- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن عشر من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43)﴾
تعليق مهمٌّ: الإنسان مدعوٌّ إلى التفكر في خلق السماوات والأرض:
وهذه الآية تم شرحها في الدرس الماضي، ولكن إذا كان من تعليق عليها، فهو: أن الإنسان مدعوٌّ بنص هذه الآية إلى التفكر في خلق السماوات والأرض، لأن الله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان بالعقل، وهذا العقل كُرِّم به الإنسان لا ليستخدمه في شؤونه الدنيوية، ويأتي يوم القيامة مفلساً، بل عليه أن يستخدمه في التعرف إلى الله سبحانه وتعالى، وقد مر بنا في درس سابق أن الحيوانات المائية التي تعيش في قيعان البحار، ليس عندها أدوات بصر، لماذا؟ لأن الضوء منعدم هناك، فإذا لم يكن هناك ضوء فما الحاجة إلى هذه العيون؟ فحينما يخلق الله العين، فمعنى ذلك: أن لها وظيفة خطيرة، وحينما يخلق الله العقل، فمعنى ذلك أن له وظيفة خطيرة، فمن اعتمد على عقله في كسـب رزقه، وفي حل مشكلاته، وفي تأمين حاجاته، ولم يستخدم عقله في التعرف إلى الله عز وجل فقد مسخ هذا العقل، واحتقره، وكيف لا؟ وقد كرم الله الإنسان بهذا العقل، ولذلك فالإنسان حينما ينظر إلى ملكوت السماوات والأرض، ولا يقف في نظراته متأملاً، بل يمر عليها مر الغافلين، عندئذ سيندم هذا الإنسان أشد الندم، فربنا سبحانه وتعالى جعل بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، وفي كل شيء آيات صارخة ذات دلالة قاطعة، فربنا سبحانه وتعالى يقول:
السحاب:
وعند خط الاستواء ضغط منخفض، ومن تباين الضغطين تنشأ حركة سطحية للهواء، تلك هي الرياح، ولولا تباين درجات الحرارة بين القطب وخط الاستواء لمَا كانت الرياح، وهذا تفسير مبسط جداً جداً للرياح، وهناك تفسيرات بالغة التعقيد، فالرياح الشمالية، والرياح الجنوبية، والرياح البحرية، والرياح الجافة، والرياح الموسمية، هناك تفسيرات، ونظريات بالغة التعقيد لتفسيرها،
لكن الرياح بشكل مبسط هي مكان حار، ذو ضغط منخفض، ومكان بارد، وذو ضغط مرتفع، ومن اختلاف ارتفاع الضغط وانخفاضه تنشأ التيارات السطحية التي تسوق السحاب إلى أرض عطشى، مشتاقة للماء، فيأتي الماء غيثاً يغيث عباد الله عز وجل، ألم تر أيها الإنسان! تقول: البادية جاءها موسم طيب، فأنبتت الكلأ، وكثر الخير، وهذا من فعل من؟ من فعل الله سبحانه وتعالى، الرزاق ذي القوة المتين.
الماء:
قانون الأمطار:
لذلك فهذه الأمطار لها قانون يعرفه علماء الجغرافيا، ولها قانون يعرفه علماء التوحيد، فعلماء الجغرافيا يحللون المطر بتبخر سطح البحر، وانعقاد البخار سحباً، ثم تحوُّل السحب إلى قطرات ماء تسقط بفعل الجاذبية، وهذا تفسير المطر عند علماء الجغرافيا، أما تفسير المطر عند علماء التوحيد فهو مستنبط من قوله تعالى:
﴿
وقال سبحانه:
﴿
وقال عز وجل:
﴿
معنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حينما يقنن الأرزاق يقننها تقنين تأديب، ولا يقننها تقنين عجز، فالإنسان إذا ضاقت عليه المسالك فعليه بمحاسبة نفسه، إذا ضاقت عليه المسالك فعليه بمراجعتها، إذا ضاقت عليه المسالك عليه أن يسأل نفسه هل هناك تقصير؟ وهل هناك عدوان؟ وهل هناك مخالفة ؟ ومعصية؟ واستخفاف؟ واستهتار؟
(( مَا مِنْ عَثْرَةٍ، وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ، ولا خَدْشِ عُودٍ إِلاَّ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ ))
قال تعالى:
﴿
وقال:
﴿
وقال:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)﴾
وقال:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
إذاً:
تعاقب الفصول: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(44)﴾
ألم يَأْنِ لنا أن نفكر في هذه الأرض، لمـاذا فيها ليل ونهار؟ لأن الأرض تدور حول نفسها، ومحورها ليس موازياً لمستوى دورانها حول الشمس، ولو أن محور الأرض كان موازيًا لمستوى دورانها حول الشمس لما كان هناك ليل ولا نهار، وعلى الرغم من الدوران تدور هكذا الشـمس من هنا، هنا نهار سرمدي، وهنا ليل سرمدي، لا يكفي أن تدور حتى يكون الليل والنهار، لابد أن تدور على محور مخالف لمستوى دورانها حول الشمس، ولو أن هذا المحور متعامد مع مستوى الدوران، الشمس هنا، ومحور الأرض هكذا تدور حول نفسها، فما الذي يحصل؟ تنعدم الفصول؛ فلا صيف ولا شتاء، ولا ربيع ولا خريف، لأن أشعة الشمس تكون في مكان ثابت عمودية، وفي مكان آخر مائلة، وفي مكان ثالث شديدة الميل، ولو أن محور الأرض متعامد مع مستوى دورانها حول الشمس لما كانت الفصول، فمن الذي قرر أنه لا بد أن تدور الأرض حول محور مائل، ودرجة الميل هي ثلاث وعشرون درجة؟ فهذا تصميم من؟ وصنع من؟ فبميل محورها، ودورانها حول الشمس تتبدل الفصول؛ من صيف، إلى شتاء، إلى ربيع، إلى خريف، فإذا كان محورها هكذا، والشمس من هنا جاءت أشعة الشمس العمودية على قسمها الجنوبي، فكان نصف الكرة الجنوبي صيفاً، ونصفها الشمالي شتاء، فإذا انتقلت الأرض إلى هنا هكذا تكون أشعتها على قسمها الشمالي عمودية، فيكون الصيف، وعلى قسمها الجنوبي مائلة، فيكون الشتاء، فهذه المناطق الأرضية يأتيها صيف، ويأتيها ربيع، ويأتيها خريف، ويأتيها شتاء بفضل هذا الميل، فمن جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً؟ ومن جعل الليل بارداً، والنهار حاراً؟ ومن جعل الليل مظلماً، والنهار مشرقاً؟ ومن جعل الليل كي تسكن في بيتك، والنهار كي تسعى في رزقك؟ من جعل هذا وذاك؟ أليس الليل والنهار آيتين من آيات الله الدالة على عظمته؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى:
(( الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ ))
طال ليله فقام وقصر نهاره فصام، فمن جعل الليل والنهار يختلفان في الطول والقصر؟ وفي الضوء والظلام؟ وفي الحر، والبرد؟ وفي وظيفة الكسب، ووظيفة السكنى؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فهذا العقل، أو هذا الفكر لا ينبغي له أن يبقى مأسوراً في كسب الرزق، بل ينبغي أن ينطلق إلى آفاق الكون، وإلى آيات الله الدالة على عظمته، وينبغي له أن يتفكر، وأن يتأمل، وأن يقلب، وأن يدقق، وأن يوازن، وأن يتحقق، وأن يتدبر.
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ
وهؤلاء الذين لا يدققون بماذا تفكرون؟ أي شيء نفكر فيه ينتهي عند الموت، لكنك إذا فكرت في خلق السماوات والأرض فهذا التفكير ينقلك إلى تعظيم الله سبحانه تعالى، وتعظيم الله سبحانه وتعالى يحملك على طاعته، وطاعته تحملك على الإقبال عليه، والإقبال عليه يسعدك في الدنيا والآخرة، لذلك:
ثم يقول الله سبحانه وتعالى متابعاً الحديث عن الآيات الكونية، ولماذا الحديث عن الآيات الكونية بعد الحديث عن نور الله الذي يتمثل في قلب المؤمن كالزجاجة التي يضيء فيها مصباح وضّاء، وبعد الحديث عن نور الله في قلب المؤمن يبين الله لنا سبحانه وتعالى طريق اكتساب هذا النور، وطريق امتلاكه، إنه في التفكر في خلق السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى خلق كل دابة من ماء، والدابة كل مخلوق يدب على وجه الأرض، أي يسير عليه، وسيدنا هود يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ
فالدابة هنا أي مخلوق يدب على وجه الأرض
وقال سبحانه:
﴿
فالدواب جميعاً، ونحن البشر مشمولون بهذه الآية، الدواب جميعاً على الله رزقها، والله سبحانه وتعالى آخذ بناصيتها، فلمَ الخوف إذاً؟ ولمَ المعصية إذاً؟ لمَ تعصي الخالق لترضي المخلوق، إذا كان رزقك على الله عز وجل، وإذا كانت كلمة الحـق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً؟ فسرُّ العزة هو التوحيد، سر عزتك أن تعرف أن أمرك بيد الله وحده.
﴿
من الإعجاز العلمي في القرآن: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ
هذه الآية من إعجاز القرآن العلمي، فلم يكن حين نزل القرآن الكريم يعرف أن الإنسان مؤلف من 70% من وزنه ماء، فعِلمُ الخلية يؤكد أن الماء هو المكون الأساسي من مكونات الخلية،
ولولا الماء لما كانت خلية، ولولا الخلية لما كان المخلوق، وإن كل كائن حي تعد الخلية أصغر وحدة وظيفية فيه، وكان العلماء يظنون أن الخلية هي أصغر وحدة بنائية، ثم اكتشفوا أن الخلية هي أصغر وحدة وظيفية، ولها غشاء، ولها هيولّى، ولها نواة، وعلى النواة مورثات، وهذه المورثات تحمل خمسة آلاف مليون معلومة، تسهم في تشكيل الإنسان، فالحوين المنوي خلية، والبويضة خلية، والخلية كما قلت قبل قليل أصغر وحدة وظيفية في الكائن الحي، والنبات له خلايا، ولو وضعنا ورقة نبات تحت مجهر لرأينا الخلايا أصغر وحدات وظيفية فيها، فالنبات مكون من خلايا، والحيوان مكون من خلايا، والإنسان مكون من خلايا، والإنسان مكون من آلاف الملايين الملايين من الخلايا، فأول شيء يعد الماء أهم مكون للخلية، والكائن الحي مؤلف من مجموعة خلايا، وربنا سبحانه وتعالى حينما قال:
الماء ضروري لحدوث التفاعلات والتحولات في الكائنات الحية:
شيء آخر؛ يقول علماء الأحياء: "إن الماء ضروري لحدوث جميع التفاعلات والتـحولات التي تتم داخل الكائنات الحية"، فعملية الهضم تحتاج إلى ماء، وعملية الدوران تحتاج إلى ماء ، وعملية طرح الفضلات تحتاج إلى ماء، وأي نشاط حيوي في الجسم البشري، وجسم الحيوان، وفي النبات يحتاج إلى ماء، فالماء وسيط، وما دام الماء وسيطاً في كل تفاعل أو تحول يتم في جسم النبات والحيوان والإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:
الماء ضروري لقيام كل عضو بوظيفته:
وشيء آخر؛ إن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظيفته، وأي عضو في جسم الإنسان لا يقوم بوظيفته إلا عن طريق الماء، فالماء إذاً ضروري أن نشربه كي تتم عمليات الهضم، وتتم عمليات تصفية الدم، وطرح البول، فالإنسان يتألف من 70% من وزنه ماء، فإذا كان وزنه 70كغ فيه 50 كغ من الماء.
الماء ضروري لحياة الإنسان:
وشيء ثالث؛ هو أن الإنسان بإمكانه أن يعيش دون طعام 60 يوماً، ولكنه ليس بإمكانه أن يعيش دون ماء أكثر من ثلاثة أيام،
وقد تصل إلى ستة أيام على أبعد تقدير، إذاً الماء مكون أساسي في الكائن الحي، وهذه السوائل التي نحن في أمس الحاجة إليها، الدم قوامه الماء، والسائل اللمفاوي قوامه الماء، والسائل النخاعي قوامه الماء، وماء العين قوامه الماء، وإفرازات الجسم كالبول، والعرق، والدموع قوامها الماء، واللعاب قوامه الماء، والصفراء قوامها الماء، وحليب الأم قوامه الماء، والسوائل الموجودة في المفاصل قوامها الماء، والماء كما يقول علماء الطب سبب ليونة الجسم، وسبب رطوبته، ولو أن الإنسان خسر من مائه 20% فقط لواجه الموت، ففي بجسم الإنسان 70% من وزنه ماء، لو خسر من هذه 70% خُمسَها لواجه الموت، ولو بقيت أربعة أخماس الكمية في جسم الإنسان يواجه الموت، والمواد الغذائية لا تنتقل إلى الدم إلا عن طريق الماء، وهذا الذي تأكله لماذا تحتسي معه الشراب، الشاي مثلاً، ولماذا تشرب معه الماء؟ لأن هذه المواد الغذائية لا يمكن أن تُهضَم إلا إذا حُلَّت بالماء، فإذا حُلَّت بالماء أصبحت سائلاً تمر في الأمعاء الدقيقة، وتمتصها الزغابات المعوية، وتحيلها إلى الدم، وذلك عن طريق الماء.
(( نَحْنُ مِنْ مَاءٍ ))
وهذه حقيقة، نحن من ماء، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام كشفت له الحقيقة؛ أن قوام الكائن الحي هو الماء، ولذلك حيثما ترى الماء ترى المدن والقرى، وترى الحضارات، وأكبر حضارات الأرض نشأت حول ضفاف الأنهار، كحضارة النيل، وحضارة الرافدين، وما من مجمع سكاني كبير إلا والماء شريانه الحيوي، وما قيمة الشام إذا كانت دون نهر بردى، ونبع الفيجة؟ وما قيمة هذه البلاد المبعثرة في شتى بقاع الأرض لولا ينابيع الماء، والأنهر التي أجراها الله في هذه البلاد؟.
لذلك:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ
الإنسان مكرَّم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ
أي: أربع أرجل، هذه الدواب، والخيل، والبغال، والحمير، والأنعام؛ من الجمال، والأغنام، والأبقار، كلها تمشي على أربع، وقد يقول قائل: هناك حشرات تمشي على ست أرجل، أو تمشي على ثماني أرجل، أو تمشي على أربع وأربعين رجلاً، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن هذه الحشرات التي لها كل هذه الأرجل تستطيع أن تستقر على أربع منها فقط، وأما الباقي فلها وظائف أخرى، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى:
(( خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. ))
يعني على صفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه فرد لا شبيه له، وكذلك الإنسان جُعل بشكل لا يشبه مخلوقاً آخر.
يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)﴾
شيء آخر:
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)﴾
لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ
وربنا سبحانه وتعالى نصب في الكون أدلة على وجوده، وأدلة على أسـمائه الحسنى، وأدلة على صفاته الفضلى، وأدلة على ربوبيته، وأدلة على ألوهيتته، وأدلة على علمه، وأدلة على خبرته، وأدلة على قوته، وأدلة على رحمته، وأدلة على لطفه، وأدلة على عطفه، وأدلة على تربيته، ألا ينبغي لنا أن نقف عند هذه الآيات، وعند هذه الأدلة؟
وقد مر معنا في الخطبة اليوم أن عمير بن وهب حين أخذ العفو لصفوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إن صفوان هرب إلى جدة ليركب البحر أو ليلقي نفسه في البحر فأمِّنه صلى الله عليك إنه سيد قومه، قال عليه الصلاة والسلام:
فإذاً وقفت عند كلمة أعطني آية، يعرف منها أنه أمنه، فالقرآن آيات معرفة الله أساس الدين، وأصل الدين معرفته
وعن عبد الله بن المسور أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم قال:
(( مَا فَعَلْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ فَتَطْلُبَ الْغَرَائِبَ؟ قَالَ: وَمَا رَأْسُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ قَالَ: مَا شَاء اللَّهُ، قَالَ: عَرَفْتَ الْمَوْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهُ، قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: انْطَلِقْ فَاحْكُمْ هَاهُنَا، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ ))
أيْ إذا عرفت الأمر قبل أن تعرف الآمر فلن تطبق الأمر، بل تحتال عليه، وتنتقص منه، وتستخف به، وهذا حال المسلمين الذين تعلموا أوامر الله، ولم يعرفوا الله عز وجل، ولذلك لابد أن نسلك كما سلك النبي عليه الصلاة والسلام في تعريف أصحابه بربهم، ثم جاء الشرع فبين لهم كيف يعبدونه، فأنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، أي بالكون تتعرف إلى عظمته، وأسمائه، وقدرته، ولطفه.
أليس هذا البَرَد الذي يصبح بحجم العدس أو حجم الحمص بردَاً يعبر عن لطف الله عز وجل؟ وحينما يُقتلع سن طفل من أسنانه اللبنية، أليس اقتلاع هذا السن دليلاً على لطف الله عز وجل؟ لا ألم، ولا مخدر، ولا ضغط، ولا وخزة، ولا شيء من هذا القبيل فهناك آيات دالة على لطفه، وهناك آيات دالة على رحمته، وهناك آيات دالة على حكمته، وهناك آيات دالة عـلى قوته، وهناك آيات دالة على مغفرته.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
وبعد هذا الحديث عن الآيات الكونية الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى ننتقل إلى حالة ثالثة؛ هناك مؤمنون، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أثر نوره في قلوبهم، وهناك كافرون.
﴿
هناك مؤمنون مستنيرون، وهناك كفار في غياهب الظلمات.
هذه هي صفات المنافقين:
الصفة الأولى: مخالفة الظاهر للباطن:
ثم بيّن الله سبحانه وتعالى طريق معرفته من خلال الكون، والآن يأتينا أول مرة في سورة النور صنف ثالث، لا هم بالكفار الذين ينكرون حقائق الدين، ولاهم بالمؤمنين الصادقين الذين يتمثلون أوامر الدين، إنهم المنافقون، هؤلاء المنافقون يقولون: آمنا بالله وبالرسول، وتعبيره الملفوظ مؤمن يعترف بوجود الله، ويعترف بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقواله مطابقة لأقوال المؤمنين، قال عز وجل:
﴿
ويؤكدون أنهم يطيعون الله عز وجل، أيْ أقوالهم طيبة.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾
الصفة الثانية: الإعراض عن حُكم الله تعالى:
﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)﴾
فالمنافق لا يريد أن يكون الرسول حكماً بينه وبين خصومه، وكأنه يظن أن النبي لن يحكم بالحق، وأنه سيحيف عليه، وهذا ظنهم بالنبي عليه الصلاة والسلام.
﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)﴾
إذا كان الحق إلى جانبهم سارعوا إلى النبي ليحكم بينهم.
﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51)﴾
هذه الآيات إن شاء الله تعالى سوف نقف عندها وقفة طويلة في الدرس القادم، صفات المنافقين، وصفات المؤمنين، ولا سيما في علاقاتهم المالية والاجتماعية.
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(52)﴾
والحمد لله رب العالمين