وضع داكن
29-03-2024
Logo
الزواج - الدرس : 02 - الحضانة 1- تعريف الحضانة وحكم الأولاد الكبار .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة الدرس:

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

حضانة الطفل في الإسلام:

 أيها الأخوة الكرام، قبل أن نتحدث عن الحضانة، هناك موضوع يتصل بها، وهو:

 

الرحمة المودعة في قلوب الآباء والأمهات تجاه أولادهم:

 الله سبحانه وتعالى سخر الآباء والأمهات لتربية الأولاد، لولا أن الله سبحانه وتعالى جعل الطفل محبباً إلى والديه في حركاته وسكناته، وفي كلامه، وانفعالاته،وفي كل تصرفاته، لما ربّت أم ابناً.
 يعني مما يقال ـ لا على سبيل قصة واقعية ولكن على سبيل قصة رمزية ـ أن أماً كانت تقبل ابنها وهي تخبز الخبز في التنور، فعجب أحد الصالحين لهذه الرحمة، تضع الرغيف في التنور وتقبل ابنها، فوقع في قلب هذا الإنسان الصالح أن: " يا عبدي، هذه رحمتي لو نزعتها منها، لألقته في التنور "، فإذا رأيت أماً ترعى ابنها، أو رأيت أباً يكدح ويشقى من أجل أولاده، فهذه رحمة الله بهذا المولود، آية في القرآن عن سيدنا موسى ولكنها تصلح لكل أطفال العالم، وهي قوله تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾

( سورة طه، آية39 )

 يعني: لولا هذه المحبة التي ألقيتها عليك لما رباك أحد
 فلو تصورنا أن الله سبحانه وتعالى نزع الرحمة من قلب الأب والأم، لهلك الناس وانقرض النوع البشري، ولكن هذه رحمة أودعها الله في نفس كل إنسان، كافراً كان أو مؤمناً، فالمرأة الكافرة، ألا تربي ابنها، إنها تربي ابنها وتعطف عليه، وكذلك البهائم، هذه التربية التي بموجبها يرقى النوع البشري ويسعد الأبناء برعاية الآباء هي مظهر من مظاهر رحمة الله عز وجل.
 مما يتصل بهذا الموضوع قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾

( سورة النساء، آية1 )

 أرأيتم كيف يسأل الابن أباه بإلحاح ؟، هل يستطيع الطفل الصغير أن يمسك رجلاً في الطريق ويقول له أعطني ثمن معطف في الشتاء ؟ لا يستطيع، لكنه يأتي إلى أبيه ويطلب منه هذا الطلب ويلحّ عليه، ويغضب ويزمجر، وأخيراً يستجيب الأب له، ويحرم نفسه الحاجات الأساسية ليوفرها لأبنائه..
 ما الذي جعل هذا الأب يستجيب لهذا الابن ؟ الله تعالى.
 من الذي جعل هذا الابن يلح في الطلب على الأب ؟ الله تعالى.
 إذاً، إذا رأيت أباً يعطف على ابنه، إذا رأيت أماً تحدب على أولادها، إذا رأيت ابناً يعرف مكانته عند أبيه وأمه ويحمّـلهما ما لا يطيقان، فهذا من رحمة الله عز وجل، لكن الشرع الشريف ضمن مصالح الصغير في حالة فقد أبيه، أو في حالة فقد أمه، أو في حالة الوفاة، أو في حالة الطلاق، هذا هو موضوع درسنا اليوم، أما الوضع الطبيعي فمعجزة.
 مرةً خطر في بالي أنه، مهما بُذِلتِ العناية من جهات أخرى غير الأم، لا تغني عن الأم، مهما كان البناء فخماً.. حدائق، مطاعم فخمة، قاعات مطالعة، رعاية توجيه، مدرسون متفرغون، إذا فقد الابن أمه لا شيء يعوضه عن أمه، يعني لو أن الإمكانات كلها وضعت من أجل أن نعوض هذا الابن عن أمه لا نستطيع.
 أنشئت قرى للأطفال، فيها مربيات يتقاضين رواتب شهرية ضخمة، يطبخن لهم، يعني كأن المربية أم، ولكن الأم الحقيقية لا شيء يعدلها، وكذلك الأب، لذلك هذا الموضوع أحد موضوعات التفكر، يعني إذا رجل أحب أن يتـفكر في رحمة الله عز وجل، فلينظر إلى هذه الرحمة الابتدائية التي وضعت في قلب الأم والأب من دون جهد.
 المؤمن رحيم.. على من رحيم ؟ رحمة المؤمن على أولاده شيء بديهي، ولكن الشرع الحنيف حينما تحدث عن رحمة المؤمن قال: ولكنها رحمة عامة.
 أن تكون الرحمة خاصة، هذا شيء بديهي مفروغ منه، ولا يستطيع الأب أن يدلَّ به على الله، لأن الله أودعه فيه، مثال ذلك، عندما الطالب يستخدم آلة حاسبة في الامتحان، يضع رقماً كبيراً ويضغط على الجذر التربيعي، فخلال ثانية يأخذ الجواب، هل يعد هذا ذكاءً من الطالب ؟ لا، هذا ذكاء ممن وضع هذه الآلة، أما لو أردنا أن نستخرج الجذر التربيعي فنحتاج إلى عشر دقائق !.
 فالإنسان عندما يرى نفسه يعطف على ابنه، فهذا شيء وضعه الله في قلبه، لأنه أب، ولأنها أم فقط، فالوضع الطبيعي أيضاً يحتاج إلى تفكر، لذلك يقال: حسبكم الكون معجزة.
 يعني الحياة من دون طلاق، من دون فراق، من دون شقاق، من دون موت وهذه الأسرة في وضعها الطبيعي: الأب يعمل ليلاً نهاراً، والأم همها كله أن ترعى أولادها، وأن يكون لأولادها مستقبل إن كن بنات أو شباب، هذا الموضوع يدل على رحمة الله عز وجل، ولكن الشرع كما قلت قبل قليل ضمن للطفل الصغير مصالحه في حالات استثنائية كالموت والطلاق.

 

تعريف الحضانة، وحكم الأولاد الكبار:

 عرّفها الفقهاء بأنها: ( القيام بحفظ الصغير، أو الصغيرة، أو المعتوه الذي لا يميز ولا يستقل بأمره، وتعهده بما يصلحه، ووقايته مما يؤذيه ويضره، وتربيته جسمياً ونفسياً وعقلياً، كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسؤولياتها )
 التعريف دقيق، لكن شيء في التعريف يلفت النظر وهو ( الصغير أو الصغيرة )، فما حكم الكبير أو الكبيرة ؟
 الكبير، له الحرية أن يستقل ويعيش وحده، أو أن يعيش مع أمه،أو مع أبيه.
 لكن الكبيرة، لا تستطيع أن تستقل عن أبيها أو أمها، درءاً لفساد سمعتها، يعني لا يجوز لفتاة ولو بلغت العشرين أن تسكن وحدها، لما قد يحدث من فساد أخلاقها، أو لما قد يُتوهَّم من فساد أخلاقها، قد لا يحدث الفساد، ولكن الناس قد يتوهمون الفساد، فدرءاً للفساد أو لتوهّمِ الفساد، لا ينبغي للكبيرة أن تسكن وحدها، هذا تعليق جانبي.
 البالغ الراشد لا حضانة عليه، ومن بلغ سن الرشد لا يقال له يتيم، ولا يتم بعد حلم، فإن كان ذكراً، فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عن أبويه، ويستحب أن لا يبتعد عنهما، ولا يقطع بره عنهما، إذاً، إن كان ذكراً يستطيع أن ينفرد بنفسه، لكنه لا يستحب أن يستغني عن أحد أبويه، وإن كانت فتاةً، لم يكن لها الانفراد، ولأبيها منعها منه، لأنه لا يؤمَن أن يدخل عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها، فإن لم يكن لها أب، فلوليها وأهلها منعها من ذلك، إذاً: هذا تعليق جانبي على حكم الكبير والكبيرة.

 

حق الصغار في الحضانة، وتقديم الأم للقيام بهذا الواجب:

 أما الصغير والصغيرة فالتعريف يقول:
 ( قيام بحفظ الصغير أو الصغيرة، أو المعتوه الذي لا يميز ولا يستقل بأمره، ووقايته مما يؤذيه ويضره وتربيته جسمياً ونفسياً وعقلياً، كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسؤولياتها ).
 فالحضانة بالنسبة للصغير أو الصغيرة واجبة، لأن الإهمال فيها يعرض الطفل للهلاك، والحضانة حق طبيعي للصغير، لاحتياجه لمن يرعاه ويحفظه، ويقوم على شؤونه ويقوم على تربيته، ولأمه الحق في احتضانه:
 عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:

 

(( أن امرأة قالت: يا رسول الله، ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وأن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه عني، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكحي " ))

 

حديث صحيح الإسناد، أخرجه الحاكم في المستدرك

 وإذا كانت الحضانة حقاً للصغير، فإن الأم تجبر عليها إذا تعينت، بأن يحتاج الطفل إليها ولا يوجد غيرها، فتجبر على الحضانة، وهو في سن محتاج فيه إلى أمه، عندئذ يجبر القاضي الأم على حضانة ابنها، كي لا يضيع حقه في التربية والتأديب، فإن لم تتعين الحضانة، بأن كان للطفل جدة ورضيت بإمساكه وامتنعت الأم فإن حقها بالحضانة يسقط، يوجد ناحية مهمة، لم نقل واجب الأم بالحضانة يسقط، بل حقها في الحضانة يسقط، إذا وجد البديل وإذا امتنعت هي لا يسقط عنها الواجب، وإنما يسقط حقها، لأن حقها في تربية وليدها شيء طبيعي وهو الأساس.
 يقال: إن أسمى لون من ألوان التربية، هو تربية الطفل في أحضان والديه طبعاً، هذه الحقيقة أصبحت بديهية في العالم، هناك تجارب أجريت على أطفال ووضعوا في ظروف دقيقة جداً، يعني العناية إلى أقصى الحدود، العناية بالجسم، والنفس، والطعام، والألعاب، والتدريس، لكن هذا الطفل الذي نشأ بعيداً عن أمه يصاب بأمراض نفسية، أو معرض للإصابة بأمراض نفسية، أضعاف ما يتعرض الذي نشأ في حضن أمه، لأن الذي ثبت أن القيم والمشاعر النبيلة التي يستقيها الطفل من أمه لن تستطيع امرأة أخرى أن تقدمها للابن، لذلك عندما ترى نصف شعب من الشعوب لقطاء ويحيا في مصحّات، وفي دور رعاية، فاعلم تماماً أن هذا الشعب سيكون شريراً، يعني يتلذذ بإيقاع الأذى للشعوب الأخرى، في بعض الإحصاءات يوجد شعوب أوربية نصفها لقطاء، يعني الإنسان الذي نشأ في رعاية أمه قلما يحتمل أن يوقع الأذى بالآخرين، لأنه استقى من أمه العطف والحنان، أما الذي نشأ بعيداً عن العطف والحنان مستعد أن يفعل كل شيء، لأنه ليس عنده قيم شربها مع حليب أمه.

 إن لكل من الحاضنة والمحضون حقاً بالحضانة، إلا أن حق المحضون أقوى، وإن إسقاط الحاضنة حقها لا يسقط حق الصغير في الحضانة، فأسمى لون من ألوان التربية هو تربية الطفل في أحضان والديه، إذ ينال من رعايتهما وحسن قيامهما عليه ما يبني جسمه، ويلبي عقله، ويزكي نفسه، ويعده للحياة، فإذا حدث أن افترق الوالدان وبينهما طفل فالأم أحق به من الأب، ما لم يكن بالأم مانع يمنع تقديمها، أو بالولد وصف يقتضي تخييره، وسبب تقديم الأم أن لها ولاية الحضانة والرضاع، لأنها أعرف بالتربية وأقدر عليها، ولها من الصبر في هذه الناحية ما ليس للرجل، وعندها من الوقت ما ليس عنده، لذا قدمت الأم رعايةً لمصلحة الطفل.
 عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:

(( أن امرأة قالت: يا رسول الله، ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وأن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه عني، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكحي " ))

سبق تخريجه

 يعني إذا تزوجتِ، فهو أحق به، وأنتِ أحق به ما لم تنكحي.
 في بعض الروايات أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه قال: " الأم أعطف، وألطف، وأرحم، وأحنى، وأخير، وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج ".

 

ترتيب أصحاب حق الحضانة:

 إذا كانت الحضانة للأم ابتداءً، فقد لاحظ الفقهاء أن قرابة الأم تقدم على قرابة الأب، وأن الترتيب في أصحاب الحق في الحضانة يكون على هذا النحو:
 ( الأم ) فإذا وجد مانع يمنع تقديمها، انتقلت الحضانة إلى: ( أم الأم ) وإن علت، فإن وجد مانع انتقلت الحضانة إلى: ( أم الأب )، ثم إلى: ( الأخت الشقيقة )، ثم إلى: ( الأخت لأم )، ثم إلى: ( الأخت لأب ) ثم إلى: ( بنت الأخت الشقيقة )، ثم إلى: ( بنت الأخت لأم )، ثم إلى: ( الخالة الشقيقة )، ثم إلى: ( الخالة لأم )، ثم إلى: ( الخالة لأب )، ثم إلى: ( بنت الأخت لأب )، ثم إلى: ( بنت الأخ الشقيق )، ثم إلى: ( بنت الأخ لأم )، ثم إلى: ( بنت الأخ لأب )، ثم إلى: ( العمة الشقيقة )، ثم إلى: ( العمة لأم )، ثم إلى: ( العمة لأب )، ثم إلى: ( خالة الأم )، ثم إلى: ( خالة الأب )، ثم إلى: ( عمة الأم )، ثم إلى: ( عمة الأب )، بتقديم الشقيقة في كل منهن.

 

 يعني طفل من دون رعاية لا يجوز، لا يعدم طفل أن يكون له أحد هؤلاء، لابد من امرأة ترعى حق هذا الطفل، فإن لم توجد للصغير قريبات من هذه المحارم، أو وجدت وليست أهلاً للحضانة انتقلت الحضانة إلى العصبات من المحارم، من الرجال على حسب الترتيب في الإرث.
 فينتقل حق الحضانة إلى ( الأب ) ثم ( أب الأب )، وإن علا ثم إلى ( الأخ الشقيق ) ثم إلى ( الأخ لأب )، ثم إلى ( ابن الأخ الشقيق )، ثم ( ابن الأخ لأب )، ثم ( العم الشقيق )، ثم ( العم لأب )، ثم ( عم أبيه الشقيق )، ثم ( عم أبيه لأب )، فإن لم يوجد من عصبته من الرجال المحارم أحد، أو وجد وليس أهلاً للحضانة، انتقل حق الحضانة إلى محارمه من الرجال غير العصبة، فيكون ( للجد لأم ) ثم ( للأخ لأم ) ثم (لابن الأخ لأم )، ثم ( للعم لأم ) ثم ( للخال الشقيق )، ثم ( الخال لأب )، ثم ( الخال لأم )، فإن لم يكن للصغير قريب وهذه حالات شبه نادرة، فلو فرضنا أنه يوجد حالة ليس له أحد، فللقاضي أن يعين حاضنةً تقوم بتربيته، وإنما كان ترتيب الحضانة على هذا النحو لأن حضانة الطفل أمر لابد منه وأولى الناس به قرابته، وبعض القرابة أولى من بعض، فيقدم الأولياء، لكون ولاية النظر في المصالح إليهم ابتداءً، فإذا لم يكونوا موجودين، أو كانوا ووجد ما يمنعهم من الحضانة، انتقلت إلى الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن ثمة قريب فإن الحاكم مسؤول عن تأمين من يصلح للحضانة.
 إن شاء الله في درس قادم نتحدث عن شروط الحضانة، وقد كان موضوع اليوم ترتيب أصحاب الحقوق في الحضانة، والأم أحق بالولد من أبيه، والحضانة حق مشترك، حق للابن وحق للأم، وقد يسقط حق الأم في بعض الحالات، وتعريف الحضانة.

أحاديث في البر والإثم:

 والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة، ثلاثة أحاديث، أراها مهمةً في أكثر ما أسأل عنه من موضوعات، كلها تبدأ بكلمة ( البر )، وبالمناسبة، كلمة ( البر) مثلثة، البِر( بكسر الباء ) هو العمل الصالح، والبَر ( بفتح الباء ) اليابسة، والبُر ( بضم الباء ) هو القمح.

 

1- البر ما سكنت إليه النفس:

 عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، قال:

 

(( قلت: يا رسول الله أخبرني بما يحل لي وما يحرم علي قال: فصعد النبي صلى الله عليه وسلم وصوب في البصر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون " ))

 

حديث رجاله ثقات، أخرجه الحاكم والإمام أحمد

 فالمشكلة ليست في إيجاد فتوى، أي شيء تريده هناك من يفتيك بفعله، الفتوى أصبحت مصلحة، أحياناً، يفعل الإنسان معصية ويقول: الشيخ بالأزهر يفتي هذه الفتوى، يعني هل شيخ الأزهر يحميك من عذاب الله ؟، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: [ وإن أفتاك المفتون ]
الورع: أن يدع الإنسان ما لا بأس به حذراً مما به بأس، هذه صفات الشخص الورع لا يتجاوز الحدود، فمن تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود، ركعتان من عبد ورع خير من ألف ركعة من مخلّط، أنا ألاحظ عندما تسأل عن شيء فأنت قلق منه، لأنك سألت عنه.. لمجرد السؤال، تبين أنك قلق.
 مثلاً، لو إنسان دخل إلى بيته ظهراً، وتناول طعامه، ثم صلى الظهر واستلقى في الفراش، هل يحتاج هذا الإنسان أن يسأل أحد العلماء عما فعل ؟ لم يفعل شيئاً مريباً، هو مطمئن، إذا كانت الأمور واضحة لك بهذه الدرجة، فأغلب الظن أنك لن تسأل أحداً عنها، لكن لمجرد أنك شككت أو شعرت بالقلق، أو شعرت أنك لست على ما يرام، أو كأن هذا الأمر لا يرضي الله عز وجل، فإنك تسأل العلماء، فأرقى فتوى، أن تدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
 إذا سمعت جواباً مع دليل من كتاب الله، فكن مطمئناً، مثلاً، هل يجوز أن آخذ الدية من رجل قتل ابني خطأً ؟ كثيراً ما سئلتُ هذا السؤال، طبعاً يجوز، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

( سورة النساء، آية 92 )

 سبحان الله، أحياناً، أرى أشخاصاً في الموقف المباح يتصنعون الورع، وفي الأشياء التي لاشك في حرمتها يفعلونها وهم ساكتون، إذا سألت هذا السؤال ويوجد مستند في كتاب الله أو في حديث رسول الله، افعله ولا تثريب عليك، لكن عندما يكون المستند ضعيفاً، يعني يوجد علاقة مركبة بين حالتك والنص، في مثل هذه الحالات هناك من يفتي، مثلاً،هل يجوز أن أرى امرأة أخي ؟ الجواب: لا، لكن هناك من يفتي، كيف ؟ فتوى مقرونة بحيلة، تحتاج إلى أن تأخذ بنت صغيرة من الحي، وتدفعها إلى زوجة أخيك لترضعها، ثم تعقد كتابك عليها، فتصبح امرأة أخيك حماتك، وتطلق البنت الصغيرة، وتصبح زوجة أخيك حماتك على التأبيد، هذه ليست فتوى، بل هذا هو الضلال بعينه، لماذا منع هذا ؟ لكي لا يقع فساد، عن طريق حيلة شرعية تصل إلى ما تريد، ليس هذا من الدين في شيء، هذا الشيء فعله اليهود وذمهم الله به أيما ذم.

(( البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب ))

 هل ترتاح إذا أضفت إلى الحليب ماءً، في الغرفة الخلفية ؟ هل تشعر براحة ؟ هل تشعر بعزة ؟ ألا تخجل من هذا العمل ؟ طبعاً، العمل المنحرف معه اضطراب، لو فرضنا إنسان فاجأك وأنت تفعل هذا، فإنك تضطرب.

(( والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون ))

 ما أكثر ما يقال في بعض المخالفات ( سمها سماح )، مثال: رجل باع شيئاً بالتقسيط، وسعره ثابت، فالذي اشترى منه هذا الشيء قال له: " هذا الثمن كاملاً واحسم لي الآن ستة بالمائة "، هذا الحسم ربا، يقول: " أخي احسبها سماح "، هل هي على كتابتها في الدفتر أم على الواقع ؟  الواقع أن الحسم بسبب الدفع النقدي، إذاً: سمها سماح، سمها ما شئت، هي ربا.
 إذا إنسان يملك ( طنبر) وضع له نمرة سيارة، هل يصبح سيارة ؟ يبقى كما هو، إذا سميت شيئاً قبيحاً باسم حسن هل تتبدل طبيعته ؟ الربا، إذا سميته سماح، يبقى ربا، لذلك [ وإن أفتاك المفتون ]، أنت قل سعر واحد فقط، إذا رأيت الزبون يظهر لك من شكله، إما دين أو نقدي، فأعطه سعر واحد، في الحالين، مثال: بيع السيارات بالتقسيط، ثمنها مائة ألف، يبيعها بمائة وثلاثين مقابل تقسيطها إلى مدة سنة، هذا الثمن ازداد بازدياد الأجل ؟ واضحة كالشمس.
 شعور الإنسان بذنبه أقوى من قناعاته كلها، لو أقنعته سيبقى شعوره أقوى، وعندما يتخيل الإنسان أن خيراً ما في المعصية، يكون أحمقاً، المعصية كلها شر، الذي تجمعه في سنتين تدفعه بيوم أو بساعة، الذي جمع بالحرام يذهب، أهون من إهلاك المال على الله لا يوجد قد يهلك بمصادرة أحياناً، بحريق، بخسارة، النبي الكريم كان إذا دخل السوق يقول:

(( اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة ))

 من حديث ضعيف، أخرجه الحاكم في مستدركه عن بريدة بن الحصيب

 

 يمكن للإنسان أن يحصِّـل من أمور غير مشروعة أموالاً طائلةً، ولكن يدفعها بثانية واحدة، قد يدفع كل ما يملك من أجل كلية، إذا توقفت كليته يدفع ست مائة ألف، واحتمال نجاح العملية بالمائة ثلاثين فقط، وتصفية الكلية تكون أقل من الطبيعية، وتحتاج إلى كورتزون وأغلب الظن أنها تبقى سنة ونصف لا أكثر، قد يدفع كل ما يملكه مقابل خلل في القلب، فعندما يغامر الإنسان بمال حرام، الله عز وجل يقف له بالمرصاد، فلذلك:

(( " البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون " ))

سبق تخريجه

 موضوع الربا، قلت لكم عنه، يأتي زبون يقول للبائع: أريد صندوق الشاي هذا، ثمنه ألف ليرة، يقول له: اشتريته، يسجله عليه، من فلان صندوق شاي ألف ليرة، الصندوق هو هو، مازال في مكانه، يقول له البائع: أتبيعه، يقول له: نعم، بكم ؟ يقول: بثمانمائة، هذا ثمنه نقدي ثمانمائة، أنا بعت واشتريت، هذا ربا، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

( سورة البقرة، آية 275 )

 هذه عملية قرض بالفائدة واضحة كالشمس، مهما غلفتها بغلاف شرعي..
 في العصور العباسية، كانت دور البغاء يقف على بابها شخص له زيّ ديني، يعقد عقداً، وعندما يخرج الشخص من الدار يطلّق !.. المعاصي كلها يمكن أن تعمل لها غلاف شرعي، هذه معصية.

2- البر حسن الخلق:

 عن النواس بن سمعان رضي الله عنه: قال:

 

(( أقَمتُ مَع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالمدينةِ سَنة، مَا يَمْنَعُني مِنَ الْهِجرَةِ إِلا المَسألَةُ، كان أَحدُنَا إذا هَاجَر لَمْ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن شَيءٍ، قال: فَسَألتُهُ عن البِرِّ وَالإثْمِ ؟ فقال رسولُ اللِّهِ صلى الله عليه وسلم: " البِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق، والإثمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ " ))

 

حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي

 كل شيء تخجل منه إذا اطلع عليه الناس فهذا من الإثم.

 

3- البر لا يبلى:

 الحديث الثالث والأخير، كما ورد في الأثر:

 

(( البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان ))

 البر لا يبلى: يعني أن العمل الطيب لا يمكن إلا أن يقدره الناس، في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل عصر، وفي كل مصر.
 لي قريب أحب أن يسافر إلى حلب، قال لي: " أقف في موقف السيارات ويوجد ازدحام شديد "، فإذا برجل يشير له بيده، أن تفضل، " فاتجهت نحوه، فرأيت إنساناً في غاية الأناقة والتهذيب، فقال له: أنا ذاهب إلى حلب بسيارتي، وأريد راكباً يرافقني، قال: فركبت سيارة فخمة جداً، وفي الطريق تحدث له وقال: " أنه إنسان مهندس كان مسافراً من محافظة إلى محافظة أخرى، فشاهد حادث سير في الطريق، ورأى في الطريق إنساناً ملقىً وغارقاً في بحر من الدماء، فهذا المهندس، بدافع إنساني، حمل هذا الإنسان الجريح بسيارته، ولم يأخذ بعين الاعتبار أنه قد يوضع في السجن، لأنهم سيظنون أنه هو المتسبب بالحادث، حمله وأسعفه، وانتهى الأمر، وبعد عدة سنوات، هذا المهندس يقرأ عن مناقصة في بعض المحافظات، فسافر حتى يأخذ دفتر الشروط، فيبدو أنه سأل عن المدير العام، فدخل عليه، فإذا بهذا المدير يترك طاولته ويركض إليه يعتنقه ويقبله، وهو لا يعرفه، فقال له المدير: ما عرفتني، قال: لا والله، قال له: أنت الذي أنقذتني في الطريق، يومها لم ينتبه إلى وجهه أنقذه وانتهى الأمر،فكان هذا الرجل هو المدير العام، فقدم له مساعدات، ورست عليه المناقصة وكان سبب غناه.
 سبحان الله، البر لا يفنى، إذا فعلت خيراً، فلا يمكن أن يضيع الخير، أحياناً تخدم أخاً لوجه الله تعالى، تمضي ثلاثون سنة، وتكون في موقف في منتهى الصعوبة، تجده أمامك يقدم لك مساعدة،[ البر لا يبلى ]، لا أحد يزهد بالمعروف.
 يوجد ناحية مهمة: إذا أنت قلت: يجب أن أفعل خيراً، لعل هؤلاء أحتاج إليهم في المستقبل، فهذا خير مشبوه، ومعه إشراك بالله عز وجل، أنت افعل خيراً من دون أن تنتظر رده من أحد، لكن تأكد أنك إذا فعلت خيراً لابد أن تجد الخير في أصعب ظرف تعيشه فالله عز وجل يسوقه لك ويقدم لك خدمات لا يمكن أن تحلم بها.
 قال له: كل هذا الغنى من هذا المشروع، وهذا المشروع سببه هذا الموظف، وهذا الموظف سببه أنني أنقذته من حادث، لكن أرقى أنواع الخير ما لا يكون مشوباً بنية أرضية، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾

 

( سورة الإنسان، آية 9 )

(( البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان ))

 معنى الديان لا يموت: أي عندما تفعل خيراً، كأنك أقرضت الله عز وجل، وصاحب الدين لا يموت، وصاحب الدين يعطيك دينك أضعافاً مضاعفة، أول شيء: الديان من تدين له العباد كلها، لذلك عندما تفعل خيراً مع الله عز وجل لا تعلق أهمية على رد الفعل، الناس عرفوا أو ما عرفوا، ثلاث أحاديث تبدأ بكلمة البر.

 

(( " البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون " ))

 

(( " البِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق، والإثمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ " ))

(( البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان ))

سيدنا سلمان الفارسي، الباحث عن الحق:

 والآن إلى قصة صحابي جليل هو سيدنا سلمان الفارسي، يقول سيدنا سلمان رضي الله عنه: كنت فتىً فارسياً من أهل أصبهان، من قريةٍ يقال لها جيان، وكان أبي دهقان القرية، يعني رجل دين في القرية، وأغنى أهلها غنىً وأعلاهم منزلةً، وكنت أحب خلق الله إليه منذ ولدت، ثم مازال حبه لي يزداد ويشتد على الأيام، حتى حبسني في البيت خشيةً عليّ، كما تحبس الفتيات، وقد اجتهدت بالمجوسية، حتى غدوت قيم النار التي كنا نعبدها من دون الله، وأنيط إليّ أمر إضرامها حتى لا تخبو ساعة في ليل أو نهار، وكان لأبي ضيعةً عظيمةً تدرّ علينا غلة كبيرة.
 وكان أبي يقوم عليها ويجني غلتها، وفي ذات مرةٍ، شغله عن الذهاب إلى القرية شاغل، فقال: يا بني إني قد شغلت عن الضيعة بما ترى، فاذهب إليها وتولى اليوم عني شأنها، فخرجت أقصد ضيعتنا.
 وفيما أنا في بعض الطريق، مررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فلفت ذلك انتباهي، لم أكن أعرف شيئاً من أمر النصارى، أو أمر غيرهم من أصحاب الأديان، لطول ما حجبني أبي عن الناس في بيتنا، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم لأنظر ماذا يصنعون، فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في دينهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس، ولم أذهب إلى الضيعة، ثم إني سألتهم أين هو أصلُ هذا الدين ؟ قالوا: في بلاد الشام، ولما أقبل الليل عدت إلى بيتي فتلقاني أبي يسألني عما صنعت، فقلت يا أبتِ، إني مررت بأناس يصلون في كنيسةٍ لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، وبقيت عندهم حتى غربت الشمس، فذعر أبي مما صنعت وقال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، لو كان استجاب هذا الابن لم يكن الآن هو سيدنا سلمان، إذاً ليس دائماً الأب على حق.
 قلت: كلا والله إن دينهم لخير من ديننا، فخاف أبي مما أقول وخشي أن أرتد عن ديني، فحبسني في البيت، ووضع قيداً في رجلي، ولما أتيحت لي الفرصة بعثت إلى النصارى أقول لهم: إذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب إلى بلاد الشام فأعلموني، فما هو إلا قليل حتى قدم عليهم ركب متجه إلى الشام فأخبروني به، فاحتلت على قيدي حتى حللته وخرجت معهم متخفياً حتى بلغنا بلاد الشام.
 فلما نزلنا فيها قلت: من هو أفضل رجل من أهل هذا الدين ؟ قالوا: الأسقف راعي الكنيسة في الكنيسة الفلانية، فجئته وقلت: إني قد رغبت بالنصرانية، وأحببت أن ألزمك، وأن أخدمك وأتعلم منك وأصلي معك، فقال: ادخل، ودخلت عنده وجعلت أخدمه، ثم مالبثت أن علمت أن الرجل رجل سوء، فقد كان يأمر أتباعه بالصدقة ويرغبهم بثوابها، فإذا أعطوه منها شيئاً لينفقه في سبيل الله اكتنزه لنفسه، ولم يعطِ الفقراء والمساكين منها شيئاً، حتى جمع سبع قلل من الذهب، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته منه، ثم ما لبث أن مات، فاجتمع النصارى لدفنه، فقلت لهم: إن صاحبكم كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئاً، قالوا: من أين عرفت ذلك، قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: نعم دلّنا عليه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلل مملوءة ذهباً وفضةً، فلما رأوها قالوا: والله لن ندفنه، ثم صلبوه ورجموه بالحجارة.
 ثم إنه لم يمضِ وقت قليل حتى نصَّبوا رجلاً آخر مكانه، فلزمته، فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا، ولا أرغب منه بالآخرة، ولا أدأب منه على العبادة ليلاً نهاراً، فأحببته حباً جماً، وأقمت معه زماناً، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إلى من توصي بي، ومع من تنصحني أن أكون من بعدك، فقال: أي بني، لا أعلم أحداً على ما كنت عليه إلا رجلاً بالموصل هو فلان، لم يحرف، ولم يبدل فالحق به، فلما مات صاحبي لحقت بالرجل بالموصل، فلما قدمت عليه، قصصت عليه خبري، وقلت له: إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك مستمسك بما كان عله من الحق، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على خير حال، ثم إنه لم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان لقد جاءك من أمر الله ما ترى وأنت تعلم من أمري ما تعلم، فإلى من توصي بي ؟ ومن تأمرني باللحاق به، فقال: أي بني والله ما أعلم أن رجلاً على مثل ما كنا عليه، إلا رجلاً بنصيبين فالحق به.
 فلما غيب الرجل في لحده، لحقت بصاحب نصيبين، وأخبرته خبري، وما أمرني بي صاحبي، فقال لي: أقم عندنا، فأقمت عنده فوجدته على ما كان عليه صاحباه من الخير، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضرته الوفاة، قلت له: لقد عرفت من أمري ما عرفت فإلى من توصي بي، فقال: أي بني، والله إني ما أعلم أحداً بقي على أمرنا، إلا رجلاً بعمورية، هو فلان فالحق به، فلحقت به وأخبرته خبري فقال: أقم عندي، فأقمت عند رجل كان والله على هدي أصحابه، وقد اكتسبت وأنا عنده بقرات وغنيمة، غنيمة: أي غنمة صغيرة، ثم ما لبث أن نزل به ما نزل بأصحابه، فلما حضرته الوفاة، قلت له: إنك تعلم من أمري ما تعلم، فلمن توصي بي، وما تأمرني أن أفعل ؟ فقال: يا بني، والله لا أعلم أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض مستمسكاً بما كنا عليه، ولكن قد أظل زمان يخرج فيه بأرض العرب، نبي يبعث بدين إبراهيم، ثم يهاجر من أرضه إلى أرض ذات نخل بين حرتين، وله علامات لا تخفى، فهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم وافاه الأجل، فلبثت بعده بعمورية زمناً، إلى أن مرَّ بنا نفر من تجار العرب، فقلت لهم: إن حملتموني معكم إلى أرض العرب أعطيتكم بقراتي هذه وغنيمتي، فقالوا: نعم نحملك، فأعطيتهم إياها، وحملوني معهم حتى إذا بلغنا وادي القرى، على طريق المدينة غدروا بي، وباعوني لرجل من اليهود، فالتحقت بخدمته ـ طبعاً هذا في الجاهلية ـ ثم ما لبث أن زاره ابن عم له من بني قريظة، فاشتراني منه ونقلني معه إلى يثرب، فرأيت المدينة بالوصف الذي نعتها، فرأيت النخل الذي ذكره لي صاحبي، وعرفت المدينة بالوصوف التي نعتها به، فأقمت بها معه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يدعو قومه في مكة، لكني لا أسمع له بذكر، لانشغالي بما يوجبه علي الرق، ثم ما لبث أن هاجر النبي صلوات الله عليه إلى يثرب، فوالله إني لفي رأس نخلةٍ لسيدي أعمل بها بعض العمل، وسيدي جالس تحتها، إذ أقبل عليه ابن عم له وقال له: قاتل الله بني قيلة، يعني الأوس والخزرج، والله إنهما الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم اليوم من مكة يزعم أنه نبي، فما إن سمعت مقالته حتى مسني ما يشبه الحمى، واضطربت اضطراباً شديداً، حتى خشيت أن أسقط على سيدي، وبادرت بالنزول عن النخلة، وجعلت أقول للرجل: ماذا تقول ؟ أعد علي الخبر، فغضب سيدي ولكمني لكمةً شديدة، وقال لي: ما لك ولهذا، عد إلى ماكنت عليه من عملك، ولما كان المساء، أخذت شيئاً من تمر كنت جمعته وتوجهت به إلى حيث ينزل النبي عليه الصلاة والسلام فدخلت عليه وقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء، ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " كلوا " وأمسك يده فلم يأكل، فقلت في نفسي: فهذه واحدة، ثم انصرفت وأخذت أجمع بعض التمر، فلما تحول النبي صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة جئته، فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل منها وأمر أصحابه أن يأكلوا، فقلت في نفسي: هذه الثانية، فلما رآني النبي أنظر إليه وعرفته، انكببت عليه أقبله وأبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: " ما خبرك "، فقصصت عليه قصتي فأعجب بها، وسره أن يسمعها أصحابه مني، فأسمعتهم إياها، فعجبوا منها أشد العجب، وسروا بها أعظم السرور.
فسلام على سلمان الفارسي يوم قام يبحث عن الحق في كل مكان، هذا هو الحق، تحملَ المشاق، وصار عبداً من أجل المشاق، باع نفسه وكل شيء يملكه، البقرات والغنيمة، وقدمها إلى من ينقله إلى أرض العرب، الحق ثمين، ألا سلعة الله غالية.

 

وما حبنا سهل وكل من ادعى   سهولته قلنا له: قد جهلتنا
فأيسر ما في الحب للصب قتله   وأصعب ما قتل الفتى يوم هجرنا

 لذلك بهذا الثمن الباهظ الذي دفعه، صار سيدنا سلمان الفارسي، بالإسلام لا يوجد تمييز عنصري، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

( سورة الحجرات، آية 13 )

 سلام على سلمان الفارسي يوم عرف الحق فآمن به أوثق الإيمان، وسلام عليه يوم مات ويوم يبعث حياً.

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور