " هذه قضية أساسية : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ وربنا عزّ وجل في آية أخرى بيَّن لنا طريق حفظ الفرج ، فقال الله عزّ وجل : 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

قد يمتنع الإنسان أحياناً عن السرقة لأسباب يعلمها الله سبحانه وتعالى ، قد يقول : هناك قوانين شديدة جداً تعاقب السارق ، أحياناً قد تتفق أحكام الدين مع أحكام القانون ، فهذا الذي لا يسرق لا تدري لمَ لمْ يسرق ؟ أخوفاً من الله عزّ وجل أم خوفاً من عقابٍ شديد ؟ الله أعلم ، لكن الذي يغضُّ بصره عن محارم الله هذا بدافع خوف الله قطعاً لأن القوانين الأرضية لا تُحَظِّر إطلاق البصر ، فلذلك : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ وطريق حفظ الفرج غض البصر .. " ومعظم النار من مستصغر الشررِ"

 

وجوب الابتعاد عن أسباب الزنا ومقدماته :


الأخطار الكُبرى أولها شرارة ، فلذلك غض البصر طريق حفظ الفرج : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ ، يقول السيد المسيح قولاً عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :  ليس الشريف الذي يهرب من الخطيئة ، ولكن الشريف هو الذي يهرب من أسبابها ، من أسبابها ، فالزنى له طريق ، ربنا عزّ وجل قال : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾ فمعنى هذا أن الزنى يجب أن تُبقي بينك وبينه هامش أمان كبيرًا ، إطلاق البصر كأنك دخلت في هذا الهامش الخطر ، صحبة الأراذل دخلت في هذا الهامش الخطر ، الحديث عن النساء دخلت في هذا الهامش الخطر ، مصاحبة أهل الدنيا ممن لا يتورعون عن الزنى دخلت في هذا الهامش الخطر ، قراءة قصةٍ ماجنة دخلت في هذا الهامش الخطر ، ربنا عزّ وجل قال : 

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾

[ سورة الإسراء ]

لم يقل : ولا تزنوا ، قال : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ﴾ والله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

أول جزاءٍ كريمٍ من الله عزّ وجل لمن يغضُّ بصره زواجٌ موفق ، وأول عقابٍ أليمٍ لمن يطلق بصره زواجٌ شقي ، وليس في الزواج حل وسط ، إما أن تكون في الجنة ، وإما أن تكون في النار .

 

الزواج هو الطريق النظيفة لشهوة الإنسان :


﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) ﴾ .. بعضهم يقول : لا حياء في الدين ، والله الذي لا إله إلا هو إنّ الدين كلّه حياء ، والله سبحانه وتعالى يعلمنا الحياء ، هل هناك من قولٍ ألطف وأجمل من هذه الكناية ؟ ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ﴾  دخل في هذه الآية مئات الانحرافات الأخلاقية : ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ .. أي إلا على أزواجهم ، الآن لا يوجد : ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ لا أحد يفكر فيها إطلاقاً ، ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ ليس مُلاماً لا من الحق ، ولا من الخلق ، إذا كان هناك عرس تسمعون أصوات السيَّارات تصم الآذان ، الجماعة غير مستحيين ، لأن هذا وَفق الشرع ، أما إذا كان هناك شيء خلاف الشرع من صوت يرجفان معاً ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)﴾ .. وسوف نتابع تفسير هذه الآيات إن شاء الله تعالى في الدرس القادم .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور