وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 22 - سورة النور - تفسير الآيتان 60 – 61 القواعد من النساء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني والعشرين من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿  وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60)﴾

[ سورة النور ]


وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا


معنى القواعد:

 القَوَاعِدُ جمع قاعد، بالتذكير، والصفات التي تنفرد بها النساء لا تُؤنَّث، تقول: امرأة طالق، وامرأة بـكر، وامرأة ثيب، وامرأة قاعد، المرأة القاعد هـي التي قعدت عن الزواج، أو قعدت عن المحيض، أو عن الولد، وهي المرأة التي يئست من الزواج، ولا مذهب للرجال بها، وهي المرأة الطاعنة في السن، هي المرأة التي بلغت سناً لا مذهب لأحد إليها، هؤلاء هن القواعد، أما القاعدة في بيتها، فامرأة حامل في بطنها، حاملة على ظهرها، إذا أُنِّثت صفة المرأة معنى ذلك أن الذكر والأنثى يشتركان في هذه الصفة، فإذا قلت: امرأة حامل أيْ في بطنها، أما إذا قلت: امرأة حاملة أي على ظهرها، وإذا قلت: امرأة قاعدة أي في بيتها، أما إذا قلت: امرأة قاعد أي قعدت عن المحيض، وقعدت عن الزواج، وقعدت عن الإنجاب، أي المرأة التي بلغت من الكبر عِتياً، وبلغت سنّاً لا يطمح إليها أحد، فهذه المرأة لها حكم خاص.

﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ وكأن الله سبحانه وتعالى فسّر من هن فقال:


من هي المرأة القاعد ؟


﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾

  ماذا قال العلماء حول تفسير هذه الآية؟ قالوا: "الصحيح أن هذه المرأة القاعد هي كالمرأة الشابة في التستر، فما يباح للشابة يُباح للقاعد، وما لا يباح للشابة لا يباح للقاعد"، هكذا ورد في تفسير القرطبي، الصحيح أن المرأة القاعد كالشابة في التستر، لكنها سُمح لها أن تضع الجلباب، ومعنى أن تضع أي أن تخلع الجلباب في بيتها، والجلباب هو الثوب الأخير الذي فوق الدرع وفوق الخمار، والجلباب كالعباءة تماماً، فقال العلماء: "هذا في بيتها، فإذا خرجن إلى الطريق فينبغي لهن أن يلبسن هذه الثياب التي تغطي كل ثيابهن الأخرى"، وكيف عرف العلماء ذلك؟ قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾


ما معنى التبرُّج ؟


 ما هو التبرج؟ التبرج هو الظهور، وهو نقيضُ التستر، ومنه البارجة لأنها مرتفعة، ومنه برج القلعة، وهو أعلى مكان فيها، ومنه الأبراج، والبروج، قال تعالى:

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾

[ سورة البروج ]

 هذه النجوم المتألقة التي نراها في كل فصل، فمن قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾ أي هؤلاء النسوة لا ينبغي لهن أن يتبرجن، وفي أدق ما قيل في هذه الآية أن السيدة عائشة رضي الله عنها سئلت، قيل لها: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين وخاتم الذهب، ورقاق الثياب؟ فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: يا معشر النساء قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات.

 يعني غير ظاهرات للرجال، أباح الله لكن الزينة في بيوتكن، لأزواجكن، هذا مباح، ومطلوب، وواجب، أما الآية الكريمة: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾ أي غير ظاهرات للأجانب، وغير متعرضات لهم، وغير متبرجات بزينة. 

﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ ، ولكن هذه المرأة القاعد المسنة، إذا كانت في بيتها، ولظرف ما دخل على البيت أجنبي، يعني البيوت متنوعة، قد يكون البيت غرفة واحدة، دخل رجل مثلاً لإصلاح جدار، فلو دخل أجنبي إلى هذا البيت فيجب أن ترتدي هذه المرأة لباسها، وحجابها الكاملين، إلا أن العباءة ـ والتي هي الجلباب ـ وهي آخر ثوب تضعه المرأة على جسمها ربما سُمح للمسنة ألا تضعه، وهي في بيتها إذا دخل أجنبي، أما أن تخرج إلى الطريق بشكل لا يرضي الله، فهذا من أنكر المنكرات، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ وهذه المرأة المتقدمة في السن هي قدوة، هذه المرأة المسنة، هذه المرأة التي أيس منها الرجال، وأيستْ من الزواج، إنها قدوة لبناتها، وحفيداتها.  


استعفاف القواعد من النساء خير من وضع الثياب:


 ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ربما كان هذا الثوب الأخير يسبب لها متاعب فمعها رخصة، أما أن تُظهِر الخلخال وموطنه، والسوار وموطنه، والقرط وموطنه، والخضاب وموطنه، فهذا لا يجوز إطلاقاً، لنص الآية الكريمة: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وفي تفسير القرطبي قال عطاء: "هذا في بيوتهن فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب". هذا في بيوتهن.

 وربما كان هناك حالات لا نعيشها نحن الآن، بيت مشترك بين أسر عديدة، أو بيت فيه غرفة واحدة، وربما كان هذا الحكم يناسب هذه الأحوال، قال عطاء: "هذا في بيوتهن فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب "


معنى وضعِ الثياب:


  ومعنى وضع الجلباب: أي خلعه، ومعنى في بيوتهن: أي إذا دخل عليهن أجنبي، يعني هو الرخصة كلها، أن الذي هو محرم على الشابة محرم على المسنة، ولكن هذا الجلباب الأخير إذا كانت في بيتها، ودخل أجنبي ربما سمح لها الشرع أن تُعفى من ارتدائه، والأَولى أن ترتديه، لأنها قدوة لحفيداتها، ولبناتها في البيت، ومن التبرج كما يقول العلماء لبس ثوبين رقيقين يصفان حجم المرأة، أو حجم أعضائها، أو لون أعضائها، والثوب الذي يصف الحجم، أو يصف اللون فهذا ثوب مُحرَّم أشد أنواع التحريم، كيف؟

يا أيتها المرأة المسلمة احذري أن تكوني من هذا الصنف !!!

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((  صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا. ))

[ رواه مسلم ]

 وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ كيف فسر العلماء هذا الحديث؟ أي إنهن يرتدين ثياباً، ولكنها ثياب فاضحة، ثياب تشف عما تحتها، ثياب رقيقة تصف حجم أعضاء المرأة، هذه الثياب وصفها النبي بأن صاحبتها ملعونة، وفي رواية أخرى: 

((  فَالْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ. ))

[ أحمد عن عبد الله بن عمرو وهو ضعيف ]

  وهؤلاء النسوة لا يجدن ريح الجنة، ولا يدخلن الجنة، وإن ريحها ليوجد من كذا وكذا. 

هذا أمر مهم جداً، لذلك أن تقول امرأة: أنا امرأة شريفة، وترتدي ثياباً تظهر مفاتنها فهي في نص الحديث الشريف الصحيح ملعونة من قِبَل الله عز وجل، وهذه المرأة إذا ماتت على هذه الحال لن تدخل الجنة بنص هذا الحديث الشريف. أعيد عليكم قراءة الحديث:

 (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) 

 فتصفيف الشعر وفق أحدث الطرق المجلوبة من دول الغرب يجعل رأس المرأة كأسنمة البخت، فإذا كان هذا لزوجها فلا مانع، أما إذا كان هذا في الطريق فنعوذ بالله من هذه الفتنة (رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) .

ليس هذا من كلام المسلمات المستقيمات !!!

 أما أن تقول هذه المرأة الكاسية العارية: غطاء الصلاة في حقيبتي، وأنا أصلي، والحمد لله، فهذا كلام مضحك، وأن تمشي المرأة في الطريق، فتفسد الشباب، وتثير الشهوات، وتجعل الناس البعيدين عن الله عز وجل يميلون إليها، وتدعي أنها تصلي، أو تدعي أنها مؤمنة في قلبها، وتقول: الإيمان في القلب، نقول: لا، والله، الإيمان يجب أن يبدو ظاهراً.. "الإيمان ما وقر في القلب وأقر به اللسان وصدقه العمل" .

 هذا العمل لا يعبر عن إيمان، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((  بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ (جمع قميص)، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (هذا منام رآه النبي عليه الصلاة والسلام)، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ (يعني من أعلى رقبته إلى أسفل قدمه، وزاد على طوله فهو يجره)، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: الدِّينَ. ))

[ البخاري، مسلم ]

 الثوب هو الدين، فكلما ازداد دينك طال ثوبك، وكلما ازداد دينك كان ثوبك سابغاً، فمن أين أخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا التفسير؟ من قوله تعالى: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26)﴾

[ سورة الأعراف ]

 أما حديث النبي الأول: 


شرح قول النبي: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ …


(نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) فله تفسير آخر. 

التفسير الأول:

 التفسير الأول: أنهن يرتدين الثياب، لكن هذه الثياب لا تستر أعضاءهن، ثياب ولا ثياب، ثياب شفافة، ضيقة، فاضحة، تبرز أكثر مما تخفي، فهي كاسية عارية، وهذا من المتناقضات.  

التفسير الثاني:

 ومعنى آخر؛ كاسيات من الثياب عاريات من الإيمان، وعلى كلٍ فالآية في مجملها على النحو التالي: أن هذه المرأة القاعد التي قعدت عن الحيض، وقعدت عن الزواج، وقعدت عن إنجاب الولد، وقد بلغت من الكبر عتياً، و لا مطمح لأحد فيها، إذا كانت في بيتها، ودخل عليها أجنبي، لسبب أو لآخر فعليها أن تستتر منه كما تستتر الشابة تماماً، إلا أن هذا الجلباب الأخير الذي إذا ارتدته ربما أرهقها، هذا سمح لها الشرع أن تضعه، أما إذا تعففت، وارتدته فهذا أفضل بكثير، وهذا ملخص الآية، وهناك من يفهمها فهماً آخر، لكن هذا الفهم هو الذي عليه أكثر المفسرين، ثم يقول الله عز وجل: 

﴿  لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61) ﴾

[ سورة النور ]


حُكم الأكل من بيوت الأقرباء والأصحاب:


 يقول بعض العلماء: "إن هذه الآيات نزلت في نفر من الصحابة حينما سمعوا قول الله عز وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)﴾

[ سورة النساء ]

 فقالوا في أنفسهم: وهل من مال أحب للإنسان من طعامه؟ فكيف نأكل عند إخواننا، أو كيف نأكل عند أقربائنا، ولعله أكل لأموال الناس بالباطل؟ فامتنعوا عن أن يأكلوا في بيوت أقربائهم، فنزلت هذه الآية لتوضح الحكم الدقيق في هذا الموضوع"،  

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى﴾ ، يعني الأعمى إذا جلس ليأكل ربما طاشت يده، وربما جالت في القصعة جولة لا ترضي البصير، فهذا الأعمى ليس عليه حرج إذا جلس ليأكل ربما وصلت يده إلى منتصف الطبق، ربما وقع من يده جزء من الطعام على ثوبه، ولم ينتبه له، فلا ينبغي لك أيها البصير أن تدقق مع هذا الذي امتحنه الله بكف بصره، فليس على الأعمى حرج.. 


لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ


﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ الأعرج ربما لا يستطيع أن يجلس كما تجلس بأدب، وقد يضطر إلى أن يمد رجله، فإذا جلس ربما مدد رجله لعاهة نزلت به، فليس على الأعرج حرج.

﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ المريض قد يكون مرضه مزعجاً، أو يدعو للاشمئزاز، فأنت أيها المؤمن إذا رأيت أخاً في حالة دون الحالة السوية فلا ينبغي لك أن تشمئز منه، ولا أن تنفر منه، ولا أن تعبر عن تأففك، فهذا لا يليق بك كمؤمن، وهذا من عباد الله الصالحين، لكن الله قد ابتلاه، والمؤمن من آدابه أنه إذا رأى مبتلى أن يدعو، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ. ))

[ الترمذي ]

 ولا ينبغي لك أن تعبر عن اشمئزازك من هذا، فـ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ والسبب في أن العرب في الجاهلية كانوا يستقذرون أن يؤاكلوا الأعمى، أو الأعرج، أو المريض، وهذا ليس من الأدب في شيء، بل هذا ترفع وكبر، وهذا تطاول على خلق الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن الأعمى ليس بيده هذا العمى.

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ وما دامت هذه الآيات جاءت في سياق تناول الطعام فالحرج مرفوع عنهم إذا تناولوا الطعام، فربما جالت يد الأعمى إلى منتصف الطبق، وربما لم تكن مرتاحاً لهذا الأعرج الذي يمد رجله، وهو يأكل، وربما لا تستطيب أن تأكل مع المريض، فهذا ليس عليه حرج، ومن أخلاق المؤمن أن يصبر، وألا يتأفف، لكن إذا نزعت هذه الآيات من سياقها، وقرأتها منفردة فربما أفادت حكماً آخر، أن الأعمى، والأعرج، والمريض ليس عليهم جهاد، فإذا اعتذر الأعمى عن أن يكون مجاهداً، وكذلك المريض، وكذلك الأعرج، هو معذور، فهؤلاء الثلاثة معذورون عند الله عز وجل، فلا ينبغي أن تسيء الظن بهم، أو لا ينبغي أن تنظر إليهم نظرة لا تليق بهم، لأنه: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ ثم قال: ﴿وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾


وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ


 دخلنا الآن في موضوع جديد، ومعنى: ﴿وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أيْ أنتم، وأولادكم، وزوجاتكم.

 حينما عدَّد الله سبحانه وتعالى: 


حكم الأقرباء:


﴿وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ﴾ الأخوال، والخالات، والأعمام، والعمات، والإخوان، والأخوات، والأمهات، والآباء، من القريب الذي سقط من هذه الآية؟ الابن.

 لذلك قال العلماء: " إن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: 

(( أنت ومالك لأبيك. ))

[ سنن ابن ماجه ]

 فمعنى ذلك أن بيت الابن بمثابة بيت الأب، لكن النبي الكريم حينما قال لأحد السائلين عن موضوع المال وعلاقته بين الأب والابن قال: (أنت ومالك لأبيك) ولكن: من أكل من مال ابنه فليأكل منه بمعروف، أيْ يجب أن يأكل منه بالقدر الذي يبقي له شيئاً يمسك رمقه، فهذا عليه زواج، وفتح بيت، وتأسيس أسرة، ودفع مهر، وتأمين أثاث البيت، فإذا قلت لابنك: هات كل راتبك، وأنا أبوك، نقول له: من أكل من مال ابنه فليأكل منه بمعروف، فإذا كان أبوك عاجزاً فلابد أن تقدم له جزءاً من مالك، وليس لك في هذا مـنة، ولا فضل، لأن الله سبحانه وتعالى جعل وجودك في هذه الدنيا عن طريقه ـ فأنت ومالك لأبيك ـ ويجب ألا تفهم هذه الآية فهماً لم يرده الله سبحانه وتعالى، أيْ أن تدخل بيت عمتك، وتفتح الثلاجة، وتأكل منها ما تشتهي من دون إذن؟ لا.

 قال العلماء: "هذا الطعام بإذن أو بدعوة أو بتوكيل" إذا دعيت فلبِّ الدعوة ليس هناك حرج أبداً، وإذا دعيت إلى وليمة فلبِّ الدعوة، "من دعاك وجب حقه عليك"، وليس هناك حرج أن تأكل في بيت ابنك، أو بيت ابنتك، أو بيت أمك، أو بيت أبيك، أو بيت أختك، أو بيت أخيك، أو بيت عـمتك، أو عمك، أو خالتك، أو خالك، فليس هناك حرج ما دمت مدعواً، وليس هناك حرج ما دمت موكلاً، وليس هناك حرج ما دمت قد أُذِن لك، ففي حالات يُؤذَن لك أن تتفقد هذا البيت في غيبة أصحابه، فقد تشتهي أن تشرب كأساً من الشاي.

 وقد قال العلماء: "حينما تأكل من دون إذن شيئاً يسيراً جداً، تافهاً جداً يدخل السرور على قلب صاحب البيت" ، فإذا وكلك أحدهم في بيته في غيابه، وهذا البيت كلفك مشقة للذهاب إليه، وأنت قابع في هذا البيت، حضرت إبريقاً من الشاي مثلاً، فهذا الشيء يسير جداً، وتافه، وصاحب البيت يُسَر إذا فعلت ذلك، وهناك شرط دقيق جداً يجب أن يكون هذا الطعام مبذولاً، وليس في حِرز، أيْ ثلاجة مقفولة، ما دامت مقفولة، ولها مفتاح فهذا الطعام صار في حِرز، وأما الشيء المبذول، واليسير، والتافه، والذي لا يغص صاحبه لو أكلت منه، فهذه الحالات التي سُمح لها من دون إذن، ولكن الطعام الذي إذا أكلت منه أحدثت خللاً، فهذا يحتاج إلى دعوة، أو إلى إذن، أو إلى توكيل، وهكذا قول أكثر العلماء في تفسير هذه الآية.

﴿وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ هذا بيتك، أو بيت زوجتك فرضاً، فزوجتك ميسورة الحال، واشترت طعاماً، وأكلت منه، فهذا معفو عنه، أو بيت ابنك، أو أنت لا تزال عازباً، والبيت بيت أهلك، أو بيت الابن، أو بيت الزوجة، أو طعام الزوجة، كل هذه الأنواع انضوت في قول الله عز وجل: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ فالأب والأم إذا زارهما ابنهما يشعران بغبطة لا حدود لها، ولو أنه تناول معهما طعام العشاء، هكذا طبيعة العلاقات الأسرية التي أودعها الله في قلب الآباء والأمهات، فمن يتحرج أن يأكل عند أبيه، أو عند أمه، فهو لا يعرف ما أودع الله في قلب الأب، والأم من محبة، وعطف، فليس عليكم جناح ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ وربما كان تناولك الطعام عند أمك وأبيك عملاً صالحاً، فالأم تمتلئ غبطة إذا أكل ابنها عندها، وقد تصنع له الطعام الذي يحبه، فإذا جاءها، وقال لها: إني قد تناولت الطعام مع زوجتي فربما تألمت، إنها صنعت لك هذا الطعام من أجل أن تأكله فيجب أن تأكله، وهذا الذي يريده الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات: ﴿وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ الأخ، الأخ النسبي.

﴿أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ﴾ الدليل: ﴿أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ﴾ ليس معنى هذا أنه إذا دعاك خالك لتناول طعام الغذاء، وأولاد خالك، وبنات خالك كلهم مجتمعات على المائدة تقول: هكذا يقول الله عز وجل، المحرم محرم، أيْ فيما لا يتعارض مع الآيات الأخرى، إذَا وُجِدَ نساء أجنبيات فلا ينبغي لك أن تجلس معهن، وأن تأكل معهن، فلو جلست معهن لكانت هناك فتنة.

والخالة وبيت الخال إذا كان هناك اختلاط بين الشباب والشابات فهذا مما يتناقض مع الآيات الأخرى، ولا ينبغي لك أن تعد هذه الآية رخصة لهذه الدعوات والطعام المختلط..

 ولكن لا ينبغي لك أن تحمل شيئاً من هذا الطعام، كُلْ واخرج خالي الوفاض مثلما يقولون، أما أن تقول: هذا السمن رفيع جيد، فهاتوا علبة نملؤها، فهذا شيء مذكور في التفاسير، لا يجوز إطلاقاً، كل كما تشتهي بإذن، وعندنا قاعدة: هناك إذن، أو دعوة، أو توكيل، وأحياناً يكون أخ عنده أخ آخر يعمل في طلاء البيوت، فأخوه يقول: تفضل وكل، البيت على حسابك، سمح لك أن تأكل بالمعروف، قال لك: استعمل الهاتف، فاتصلت بالسعودية، لقد خطر في باله مكالمة داخلية، وليست مكالمة خارجية، أخي استعمل الهاتف وتغدَّ، فالإنسان يجب أن يتعامل بلطف، وظله خفيف، لا في غلظة، حتى ولو سمح لك باستعمال الهاتف، ولو سمح لك بتناول الطعام، كل الحد الأدنى، وكل شيئاً من الطعام لا يتألم صاحبه.

زار ضيف شخصاً، فوضع له طبقاً من حلوى المعمول، فأكل واحدة، دخل آخر فأكل نصفه، وصاحب البيت غائب، فالأول انحرج، أنا أكلت واحدة، أما هذا فأكل نصفه، فلما دخل قال: فلان يحبك أكثر مني، أنا أكلت واحدة فقط، أيْ بيّن له. فلذلك: ﴿أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ .


أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ


 هؤلاء الخازنون، أيْ مخزن مواد غذائية، أو مخزن بضاعة معينة، أو في الحقول الزراعية المرابع، فهذا البستان لفلان، وضع إنساناً يعتني به، فالبستان فيه فواكه، فمسموح لهذا الوكيل أو الخازن أن يأكل، وهي مما ﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ تعني الوكيل أو الخازن في وقت واحد، لكن الوكيل والخازن إذا كان لهما أجر، فهناك حكم، وإذا كانا بلا أجر فهناك حكم آخر، أي بلا أجر مسموح لهما أن يأكلا بالمعروف، أما بأجر فلا يسمح لهما أن يأكلا شيئاً، أما بلا أجر فهو فخدمة، كلفك أن ترعى هذا البستان، أو هذه الحديقة في غيابه، وهو مسافر، والبستان يحمل توتاً، والتوت استوى، وفي الأرض عدد قليل، فلا حرج لو أكلت بالمعروف، أما أكثر من ذلك فيدخل في حكم آخر، فكلمة: ﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ بمعنى الخازن في المدينة، أو الوكيل في المزرعة، وإن كان مأجوراً له حكم، وغير مأجور له حكم آخر.

﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ لها ثلاث حالات:

 حالة أن يكون في أمانتك أو في عهدتك، وحالة أن تكون قريباً له، وحالة أن تكون صديقاً له، فإما قرابة، أو صداقة، أو أمانة.

﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ تعني الوكلاء والأجراء، الوكلاء في الحقول الزراعية والأجراء في المدن، وفي المخازن التموينية، ويجب أن يأكل اليسير القليل الذي لا يؤذي، وهذا ما ذكر في بعض التفاسير فعَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: 

((  أَلا وَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ غَنَمَ ابْنِ عَمِّي أَجْتَزِرُ مِنْهَا شَاةً. ))

[ أحمد ]


أَوْ صَدِيقِكُمْ


 ﴿أو مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ الصديق أي الأخ في الله، والصديق الذي صادقته، وقد سئل أحد العلماء: أيهما أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: أخي إذا كان صديقي، أما هنا فقد جاء الصديق مفرداً، هذا اسم جمع، أي أصدقاءكم، كأن تقول عدوناً الفلاني، العدو جمع، أيْ أعداؤنا فالصديق، والعدو من أسماء الجموع.

﴿أو مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا


 والعرب في الجاهلية كانوا يأنفون أن يأكلوا وحدهم، وكان من العار الشديد أن تأكل وحدك، ولذلك كان بعضهم يبيت طاوياً ثلاثة أيام، إلى أن يجد من يؤاكله، وهذا حرج لا مبرر له.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ إذا وُجِدَ ضيف عندك فأفضل، ولكن لا يوجد إنسان آخر يأكل معك، فهل تبقى بلا طعام؟ ليس هذا من العدل في شيء، فإحضار الأكيل حسن، ولكن لا يحرم الانفراد ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ .


حُكم الاجتماع على ثمن الطعام:


 وهنا عندنا حكم دقيق جداً، فأحياناً يذهب أناس إلى نزهة، ويشترون طعاماً مشتركاً، ويدفعون ثمنه بالتساوي، ولكن واحداً منهم أكول، والثاني غير أكول، يا ترى الأكول أكل مالاً حراماً؟ لا، هنا جاء هذا الحكم، فما دام الدفع جاء بالتساوي، فهذا أكل اثني عشر قرصاً، وهذا أكل ثلاثة أقراص، جمعوا المجموع وقسموه على عدد الأشخاص، هذا ليس عدلاً، وهذا مما عفا الله عنه.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا﴾ أي مشتركين في الطعام. 

﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾ أول حكم؛ لك أن تأكل وحدك من دون أن تكون بخيلاً، أما إذا غلّقت الباب، وأرخيت الستر، وتناولت الطعام فهذا البخل بعينه، ولكن لا يوجد إنسان عندك في البيت هل تبقى بلا طعام؟ فهذا الكلام غير وارد. 

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ هذا مما جاء في كتب التفاسير، أما المعنى الثاني أنكم إذا أكلتم جميعاً، وكان ثمن هذا الطعام مشتركاً بينكم فليس عليكم جناح أن يكون هناك تفاوت في المطاعم، كل إنسان له رغبة، وله طبيعة خاصة في تناول الطعام، ولكن بالمقابل الإنسان يأكل حتى يشبع، والأكل محدود، ويأكل حتى يُملئ معدته، والثاني جائع، فهذا ليس من اللباقة، والذوق في شيء، فالمؤمن كالنحلة يأكل طيباً، ويطعم طيباً، ويعرف ماذا يأكل، وماذا يدع، وليس معنى هذا أن مَن أكل لقمة زيادة أن تحسب عليه، ففي الأكل المشترك تستحيل الحسابات الدقيقة، كبرت اللقمة صغرها، مستحيل، فلابد أن يكون هناك تسامح، ولكن بالمقابل إنسان يأكل أكلاً بلا وعي، والثاني جائع، فليس هذا من الدين في شيء ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ .


معنى: بُيُوتًا


المعنى الأول: هي المساجد

 ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾ أيْ إذا دخلتم المساجد، وهذا أول معنى. 

المعنى الثاني: عموم البيوت:

 لكن المطلق في القرآن على إطلاقه. وبعضهم قال: البيوت هنا المساجد. 

﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ وهذه الآية دقيقة جداً في المعنى. 


معنى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ


  ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أيْ: إذا سلمت على أخيك فكأنك سلمت على نفسك، فأنت وأخوك إنسان واحد، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ لم يقل: لا تأكلوا أموال إخوانكم بالباطل، بل قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ لأنك إذا أكلت مال أخيك فكأنك أكلت مالك، وهنا:

﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ فإذا دخلت إلى المسجد، فمن في المسجد؟ إنهم إخوانك المؤمنون، فسلم عليهم، فإذا سلمت عليهم فكأنك تسلم على نفسك، إلا أن السلام في المسجد محظور في مجالس العلم، وفي إقامة الصلوات، وفي قراءة القرآن، فإذا دخلت إلى المسجد، وليس فيه صلاة، ولا مجلس علم، ولا تلاوة قرآن، ولكن فيه أخ جالس تقول: السلام عليكم.


 وتنفيذاً لهذه الآية: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾


صيغة السلام:

 هناك صيغة في السلام، "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ، وإذا دخلت إلى بيت مسكون فقل: السلام عليكم، قبل أن تقول: أعندكم خبز زائد تعطوننا إيّاه، قل: السلام عليكم، إذ لا كلام قبل السلام، وإذا دخلت إلى بيت غير مسكون، فارغ، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت إلى بيتك غير المسكون، مثلاً اشتريت بيتًا، ولم تسكنه بعد، فقل: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" ، وهذه هي السنة، فإذا دخلت إلى بيت غير مسكون، وهو بيتك فقل: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" ، دخلت إلى بيت مسكون فقل: السلام عليكم، وإذا دخلت إلى بيت مسكون غير بيتك فقل: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، وإذا دخلت إلى مسجد فيه مجلس علم فابق ساكتاً، أو فيه صلاة فاسكت، أو فيه تلاوة قرآن فاسكت، والمسجد الذي ليس فيه شيء من هذا القبيل، لكن فيه أخ لك فقل له: السلام عليكم.


السلام على أهل البيت يدفع أذى الشيطان:


 ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ فإذا دخلت بيتاً تعلم علم اليقين أن صاحبه ينكر وجود الله عز وجل مثلاً، فقل: "السلام على من اتبع الهدى" 

إذاً أنواع السلام: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ، "السلام عليكم" ، "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" "السلام على من اتبع الهدى" ..

 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ. ))

[ مسلم، أبو داود، النسائي، ابن ماجه، أحمد ]

 اليوم طول الليل مشاجرات، ومشاكل، فإذا جلس الرجل إلى الطعام، ولم يسمّ قال الشيطان لإخوانه: أصبنا العشاء، فإذا دخل، ولم يسلم، وجلس إلى الطعام، ولم يسمّ، قال الشيطان لإخوانه:  (أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ) في هذا البيت وشيء آخر؛ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( إِذَا وَلَجَ (دخل) الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ. ))

[ أبو داود ]

 وأحياناً يدخل الإنسان إلى البيت فيسمع خبراً سيئاً، فيتشاجر مع زوجته، ويقع في إشكال لا ينتهي في أشهر، فالإنسان إذا دخل بيته فليدعُ بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ) هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا﴾ مطلقة، فالمسجد بيت، وبيت أقربائك، بيت أهلك، وبيتك الفارغ، وبيتك المسكون، إذا دخلت إلى أي مكان فقل: السلام عليكم، بين أن تقول: السلام عليكم، أو السلام علينا، أو ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أو السلام على من اتبع الهدى، لابد من السلام، وطرح السلام سنة لكن إجابة السلام فرض. 

﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ بقي علينا من سورة النور إن شاء الله تعالى درس آخر نتحدث فيه عن بعض الآيات الأخيرة.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور