وضع داكن
27-04-2024
Logo
مختلفة - الأردن - المحاضرة : 51 - الطب في الإسلام
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أشكر القائمين على هذا الصرح التعليمي الكبير في بلد العلم والعلماء، والجوامع والجامعات، دعوتهم الكريمة، التي إن دلت على شيء فعلى حسن الظن بي، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم .

مقدمة

 الجامعة مؤنث والجامع مذكر وفي إسلامنا العظيم الرجال قوامون على النساء أي ينبغي أن تستمد الجامعة أصول مناهجها من وحي السماء، وقد بلغني أن نظرية دارون ألغيت من مناهج الجامعات في أمريكا، وقد فاجأت طلابي في جامعة دمشق أنني في نهاية المطاف آمنت بنظرية دارون ولكن معكوسة بمعنى أن الإنسان كان إنساناً فصار قرداً والإسلام يجعل من المسلم إنساناً متميزاً يرى مالا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون، يتمتع بوعي عميق، وإدراك دقيق، له قلب كبير، وعزم متين، وإرادة صلبة، وهدفه أكبر من حاجاته، ورسالته أسمى من رغباته، يملك نفسه، ولا تملكه، ويقود هواه ولا ينقاد له، وتحكمه القيم، ويحتكم إليها، من دون أن يسخِّرها، أو يسخَر منها، سما حتى اشرأبت إليه الأعناق، وصفا حتى مالت إليه النفوس أما حينما ينقطع الإنسان عن ربه، وينقاد إلى هوى نفسه، أو حينما ينقاد الإنسان إلى هوى نفسه فينقطع عن ربه، فعندئذ تفسد علاقته بعقله، فيعطله، أو يرفض نموَّه وتطوره، أو يسيء إعماله، فيسخره لأغراض رخيصة دنيئة، عندها يكون الجهل والتجهيل، والكذب والتزوير، وتفسد علاقته بنفسه، فتَسفُل أهدافه، وتنحط ميوله، ويبيح لنفسه أكثر الوسائل قذارة لأشد الأهداف انحطاطاً، عندها تكون أزمة الأخلاق المدمرة، التي تسبب الشقاء الإنساني، وتفسد علاقة الإنسان بأخيه فتكون الغلبة لصاحب القوة لا لصاحب الحق، وعندها تعيش الأمة أزمة حضارية تعيق تقدمها وتقوِّض دعائمها.

صحة الجسد مرتكز لسلامة النفس

 هل يُعقل أن تكون شخصية المؤمن الفذة التي تجمع بين رجاحة العقل وسمو النفس، هل يُعقل أن تكون هذه الشخصية مركبة في جسد عليل سقيم؟ كلا !! إن صحة الجسد مرتكز لسلامة النفس وسموِّها، ومنطلق لصحة العقل وتفوقه، فالله سبحانه وتعالى جعل صحة الجسد وقوته ورجاحة العقل، واستنارته علة الاصطفاء، فقال تعالى:

﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

(سورة البقرة: الآية 247)

الإيمان والقوة

 وقد بين لنا المولى جل وعلا أن القوة والأمانة، وبلغة العصر الكفاءة والإخلاص هما المقياسان الصحيحان اللذان نقيس بهما الأشخاص حينما نقلّدهم بعض الأعمال، قال تعالى :

﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

(سورة القصص: الآية 26)

 والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنّ:

(المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ)

(أخرجه مسلم)

 

 ولم يقل: الإنسان القوي، لأن القوة من غير إيمان مدمرة لصاحبها وللمجتمع، ولكن القوة إذا أضيفت إلى الإيمان فإنها تصنع المعجزات، الخيرات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وإنْ أَصَابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)

(صحيح مسلم)

 ولكن إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن نكون أقوياء لأن خيارات القوي في العمل الصالح لا تعد بل إن النبي عليه السلام جعل صحة الجسد ثلث الدنيا

(من أصبحَ منكُم آمِنًا في سِربِه مُعافًى في جسَدِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لهُ الدُّنيا)

(أخرجه الترمذي)

أنواع الطب في الإسلام

 والإمام علي كرَّم الله وجهه جعل من المرض مصيبة أشد من الفقر، وأهون من الكفر، وجعل من الصحة نعمة أفضل من الغنى، وأقلَّ من الإيمان، فقال: « ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب » الطب في الإسلام طب طبيعي، وطب نفسي، وطب وقائي، وطب علاجي، فالطب الطبيعي : « بذل الجهد صحة وسلامة » فمن الطب الطبيعي أن شخصية المسلم مرتكزة على العطاء لا على الأخذ، ومرتكزة على بذل الجهد لا على استهلاك جهد الآخرين، ومرتكزة على العمل لا على الأمل، وعلى الإيثار لا على الأثرة، وعلى التضحية لا على الحرص، وعلى إنكار الذات لا على تأكيدها، وإن بذل الجهد في حد ذاته صحة، وأية صحة، ففي بعض المؤتمرات الطبية التي عُقدت للبحث في أمراض القلب اتفق المؤتمرون على أن صحة القلب في بذل الجهد وراحة النفس، وأن طبيعة العصر الحديث تقتضي الكسل العضلي، والتوتر النفسي، وهما وراء تفاقم أمراض القلب في معظم البلدان المتقدمة تقدماً مادياً.

بذل الجهد في حد ذاته صحة

 إن بذل الجهد في حد ذاته صحة للقلب والأوعية، وصحة للعضلات والأجهزة، وقد كان النبي صلوات الله عليه قدوة لنا في هذا المضمار فقد وجد في بعض الغزوات أن عدد الرواحل لا يكفي أصحابه، فأمر أن يتناوب كل ثلاثة على راحلة، وقال: وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، فلما جاء دوره في المشي توسلا صاحباه أن يبقى راكباً فقال: "مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى المشي مِنِّي، وَمَا أَنَا بِأَغْنَى منكما عن الأجر"

(عن عبد الله بن مسعود: كنَّا في غَزوَةِ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ منَّا على بَعيرٍ، كان عليٌّ وأبو لُبابةَ زَميلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا كان عُقْبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالا: اركَبْ يا رسولَ اللهِ حتى نَمشيَ عنك، فيقولُ: ما أنتما بأقوى على المَشْيِ منِّي، وما أنا بأغنى عن الأجرِ منكما)

(أخرجه النسائي وأحمد)

 وحينما كان النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم مع بعض أصحابه وأراد أن يذبحوا شاة ليأكلوها، فقال أحدهم: ((عليَّ ذبحها، وقال آخر: وعلي سلخها، وقال ثالث: وعلي طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، فقال أصحابه: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال: قد علمت أنكم تكفونني إياه، ولكني أكره أن أتميز عليكم، ويكره الله أن يرى عبده متميزاً على أصحابه ))

( وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره، فَأمر بإصلاح شاة، فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله عَليّ: ذَبحهَا، وَقَالَ آخر: عَليّ سلخها، وَقَالَ آخر: عَليّ طبخها، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "وَعليّ جمع الْحَطب" فَقَالُوا يَا رَسُول الله نَحن نكفيك، فَقَالَ: "قد علمت أَنكُمْ تكفوني، وَلَكِنِّي أكره أَن أتميز عَلَيْكُم؛ فَإِن الله يكره من عَبده أَن يرَاهُ متميزا بَين أَصْحَابه"، وَقَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجمع الْحَطب )

(رواه الطبري)

 إن بذل الجهد صحة للقلب والأوعية، وصحة للعضلات والأجهزة، وصحة للحياة الاجتماعية، وتمتين لأواصرها، وإن بذل الجهد فهم صحيح لحقيقة الحياة الدنيا، التي هي دار تكليف، بينما الآخرة دار تشريف، هذا بعض ما في الطب الطبيعي.

الطب النفسي

 أما عن الطب النفسي، إن أمراضاً كثيرة جداً بعضها عضال، وبعضها مميت، كأمراض القلب والشرايين، وأمراض جهاز الهضم، والكليتين، والأمراض النفسية والعصبية إنما ترجع أسبابها الرئيسية إلى أزمات نفسية يعاني منها إنسان الشرك في العصر الحديث، فمن أشرك بالله قذف الله في قلبه الرعب، قال تعالى:

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾

(سورة آل عمران: الآية 151)

 فتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، وأنت من خوف الفقر في فقر، وأنت من خوف المرض في مرض وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، قال تعالى:

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾

(سورة المعارج: الآية 19-20-21-22-23-24-25-26)

 ويرى بعض الأطباء أن ضغط الدم ما هو في حقيقته إلا ضغط الهم، وأن الإنسان إذا غفل عن حقائق التوحيد، وسقط في هُوّة الشرك، فقد فتحت عليه أبواب من العذاب النفسي، قال تعالى :

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

(سورة الشعراء: الآية 213)

 فالإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، وأنه:

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾

(سورة الزخرف: الآية 84)

 وأنه:

﴿إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

(سورة هود: الآية 123)

 وأنه:

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾

(سورة الزمر: الآية 62)

 وهو:

﴿لَامُعَقِّبَ لِحُكْمِه﴾

(سورة الرعد: الآية 41)

 وأنه:

﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

(سورة الكهف: الآية 110)

 وأنه:

﴿يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْء﴾

(سورة غافر: الآية 20)

 وأنه:

﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

(سورة هود: الآية 56)

 وأنه:

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾

(سورة فاطر: الآية 2)

 وأنه:

﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

(سورة الرعد: الآية 11)

 وأنه:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

(سورة النحل: الآية 97)

 وأنه:

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

(سورة الجاثية: الآية 21)

 وأنه: لن يكون:

﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾

(سورة القصص: الآية 61)

 وأن:

﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾

(سورة فصلت: الآية: 30-31-32)

 وأنه:
 "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين"
 وأنه:
 "إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟"

أثر الإيمان في الحياة النفسية

 هذا الإيمان يملأ النفس شعوراً بالأمن الذي هو أثمن ما في الحياة النفسية، ويدفع عنها القلق الذي يدمرها، والذي يجعل الحياة النفسية جحيماً لا يطاق، قال تعالى:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾

(سورة الأنعام: الآية 81-82)

 تعقيب لغوي فإذا كانت السلامة تعني عدم وقوع المصيبة، فإن الأمن يعني عدم توقع المصيبة، قال تعالى:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

(سورة التوبة: الآية 51)

 إن الله يعطي الصحة، والمال، والذكاء، والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
 هذا الإيمان يملأ النفس طمأنينة إلى عدالة الله سبحانه وتعالى، فبيده مقاليد الأمور كلها، وأنه:

﴿ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ﴾

(سورة يونس: الآية 44)

 وأنه:

(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)

(سورة الحج: الآية 38)

 وينجيهم من كل كرب، وينصرهم على عدوهم.
 هذا الإيمان يملأ النفس شعوراً بالنجاح، والفلاح، والتفوق، والفوز برضاء الله الذي يعد أثمن نجاح يحققه الإنسان في حياته النفسية على وجه الأرض.
 « ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء » هذا الإيمان يملأ النفس راحة، وتسليماً وتفويضاً، وتوكلاً، ورضاً بقضاء الله الذي لا يقضي لعبده المؤمن إلا بالحق والخير، قال عليه الصلاة والسلام :

(الإيمانُ بالقدَرِ يُذهبُ الهمَّ والحزَنَ)

(رواه الألباني)

 وقد ورد في الأثر القدسي:

(أوحى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إلى داودَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : يا داودُ ! ما مِن عبدٍ يعتَصِمُ بي دونَ خلقي أعرِفُ ذلِكَ من نيَّتِهِ فتَكيدُهُ السَّماواتُ بِمَن فيها إلَّا جعلتُ لهُ من بينِ ذلِكَ مخرَجًا وما مِن عبدٍ يعتَصمُ بمخلوقٍ دوني أعرِفُ منهُ نيَّتَهُ إلَّا قطعتُ أسبابَ السَّماءِ بينَ يديهِ وأرسَختُ الهوى من تحتِ قدميهِ وما مِن عَبدٍ يطيعُني إلَّا وأَنا مُعطيهِ قبلَ أن يسألَني، وغافرٌ لهُ قبلَ أن يستَغفرَ لي)

(رواه الألباني)

 هذه المشاعر تحقق سعادة نفسية، وسعادة لا يعرفها إلا من ذاقها فالصحة النفسية أساس صحة الجسد، قال بعض الأطباء: « إن الرحمة النفسية كافية لإعادة ضربات القلب السريعة إلى اعتدالها، وضغط الدم المرتفع إلى مستواه الطبيعي » فالإيمان بالله صحة نفسية، وهي أساس صحة الجسد.

الطب الوقائي

 أما الطب الوقائي سيد الطب البشري: فالطب الوقائي في الإسلام ينطلق من أن إزالة أسباب المرض أجدى وأهون من إزالة أعراضه، وأن المرض، وإن زالت أعراضه بالدواء فإن له آثاراً جانبية في وقت لاحق، تظهر على شكل أمراض قلبية ووعائية وكلوية من دون سبب مباشر.
 ويعد الطب الوقائي سيد الطب البشري كلِّه، لأن قوة الأمة تتجلى في قوة أفرادها، وإن دخلها يقاس بدخلهم، وإن الأمة التي تنزل بساحتها الأمراض، أو تستوطنها الأوبئة تتعرض لخسران كبير كما يجري في الصين اليوم والطب الوقائي حفاظ على الصحة والوقت والمال والجهد: سواءٌ في هذه القوى البشرية المريضة المعطلة التي كان من الممكن أن تسهم جهودها في زيادة الدخل القومي، أو في هذه الأموال الطائلة التي تنفق في معالجة هذه الأمراض، والتي كان من الممكن أن تنفق في بناء الوطن فتسهم في منعته، ورفعته، ويضاف إلى هذا أن ثمن معظم الدواء يستهلك نقداً أجنبياً صعباً نحن في أشد الحاجة إليه، لتنفيذ المشروعات الإنتاجية التي تعود بالنفع العام على الأمة.
 وإن معالجة مريض السِّل تستمر وسطياً سنة ونصف سنة، وتكلف المريض والدولة أموالاً وإمكانات كبيرة إضافة إلى ما يعانيه المريض من العذاب والقلق، بينما لا تحتاج الوقاية من هذا المرض إلا إلى لقاح يكلف دراهم معدودة .

النظافة في الإسلام

 والنظافة من الطب الوقائي، فالإسلام يأمر بالنظافة، فهي تقي من انتقال كثير من الأمراض المعدية التي تنتقل بتلوث الأيدي كالكوليرا والزحار، والالتهاب المعوي.
 والصينيون اليوم يوصون النساء بالحجاب والشباب بالوضوء والنظافة تنشط الدورة الدموية بتنبيه الأعصاب، وتدليك الأعضاء، وتحفظ وظائف الجلد أن تتعطل، فضلاً عن أثر النظافة في بناء الشخصية، وفي العلاقات الاجتماعية ، والله تعالى حثنا عليها، وجعلها سبباً لمحبته، فقال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

(سورة البقرة: الآية 222)

 وقد فهم الإمام الغزالي هذه الآية على أربع مستويات:
 1- تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث .
 2- تطهير الجوارح عن المعاصي والآثام .
 3- تطهير النفس عن الأخلاق الذميمة والرذائل الممقوتة .
 4- تطهير القلب عما سوى الله .
 وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بغسل اليدين قبل الطعام وبعده،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

( بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ )

(رواه ابن تيمية)

 والإسلام يأمر بالنظافة: ولا يخفى أن وضوء الطعام هو غسل اليدين والفم. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غسل الجمعة واجباً دينياً، ولو كان مُد الماء بدينار، قَالَ:

( حَقٌّ لِلَّهِ علَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وجَسَدَهُ )

(أخرجه البخاري ومسلم)

 ولا أدلُّ على أهمية النظافة في الإسلام من أنه جعلها شرطاً لأول عبادة فيه، وهي الصلاة، فقال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ ﴾

(سورة المائدة: الآية 6)

 وقد تفضل الله علينا بالماء الطهور، أي الطاهر المطهر لنتطهر به، فقال تعالى :

﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾

(سورة الفرقان: الآية 48)

الصلاة نوع من الطب الوقائي

 والصلاة بحركاتها من قيام وركوع وسجود واعتدال نوع من الطب الوقائي، فقد أكد علماء التربية الرياضية أن أحسن أنواع الرياضة ما كان يومياً، ومتكرراً، وموزعاً على كل أوقات اليوم، وغير مجهد، ويستطيع أن يؤديها كل إنسان من كل جنس، وفي كل عمر، وفي كل ظرف وبيئة، وهذا كله متوافر في الصلاة.
 هذا وإن انخفاض الرأس في الركوع والسجود يسبب احتقان أوعية المخ بالدم، وعند رفع الرأس فجأة ينخفض الضغط في الأوعية، وتتكرر هذه العملية ست مرات في الركعة الواحدة، وما يزيد على مئتي مرة في اليوم، وستة آلاف مرة في الشهر، ومن انقباض الأوعية وانبساطها تزداد مرونتها، وتقوى جُدُرُها وعضلاتها، وهذا يبعد عنها خطر تصلبها أو انفجارها، ولاسيما حين ارتفاع الضغط.
 والصلاة تحرك جميع عضلات الجسم القابضة والباسطة، وتحرك جميع المفاصل حتى الفقرية منها وتنشط القلب والدورة الدموية، وتقوي جدر شرايين المخ، فتقاوم التصلب والتمزق، وإن أخطر جهاز في الإنسان دماغه، وإن حسن تأديته وظائفه منوط بحسن ترويته بالدم، وإن السجود يوفر له تروية مُثلى، هذا فضلاً عن الطمأنينة والسعادة التي يشعر بها المصلي.
 هناك امرأة أنهكتها آلام الشقيقة؛ فذهبت إلى بلد أوربي بغية المعالجة، فقال لها الطبيب هناك: هل أنت مسلمة؟ قالت: نعم، قال لها: أتصلين؟ قالت: لا، قال لها: صلِّ يذهب ما بك، فامتلأت غيظاً، وسخرت من هذه الوصفة، وقالت: هل تجشمت مشاق السفر، وبذلت عشرات الآلاف ليكون الدواء هو الصلاة؟! عندئذ قال لها: إن أحد أسباب الشقيقة نقص في تروية المخ، بسبب عصبي، وإن الصلاة تحقق راحة نفسية تسهم في توسيع شرايين المخ.

الاعتدال في الطعام والشراب

 والاعتدال في الطعام والشراب وسائر المباحات من الطب الوقائي، قال تعالى:

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾

(سورة الأعراف: الآية 31)

 فنص الآية يأمر بالاعتدال في الطعام والشراب، لكن النهي عن الإسراف لم يقيد بالطعام والشراب، بل أطلق ليشمل كل شيء، والمطلق في القرآن على إطلاقه يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:

(ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِه)

(أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجة)

 قال أحدهم إن عُشر ما نأكله يكفي لبقائنا أحياء، وإن تسعة أعشار ما نأكله يكفي لبقاء الأطباء أحياءً »، وقد بين المصطفى صلوات الله عليه أن لذة الطعام لا تُحصَّل باختيار أنفس الأطعمة وأطيبها، ولكنها تُحصَّل بحالة تلابس الآكل، ألا وهي الجوع.
 وقال الإمام علي (عليه السلام): " نِعم الإدام الجوع ".
 وقد كُتب على مدخل إحدى المستشفيات في ألمانيا :«نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع». محمد بن عبد الله هذا أصل في الطب الوقائي، لأن الفائدة من الطعام لا تتحقق إلا بتمثله تمثلاً صحيحاً، ولا يكون الهضم والتمثل صحيحين إلا إذا انهمرت العصارات الهاضمة على الطعام انهماراً، وهذه لا تنهمر إلا في الجوع.
 اجلس إلى طعام، وأنت تشتهيه، وارفع يدك عنه، وأنت تشتهيه، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ في الطعام لذةً نتذوقها، وطاقة نستهلكها، وفضلات نطرحها فقال:

(الحمدُ للهِ الذي أذاقني لَذَّتَه، وأَبْقَى فِيَّ قُوَّتَه، وأَذْهَبَ عني أذاه)

(أخرجه الطبراني وابن السني)

 فالاعتدال في الطعام والشراب وسائر المباحات أصل الطب الوقائي.

الطب العلاجي

 وفي الإسلام طب علاجي: والطب العلاجي يعني تعاطي الدواء، والأخذ بأسباب الشفاء، والطب العلاجي موافق للعقل والشرع، فموافق للعقل، لأن في استعمال الدواء جلباً للمنافع ودفعاً للمضار، وموافقاً للشرع لقول الله عز وجل:

﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾

(سورة الشعراء: الآية 80)

 وقد بين النبي الكريم ما تنطوي عليه هذه الآية فقال:

( مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا قَدْ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ )

(أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد)

الشفاء مرهون بصحة تشخيص الداء، وصحة اختيار الدواء:

 وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاء من المرض يحتاج إلى شرطين اثنين، الأول: صحة تشخيص الداء وصحة اختيار الدواء لهذا الداء، وهذا شرط لازم غير كاف، والثاني: إذنٌ من الله لهذا الدواء، أن يفعل فعله، فيزيل أسباب المرض وأعراضه، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

(لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)

(أخرجه مسلم والنسائي وأحمد)

 إن الطبيب له علم يدل به إن كان للناس في الآجال تأخيرُ حتى إذا ما انقضت أيام رحلته حارَ الطبيب وخانته العقاقيرُ.

التداوي لا يتناقض مع الإيمان بالقدر:

 وقد قال الفقهاء: « إن استعمال الدواء المقطوع بفائدته بإخبار الأطباء لعلاج مرض يقعد المريض عن القيام بواجباته تجاه الله وتجاه من حوله، أو مرض يودي بحياته أو بعضوٍ من أعضائه، واجب ديني يرقى إلى مستوى الفرض »، وهنا محل الإشارة، إلى أن الطب في الإسلام اختصاص: مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ - أي معرفة بالطب - قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ- أي مسؤول

(من تطبَّبَ ولم يُعلمْ منهُ طبٌّ فهوَ ضامِنٌ)

(تخريج مشكاة المصابيح)

(أيُّما طبيبٍ تَطبَّبَ على قَومٍ لا يُعرَفُ لهُ تَطَبُّبٌ قبلَ ذلكَ فأعْنَتَ فهوَ ضامِنٌ)

(صحيح أبي داود)

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور