- الفقه الإسلامي / ٠2العلاقات الاسرية
- /
- ٠1الزواج
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآداب الإسلامية التي تفرق بين النكاح والسِفاح
أيها الإخوة الكرام، لازلنا في دروس النكاح، ومع الدرس السادس، وموضوع الدرس اليوم، الآداب الإسلامية التي تفرق بين النكاح والسِفاح.
نظراً لقدسية النكاح، ولأن عقد الزواج من أقدس العقود التي يبرمها البشر، لذلك في الإسلام آدابٌ كثيرة تفرق السِفاح عن النكاح، فأول هذه الآداب:
1 – إعلان النكاح
إن الفرق بين النكاح والسِفاح، أو من الفروقات الدقيقة بين السِفاح والنكاح أن النكاح معلن، وأن السِفاح غير معلن، لذلك روى الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( أَعْلِنُوا النِّكَاحَ ))
لو أن النكاح غير معلن لاشتبه بالسِفاح، ولاشتبه بالزنا، والإمام مالك رحمه الله تعالى يرى أن الإعلان من فرض النكاح، أحد فرائضه لا أحد فضائله، يقول ابن عبد البر القرطبي: " ومن فرض النكاح عند مالك إعلانه لحفظ النسب، ومن إعلان النكاح الولي، والصداق، أيضاً، ونكاح السر لا يجوز، ويفسخ قبل الدخول وبعده، إلا أن يُعلن قبل أن يُعثر عليه، وإن أسَّر النكاح ولم يُنشر ولم يُعلن به، ثم أُعلن في حالٍ ثانية وأُظهر صح، ولم يُفسخ ".
أرأيتم أيها الإخوة كيف أن عدم إعلان النكاح يوجب فسخه وإلغاءه، لأنه يشتبه بالسِفاح، يشتبه بالزنا، لذلك أنا أُرجِّح إذا زوج أحد ابنته، وقد لا تكون يده طليقةً في إنفاق المال، لكن لابد من حفل ولو كان متواضعاً، ولو كان في بيت، لابد من حفلٍ، وهذا الحفل أحد أسباب إعلان النكاح، " لقد زوجت ابنتي من فلان "، فالفرق الدقيق بين النكاح والسِفاح هو الإعلان، وقال الإمام ابن القيم: " وشرط الشارع الحكيم في النكاح شروطاً زائدةً عن مجرد العقد، من هذه الشروط: إعلانه، إما بالشهادة ـ شهود ـ أو بترك الكتمان، أو بهما، أو اشتراط الولي، ومنع المرأة أن تليه وحدها ـ أن تبرمه وحدها ـ والندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وأوجب فيه المهر، ومنع المرأة أن تهب نفسها لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم ".
هل لاحظتم أيها الإخوة الكرام أن كل هذه الآداب من أجل أن يكون هناك فرقٌ واضحٌ، وشاسعٌ، وبيّنٌ، وصادقٌ، بين النكاح والسِفاح ؟ النكاح معلن، النكاح معه موافقة الولي، النكاح فيه وليمة، النكاح فيه حفل، النكاح فيه شهود، هذا كله من إعلان النكاح.
يقول بعض العلماء: " وسر ذلك، أنه في ضد ذلك والإخلال به ذريعةٌ إلى وقوع السِفاح بصورة النكاح ".
يمكن أن يقع الزنا على شكل نكاح، وما أكثر الذين يحتالون على الشرع، فمثلاً يمكن لإنسان أن يضع أمامه في دكانه سجادة، وهو من أكبر المرابين، فيأتي المستقرض بالربا فيشتري هذه السجادة بألف ليرة، نسيئةً، ثم يبيعها ديناً نقداً بثمانمئة ليرة، بحسب الظاهر هذا عقد بيع، الأول نسيئة والثاني نقد، وفي العقدين إيجابٌ وقَبول، لكنه الربا بعينه، لكن بصورة بيع وشراء، فقد اشترى السجادة بألف ديناً، وكُتبت عليه في الدفتر، ثم باعها للتاجر بثمانمئة ليرةٍ نقداً، الذي حصل أنه استقرض ثمانمئة ليرة، وكُتبت عليه ألف ليرةٍ رباً، والشكل بيع، إذاً ممكن أن تجري علاقات سِفاحٍ على شكل عقود نكاح، لذلك وضع الشارع الحكيم شروطاً كثيرةً، ودقيقةً، وصارخةً، للتفريق بين النكاح والسِفاح، لذلك ورد في أن الزانية، هي التي تزوج نفسها "، فإذا أرادت امرأةً أن تزني، وأرادت أن تعطي هذه الجريمة المعصية الكبيرة في الشرع طابعاً شرعياً، تقول لمن يزني بها: زوجتك نفسي، وتسمي هذا الذي تأخذه بعد قليل هو المهر، فإذا انتهى، قال: طلقتك، وانتهى الأمر، فهو عملياً بيت دعارة يتم السفاح فيه على شكل عقود نكاح، لكن أين الولي ؟ أين إعلان هذا الزواج ؟ أين الوليمة، أين الشهود، وليمة، وشهود، وإعلان، هذا كله، يفرِّق بين النكاح والسِفاح.
تسجيل عقود الزواج في الدوائر الرسمية
فأنا لا أكتم إنسانا سألني قبل أشهر أنه تزوج امرأةً دون أن يُعلِم أباه، ولا أخاه، ولم يدري أهله، وجاء برجل عقد العقد، فكلما أصبح الشيء أقرب إلى السر أصبح أقرب إلى السِفاح، لِمَ لَمْ تُعلن ؟ لِمَ لَمْ تُسجل هذا العقد في الدوائر الرسمية ؟
وأحياناً أنا أُسأل عن موضوع كتاب شيخ، سبحان الله ! أُجيب عن هذا التساؤل: الآن أنت هل ترضى أن تشتري بيتك، وأن تدفع ثمنه سبعة ملايين ليرة مقابل أن تأخذ مفتاحه ؟ إذا كنت ترضى أن تفعل هذا فأجرِ كتاب شيخ، لمَ لا تدفع الثمن إلا بعد أن يُسجل في الدوائر الرسمية ؟ لأن عقود البيع الآن لا تكون ثابتةً إلا في الدوائر الرسمية، ( أي في الطابو )، أما من قبل خمسين عاما، أو قبل مئة عام كانت هناك علاقات أُخرى، يكفي أن تدفع الثمن، وأن تأخذ مفتاح البيت، فقد تملَّكته، الآن مفتاح البيت ليس له قيمة إطلاقاً.
كذلك حينما أُصغي إلى الأسباب لا أراها مقنعة، بدعوى الاستعجال، ولكن لا يوجد إجراء حكومي أسهل من عقد الزواج، ليس فيه روتين أبداً، في يوم واحد ينتهي الأمر، لا أقبل أبداً، ولا أرى سببا مبررا أو مسوغا بإجراء عقد خارج المحكمة، لماذا ؟
في الحقيقة حينما وافقوا على الزواج من هذا الشاب توقعوا أن يُطلقها، فلئلا تسجَّل عليها طلقة أو تطليقة فقد أُجري العقد خارج المحكمة، يا سبحان الله ! أتوقعت الطلاق قبل أن تُزوج ؟ هذا شرع الله عزّ وجل.
طبعاً أنا لا أقول ـ دققوا ـ: إن العقد خارج المحكمة باطل، لا بل إنه ضعيف، فهو غير موثق، والقوانين تُحرم ذلك، والذي يُجري العقد يُحاسب، والعقد طبعاً مثبَّت، لكن يُحاسب الذي يجري عقداً خارج المحكمة، أنا أنصح إخواننا الكرام أن يتقيدوا بالأُصول الشرعية والقانونية في تثبيت عقود تزويج بناتهم.
لا أنسى مرةً كنت عند أحد أصدقائي القضاة، قضاة التحقيق، وكنت جالساً عنده، وكان يُحقق في جريمة، والجريمة خطيرة، وأنا مستمتع بأسلوب الاستجواب، فجأةً فُتح الباب، وأطل شاب، فقال له: تعالَ، استقدمه القاضي، وترك ما هو فيه من عمل في التحقيق في الجريمة، وقال له: متى تزوجتها ؟ قال له: قبل كذا وكذا، فقال له: ما اسمك يا بني ؟ وما اسمها ؟ ثم أخذ منه تصريح أملاه للكاتب، ثم صرفه مودعاً له، هذا القاضي خاف أن أنتقده في نفسي على هذا التصرف، فأنت الآن تحقق في جريمة، فما الذي جعلك تبتعد عن هذا الموضوع الخطير لترى شاباً أطل برأسه من الباب فاستقدمته، وسألته عن اسمه وعن اسم زوجته، وعن موضوع العقد، وعن تاريخه ؟ فقال لي وحده مبادراً: هذا متزوج بامرأةٍ بطريقةٍ غير مشروعة، خارج المحكمة، فخفت أن يُهمس في أذنه أن أنكر العقد، فاستقدمته بتلطُّف، وأخذت منه إقراراً، بزواجه وبتاريخ زواجه، وباسمه وباسم زوجته، لئلا ينكر، لأنه إذا كان العقد خارج المحكمة فالإنكار سهل جداً، ويمكن أن يقول: ليست زوجتي، ولا أعرفها، وبهذا دخلنا في متاهات القضاء ثلاث سنوات لإثبات هذا العقد، إذا دُعي لحلف اليمين، فقد جاء الفرج، إذا كان الشخص غير متديِّن يقول: جاء الفرج، أحياناً لا يكون معك إلا اليمين، كانعدام الوثائق، وهذه يسمونها اليمين الحاسمة، فإذا لم تكن هناك وثائق، وليس هناك إلا اليمين الحاسمة، ودعي هذا الخصم ضعيف الإيمان الذي لا تحكمه قيم إلى حلف اليمين يحلف، وانتهى الأمر.
فلذلك أيها الإخوة، أرجو الله سبحانه وتعالى في موضوع الزواج، وهو موضوع دقيق جداً، وقد سمعت عشرات الحوادث، أنه هكذا طلب العريس، يريد كتابا خارجيا، خافوا أن يطالبوه بكتاب رسمي، فيذهب ولا يرجع، فوافقوا على إجراء كتاب خارجي، ثم مضى على العقد عدة سنوات، ثم اختفى، وبذلك دخلنا في متاهة، فقد حدث حمل، والشاب اختفى، والعقد غير رسمي، وإثباته يحتاج إلى محامٍ، وإذا كان بين من كتب هذا الكتاب صلة أو مودة معهم يدخل السجن، فالذي يكتب كتابا خارج النظام يُحاسب، وقد يُسجن، فهو خاضع للأحكام الجزائية لا المدنية، فيقع في حرج، إن أرادوا أن يُثبتوا هذا العقد يُقال لهم: من كتب هذا العقد ؟ أصبح القريب مسئولا.
لذلك أنا أنصح إخوتنا الكرام بالبعد عن هذه الأساليب الملتوية، التي لا تثبت الحق، لئلا يُظن أنني أقول: إن هذا العقد غير صحيح، لا، لكنه ضعيف، ووسائل تثبيته ضعيفة، كما لو أنك اشتريت بيتا من غير طابو، قال لك: خذ هذا المفتاح، واسكن فيه، أنت وحظك، يمكن بعد حين يقول لك: هذا البيت بيتي، وليس لك شيء عندي، أنت مغتصبه.
الحقيقة أنّ موضوع الشرع ـ لآن دخلنا في موضوع آخر ـ هذه الأحكام التفصيلية في الشرع هدفها أن تكون متفرغاً لعبادة الله، لأن خبرا واحدا قد يزعج، فإذا الإنسان أقرض قرضا، ولم يأخذ الوصل، وهذا الإنسان توفى فجأةً في حادث، فهو وحظه، إما أن يعترف الورثة له، أو لا يعترفوا، وإذا لم يعترفوا فليسوا مؤاخذين، فالآن يمكن لإنسان يتوفى والده وكل من قال له: لي مع أبيك مليون، فهل يعطي المليون ؟ هذا كلام غير صحيح، فمن الممكن أن لا يعترف الوريث له بكل هذا الذي يقوله، فلذلك القرض أسجله، وعقد الشراكة أسجله.
شارك أحدهم آخر في موضوع تجاري، ورأس المال كان ثلاثين ألفا، دفع النصف، قال لي: في السنة الأولى أعطاني خمسة آلاف، فقلت: نعمة فقد ربح، وأنا دافع عشرة آلاف أعطاني خمسة، وفي السنة الثانية أعطاني كذلك خمسة، وفي السنة الثالثة قال له: أين الربح ؟ فقال له: أي ربح فقد أقرضْتَنا عشرة وأخذتها، ثم أصبح قيمة المشروع ستة ملايين، فقد كان هذا في أيام الركود الاقتصادي، وخلال أربع أو خمس سنوات، الأسعار اختلفت اختلاف كبيرا، وذلك لعدم وجود عقد.
أقول لكم كلمة أبلغ من ذلك: إذا اتفق الإنسان مع إنسان بلا عقود موثقة، وقد أغراه الشيطان أن يغتصب هذا المشروع له، من الذي أعانه على ذلك ؟ الطرف الآخر، ليس الطرف الآخر الذي خسر حقه في هذا المشروع بأقلَّ إثماً من الذي اغتصبه، لماذا ؟ لأنك لو وثَّقتَ له العقود لما فكَّر أن يغتصب هذا المشروع منك.
لذلك أنا أرجو إخواننا الكرام في كل شيء تجاري، الذي اتفقتم عليه سجلوه في عقد، وسجلوه في محكمةٍ البداية، هذا العقد حصن، لك ولشريكك، فلا تفكر أبداً، وتقول: لماذا محكمة البداية ؟ لأنه إذا لم يوجد توثيق في محكمة البداية كان بإمكانه أن يُنكر التوقيع، فإذا أنكر التوقيع دخل المتنازعان في قضايا ثماني سنوات في المحاكم لإثبات التوقيع ورأي الخبرة، ثم خبرة ثنائية، وثلاثية، ورباعية، وخماسية، ثم تصبح القضية شائكة، أما إذا سُجل العقد أمام قاضي محكمة البداية فقد انتهى الأمر، ولا يمكن إنكار التوقيع لوجود نسخة منه محفوظة في المحكمة.
أنا أتمنى عليكم في عقودكم، في شرائكم، في بيعكم، في شراكاتكم، أن توثقوا هذه الاتفاقات بعقود، وأن توثقوها في السجلات الرسمية، لأن هذا حصنٌ لك ولأخيك، فأنت تنام مطمئن البال، ولا تسمح للشيطان أن يغري أخاك باغتصاب حقك، أما إذا أهملت تسجيل العقود، وخطر على بال شريكك أن يغتصب حقك كنتَ أنت الذي أغريته بهذا، والعوام لهم كلمات لطيفة، يقولون لك: " المال الداشر، يعلم الحرامي السرقة "، فدائماً وثِّق القرض بوصلٍ.
قال لي شخص قد أخذ من إنسان ـ والقصة قديمة من اثنتي عشرة سنة ـ ستمئة ألف، وقال له: اكتبْ لي وصلاً، أحب أن يصرف المال، ولم تكن الصرافة ممنوعة يومئذ، فقال له: الآن بعد الظهر تعال وخذ المبلغ، قال لي: وأنا قادم بعد الظهر رأيت نعوته على الجدران، قال لي انخلع قلبي، وفقدت المال، احضروا لي إنسانا يملك أن يعيش بعد ساعة، لا أحد يملك ذلك، لذلك توقيع الإيصال، أو توقيع السند، وكتابة العقد لا يعني أنك لا تثق بهذا الإنسان، لكن هذا من أجل ألا يأتيه ملك الموت فجأةً، عندئذٍ تصبح المشكلة مع الورثة، والورثة قد لا يصدقون.
يقول بعض العلماء: " لو أن امرأةً قالت لرجل: أنكحتك نفسي، أو زوجتك نفسي، أو أبحتك مني كذا وكذا، فلو انتفت بهذا جريمة الزنا لكان هذا من أيسر الأمور ".
فالقضية خطيرة، زواج، وأولاد، وحقوق، وميراث، فهذا عقد زواج وبكلمتين، أعوذ بالله، فهو يحتاج إلى قاضٍ، إلى مأذون، وإلى إيجاب، وإلى قبول، وإلى شهود، وإلى مهر، وإلى إعلان، وإلى دخل أحياناً، وإلى خطبة، وإلى وليمة، هذا كله من أجل أن يفترق السِفاح عن النكاح.
فضل عقود القران في المساجد
ثمة شيءٌ يلفت النظر، هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرشد أُمته إلى أن يُعقد النكاح في المساجد، فقد روى الإمام الترمذي عن عائشة رضي الله قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ ))
لماذا ؟ لأن الناس يجتمعون جميعاً يوم الجمعة في المسجد، ما الذي يمنع أن نقول: زوجنا فلان من فلانة ؟ وسمعت أن بعض المساجد تفعل هذا، وهذا الشيء وفق السنة في المسجد، إعلان تزوج فلان بفلانة، ولو كان العقد أُجري بعد حين، أما ما الذي يمنع أن يُنشر هذا في المسجد ؟ والآن هذه البطاقات تشبه ذلك، ودعوة الناس إلى حفل في قاعة عامة يشبه ذلك، أو في قاعة ملحقة بالمسجد، والله هذا شيء جميل جداً، على كلٍ لابد من الإعلان.
بعض العلماء يقول: " معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ ))
إما لأنه أدعى إلى الإعلان، أو لحصول بركة المكان، وينبغي أن يُراعى فيه فضيلة الزمان ".
أدعى للإعلان، وحصول بركة المكان، وبركة الزمان، لأن الناس يجتمعون يوم الجمعة، وهو يوم فضيل، فيه ساعة مباركة، والمساجد خير بقاع الأرض، فالمساجد أدعى للإعلان، وأشد تحصيلاً لفضيلة المكان، ولفضيلة الزمان.
وقال بعضهم: " يُستحبُ مباشرة عقد النكاح في المسجد، لكونه عبادة، وكونه في يوم الجمعة، وهو إما تفاؤلاً بالاجتماع، أو توقعاً لزيادة الثواب، أو لأنه يحصل به كمال الإعلان ".
روى الحافظ أبو بكر عبد الرزاق عن صالح مولى التوأمة قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جماعةً في المسجد فقال:
((ما هذا ؟ قالوا: نكاح، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا النكاح ليس بالسفاح ))
لأنه في مسجد، ولأنه معلن، وسبحان الله ! الذي يلفت النظر أنّ الإنسان إذا كان شارداً، وأراد أن يمشي مع فتاة، لو أنك سِرْتَ خلفه لاضطرب، لو أن طفلاً صاح بكلمةٍ لارتعدت فرائصه، أما حينما يخطب شاب ابنتك، ويُعقد العقد، ويأتي ليزوركم في البيت، يجلس الشاب وابنتك إلى الساعة الثانية عشرة، وأنت مطمئن، لأنها زوجته، فالعمل الشرعي مريح، وفيه فخر، وليس فيه خجل، أو فيه شعور بالذنب، وأقول لكم: إنّ أية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان لها قناة مشروعة، قال لي واحد: أجلس معها في الحديقة، قلت له: اخطبْها، واعقد العقد، وأحضرها إلى بيتك ولا تحتاج إلى حديقة.
وإذا لم يكن هناك مسجدٌ في مدينةٍ أو قرية، وإن كان المفروض أن يكون في كل تجمعٍ إسلاميٍ مسجدٌ.
كيف أن الناس بحاجة ماسة إلى الماء، فلا يوجد قرية راقية ليس فيها مشروع ماء، تجد مستودعًا عاليًّا، وبئرًا ومستودعًا، والمياه تصل إلى البيوت، الماء حاجة أساسية، والطعام حاجة أساسية، أحياناً مهما كانت القرية صغيرة ففيها سمان يبيع حاجات أساسية، فحاجة الناس إلى المسجد ليصلوا فيه، ليتلقوا العلم فيه، ليتعارف بعضهم على بعضٍ فيه، ليتعاونوا فيه حاجة أساسية، فالآن الحمد لله أصبح المسجد مركزًا إسلاميًّا، ففيه تؤدَّى الصلوات، وتعقد فيه مجالس الذكر، ومجالس العلم، ويعلم فيه الصغار قراءة القرآن، ويعلم فيه الكبار أُصول الدعوة، وفيه مكتبة يرتادها روَّاد المسجد، قد تُحل بعض المشكلات الحيوية في المسجد، قد يُطبب الإنسان في المسجد، قد يعقد الزواج في المسجد، قد تحقق مصالحه في المسجد، هذا المسجد مكان أساسي في حياة المسلمين، لذلك النبيّ الكريم حينما هاجر إلى المدينة المنورة أول شيءٍ فعله فيها أنه بنى المسجد مكانًا للاجتماع فيه.
قرأتُ في كتب الفقه في بعض المذاهب، لا في كل المذاهب: أنه إن لم يكن في القرية مسجد، يجوز أن يُبنَى المسجد من أموال الزكاة.
وهذه حالة نادرة جداً، لأنه (
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء )، لكن للضرورة الماسة لوجود مسجدٍ في القرية، إن لم يكن هناك مسجد، هناك رأيٌ لا أقول: إنه قوي، لكنه ضعيف، لكن له معنى، أن يُبنى المسجد في القرية بشكلٍ حتمي، لأنه بالتعبير الحضاري هو مرفق حيوي لسلامة النفس البشرية، لا يوجد إنسان له مسجد يؤُمه ويرتاده، لا يوجد إنسان له منهل ينهل منه إلا وله أخلاق خاصة، أخلاق عالية، وفهم، وانضباط، وأدب، هذه كلها من بركات المسجد، والآن الحمد لله توجد قاعات منضبطة يعقد فيها عقود النكاح، وهذه القاعات واسعة، والأمور فيها مُيسَّرة، وهذا الشيء لم يكن من قبل، فقد كانت البيوت صغيرة ولا تسع.
2 – وجود الشهود في النكاح
الشيء الثاني في عقد النكاح: وجود الشهود في النكاح، فقد روى الإمام الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا نكاح إلا بوليٍ وشاهدي عدل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ))
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
(( الْبَغَايَا اللاتِي يُنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ))
هذا كلام دقيق، فالتي تُنكح نفسها من غير بينة، ومن غير شهود، من غير ولي هي ليست بغيًّا، لكن كأنها بغي، تشديداً سماهن النبيّ عليه الصلاة والسلام بغايا تشديداً على الولي وشاهدي العدل.
ويقول أحد العلماء في شرح هذا الحديث: " المراد بالبينة، إما الشاهد، فبدونه زنا عند الشافعي ".
فالإمام الشافعي يرى أن عقد النكاح من دون الشاهد زنا، وكذلك عند الإمام أبو حنيفة، نكاحٌ بلا شهود يعدُّ زناً.
و يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: " لا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ".
كل هذا الدرس من أجل أن نفرِّق بشكلٍ بينٍ صارخٍ بين السفاح والنكاح.
ويقول صاحب الهداية: " اعلم أن الشهادة شرطٌ في باب النكاح، لقوله صلى الله ليه وسلم:
((.... لا نِكَاحَ إِلا بِشُهُودٍ... ))
3 – خُطبة النكاح
الآن هناك شيءٌ آخر من شروط إعلان النكاح، خُطبة النكاح، الخِطبة غير الخُطبة، الخِطبة أن تخطب الفتاة، أما الخُطبة أن تلقي خطبةً، فمن شروط إعلان النكاح خُطبة النكاح، لماذا ؟ هل من المعقول أن يقف إنسان في غرفة وحيداً ويخطب ؟ ليس هذا معقولا، من لوازم الخطبة وجود جمهور، وإلا يكون مجنونًا، فالخطبة تقتضي وجود جمهور يحضر هذا العقد، لذلك روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَلَّمَنَا خُطْبَةَ الْحَاجَةِ:
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون[، ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[ ))
ففي كلّ عقد قران لا بدَّ من خطبة، والآن الحمد لله الشيء متوافر، فلا يوجد عقد قران الآن إلا وفيه كلمة يلقيها أحد العلماء، وهذا شيء جميل جداً، بل إنَّ عقود القران أصبحت مجالاً للدعوة إلى الله.
هناك علماء كثيرون وأنا أحمد لهم ذلك توسعوا في موضوع الخطبة، فجعلُّوها تعريفاً بالله عزَّ وجل، لأن أناساً كثيرين ممن يحضرون هذه العقود قد لا يرتادون المساجد، فصارت عقود القران مناسبة للدعوة إلى الله، فعقد قران يحضره تقريباً خمسمئة شخص، وفيه مديح لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وفيه خطبة تلقى على مسامع الناس، فيها تعليم، وتوجيه، وفيها إشارة إلى العقد الذي تم في هذا المكان.
يستحب في هذه الخطبة أن تكون قبل عقد القران، وتلاحظون أن الذي يأتي إلى مكان العقد ليسجِّل العقد، أولاً يبدأ بخطبة، ثم يستمع إلى إيجاب الولي، وقبول الزوج، ويُشهد الشاهدين، ثم يذهب لسماع إقرار الفتاة.
وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا حضر عقد النكاح فلم يُخطَب فيه بخطبة رسول الله قام وتركهم.
فمن لوازم عقد النكاح الخطبة، وقال بعض العلماء في بيان حكمة هذا التوجيه النبوي الكريم: " إن الخطبة مبناها على التشهير، وجعل الشيء بمسمع ومرأى الجمهور ".
ففي بعض الأيام يقول لك: أبارك للعروسين زواجهما، أو يقول لك: بارك الله لهما وعليهما وفيهما، بارك اللهم بهما، وأنجب منهم الكثير الطيب، وجعل كلاً منهما قرة عينٍ للآخر، واللهم ألهمهما السداد والرشاد، اللهم بارك لهما، وعليهما، وفيهما، اللهم ارزقهما الذرية الطيبة، اللهم وفق بينهما كما وفقت بين سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وزوجاته الطاهرات.
كلام طيب، وكل الناس سمعوا أنه هنا عقد قران، وفلان تزوج من فلانة، هذا الذي يبعد الموضوع عن السفاح.
شيء آخر، إذا أحبَّ أحد أن يشتري كأسًا من العصير فهل من اللازم أن يخطب ؟ لا، ليس من المعقول، فهل من اللازم أن نقول له: إيجاب وقبول، وأحضر الشهود، كذلك هذا ليس من المعقول، طبعاً الأئمة قالوا: " عقود الشراء إن كانت في الخسيس لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، تحتاج إلى المناولة، وهي العقد، المعاملة، أو المناولة، أما العقود الغالية، كبيت بثمانية ملايين فهو يحتاج إلى عقد، وإلى إيجاب، وإلى قبول، وإلى عقد مكتوب وإلى شاهدين، فمعنى خطبة، أي شيء مهم، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام قد أرشدنا إلى خطبة النكاح، معنى ذلك أن النكاح شيء مهم.
4 – الوليمة
ومن الأشياء التي أرشد النبي عليه صلى الله عليه وسلم إليها ليفترق النكاح عن السفاح، هي الوليمة، وليمة العرس، الآن هذا التوجيه النبوي ضعف شأنه، واستبدل بهذه الضيافة، أما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(( أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ))
وأحياناً في بعض الأعراس وفي بعض عقود القران يعقَد على وليمة، وهذا أقرب إلى السنة.
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ، فَمَكَثْنَا يَسِيرًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَهْيَمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: مَا سُقْتَ إِلَيْهَا ؟ قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ؟ قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاة ))
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه، بقوله: " الوليمة حقّ "، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:
(( أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ))
حينما استخدم أو استنبط الحكم أن الوليمة حق في العرس كان الاحتجاج بهذا الحديث: "
(( أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ))
وذكر الإمام أحمد عَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعُرْسِ مِنْ وَلِيمَةٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيَّ كَبْشٌ، وَقَالَ فُلَانٌ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ ذُرَةٍ ))
أي إنه لا بد من وليمة، ويبدو أنه سيدنا علي كان فقيراً جداً، فعجيب كيف زوّج النبي ابنته لعليّ وهو فقير !! دققوا في هذا الكلام، ما كان يملك ثمن وليمة، تزوج بنت رسول الله، وقد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:
(( فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي ))
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:
(( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَدَلًّا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ فِي قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا … ))
ومع ذلك زوّجها من ابن عمها الفقير الذي لا يملك ثمن وليمةٍ يولم بها، لذلك قال سيدنا سعد: عليَّ كبشٌ، وقال آخر: عليَّ كذا وكذا من الذرة، حتى اجتمعت لوازم الوليمة.
يقول الإمام النووي: " اختلف العلماء في وليمة العرس، أهي واجبةٌ أم مستحبة، والأصح عند أصحابنا ـ في المذهب الشافعي ـ أنها سنةٌ مستحبة، والأمر بها أمر ندبٍ لا أمر وجوب ".
قد لا يملك الإنسان ثمن الوليمة، فالأمر للندب، أي مستحبة، لكن إخواننا في الريف جزاهم الله خيرًا، هكذا لاحظت، ما دعيت إلى عرس في ريف دمشق إلا وقالوا لي: الطعام من الظهر وحتى العاشرة ليلاً، كل من جاء يحضر هذا العرس له طعام يأكله، فهم أقرب إلى السنة من أبناء المدينة.
فقال بعضهم في حكمة الوليمة في العرس، قال: " التلطف بإشاعة النكاح ".
عندما تقول: تعالَ احضر العقد ولا يوجد شيء، فيجيبك: والله يا أخي أنا مشغول، ولو قلت له: تعال للأكل، واحضر عقد النكاح، يجيبك بنعم، سآتي، وأين يقع البيت يا أخي، فقد اختلف الوضع، إذا كان الموضوع نصف دعوة فقط اعتذر، أما للأكل فيجيب الدعوة، فمن أجل أن تجلب الناس، وأن تغريهم بحضور هذا العقد أولمْ.
إن التلطف بإشاعة النكاح، والحض على حضور عقد النكاح، وأنَّ هذا العقد مشرَّف، بدأ بوليمة، لئلا يبقى هذا العقد محلَّ وهم، يا ترى فلانة أخذها فلان ؟ والله لا نعرف، قالوا: إنه أخذها، وهذا شيء يحير، بعض الناس قالوا: أخذها، والبعض قال: لم يأخذها، فأنت لو أقمـَ عرسًا، وأولمت، ودعوتَ الناس صار كل من كان في شك ووهم وتردد على ي قين في هذا الزواج، فالإعلان، والوليمة من آداب النكاح.
ودرسنا كلُّه حول محور واحد، الفرق الكبير، بين النكاح والسفاح: الإعلان، الوليمة، والشهود، والولي، والدف.
عَنْ عبدا لله بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنهمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا ))
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))
هناك نقطة أيها الإخوة الكرام، أحياناً هناك أشياء تتكرر كالجلسات الأسبوعية مع الأصدقاء، يمكن أن ينشغل عنها الإنسان أسبوعاً فلا يحضر، أما عقد القران فهو مرة في العمر، لا يوجد غيره، لذلك عندما تدعى إلى عقد قران ولا تلبي فقد فوَّت على نفسك فضيلة تلبية الدعوة التي لا تكرر، بعد ذلك فيها جبر خاطر، من دعاك وجب حقه عليك، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))
أحيانا تكون الدعوة بجوار بيتك، فالأمر سهل عليك، أما لو دعيت إلى منطقة بعيدة فأجبتَ فلا مانع في ذلك، والدعوة على كأس من الشاي، فكأس من الشاي يكفي
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ))
والكراع من الدابة ما دون الكعب، انظر إلى الأدب النبوي
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ))
إذا دعاك أخ، وسألته: أين البيت ؟ في المكان الفلاني، فيقول لك: إن شاء الله سآتي، لا يوجد مانع، والمكان بعيد خارج دمشق، أخوك دعاك، وإن لم يكن هناك شيء فأنت عليك أن تلبي،
(( مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))
سبحان الله ! الذي يلبي دعوة أخيه يشعره بالود، وبالحب، ويفتخر، ويقول: والله دعوت إخواننا، وكلهم جاؤوا.
والله مرة دعيت إلى عقد قران، أنا متأخر ساعة، لا يوجد إلا صف من الكراسي فقط مليء، والباقي كله فارغ، شيء صعب، شيء مخزٍ، لأنه لم يأتِ أحد، هذه مخالفة شرعية كبيرة، فيجب أن تهيئ نفسك، توطنها على تلبية دعوة عقود القران، لأنها من السنّة، وأنت بهذا تحييّ سنة رسول الله.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ))
قد يكون لأحدنا غذاء نظامي معيَّن، كأن لا يناسبه الأرز، اذهب، ولبّ الدعوة، ولا تأكل من الأرز، كُل لقمة واحدة واعتذر، ولكن لبّ الدعوة، ولا تربط الدعوة بالأكل.. قال:
((فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ))
لذلك لما أمر النبي أصحابه الكرام أن يولموا، أمر المؤمنين أن يحضروا، فالأمر متكامل، هناك أمر أن تولم ولو بشاة، وهناك أمر أن تحضر الوليمة ولو كنت صائماً، أنا صائم اليوم، لكن سأحضر، الأساس مجيئك، ولو كان دقيقة، وليس الأساس الأكل، فالأساس أن تلبي هذه الدعوة، وإذا كان أحد صائماً صوم نفل فهو أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر.
وجب على هؤلاء المدعوين أن يجيبوا إلى طعام الوليمة، فإن كان صائماً ولم يطعم، فلا بأس بذلك، لأنها حصلت إشاعة المودة، ولو كنت صائما، عليك أن تلبي، والأكمل أن تفطر إذا كان صيامك نفلا.
5– ضربُ الدّفّ
ومن شروط إعلان النكاح ضرب الدف، فعَنْ أَبِي حَسَنٍ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ نِكَاحَ السِّرِّ حَتَّى يُضْرَبَ بِدُفٍّ، وَيُقَالَ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ))
الآن يزمرون في هذه الليالي، فلا مانع، لأنه إعلام، وكان عليه الصلاة والسلام يعلّم أصحابه، أن ينشدوا هذا النشيد:
أتيناكم.. أتيناكم فحيونا نحييّكم
ولولا الحبة السودا جئنا لواديكم
أي نشيد ديني مع تلبية العقد، هذا شيء مطلوب.
روى الإمام الترمذي، عن محمد بن حاطب الجمحي قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ ))
طبعاً ليس الفرق الوحيد الدف والصوت، لكن الذي يفرق بين النكاح والسفاح الدف والصوت.
أنا أسمع من حين إلى آخر عن عقود قران، أو عن أعراس، ماذا حصل ؟ يقولون: والله ألقيت كلمة من قِبل داعية، وسمعنا نشيداً دينياً، والله أبقى شهرً وأنا في نشوةٍ من هذا العرس، شيء جميل، هذا عرس إسلامي، لماذا الغناء الفاضح والغناء الماجن ؟ لماذا هذه المسجلة تصدح بالأغنية الفاسقة ؟ وأنت مسلم، وبيتك مسلم، والمدعون مسلمون كلّهم ؟ ليس من الصعب أن تدعو امرأة لها لسان تدعو إلى الله، فهل من الصعب تدعو أناس من النساء لهن اختصاصٌ بمديح رسول الله، صوت منخفض، أم هل يجب في العرس أن نخرج من جلودنا لكي نعلن فرحتنا ؟ نحن ما عندنا فرح مع الفسق أبداً، الفرح يكون مع الطاعة.
خطورة تصوير عرس النساء بالفيديو
لذلك إخواننا الكرام، أتمنى عليكم في أعراس النساء، احرصوا حرصاً بالغاً على إلغاء الغناء، إذا بحثتم عمن ينشد نشيداً دينياً تجدون، وما أكثر من ينشد ابتغاء وجه الله بلا مقابل، ابحثوا عن امرأة ٍ تقول كلمة، تعظ هؤلاء النسوة، كلمة حق تقال في العرس، الخطبة ضرورية، فكما أن عقود القران ـ والحمد لله شرعية مئة بالمئة ـ فأنا لا أعتقد بالألف عرس إلا مِن هؤلاء المترفين، بالألف عرس من عامة الناس إلا وكلها أعراس شرعية، بها منشدون، وكلمة، أو كلمات تلقى في هذا الحفل، ودعاء، ومديح رسول الله فقط، عقود الرجال رائعة، أما عقود النساء ففيها الغناء، وأما المخالفة التي لا تغتفر والتي تعد من أكبر الكبائر فهي تصوير ( الفيديو )، كل النساء كاسياتٌ شبه عاريات، نصورهن، ونأخذ الفيلم، هذه من ؟ هذه زوجة فلان، هذا شيء محرَّم، ومن أكبر الكبائر أن تطور الأعراس بهذه الأفلام، فهي وثائق كلّها، فكأن الإنسان يرى المرأة بأبهى زينة.
فلذلك أنا أنصح إخواننا، إذا دعي زوجته إلى عرس فيه تصوير يجب ألا تلبي، ومن يسمح لامرأته بالذهاب إلى عرس فيه تصوير فقد ارتكب أكبر معصية، لأن هذا الشيء قد يتداول، وينسخ منه نسخ كثيرة، ويعرض في بيوت كثيرة، قد يكون في العرس رجال فسقة غير منضبتين كشفوا عورات المسلمات، فمن أكبر الكبائر التصوير في أعراس النساء.
فهذا ضرب الدف، أو النشيد الإسلامي كما قلت، والوليمة، وخطبة النكاح، والشهود في النكاح، وإعلان النكاح، وانعقاده في المسجد، هذه هي الآداب التي ينبغي أن تراعى في عقد الزواج، من أجل أن نفرِّق بين النكاح وبين السفاح.