الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع عشر من سورة النور، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)﴾
[ سورة النور ]
علاقة الآيات بما قبْلَها:
قد يسأل سائل: ما العلاقة بين هذه الآيات التي تتحدث عن الكفار، وبين الآيات السابقة في قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)﴾
[ سورة النور ]
الحقيقة أن الله تعالى بعد أن بيّن نوره، وكيف يسري في المؤمن، فيسعد به في الدنيا والآخرة بيّن لنا كيف أن الكافر محروم من هذا النور، وحينما يُحرم الكافر من نور الله عز وجل فما هي النتائج الخطيرة المترتبة على هذا الحرمان؟ فالمؤمن يمشي بنور الله، وينطق بتوفيق الله، وعقيدته صحيحة، وسلوكه منضبط، وحياته النفسية مفعمة بالسعادة، لأنه على نور من ربه، وشعوره أن الله راضٍ عنه شعور نبيل، وشعور عظيم، لكن أهل الدنيا المنقطعين عن الله عز وجل ما حياتهم من دون هذا النور؟ فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مثل نوره في الذين آمنوا ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ والذين كفروا هؤلاء أناس مقطوعون عن الله عز وجل، وقد حُرموا من هذا النور، إذاً أعمالهم كسراب.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ لأنه في ظلمات بعضها فوق بعض، عمل عملاً لا جدوى منه، لو أنه اخترع قنبلة ذرية، ماذا فعل؟ لم يفعل شيئاً، بل بالعكس، لقد أوقع مآسيَ في البشرية لا تنتهي إلى يوم القيامة، فهذه الإنجازات العلمية الضخمة التي استُخدمت لإيقاع الأذى في بني البشر، الذين اخترعوها، والذين اكتشفوها، وقد حققوا سمعةً عظيمةً في عالم البشر، فهذه الأعمال العظيمة لو جاؤوا يوم القيامة ليجدوها أعمالاً عظيمةً، فإذا هي سراب في سراب، ولذلك ولو أن الإنسان حصّل أعلى الدرجات العلمية، ولو أنه كان ذكياً، ولو أنه كان متفوقاً في عمله، ولو أنه كان من نوع متميز من بني البشر، إن لم يعرف ربه فهو في ظلمات، والدليل ظلماته التي يعيش فيها سوف تنعكس أعمالاً لا جدوى منها، فقد تنفعه في الدنيا، وقد تدر عليه مرابح عظيمة، وقد تجعله متألقاً في عالم الشهرة، ولكن إذا جاء ملك الموت، وعُرِض للحساب، فهذه الأعمال التي افتخر بها في الدنيا، والتي كان يتيه بها، والتي كان يمجده الناس بها يأتي يوم القيامة ليجدها سراباً يحسبه الظمآن ماءً.
إذاً حينما أعرض الكافر عن التفكر في السماوات والأرض فما عرف الله، وحينما لم يعرف الله عز وجل لم يقم لأمره قيمةً، ولم يعبأ بطاعته، ولا باجتناب معاصيه، بهذا الجهل، وبهذا الانحراف وقع في ظلام، وحينما وقع في ظلام اتجه اتجاهات ليست صحيحة، فحينما جاء يوم القيامة، وكان يستنجد بهذه الإنجازات رآها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فالإنسان أحياناً يتساءل أن هناك إنجازات ضخمة على مستوى الصناعة، والتجارة، والزراعة، واكتشافات، وأسلحة ذات فعالية تفوق حد الوصف، وأسلحة جرثومية، وكيماوية، وقنابل ذرية، وقنابل انشطارية، أليس هذا إنجازاً؟ نعم، ولكن هذا الإنجاز لو عُرِض على ميزان يوم القيامة كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وحتى الأعمال التي تبدو للناس عظيمةً، وحتى الأعمال التي يفعلها أهل الدنيا المنقطعون عن الله عز وجل، والتي هي بنظرهم عظيمة، فهذه الأعمال لو عُرضت على المِحَك الصحيح الذي يُسعِد الناس، أو يشقيهم لكانت أعمالهم خسارة في خسارة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالَأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
[ سورة الكهف ]
وحينما يرى الله عز وجل الإنسان قد أعرض عنه يذكره فلا يتذكر، وينبهه فلا ينتبه، ويسوق له الشدائد فلا يتعظ، وعندئذ يدعه وشأنه:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يعني تفوق وتقدم وإنجاز وبحبوحة، وغنى، وقوة، وما شاكل ذلك ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ الحقيقة أنّ السراب يحسبه الظمآن ماء، فلِمَ قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ لأن الظمآن يبحث عن الماء، فإذا لاح له في الأفق ما يشبه الماء سعى إليه، فإذا سعى إليه اكتشف الحقيقة المرة، وإن هذا الذي رآه ماءً إنما هو سراب.
﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ فهذه الأعمال فعلتها يا فلان ليقال عنك كذا، وقد قيل، فخذوه إلى النار، وهذه الأعمال العظيمة فعلتها لتتألق في عالم الشهرة، وقد اشتُهرت، وهذه الأعمال فعلتها ليمدحك الناس، وقد مدحوك، وهذه الأفعال فعلتها لتجمع منها ثروةً طائلةً، وقد حصل ذلك.
ولذلك حينما يغفل الإنسان عن الله عز وجل تصبح أعماله تافهةً لا جدوى منها في مقياس السماء، أما في مقياس الأرض فقد يثني عليه الناس، وقد يمدحونه، وقد يملأ أعينهم بهذا العمل العظيم، لكن في مقياس الدار الآخرة لا قيمة للعمل إلا إذا كان نافعاً للناس.
حَتَّى إِذَا جَاءَهُ
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ﴾ سعى إليه لشدة لهفته، فالإنسان يوم القيامة يفتقر إلى العمل الصالح، والحقيقة أن الغنى غنى العمل الصالح، وأن الفقر هو فقر العمل الصالح، وأن العمل الصالح هو أثمن شيءٍ في الحياة الدنيا، وربنا سبحانه وتعالى قرن العمل الصالح مع الإيمان في أكثر من مئتي آية، فقال سبحانه:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)﴾
[ سورة البقرة ]
وقال:
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)﴾
[ سورة فاطر ]
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)﴾
[ سورة الأنعام ]
إذًا أنت في هذه الدنيا جيء بك كي تعمل عملاً صالحاً يصلح أن تسعد به إلى الأبد، فإذا جئت الدار الآخرة، وعرفت قيمة العمل الصالح، وبحثت عنه، فإذا كان صالحاً أسعدك، وإن لم يكن كذلك كان العمل هباء منثوراً..
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾
[ سورة الفرقان ]
لَمْ يَجِدْه شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ وكل عمل يدّعي الإنسان أنه فعله ليرقى به عند الله، فليعلمْ أنّ الله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
[ سورة فاطر ]
خبير بما نعمل، سميع بصير.
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا( 17)﴾
[ سورة الإسراء ]
والله سبحانه وتعالى وحده يعرف حجم عملك، يعرف الإخلاص في العمل، والصدق في العمل، ومقدار التضحية، وما بذلت، وحجم ما بذلت، ولذلك فربنا سبحانه وتعالى هو الذي يحاسب الإنسان يوم القيامة.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ فهذا العمل العظيم الذي اخترع القنبلة الذرية، وامتلأت شهرته في الخافقين، ومع ذلك لم يجده شيئاً.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب، لأن الحساب يحتاج إلى وقت، ولا يتذوق هذه الآية إلا من عمل في الحساب، فإنه يحتاج إلى وقت، وإلى جهد، وإلى ليالٍ يسهرها، وإلى صفحات يملؤها، لكن الله سبحانه وتعالى في لمح البصر يعطي كل ذي حق حقه.
والآية الثانية: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ﴾
من الإعجاز العلمي في القرآن: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
يقول العلماء: "إنه حتى عام 1900 لم يكن أحد يعرف أن في البحر أمواجاً داخلية"، والمعروف أن في البحر أمواجاً سطحية، على سطح البحر هناك أمواج، ولكن كما يقول العلماء: البحارة الإسكندنافيون عرفوا لأول مرة، وهم يغوصون في أعماق البحر أن في البحر أمواجاً داخلية، ولما عُرضت هذه الآية على بعض علماء البحار دُهشوا، وصُعقوا، كيف أن هذا الكتاب الذي جاء قبل 1400 عام يشير إلى الأمواج الداخلية في البحر، والحقيقة كيف أن الأمواج السطحية تدفع السابح إلى جهة أو لأخرى، والأمواج العميقة تدفع الغواص إلى جهة، أو إلى أخرى، والله سبحانه وتعالى بيّن في هذه الآية أن في البحار أمواجاً سطحية، وأمواجاً داخلية.
قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ هذه الظلمات التي يعيشها الكافر، تفكيره في ظلمات، وقيمه في ظلمات، وكلامه في ظلمات، وأعمـاله في ظلمات، يتخبط خبط عشـواء، يؤذي، ولا ينفع، يفرق، ولا يجمع، يباعد، ولا يقرب، وهو لا يدري.
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ﴾ البحر اللجي البحر العميق، أو هو البحر المفعم بالموج.
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ هذا الموج يغشى البحر، لكن هذا الموج هو الموج الداخلي، والأمواج من شأنها أن تعكس الأشعة، فلو أن البحر هادئ لرأيت في بعض الحالات قاع البحرأما إذا كان البحر متموجاً، فإن هذه الأمواج من شأنها أن تعكس الأشعة نحو الأعلى. لذلك: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ هذا هو الموج الداخلي.
مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
و﴿ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ فهذا الإنسان إذا كان في قاع البحر فالأمواج الداخلية تعكس النور، والأمواج السطحية تعكس النور، والسحاب يحجب النور، فماذا بقي له من النور؟ إن ظلمة قلبه، وإن ظلمة عقله، وإن ظلمة أفعاله، وإن ظلمة أقواله تشبه قاع البحر، وكلمة البحر اللجي أي البحر العميق، ومعلوماتي أن في المحيط الهادي وادياً اسمه وادي مريانة، وهذا الوادي عمقه أكثر من اثني عشر ألف متراً، والشيء الذي يلفت النظر أن الأسماك في قيعان البحار ليس لها عيون إطلاقاً، والخالق العظيم خلقها لتعيش في قاع المحيطات، حيث الظلام دامس، فلماذا العين؟ وما فائدتها؟ ولذلك الأسماك التي تعيش في قاع المحيطات لا عيون لها، تتعرف إلى المحيط الخارجي عن طريق السمع، لا عن طريق البصر، والشيء الذي يلفت النظر أيضاً أن الإنسان كلما هبط في المحيط مسافة أكبر ازداد ضغط الماء عليه، فضغط الماء قد يحطم أكبر الغواصات، ولو أن غواصة اختل جهاز ارتفاعها -إذ في كل غواصة جهاز يعرف قبطانها ارتفاعها عن سطح البحر، أو بعدها عن سطح البحر- فلو اختل هذا الجهاز وهبطت أكثر من 200 متراً فإن ضغط الماء يحطمها، وقد يسأل سائل: كيف تعيش هذه الأسماك على أعماقٍ كبيرة جداً في البحار، إذا كان ضغط الماء كافياً لتحطيم غواصة أُنشئت من الفولاذ، فكيف تعيش هذه الأسماك؟ قال بعض العلماء: إن هذه الأسماك لها أجواف داخلية ممتلئة بمياه البحر، ولأن هذه الأجواف الداخلية الممتلئة بمياه البحر ينشأ فيها ضغط داخلي يكافئ الضغط الخارجي، فبهذا تعيش هذه الأسماك في قاع المحيطات، فهل هناك من تشبيه أروع لهذا الكافر البعيد عن الله الذي لا يصلي، والذي ما عرف الله عز وجل، والذي يعيش للذته، يعيش للحظته، يعيش لاقتناص اللذة، ولا قيمة للقيم عنده، فهذا الكافر في ظلمات بعضها فوق بعض.
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ ولذلك عندما حدثنا ربنا عز وجل عن سيدنا يونس قال:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾
[ سورة الأنبياء ]
ما هي الظلمات الثلاث؟ قالوا: هي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وهذا الكافر في ظلمات ثلاث؛ فهو في قاع المحيط، فوقه موج يعكس الأشعة، وفوق الموج موج، وفوق الموج سحاب. ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ﴾
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
يقول ربنا سبحانه وتعالى في بعض الآيات الأخرى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)﴾
[ سورة التحريم ]
العمل الطيِّب نورٌ
من خلال هذه الآيات في هذه السـورة يتضح أن العمل الطيب نور، وأن العمل السيئ ظلام، وهاتان الآيتان:
الآية الأولى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ الآية الثانية: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ بعض المفسرين يرون أن الآية الأولى تتعلق بأعمالهم الطيبة، لكنهم إذا جاؤوا يوم القيامة رأوها سراباً في سراب، وأن الآية الثانية تتعلق بأعمالهم السيئة، فأعمالهم الطيبة ما أرادوا بها وجه الله، بل أرادوا الدنيا، والشهرة، والسمعة، والمال الوفير، والثروات، فهذه الأعمال على أنها أعمال مدهشة لا قيمة لها يوم القيامة، الآن أعمالهم السيئة؛ عدوانهم على الناس، وأخذهم ما ليس لهم، واستعبادهم للناس.
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِيٍّ﴾ كيف أن المؤمن نوره يسعى بين يديه يوم القيامة، يسعد بهذا النور إلى الأبد، والكافر بما عمل من أعمال سيئة خسيسة، وبما اعتدى على أعراض الناس، وعلى أموالهم يرى عمله ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ﴾ فالنور واحد من عند الله عز وجل، فإما أن يكون لك قبس من هذا النور، فتكون مهتدياً، أو لا يكون لك من هذا النور قبس، فهذا هو الضلال بعينه، فالهدى لا يتعدد، وربنا عز وجل قال:
﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)﴾
[ سورة الأنعام ]
الحق واحد، والهدى واحد، وأما الباطل متعدد، ومتنوع، والضلالات أنواع، والانحرافات أنواع، أنواع ونِسب، لها أنواع كثيرة، وكل نوع له نسب، فالخط المستقيم خط مستقيم، لكن الخط المنحرف عن هذا الخط فيه انحراف بدرجة، وانحراف بدرجتين، وبخمس درجات، والانحراف منوع، عندنا خط منكسـر، وخط منحنٍ، وخط متعرج، وخط ملتوٍ، الانحراف مُنوَّع، ونسبي، ولكن الاستقامة واحدة، وذات مصدر واحد.
﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ﴾ الآن نضطر إلى أن نشير إلى أن الذكاء وحده لا يكفي، فالذكاء وحده قد ينفع في الدنيا، ولكن ذكاء الإنسان إذا قاده إلى أن يكفر بالله عز وجل، أو إلى أن يستعلي على الناس، أو أن يأخذ ما ليس له، فهذا ليس بذكاء، لأنه سوف يلقى الواحد الديان، ويدفع الثمن باهظاً، فإذاً يمكن أن تدمغ كل إنسان بعيد، مشرك، كافر، بأنه غبي، لأن ذكاءه أفاده في دنياه فقط، ولكن في آخرته لم يفده ذكاؤه ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ﴾ .
ثم يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)﴾
[ سورة النور ]
معنى: أَلَمْ تَرَ
فكلمة: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ومثيلات هذه الآية تشير إلى أن هذه الآيات تحت سمع الإنسان وبصره، وهذه الآيات بين يديه، وبإمكانه أن يراها، وإذا لم يرَ هذه الآيات فقد خسر خسارة كبيرة:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105)﴾
[ سورة يوسف ]
وربنا عز وجل يأمرنا أن ننظر:
﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)﴾
[ سورة عبس ]
وقال سبحانه:
﴿ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)﴾
[ سورة الطارق ]
وقال:
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)﴾
[ سورة الغاشية ]
فكلمة: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تشير إلى أنك لمَ لم ترَ حتى الآن؟
انظر تر: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾
من معاني التسبيح:
المعنى الأول: التسبيح لإتقان خلق الله:
ومن معاني التسبيح أنك إذا رأيت، أو إذا نظرت إلى أي شيء من مخلوقات الله تجده متقناً إتقاناً لا حدود له، صغير المخلوقات وكبيرها، وجليل المخلوقات وحقيرها، وأي مخلوق؛ نافعها، وضارها، لو نظرت إلى تشريح جسدك، وإلى بنية أجهزتك، وإلى تركيب حواسك لرأيت العجب العجاب؛ فهذا الطير كأنه يسبح الله سبحانه وتعالى، وهذه السمكة لجمال خطوطها، ولدقة أجهزتها، ولعظمة بنيانها إذا تأملت فيها دفعك هذا التأمل إلى تسبيح الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المعنى الأول.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ انظر إلى الشجرة كيف نمت من حبة، وكيف صارت شجرة، فمن جعلها في هذا الشكل الجميل؟ ومن جعلها تنمو بلا صوت، من جعلها تثمر، من جعلها تزهر، من جعلها تورق؟ وكيف أنك تستفيد من ورقها، ومن ثمرها، ومن زهرها، ومن خشبها؟ وكيف أنها تزين بستانك؟ انظر إلى الشـجرة، وانظر إلى العين، انظر إلى القلب، انظر إلى كل شيء، فهذا الشيء إذا تأملت فيه، ورأيت دقة بنيانه، وروعة صنعته، وإتقان خلقه تقول: سبحان الله! فهذا هو المعنى الأول من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ .
المعنى الثاني: كل شيء يسبّح بحمد الله:
والمعنى الثاني: أن كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى يسبح بحمده، والذي يؤكد المعنى الثاني قول الله عز وجل في آية أخرى:
﴿ يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾
[ سورة الإسراء ]
إذاً الطير تسبح، والزهرة تسبح، والحجر يسبح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إِنَّي لَأَعْرِفُ حجرًا بِمَكَّةَ ، كانَ يُسَلِّمُ علَىِّ قبلَ أنْ أُبْعَثَ ))
[ صحيح الجامع ]
والعلم الحديث يقول: كل ذرة فيها حركة، وفيها كـهارب، وإلكترونات، ومدارات، فهذا الشيء الذي تراه جامداً يتحرك، ويدور بسرعات مذهلة، ونظام الذرة يشبه نظام المجرة، إذاً الجمادات، والنباتات، والحيوانات كلها تسبح الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان الذي سُخرت له جميع المخلوقات، والذي سخر الله له من في السماوات والأرض كيف يغفل عن الله عز وجل؟ وكيف تسـبح الطير في الأجواء، والأسماك في البحار، والرياحين والأزهار، والأحجار، وهو في غفلة عن الله عز وجل!
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ وقد قرأت مرة كلمة في كتيب عن الطيران، في مقدمة الكتاب يقول المؤلف: إن أعظم طائرة صنعت حتى الآن لا ترقى إلى مستوى الطائر، وأساس الطائرة خفة في الوزن، وأداء مرتفع جداً في الطاقة، لأن السيارة حينما تتحرك تمشي على عجلات، فالوقود من شأنه أن يدفعها نحو الأمام، لكن الوقود في الطائرة من شأنه أن يرفعها كلها، فأن تدفع سيارة نحو الأمام تحتاج إلى جهد ولا شك، لكن أن تحمل سيارة، فهذا يحتاج إلى جهد كبير، فالطائر حين يطير ستاً وثمانين ساعة بلا توقف، إذ هناك طائر اسمه "بلاك بول" يطير ستاً وثمانين ساعة بلا توقف، وهناك طيور تهاجر من شمال الأرض إلى جنوبها، وتقطع مسافة تزيد عن سبعة عشر ألف كيلو متراً، وهناك طيور تهاجر مثلاً من الشام إلى إفريقيا، وحينما تعود كيف تهتدي إلى أوكارها، وإلى أعشاشها؟ إذا انطلقت إلى إفريقيا، لو انحرفت درجة واحدة لجاءت في مصر، ولو أنها انحرفت درجتين لجاءت في ليبيا، فكيف تأتي إلى الشام؟ وإلى الحي الفلاني، والبيت الفلاني؟ الطيور التي تعشعش في البيوت في دمشق مثلاً، وتهاجر في الشتاء، تعود إلى أعشاشها في الصيف المقبل، كيف تهتدي إلى الطريق؟ هذا من عظمة الله تعالى، وهذا الريش كيف أنه بدرجة من الخفة تفوق حد الخيال! فالطائر خفيف جداً، وريشه متماسك، وهذا الريش يتبدل، ففي عالم الطيران والطيور حقائق مذهلة، لا مجال لذكرها كلها الآن، لكن الله عز وجل يقول:
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ هذا الطائر حينما يعمل باستمرار إلى ماذا يحتاج؟ يحتاج إلى تبريد، ولذلك حينما يتنفس الهواء، الهواء يصل إلى أظلاف أرجله، نحن إذا تنفسنا الهواء يبقى في الرئتين، ولكن الطائر حينما يتنفس الهواء، فهناك شُعَبْ هوائية متغلغلة في كل جسمه حتى نهاية أرجله من أجل التبريد، فبنية الطائر بنية عجيبة جداً، وربنا عز وجل هكذا يقول: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ قال بعض العلماء: "الصلاة للإنسان، والتسبيح لغير الإنسان" ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ .
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)﴾
[ سورة النور ]
لله ما في السماوات والأرض ملكًا وتصرفا ومصيراً:
فمالك المُلك هو الله سبحانه وتعالى، وكل شيء يظن الإنسان أنه يملكه هو واهم، الملك لله الواحد القهار.
﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)﴾
[ سورة غافر ]
في الدنيا، وفي الآخرة، فهذا السمع ملك الله عز وجل، والبصر، والكليتان ملك الله عز وجل، ففجأة تتوقف الكليتان عن العمل بلا سـبب، وحتى الآن لا أحد يعلم ما السبب؟ إنه توقف مفاجئ في وظيفة الكليتين، فهاتان الكليتان اللتان تصفيان لك الدم، وأنت مرتاح، وتعمل في متجرك، أو معملك، أو مكتبك، أو مدرستك، أو حقلك، أو بيتك من دون أن تشعر، ولا يعرف قيمة الكليتين إلا من ابتلي بغسيل الكليتين في المستشفيات؛ يذهب إلى المستشفى، وينتظر الساعات الطويلة ليأتي الطبيب، ويضع هذه الإبر في شرايينه، ويبقى ساعتين أو أكثر، ويدفع مبالغ طائلة، ويتحمل عبئاً، ووقتاً، وجهداً، والكلية الصناعية حجمها كبير، ولها صوت، ووظيفتها غير كافية، ويبقى هناك عشرون بالمائة من المواد السامة في الدم لا تستطيع الكلية الصناعية أن تصفي هذه الكمية.
فالكليتان ملك الله عز وجل، والعين ملك الله عز وجل، وكل شيء تظن أنك تملكه فهو ملك الله عز وجل. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ .
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(44)﴾
[ سورة النور ]
العلاقة بين الهواء والماء:
وقد تحدثنا من قبل عن الهواء والماء، ولكن هناك علاقة بينهما، وفي هذه العلاقة مصير الإنسان، فالهواء من شأنه أن يتحمل بخار الماء، وتحمُّل الهواء لبخار الماء بنسب متفاوتة، فهذه النسب تتعلق بحرارة الهواء، فمثلاً لو أن متراً مكعباً من الهواء كانت حرارته 30 لتحمّل 150غ من الماء، فإذا برد الهواء تخلى عن بخار الماء الذي يحمله، وهذا مبدأ الأمطار، أشعة الشمس مسـلطة على مساحات شاسعة من الماء، وربنا عز وجل حينما جعل البحار نسبتها 71% من سطح الأرض، و29%يابسة، فهذه النسبة ليست عبثاً، فلولا أن مساحة البحار تعادل أربعة أخماس اليابسة لما أمكنت الحياة على اليابسة، فهذه المساحات الهائلة من البحار تأتيها الشمس، فتأخذ شيئاً منها على شكل بخار ماء، وقد تسهم الرياح الساريات بنقل جزء من ماء البحر إلى الهواء.
وعلى كلٍ: فالهواء يتحمل بخار الماء، والهواء هناك ساخن طبعاً، أشعة الشمس تسخن مياه البحر، فتتبخر، ويحملها الهواء، والهواء إذا سخن ارتفع نحو الأعلى، وكلما ارتفعنا 150 متراً تقل الحرارة درجة واحدة، فكلما ارتفع الهواء المحمل ببخار الماء نحو الأعلى برد، وإذا برد انعقدت السحب، فما السحب؟ إنها هواء مشبع ببخار الماء، برد الهواء، فتخلى عن جزء من بخار الماء، وهذا الجزء انعقد سحاباً، وبقي عالقاً في الهواء، فإذا برد أكثر فأكثر بلغ حد الندى، أي فرط إشباع، فيصبح السحاب قطرات من الماء، وهذا تبسيط جداً للأمطار، ولكن هناك نظريات أعقد، وأعقد من ذلك، وعلى كل فهذا الهواء يحمل بخار الماء، وكلما زادت درجة الحرارة ازدادت قدرته على تحمل بخار الماء، وكلما قلت هذه الدرجة تخلى عن الماء الزائد.
معنى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا
يقول ربنا عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ فمعنى يزجي أي يسوق، السحاب يتشكل فوق البحار، فمن يسـوقه إلى اليابسة؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وكيف يسوقه؟ عن طريق الرياح، فالله سبحانه وتعالى يبعث رياحاً تسوق هذه السحب إلى الأراضي العطشى.
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ فبخار الماء العالق في الهواء لا تراه أنت، لكن لأوضاع متعددة، تتألف هذه الذرات فيما بينها، وتشكل السحب، وهذه السحب تحمل أطناناً من الماء، فالسحابة الواحدة التي طولها سبعة كيلو مترات، وارتفاعها أربعة أو خمسة كيلو مترات، هناك من يقدِّر أنها تحمل أربعين طناً من الماء، ماء يسير في الهواء، يسوقه الله حيث يشاء، فالله عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ بخار الماء له حالات، هناك حالة لا يُرى بها، وهو عالق في الهواء، وحالة يكون سحاباً، وحالة يصبح ماءً، وهذا مبدأ الأمطار، فإذا قلنا: هبط في دمشق 30 ملم، أي 3 سم، فلو أن هذه الكمية عُممت على القطر بحساب بسيط، هناك خمسة مليارات طناً من الماء نزلت إلى القطر، وإذا سمعنا بالأخبار أنه بالمكان الفلاني نزل 30 ملم، فهذه مياه كثيرة جداً.
السحب الركامية: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ إنّ علماء الجغرافيا يعرّفون السحب الركامية بأنها السحب الممطرة، ومياه الأمطار لا تنعقد إلا من السحب الركامية، قال ربنا عز وجل: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ﴾ فهذا الوصف غريب، لكن الذين ركبوا الطائرات اليوم يرون السحب، وكأنها جبال، والطائرات الآن تطير على ارتفاع 40000 قدم، وهذه المسافة فوق السحاب، فلو أطل الراكب، ونظر إلى السحاب من نافذة الطائرة يرى السحاب وكأنه جبال بشكل دقيق، وهذه الصورة عرفها الإنسان بعد أن ركب الطائرة.
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ الودق هو البرق، فهذه السحب بعضها مشحون بالكهرباء الموجبة، وبعضها مشحون بالكهرباء السالبة، هناك سحابة واحدة بعضها مشحون سالباً، وبعضها مشحون موجباً، وهناك سحب متنوعة، بعضها مشحون شحنة سلبية، وبعضها مشحون شحنة إيجابية، إذا تلاقت هذه السحب يحدث ما يسمى بالانفراغ، هذا البرق هو من نتائج تلاقي السحب ذات الشحنات المتفاوتة، والبرق يقولون إن حرارته 40 ألف درجة..
وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد
﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ البرق: أولا: حينما تلتقي السحابتان ذات الشحنات المتباينة السلبية والإيجابية يحدث شرارة كهربائية، هذه الشرارة هي البرق، حرارتها 40 ألف درجة، هذه إذا أصابت شيئاً أحرقته، وتسمى الصاعقة.
فما هو الرعد؟ حينما تُسيّر هذه الشرارة الهواء يتمدد، وتُحدث وراءها فراغ، وحينما يعود الهواء ليملأ هذا الفراغ، فصوت ارتطام الهواء بعضه ببعض هو ما يسمى بالرعد، وأصوات الرعد كما تعلمون أصوات مخيفة.
﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ يعني جبال، حينما تنعقد حبة المطر، وإذا انعقدت في جو بارد تصبح حبة من البرد، وحبة البرَد قد تصل إلى حجم البرتقالة، ولولا لطف الله عز وجل في تمريرها من خلال طبقات الهواء الساخن فتذوب لكان البرد مصيبة من أكبر المصائب، ولكن الله عز وجل يلطف هذه الحبة من البرد حتى تغدو في حجم حبة الحمص، أو دون ذلك. على قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ فربنا عز وجل عبّر عن عظم حجم الماء الذي ينزل من السماء بكلمة: ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ وعبّر عن عظم الكمية بكلمة جبال، وعبر عن شكل السحب الركامية، وهي بعضها فوق بعض، والذي يراها راكب الطائرة، وكأنها جبال، فتشبيه السحب بالجبال من زاويتين، من زاوية حجم الماء الذي تحمله، ومن زاوية الشكل الذي تبدو للناظر فيه.
شيء آخر، نهر من أنهر العالم هو نهر الأمازون، غزارته تساوي 300 ألف متراً مكعباً في الثانية، وهذا النهر ليس له نبع إنما هو مياه الأمطار، تتجمع في بعض الوديان، فهذا نهر واحد من آثار مياه الأمطار كثافته في الثانية 300 ألف متراً مكعباً، مع أن هذا النهر لا ينبع من الأرض، إنما تتجمع مياهه من السطوح التي تنحدر منها الوديان، إذاً فتشبيه ربنا عز وجل حجم الماء بقوله: ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ هذا تشبيه بليغ، حيث إن حجم الماء يشبه حجم الجبال، وإن شكل هذه السحب الركامية يشبه الجبال إلى حد بعيد.
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فلو اطلعت على النشرة الجوية تقرأ دمشق 30 ملم، ودرعا 17، وحمص 50، وطرطوس 70، وهنا 3 ملم، وهناك 2 ملم، فتجد تفاوتاً، فربنا عز وجل يصيب به من يشاء، ويصرفه عن من يشاء، وربنا عز وجل جعل هذا الماء، وسماه غيثا، لأنه يغيث الأرض.
﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ فهذا البرق من شدة اللمعان ربما يأخذ البصر، وهذه إشارة إلى أن الضوء المبهر من شأنه أن يؤذي الشبكية ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ ومن النصائح الطبية ألاّ يديم الإنسان النظر إلى منبع ضوئي متألق، لأن هذا يسبب له تخرشاً في الشبكية.
﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ وفي ختام هذا الدرس الذي أتمناه؛ أن أكون قد وضحت لكم كيف أن نور الله عز وجل إذا سرى في قلب المؤمن يجعل حياته سعيدة؛ نور في عقله، ونور في قلبه، ونور في لسانه، ونور في جنانه، ونور في عمله، ونور بين يديه، ومن خلفه، ومن أمامه، ومن ورائه، وكيف أن الكافر إذا ابتعد عن الله عز وجل، وانقطع عنه تصبح حياته ظلمات بعضها فوق بعض، فأفكاره فيها ضلال، وأعماله فيها أذى، وكلامه فيه تفريق، وفيه جرح، فهو في ظلام، لأنه يخبط خبط عشواء، فربنا عز وجل وصف المؤمنين، وكيف أن الله يقذف النور في قلوبهم، ووصف الكفار، وكيف أن أعمالهم الصالحة كسراب، وأعمالهم السيئة كظلمات بعضها فوق بعض، وكيف أن هذا الكافر ينتهي به الأمر إلى الشقاء الأبدي، ثم لفت نظرنا إلى بعض الآيات الكونية التي يمكن أن نرقى بها إلى الله عز وجل؛ فوصف ربنا سبحانه وتعالى ظاهرة المطر بشكل دقيقٍ دقيق.
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني أن أضيف على تفسير هذه الآيات أشياء في الدرس القادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.