وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الكهف - تفسير الآيات 10 – 26 ، كرامة الأولياء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  قصة أهل الكهف تسلية للصحابة وتخفيف عنهم :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من سورة الكهف .

قـد يسأل الإنسان لـماذا كانت هذه القصة ؟ أو لماذا أورَدَ الله هذه القصة ؟ أو ما مغزى هذه القصة ؟ هل المقصود منها حكاية ، حوادث ، حِوار أم المقصود منها أسمى من ذلك؟

جاءت هذه القصة في أوانها ، وفي مكانها ، فقد كان المسلمون في مكة يواجهون الأوضاع نفسها التي واجهها الفتية في أوج اضطهادهم ، والاستبداد بهم ، تشابه غريب بين ما وقع في مكة في بداية الإسلام من اضطهاد للمؤمنين ، وقسوة عليهم ، وتنكيل بهم ، وبينَ ما وقع لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف من تعذيب ، وتنكيل ، وتهديد ، وتخويف .

إذاً كأنَّ قصة أصحاب أهل الكهف جاءت لتخفف الأعباء عن المؤمنين الأوائل ، جاءت لتسليهم ، لتزيح عنهم الحزن ، فكان الفتية يعيشون قبل أن يغادروا بلدهم إلى الكهف في فترة تشبه الفترة التي عاشها المؤمنون ، لقد عاشَ الفتية المؤمنون البيئة ، والأوضاع ، والقسوة ، والمِحَن ، والمصائب ، والمضايقات نفسها ، ولا تصوير أبلغ من تصوير القرآن الكريم .

﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)  ﴾

[  سورة الأنفال ]

هكذا كان المؤمنون في بداية عهدهم ، هكذا كان المؤمنون في مكة المكرمة ، ﴿قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ﴾ .

وكتب السيرة أيها الإخوة الأكارم تفيض بقصص الظلم ، والقسوة ، والتعذيب ، والتنكيل ، وتحكي من أخبارِ مِحنة سيدنا بلال ، وعمار ، وخباب ، ومصعب ، وسمية ، الشيء الكثير .

إذاً : كأنَّ هذه القصة جاءت بلسماً شافياً لهؤلاء المؤمنين الأوائل الذين لاقوا ما لاقوا ، وتحملوا ما تحملوا ، وكان صبرهم دليلاً قطيعاً على عِظَمِ إيمانِهم .

شَبهٌ تام بين الممتحنين في مكة وبين الممتحنين من أصحاب الكهف ، فقصَّ الله عز وجل في هذه الفترة الرهيبة التي يستولي فيها اليأس ، والتشاؤم ، وتزيغ الأبصار ، وتبلغ القلوب الحناجر ، قصة يوسف مع إخوته ، وقصة موسى مع فرعون ، وقصة فرد مع أمة ، ونبي مع جماعة ، وقصة أصحاب الكهف ، هذه القصص لها أهداف تربوية كبيرة جداً . 

 

نُقاط التشابه بين مؤمني مكة وأصحاب الكهف :


شيءٌ آخر ؛ في هذه القصة نُقاط التشابه بين مؤمني مكة في بداية عهد الإسلام وبين أصحاب الكهف أن هناك الإرادة القاهرة التي تنصر المؤمن على الكافر ، والبر على الفاجر ، والمظلوم على الظالم ، والضعيف على القوي ، والفقير على الغني ، بِطُرق تحار منها العقول ، وتشده بها العقول ، ويؤمن بها الكافر ، ويوقن بها المُتشكك ، أي هناك قوة قاهرة تنصر الضعيف ، المقهور ، الذليل ، المظلوم ، الفقير ، تنصره على خصمه القوي ، العتيد ، الشديد ، هذا وجه التشابه بين قصة أصحاب الكهف وهؤلاء المؤمنين الأوائل الذين لاقوا ما لاقوا من أجل عقيدتهم ودينهم .

وما أشبه المسلمين في مكة بالفتية المؤمنين الذين لجؤوا إلى الكهف فِراراً بدينهم من الفتن ، فبقوا فيه إلى أن قلب الله الليل والنهار ، وانقرضت الدولة الكافرة المضطهدة لأهل الإيمان والعقيدة ، حينما أفاق أهل الكهف رأوا حياة أخرى ، ومجتمعاً آخر ، وعلاقات أخرى ، وكأنَّ الذي خافوا منه قد زال عنهم زوالاً نهائياً .

 

إيثار الحق واعتزال الشرك :


لذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً﴾. . مجتمع منحرف يسود فيه الفجور ، والخلاعة ، والانهيار في القيم ، والانحطاط ، الفاجر هو القوي ، والمستقيم هو الضعيف ، الفاسق هو الغني ، والمُلتزم هو الفقير ، مجتمع فيه ظلم ، وفيه انحراف ، وفيه قسوة ، وفيه ميوعة ، وفيه انحلال ، فيه ما في كل المجتمعات المتفسِّخَة ، هذه هي البيئة التي عاش فيها هؤلاء الفتية أصحاب الكهف ، ويبدو أنَّ هؤلاء الفتية كانوا من بيوت عظيمة ، من علية القوم ، يعيشون في بيوت ، يأكلون ما لذَّ وطاب ، ولكن  بلغتهم دعوة السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، حينما بلغتهم وقعوا في صِراع داخلي بين الحق والباطل ، بين الخير والشر ، بين أن يقفوا مع عقولهم ، وبين أن يقفوا مع شهواتهم ، بين المبدأ والمصلحة ، بين القيم والحاجات ، نشأ هذا الصراع العنيف في نفوسهم أولاً ، ثم انعكس على مواقفهم ، وعلى عقيدتهم ، وعلى تصرفاتهم ، لذلك شعروا بالغربة ، شعروا أنهم غرباء عن هذا المجتمع ، ماذا يفعلون ؟ إما أن يعتقدوا عقيدة صحيحة مع الموت ، وإما أن يحيوا مع الفساد في العقيدة ، خيار صعب ، لا مكان لموقف ثالث ، إما أن يماشوا ، ويواكبوا ، ويوافقوا هذا التيار المنحرف ؛ تيار الفسق ، والفجور ، والمجون ، والعقيدة الوثنية في عهد الرومان قبل انتشار دعوة السيد المسيح ، وإما أن يقفوا مع الحق الذي آمنوا به ، وعرفوه ، ويدفعوا ثمنه ثمناً باهظاً جداً ، الأمر لا يحتمل حالة ثالثة ، إما أن يكونوا مع الحق ، ولا حياة مع الحق ، وإما أن يكونوا مع الباطل حيث البحبوحة والدعة والحياة الرغيدة ، هذا تمهيد للحالة النفسية ، وللبيئة التي عاش فيها أصحاب الكهف قبل أن يأووا إلى كهفهم ، ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ الإنسان حينما يلتجئ الإنسان إلى الله عز وجل ، وحينما يلوذ به ، وحينما يحتمي بِحِماه ، وحينما يستظل بظله حيث لا ظل إلا ظله ، وحينما يخلص له ، وحينما يستقيم على أمره ، وحينما يحبه ، وحينما يحتمي به ، فقد مَلَكَ كُلَّ شيء ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء. 

 

الرحمة والسكينة من صفات المؤمنين المخلصين :


﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ ..لا يعرف مضمون هذه الكلمات ، ولا الشعور بها إلا من ذاقها ، إذا تجلى الله عز وجل على قلب المؤمن شعر أنه مَلَكَ كُلَّ شيء ، لذلك قال أحد العارفين بالله وهو أبو يزيد البسطامي : " والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف ". 

﴿ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾ يا رب تولَّى أمرنا ، وفقنا لما تحب وترضى ، نجِنا من القوم الظالمين ، هيئ لنا خلاصاً من هؤلاء ، وهيئ لنا حالة نرتاح بها من هؤلاء الذين يُكرهوننا على أن نكون معهم على الوثنية ، والانحراف ، والسقوط . 

 

من اتخذ قراراً صحيحاً في طلب الحق فعلى الله الباقي :


﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾ .. ربنا عز وجل كما قلت لكم في الدرس الماضي العين قد تغمض في أثناء النوم ، ولكن الأذن تبقى مفتوحة ، إذاً : الاستيقاظ يكون عن طريق الأذن ، ربنا عز وجل مكان التنبه الوحيد وهو الصوت هو الأذن ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾ .. بعثناهم من هذا النوم الطويل ، قلت لكم في الدرس الماضي : إن أصحاب الكهف ليسوا أنبياء ، وهذا الذي جرى معهم هو خرق للعادات ، أن ينام الإنسان ثلاثمئة سنة ، وهو بكامل هيئته ، وصحته ، وقِوامه ، من دون أن يتلف جسمه ، أو يفنى جسده ، هذه معجزة ،  إن كانت لنبي فهو معجزة ، وإن كانت لولي فهو كرامة ، وهذا دليل قطعي على وجود الكرامة ، وها هي ذي يحدثها الله عز وجل بأصحاب الكهف ، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ .. عليك أن تبادر أنت وعلى الله الباقي .

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

عليك أن تخطو الخطوة الأولى ، عليك أن تختار الهدى ، عليك أن تفكر ، وتتخذ قراراً في طلب الحق ، وعلى الله الباقي ، أي الخطوة الأولى عليك والخطوات الأخرى على الله عز وجل ، ابن آدم اطلبني تجدني ، إذا تقربت إليّ شبراً تقربت إليك ذراعاً ، وإذا أتيتني مشياً أتيتك هرولةً . إذا رجع العبد إلى الله عز وجل نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ هُنا مغزى دقيق جداً ، أي أنت أيضاً أيها المؤمن إذا اتخذت قراراً صحيحاً في طلب الحق على الله الباقي ، على الله أن يجمعك مع أهل الحق ، وعلى الله أن يشرح لك صدرك لطلب الحق ، وعلى الله أن يوفقك في الدنيا ، وأن يفرغك للحق ، كُل هذا الذي تطمح به إذا خطوت الخطوة الأولى يتولى الله سبحانه وتعالى ما بقي من خطوات . 

 

الله تعالى يربط على قلب المؤمن بالعزم والسكينة :


﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾ الإنسان أحياناً ينهار داخلياً ، ينهار نفسياً ، تخور قِواه الجسمية لخلل أصاب قلبه ، لكنَّ الله يربط على قلب المؤمن ، يعطيه العزم ، يعطيه السكينة ، يعطيه الوقار ، يعطيه الصلابة ، يعطيه قوة التحمل إنه كجبل راسخ ، بينما الكافر أفئدتهم هواء :

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) ﴾

[  سورة الأحزاب ]

 يُلقي الله في قلب المؤمن السكينة . 

 

التوحيد هو العقيدة الصحيحة :


﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً﴾ .. هذا هو التوحيد ، وهذا هو الدين ، وهذه هي العقيدة الصحيحة ، وهذا ملخص الأديان كلها .

﴿ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ﴾ لو أننا دعونا من دونه إلهاً ، لقد خرجنا عن الحق ، خرجنا عن الاعتدال ، وخرجنا عن دائرة القبول . 

 

وجوب اعتزال أهل الشرك والفجور :


﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ .. العزلة حق لأهل المعصية والفجور ، إذا كنت في مجتمع فاسد ، إذا رأيت شُحاً مُطاعاً ، وهوىً متّبعاً ، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فالزم بيتك ، وأمسك لِسانك ، وخُذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ أي عاداتهم ، وتقاليدهم ، وقيمهم ، وأنماط معيشتهم ، ومقاصفهم ، ومتنزهاتهم ، وأنديتهم ، وأمكنة احتفالاتهم ، وأنماطهم ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ .. إلا إذا عبدوا الله عز وجل فعندئذ لا ينبغي أن تعتزلوهم .﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾ المرفق ؛ الشيء الرفيق المريح . 

 

طبيعة الكهف الذي لجأ الفتية إليه :


﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ هذه الآيات وقفنا عندها في الدرس الماضي ملياً وآثرت أن أتلوها على مسامعكم مرة ثانية مع شرح سريع كي تكون القصة متصلة ، ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾ .. أي دلّهُم الله عز وجل على كهف يقع - كما قال المفسرون - في الجهة الشمالية ، تأتيه الشمس صباحاً مجانبة ، يدخل نورها فقط لا أشعتها ، وتغيب كذلك عنهم مساءً .

 إذاً كأنَ الكهفَ مفتوح على الجهة الشمالية بحيث يأخذ من الشمس نورها وضياءها ، ويتقي منها أشعتها المؤذية ، والكهف واسع ، وفيه تهوية جيدة ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ لا تدخل الشمس إذا طلعت إلى كهفهم فتزعجهم ﴿ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾ أي تقطعهم ، وهم في فجوةٍ منه أي من الكهف .

 

من أراد الهداية هداه الله ومن أراد أن يضلل صرفه الله عن الحق :


﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً﴾ .. أي إذا أنِس الله عز وجل من عبد طلباً للهداية يهديه الله عز وجل ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكُم ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ المهتدي الوحيد هو الذي عَرَفَ الله ، وليس بعد هذا الهدى هدى ، ليس بعد هذا الهدى إلا الضلال المبين ، أي إمّا أن تكون على الحق ، والحالة الثانية إما أن تكون على الباطل ، لا يوجد حالة ثالثة ، الحق واحد ، الحق لا يتعدد ، إما أن تكون على الحق وإما أن تكون على الباطل قطعاً ، ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ﴾ .. أي إذا استغنى الإنسان عن الله عز وجل ، إذا استغنى عن الله باختياره فأدار ظهره للدين ، إذا التفت إلى الدنيا ، هل في الأرض كلها جهة تهديه ؟ لا والله ، ومن يضلل نفسه ، بعض المفسرين قالوا ، ومن يضلل نفسه عن الله عز وجل ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ﴾ إذا صَرَفَ الإنسان نفسه باختياره عن الهدى الإلهي ، صَرَفَ نفسه عن الحق ، ابتعد عن الحق ، ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ﴾ لن تجد أحداً يهديه .

 

الآية التالية آية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم :


﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ .. قال بعض العلماء : إن أجفانهم بقيت مفتوحة ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ﴾ نائمون ، ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ ..من الإعجاز العلمي لهذا الكتاب هذه الآية ، يقول العلماء : إذا استلقى الإنسان على فراشه ، فإنَّ وزن جسمه يضغط على الهيكل العظمي ، والهيكل العظمي يضغط على العضلات ضغطاً ثانياً ، وزن الإنسان محمول على هيكله العظمي ، مثلاً عظم اللوح إذا استلقى على فراشه عظم اللوح مع ما عليه من وزن جسمه يضغط على العضلات التي بين عظم اللوح وبين السرير ، فيُسبب هذا الانضغاط انضغاطاً على الشرايين والأوردة التي في هذه المنطقة ، وهذا الانضغاط يسبب ضعفاً في تروية العضلات ، لذلك تخضر هذه العضلات - كما تقول العامة - مما يجعل الإنسان يُغيّر استلقاءه ، فلوا راقبوا إنساناً نائماً لوجدوه يُغيّر استلقاءه ثماني وثلاثين مرة ، أما الشيء العجب العجيب كيف يغير الإنسان وضعه وهو نائم ؟  قال العلماء : في الإنسان أماكن مراكز عصبية تتحسس بالضغط ، فإذا تمَّ انضغاط بعض العضلات ، وتحسست هذه المراكز العصبية تعطي إشارة إلى الدماغ ، والإنسان نائم ، أنَّ هناك ضغطاً في الجهة الفلانية ، فيُعطي الدماغ أمراً إلى العضلات لتغيير وضع النوم ، بسبب تغيير وضع النوم الإنسان يتقلب بالليلة الواحدة من ثماني وثلاثين إلى أربعين مرة ، فكلما انضغطت بعض العضلات من جهة أقل فترة ساعتان أو أكثر الإنسان يغير وضع نومه ، هذا في الأحوال العادية .

أما لو تصورنا إنساناً مصاباً بمرض اسمه السُّبات ، أي همود ، غيبوبة عن الوعي كلياً ، إنسان مصاب بشلل كامل فهو لا يستطيع أن يُحرِّك نفسه ، من بصدق أنَّ أول علاج لهذه الحالة هو التقليب ، لأنَّ الإنسان إذا بقي على وضع واحد فوق ثماني ساعات يبدأ اللحم بالتمزق ، تضعف تروية الدم للنسيج العضلي عندئذ يصبح اللحم متفسخاً ، يُقال لكَ : اهترأ لحمه ، أحياناً لو نسي أهل المريض المُصاب بِسُبات أو شلل أن يقلّبوه فإنَّ قِطَع اللحم تنزع من أطرافه نزعاً ، سمّى العلماء هذا المرض : قرحة السرير .

العلاج الوحيد لِكُل إنسان مصاب بالشلل ، أو بالسُبات قبل كل علاج هوَ التقليب ، فهؤلاء أصحاب الكهف لو ناموا على حالة واحدة ، واستمر نومهم ثلاثمئة عام بالتأكيد لا يبقى منهم بعد خمسين عاماً شيء ، تتفسخ لحومهم ، ويأكلها الدود ، وهم أحياء ، فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ لولا هذا التقليب لما بقوا على ما هم عليه ثلاثمئة عام ، كيف أن الإنسان يتقلب في الفِراش ثماني وثلاثين مرة في الليلة الواحدة ، في الساعات الثمانية التي ينامها ، بفعل مجموعة معقدة جداً من الأجهزة ، مراكز عصبية منتشرة في كل أنحاء الجسم تتحسس بالانضغاط ، وهذه المراكز تُعطي معلومات عصبية إلى الدماغ أنَّ هناك في المكان الفلاني انضغاطاً ، والدماغ يُرسل أوامر إلى العضلات لتغيير وضع الاستلقاء من أجل أن يبقى الإنسان سليماً معافى ، أمّا في حالة الشلل والسُّبات فلا بد من تقليب المريض ، من يُقلّب هؤلاء الذين أنامهم الله هذه السنوات الطويلة ؟ إنه الله سبحانه وتعالى .

 

الحكمة من تقديم الفرار على الرعب :


﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ ﴾ .. معهم كلب وَفِيُّ ، ﴿ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ .. الوصيد أي فناء الدار ، أما الوصيد في الكهف فهو الفسحة من الكهف ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ .. قال بعض العلماء : إنَّ حالة الإنسان النفسية قد تنتقل للآخرين ، فهؤلاء حينما آووا إلى الكهف كانوا في حالة رعب وفزع شديدين ، فكل من اطلّعَ عليهم امتلأ قلبه رعباً منهم وولى منهم فِراراً.

وهناك حِكمة بالغة من تقديم الفرار على الرعب ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ .. قال بعضهم : هذا من قبيل تقديم المسبب على السبب ، أي بسبب أنك إذا اطلعت عليهم تمتلئ منهم رعباً لا تملك إلا أن تولي فراراً منهم .

 

اختلاف أهل الكهف في مدة نومهم بعد استيقاظهم :


مضى ثلاثمئة عام ، ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ استيقظوا ، طبعاً هم حينما أووا إلى الكهف كان الضغط الاجتماعي ، والقهر ، والاضطهاد ، والتعذيب ، والتقتيل لكل من يؤمن بالسيد المسيح ، لأن الديانة وقتها كانت ديانة وثنية ، تؤمن بالأصنام ، تؤمن بإله الجمال (فينوس) وإله المطر ، وإله الحرب ، وإله الرياح ، هذه الآلهة التي اتخذتها بعض الأقوام الرومانية كان هذا دين الملك الذي يحكم وقتها هؤلاء الفتية ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ .. توقعوا أنهم ناموا ، ثمَّ استيقظوا ، لكن قد يكون النوم طويلاً ، ينام الإنسان في بعض الأيام من الساعة السادسة مساءً إلى الساعة السادسة صباحاً ، فيقول : نمت اثنتي عشرة ساعة . شعروا أنهم ناموا نوماً طويلاً ، لكنه لا يزيد على يوم وبعض اليوم ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ أي كادوا أن يختلفوا ، والموضوع ليس بذي بال ﴿ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ .. كان معهم بعض المال ، فبعثوا أحدهم بهذا الورق ، قبل أن نتابع الموضوع هناك إشارة إلى أن الله عز وجل حينما قال : ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾ قلت لكم : الرقيم هو الحجر الذي دُوِّنَتْ عليه أسماؤُهم ، أو اسم الوادي ، أو اسم الجبل الذي كانوا فيه ، أو اسم كلبهم ، وجاء في بعض التفاسير ، وأظنه تفسير الرازي إلى أن الرقيم نسخ من الكتاب المقدس من التوراة ، والإنجيل ، أي حينما أوى هؤلاء المؤمنون إلى الكهف أخذوا معهم كتاب ربهم ليقرؤوه ، هذه إشارة أيضاً إلى أن المصحف يجب أن يكون رفيق المؤمن . 

 

وجوب طلب وتحرّي الحلال :


﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ في بعض التفاسير أنهم حينما ذهبوا إلى الكهف أخذوا معهم طعاماً ، بدل أن يتفرقوا فرادى اجتمعوا ويدُ الله مع الجماعة ، اجتمعوا وتوجهوا نحو الكهف ، وأخذوا معهم طعاماً وشراباً ، وكتابهم المقدس ، هذا زاد المؤمن ، بقوا في الكهف يأكلون ، ويشربون حتى نفد طعامهم وشرابهم ، الآن بعثوا الآن ، طبعاً هم جائعون ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً ﴾ ..

المؤمن كالنحلة ، لا يأكل إلا طيباً ، ولا يُطعم إلا طيباً ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ استنبطَ العلماء من هذه الآية أن ليسَ للإنسان حق في أن يشتري كُلَّ الرِزق ، في بعض الأحيان يقف شخصان أو ثلاثة عِندَ بائع الفاكهة ، عنده شيء من الفاكهة يأتي إنسان ويطلب من البائع أن يزِن لَهُ كُلَّ الفاكهة ، هذا خِلافُ الأدب ، هناكَ أشخاص يقفون معك ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ أي يأخذ حاجته فقط ، لا يأخذ كل الرزق ، كلمة من للتبعيض ، هذا تعليم ، أدب قرآني ، إذا كان لك أخ واقف معك عِندَ بائع ، وعنده كمية محدودة فلا تأخذها كلها ، خُذ حاجتك مِنَها ، ودع لأخيك الباقي ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ رَحِمَ الله عبداً سهلاً إذا باع ، سهلاً إذا اشترى ، سهلاً إذا قضى ، سهلاً إذا اقتضى ، أن يكون الإنسان لطيفاً .

 

التلطف في البيع والشراء : 


﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ ، هم مضطهدون ، مستضعفون ، ملاحقون ، معذبون ، أي ليذهب أحدكم هذا الذي كُلِف أن يشتري لهم طعاماً أن يكون لطيفاً ، وأن يتخفى ، وألا يُعلن عن حقيقته وعن شخصيته ، وليأتِ بهذا الطعام خِلسةً دون أن يُعرف ، ودون أن يَعرف الناس أين مقرهم ﴿ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ .

هنا يوجد قضية بلاغية .﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ ﴾ الفاء تفيد الترتيب على التعقيب ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ﴾ ، ﴿ فَلْيَنْظُرْ﴾ ، فليأتِ ، شي جميل ، انطلق ، نظر ، أتى بالطعام ، أعمال مرتبة وفق برنامج زمني ، أما آخر آية : ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ وليس فليتلطف ، لمَ لم يقل الله عز وجل : فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ ، فَلْيَنظُرْ ، فَلْيَأْتِكُمْ ، فَلْيَتَلَطَّفْ ، فإنه يجب أن يكون لطيفاً في كل هذه المراحل ، هذه الواو لِمُطلق الجمع ، أي يجب أن يتلطف حينما يذهب ، وحينما ينظر إلى الطعام ينبغي أن يتلطف ، وحينما يشتري ينبغي أن يتلطف ، وحينما يأخذ الطعام ينبغي أن يتلطف ، المراحل الأولى مراحل متتابعة ، أما التلطف فيجب أن يشمل كل المراحل ، إذاً جاءت واو العطف : ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ ﴾ ، ﴿ فَلْيَنْظُرْ ﴾ ، ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ ﴾ ، ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ ، في كل هذه المراحل .

 

الله تعالى يحفظ ويحمي كل من يخلص له ويحبه : 


﴿ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ بحسب ما هم يعرفون ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ﴾ أي يقتلوكم ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾ الوثنية ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ﴾ .. لو عدتم إلى ملتهم ، لَعِشتُم في بحبوحة ، ونعيم ، ووجاهة ، لكنكم على حساب عقيدتكم ، ومبادئكم ، ودينكم ، ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ﴾ .

﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ .. تروي الكتب أن هذا الذي ذهب ليشتري طعاماً حينما دفع هذه العملة ، العملة قبل ثلاثمئة سنة ، إذا شخص ذهب إلى سوق الجمعة وأعطاه مجيدي قال له : أعطنا كيليين بندورة ؟ ما هذا ؟ من أنت ؟ من أي زمان أنت ؟  طبعاً هذا الذي حصل ، أن هذا الإنسان ببالغ التلطف والتخفي والتستر لكن ظنه أنه قد نام ليلة واحدة والمجتمع مجتمع وثني وكافر وهناك قهر واضطهاد فلما أبرز العملة التي معه قالوا : ما هذه ؟ من أين أنت ؟ لكنه شعر أن الناس طيبون ، لا كالذين تركهم ، طيبون ، الدين قائم ، شعر أن هناك تبدلاً تاريخياً في هذه العودة ، هم عرفوه ، وتتبعوه ، ووصلوا كما تذكر بعض القصص إلى باب الكهف ، ودخل قبلهم ثم ماتوا جميعاً أصحاب الكهف ، ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ عثر فعل لازم ، أما أعثر فمتعدٍ ، دلَّ الله عز وجل عليهم لِحِكمةٍ بالغة ، لتكونَ هذهِ آية أن أيها الناس هؤلاء الذين أخلصوا لي ، أحبوني ، خافوني ، استقاموا على أمري ، أنا أحفظهم ، أنا أحميهم ، أنا أنصرهم على عدوهم ، أنا أتجلّى على قلوبهم ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ والله الذي لا إله إلا هو زوال الدنيا أهون على الله من أن يخلف وعده معك.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾

[  سورة النور  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)  ﴾

[  سورة الحج  ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

 

قصة أصحاب الكهف دليل على الإيمان باليوم الآخر : 


﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ هذه الذي يشكك في الآخرة جهل هؤلاء الناس المسيحيين يرون بأم أعينهم لأنهم حينما اختفى هؤلاء لهم قصة مشهورة في التاريخ ، حينما اختفى أصحاب الكهف كان الملك الطاغية يلاحقهم ، عرض عليهم الإيمان بديانته الوثنية ، وأمهلهم يومين ، ثم اختفوا ، فلهم قصة مشهورة ، أين هم ؟ كيف اختفوا ؟ لا تزال قصتهم تسير مع الزمن ، فلما رأى هؤلاء أصحاب الكهف قد حَفِظَهم الله عز وجل كل هذه الفترة ثُمَّ أحياهم ، كان هذا دليلاً على الإيمان باليوم الآخر .

﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾ .. ارتأى فريقٌ أن يغلق هذا الكهف نهائياً بالإسمنت مثلاً ، والحجارة ، ربهم أعلم بهم ، وفريقٌ ارتأى أن يبنى عليهم مكان للعبادة للتبرك بهم .

 

الحكمة من إخفاء عدد أصحاب الكهف هي الانتباه إلى المغزى :


﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ .. هناك سؤال الآن ؛ لماذا لِمَ لم يَقُلْ الله لنا : إنَّ عددهم سبعة ، وانتهى الأمر ، لماذا نحن في هذه المتاهة ؟ ربنا عز وجل يعلم السر وأخفى ، يعلمهم بالضبط ، ولم يشأ في هذه القصة أن يعطينا العدد الحقيقي ، ترك هذا الأمر خلافياً ، إذاً ما الحكمة ؟ قال بعضهم : في القصة مغزى ، وفي القصة جزئيات لا تخدم المغزى ، فأنت إذا ذهبت تبحث عن جزئياتها ، وعن تفصيلاتها ، وعن عدد أهل الكهف ، وعن كلبهم ، وبعد ذلك يا ترى هل أقاموا عليهم مسجداً أم أغلقوا هذا الكهف ؟ تركَ ربنا عز وجل بعض الأشياء مفتوحة ، غير مغلقة ، ولم يُعطِ فيها حُكماً جازماً ، ليُعلِمَنا أن القصة لها مغزى ، فإن لم تعرف المغزى ، وانهمكت في التفصيلات فقد ابتعدت عن مغزاها ، ما قيمة عددهم بالنسبة لمغزى هذه القصة ؟ لو كانوا ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة ، أو ستة ، أو سبعة ، أو ثمانية ، المغزى أن هؤلاء الفتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى ، المغزى أن الله عز وجل هو القوة القاهرة التي تقهر كل شيء ، فإذا كنت معه فلا أحد ينالك بالأذى ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كانَ عليك فمن معك ؟ المغزى أن تبتعد عن التفصيلات ، وعن الجزئيات ، وعن العدد ، والمكان ، بأي مكان ؟ يا ترى في تركيا أم في اليونان أم في مدينة اسمُها ( طرسوس ) كما جاء في بعض التفاسير أم في الشام عند الكهف هنا ؟ لم يذكر ربنا عز وجل المكان ، ولا ذكر الزمان ، ولا بَتَّ في العدد ، ولا أعطى شيئاً قاطعاً في موضوع الكهف ، تركَ هذه الجزئيات كلها مفتوحة ، لكن الإلحاح على المغزى ﴿ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ أي لا جدوى من هذه التفصيلات ، والجزئيات ، فالذي سكت الله عنه يجب أن تسكت عنه ، وابحث عن المغزى الذي أراده الله من هذه القصة ، هذا هو الاتجاه الصحيح ، أما الاتجاه إلى التدقيق في التفصيلات ، والوقوف عندها والغوص فيها ، والغفلة عن المغزى الكبير الذي أراده الله من هذه القصة هو اتجاه خاطئ.

 

كُلُّ شيء بمشيئة الله :


﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ﴾ ..من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ، قل : إن شاء الله ، استثنِ ، إذا استثنيت فقلت : إن شاء الله كلامك صحيح ، أمّا إذا قلت : إني سأفعل ذلك غداً ، فأنت لا تعرف ما الحياة ، الإنسان يصبح في ثانية واحدة من أهل القبور ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ لكن (إن شاء الله) معنى عامي ، أي إذا لم يكُن الإنسان جاداً في الدفع يقول : إن شاء الله أُعطيك ، وإذا كان غير جاد في الحضور يقول : إن شاء الله سآتي إليك ، فإن شاء الله أُسيءَ استخدامُها ، لدرجة أنها صارت تعني الإخلاف في الموعد ، وعدم الدفع ، والكذب ، لا ، ليست (إن شاء الله) بهذا المعنى ، ( إن شاء الله ) إذا كنت جازماً كل الجزم ، وعاقداً كل العزم على أن تدفع تقول : إن شاء الله .

 دُعِيَّ أشخاص إلى وليمة فلم يحضروها ، وافتهم المنية قبل أن يحضروها ، وعَقَدَ إنسان العقد على امرأة فوافته المنية قبل الدخول بها ، وجاء إنسان بشهادة فوافته المنية قبل إبراز المصدقة للجهات المعنية ، فالإنسان لا يدري متى يموت.

 

الأمرُ بطلب الكمال وعدم الرضا بالحال :


﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ .. قال : يا رب كيف أشكرك ؟ قال : تذكرني ولا تنساني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني .

﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾. . لا ترضَ بحالك ، اسعَ إلى ترقية حالك ، اسعَ إلى أن يكون غدك أفضل من يومك ، ويومك أفضل من أمسك ، المغبون من تساوى يوماه ، من لم يكن في زيادة فهو في نقصان .

 

من الإعجاز العلمي العددي : وَازْدَادُوا تِسْعًا :


﴿ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً *وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ أيضاً يوجد سؤال ؟ لمَ لمْ يقل الله عز وجل : ولبثوا في كهفهم ثلاثمئة وتسع سنوات ؟ لا . ﴿ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ ..قال العلماء : وهذا أيضاً من الإعجاز العلمي في كتاب الله ، ثلاثمئة عام ميلادي تساوي بالضبط ثلاثمئة وتسع سنوات هجرية ، فربنا عزَّ وجل أعطى المدة على التقويمين الشمسي ، والقمري ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ﴾ هذا بالسنة بالشمسية ﴿ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ والسنة الشمسية هي مدة دورة الأرض حول الشمس في اثني عشر برجاً ، فالسنة الشمسية حقيقية ، والشهر الشمسي حكمي . أما بالهجري فبالعكس ، الشهر القمري هو شهر حقيقي ، والسنة القمرية حكمية ، أي السنة القمرية شهر ضرب 12 ، أما السنة الشمسية فسنة تقسيم 12 ، ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ ﴾ على السنوات الميلادية ﴿ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ على التقويم القمري ، وليسَ الهجري ، إذّ لم يَكُن هناك تقويم هجري ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾ هذا هو التوحيد .

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255 ) ﴾

[  سورة البقرة ]

وسوف نتابع تفسير هذه الآيات في الدرس القادم إن شاء الله تعالى . 

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور