وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة القمر - تفسير الآيات 9-16 - الاستقامة والتوبة سبيل نجاة المؤمن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


الهوى والحق لا يجتمعان:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة القمر، ومع الآية التاسعة:

 بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

﴿  كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ (9)﴾

[ سورة القمر ]

القرآن الكريم أحياناً آياته تفسِّر آياته، بعض آياته يفسر بعض آياته، فقال تعالى:  

﴿ وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍۢ مُّسْتَقِرٌّ (3)﴾

[ سورة القمر ]

أي كذبوا لأنهم اتبعوا أهواءهم، أو كذبوا لأن حالتهم اتباع الهوى، فالهوى والحق لا يجتمعان، وقد قلت لكم من قبل: إن وراء كل عملٍ يفعله الإنسان أحد باعثين: العقل أو الشهوة؛ إرضاء الذات أو إرضاء الله -عزَّ وجل-، الإحسان أو الإساءة، القِيَم أو الحاجات، العمل للدنيا أو العمل للآخرة، وهذان الباعثان لا ثالث لهما، فإن لم تكن بالباعث الأول فأنت بالباعث الثاني، فالآية الثالثة وهي قوله تعالى: (وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍۢ مُّسْتَقِرٌّ) ، أيها الإخوة حينما قال الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور  ]

فإن لم تجد الاستخلاف موجودًا، ولا التمكين، ولا التطمين، لا استخلاف ولا تمكين ولا تطمين، كيف تفسر هذه الآية؟ هذا الوضع تفسره آية ثانية:

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم ]

أما إضاعة الصلاة فلا تعني أنهم تركوا الصلاة ولكن أضاعوا قيمتها بعدم الاستقامة، الإنسان إذا استقام فإنه يتَّصل، وإن لم يستقم لا يتصل، كل إنسانٍ بإمكانه أن يتوضأ، وأن يقف، وأن يقرأ، ويركع، ويسجد، لكن ليس بإمكانه أن يتصل إن لم يكن مستقيماً، فمن إضاعة الصلاة عدم الاستقامة، من إضاعة الصلاة أكل المال الحرام، من إضاعة الصلاة عدم التقيُّد بأوامر الشرع، من إضاعة الصلاة التفلُّت في العلاقات النسائية؛ فلذلك التكذيب يرافقه اتباع الهوى (وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْ)


معنى التكذيب وأنواعه ونتائجه:


ولكن أيها الإخوة أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني إلى توضيح عميق لمعنى التكذيب، أحياناً الإنسان يصدِّقُ بلسانه وهذا شأن عامة المسلمين، ما من مسلمٍ في العالم الإسلامي يمكن أن يقول: " أنا لا أعتقد بالآخرة، ولست مؤمناً بها"، هذا كلام لا يقع ما دام الإنسان نشأ من أبوين مسلمين في عالمٍ إسلامي، أي الجو العام جو أنه يوجد آخرة، وجنة، ونار، وحساب، وعذاب، وصلاة، وصوم، وحج، وزكاة، ليس هذا هو التكذيب العميق، التكذيب العميق ألا يأتي عملك مطابقاً لمعتقدك، فالإنسان حينما يرتكب الحرام، أو يأكل المال الحرام، أو يتفلَّت من منهج الله، وهو مقيمٌ على هذه المعصية وليس في رغبته أن يقلع عنها، وهو يقرأ القرآن ويحضر خطب الجمعة، هذا مكذبٌ بعمله لا بلسانه.

1ـ التكذيب باللسان:

التكذيب بالعمل أبلغ من التكذيب بالقول، لأن الذي يكذِّب بلسانه تناقشه، تحاوره، تجيبه، توضِّح له، تؤكِّد له، تقنعه، تقيم عليه الحجة والبرهان.

2 ـ التكذيب بالعمل:

أما الذي يكذب بعمله فهذا قد يقول بلسانه: أنا مؤمن، والآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، ولكن لا ترى في عمله أثراً للإيمان بالآخرة.  

الامتحان محدد في شهر حزيران، والطالب لا تراه إطلاقاً يفتح كتاباً، ولا يعكف على دراسةٍ، ولا يسأل سؤالاً، ولا يؤدي واجباً، عدم الاهتمام بالقراءة والمطالعة والحفظ والمراجعة وأداء الواجبات وهو يعلم علم اليقين أن الامتحان في حزيران فنقول: هذا يكذب بالامتحان لا بلسانه ولكن بعمله، فحذارِ أن يقع الإنسان في هذا المطب؛ أن تنفصل عقيدته عن سلوكه، ويعتقد أن الإسلام حق ودين عظيم، والآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، وهناك حساب، وعذاب، وما شاكل ذلك، فإذا دخلت بيته أو زرته في عمله فلا تجده منضبطاً ولا على طريق الاستقامة قائماً، لا تجد دخله حلالاً ولا إنفاقه حلالاً، فكيف نوفِّق بين هذا الوضع؟ لا شك في أن يكون هناك ما يسمى بالتكذيب العملي، والتكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب النظري، والمؤمن الصادق -دائماً وأبداً- يطابق بين سلوكه وبين معتقده، بين سلوكه و بين منهجه، بين سلوكه وبين الحلال والحرام، وقِوام الدين بعد معرفة الله الحلال والحرام:

(( ... يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ... ))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس  ]

فالإنسان حينما يكذّب يكون متبعاً للهوى، اتبع الهوى فكذّب، أو كذّب فاتَّبع الهوى (وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍۢ مُّسْتَقِرٌّ) ؛ لذلك: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي أن التكذيب قديم، والتكذيب مستمر، والإنسان حينما يقرأ كلام الله -عزَّ وجل- يشعر أن هناك سُنَنَاً ثابتةً في الحياة، فالحق قديم، والحق يعاديه الباطل من القِدَم، وهناك معركةٌ بين الحق والباطل، كانت ولا تزال وستبقى، فالإنسان المتفلت إن كان له أخ في البيت ملتزم دائماً يحاسبه حساباً عسيراً، دائماً يضعه تحت الأضواء الكاشفة، دائماً يكبِّر أغلاطه ليثبت أنه على حق وأن أخاه على الباطل.


عاقبة  التكذيب:


أيها الإخوة الكرام؛ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الحقيقة أن هذه القصص حينما يبيِّن الله لنا -جلَّ جلاله- أن هذه الأقوام كذَّبت فأهلكها، أريد بعد حين بعد أن نأتي على كل قصص هذه السورة، أريد آيةً أساسيةً في هذه السورة وهي قوله تعالى:

﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ (43)  أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ(44) سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ (45) بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ(46)﴾

[ سورة القمر ]

هذه الآية هي مغزى تلك القصص، أي إذا أهلك الله قوم نوح بأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، وأهلك قوم عادٍ وقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم شُعيبٍ، فمن نحن؟ إن أهلك هؤلاء الأقوام فلابد من أن نهلك إن خالفنا واتبعنا أهواءنا؛ هذا هو المغزى، وقد يقول الأب لابنه أحياناً: انظر إلى فلان وفلان... لقد انحرفوا فدمّروا أنفسهم؛ أي لا تنحرف لئلا تُدمّر كما دُمِّروا، لا تأكل مالاً حراماً لئلا يتلف مالك كما أُتلف مالهم، لا تنحرف أخلاقياً تُصَاب بالمرض الذي أُصيبوا به، فالإنسان العاقل يستنبط من التاريخ أَجَلَّ المواعظ، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الذي أريد أن أؤكِّد عليه أن التكذيب الخطير هو التكذيب العملي، والتكذيب العملي: ألا يأتي السلوك مطابقاً لما تعتقد، وحينما لا تجد في حياة الإنسان ما يؤكد أنه مؤمنٌ بالآخرة فهذه من أكبر المصائب.


تكريم الله -عزَّ وجلَّ-للإنسان:


 (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا)  أما عبدنا، العبد هو سيدنا نوح وأما هذه ( نا) الضمير الدال على الفاعلين، أُضيف هذا الإنسان إلى ذات الله -عزَّ وجل-، كما قال العلماء: إضافة تكريم وتشريف، وحينما يقول الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(53)﴾

[ سورة الزمر ]

حينما يقول الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ نَبِّئْ عِبَادِىٓ أَنِّىٓ أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (49)﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿ وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ (42)﴾

[ سورة الحجر  ]

هل تشعر أن هذا العبد إذا أضيف إلى ذات الله -عزَّ وجلَّ- فهذه إضافة تكريم وإضافة تشريف، أيليق بالإنسان وهو الذي سُخّرت له السماوات والأرض تسخير تعريف وتكريم أن يكون غافلاً عن الله في حين أن كل المخلوقات تسبح بحمد الله وتقدِّس له.

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء ]


استمرار وجود الإنسان منوط باتباع تعليمات الخالق:


حينما يأتي الإنسان ليستمع إلى تفسير آياتٍ من كتاب الله، فهل هناك عمل أجلُّ وأخطرُ وأنفعُ من أن تتعرف إلى منهجك في الحياة؟! فإذا اشتريت آلةً غالية الثمن؛ غاليةٌ جداً، ولها أرباح طائلة، وجعلتها قِوام عملك، فهل من عملٍ أخطر وأنفع وأجدى من أن تعكف على تعليمات الصانع فتدرسها؟ فالذي عنده آلة ثمنها ثلاثون مليونًا؛ آلة إلكترونية، ويعلق عليها آمالاً كبيرة، وهي مصدر رزقه الوحيد، فهل من عملٍ أجلُّ وأخطر من أن يعكف على تعليمات الصانع فيترجمها، ويفهمها، ويستعملها؟ وأنتم ألا تحبون أنفسكم؟ الإنسان يحب ذاته، يحب وجوده، ويحب كمال وجوده، واستمرار وجوده، وسلامة وجوده، فسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك منوطٌ باتباع تعليمات الصانع، فالإنسان حينما ينطلق من حبه لذاته في تطبيق تعاليم الله -عزَّ وجلَّ- فهذا من أعظم النعم. 

ذكرت اليوم لمن فاته استماع هذه الحقيقة أن مركبةً فضائيةً أُرسلت إلى الفضاء الخارجي قبل أربع سنوات، وهي تقطع في الساعة أربعين ألف ميل، والميل كيلو ونصف تقريباً، قبل يومين أرسلت إشارةً إلى وجود مجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، أُذيعت هذه الحقائق في إذاعة عالمية، المجرة التي اكتشفت حديثاً جداً تبعد عن الأرض ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، معنى ذلك أن هذه المجرة كانت في هذا المكان قبل ثلاثمئة ألف بليون سنة وهي تمشي بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر في الثانية، أين هي الآن ؟ ألم يقل الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾

[ سورة الواقعة ]

أهذا الإله العظيم يعصى؟ أهذا الإله العظيم ألا يخطب وده؟ أينسى؟ يُغفل عنه؟ فالإنسان العاقل يطلب العلم ليتعرَّف إلى الله -عزَّ وجلَّ- وليتعرف إلى منهجه، يملك- كما يقولون- عزيمة قوية تحمله على تطبيق الأمر والنهي؛ هذا هو الفلاح، وهذا هو النجاح، وهذا هو الفوز، وهذا هو التّفوّق. 


الاعتراف بفضل الله عبودية له:


(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا) عبدنا، فهل أنت عبدٌ لله؟ هل تشعر بافتقارك إلى الله؟ العبودية لله -عزَّ وجلَّ- ليست تأدُّباً ولكن حقيقة، أحياناً الإنسان يتواضع وهو يعلم أنه كبير، وأنه قوي، وأنه قادر، وأنه غني لكنه يتواضع، إلا أن العبودية لله شيءٌ آخر، كلما ازددت معرفةً بذاتك تواضعت لله، وافتقرت إليه، وأقبلت عليه ، الإنسان لا شيء، الإنسان قويٌ بالله، عالمٌ بالله ، غنيٌ بالله، مُعافى بفضل الله، يتحرَّك بفضل الله، يفكر بفضل الله، والإنسان مُعَرَّض في أية ثانيةٍ إلى فقد أحد أعضائه أو أحد أجهزته، أو إلى خللٍ خطيرٍ يصيب أجهزته، عندئذٍ تصبح حياته جحيماً، فالذي يعترف بهذه الحقيقة هو عبدٌ لله، وحينما تشعر أن هذه الآلة كل ميزاتها لا تقوم إلا إذا أوصلتها بالتّيار الكهربائي، تشعر أنها مفتقرة إلى هذا التّيار الكهربائي، فلو انقطع عنها سكتت، وتعطَّلت وأصبحت عبئاً عليك وليست في خدمتك، فالاعتراف بالحقيقة عبودية لله -عزَّ وجلَّ-، فالإنسان حينما يفتقر يرقى، وحينما يستغني يسقط. 

﴿ كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ(6)﴾

[ سورة العلق ]

متى؟ 

﴿ أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ (7)﴾

[ سورة العلق ]

إذا استغنى عن الله يطغى، أما إذا افتقر إلى الله يستقيم على أمره، إذا شعرت أنك عبدٌ وأن الله هو كل شيء، وأن هذا منهجه، إذاً عليك بطاعته، أمّا إذا شعرت أنك مستغنٍ عنه فهذه هي الطَّامة الكبرى، بالمناسبة أيها الإخوة ذكرت مرةً أن هذه الطاولة مثلاً موضوع عليها هذا المصحف، وهذه الآلات، وهذا الكأس، لكن هي تتحمل أوزانًا أكبر من هذا بكثير؛ بمعنى أن هناك احتياطاتٍ كثيرةً أودعت فيها، يمكن أن يقف عليها إنسان، يمكن أن تتحمَّل إنسانين يقفان عليها، إذاً قلَّما تُصاب بالعطب لأن احتياطها كبير، كان من الممكن أن يكون الإنسان على شاكلة هذه الطاولة، بكل عضو من أعضائه، بكل جهاز من أجهزته احتياط كبير بحيث لا يمرض أبداً، يعيش شاباً إلى أن يأتيه الأجل، فيموت فجأةً، كان من الممكن أن يكون الإنسان كذلك، لكن شاءت حكمة الله أن يُخلق الإنسان ضعيفاً، لماذا؟ ليفتقر في ضعفه، ليرى ضعفه، لعل من حكم الصيام أن الإنسان القوي الشديد العتيد حينما يدع الشراب والطعام في أيام الصيف الحارة يرى أنه ذاب كما تذوب الشمعة، ذبل كما تذبل الورقة، تتوقف نشاطاته على كأس ماء، لعله في الصيام يعرف حجمه، يعرف ضعفه، يعرف افتقاره.  


رعاية وعناية الله-عزَّ وجلَّ- مقترنة بمقدار الافتقار إليه:


لذلك أيّها الإخوة، يفتقر الإنسان إلى أن يكون عبداً لله، العبودية أن تعرف الله، ولا أبالغ إذا قلت: إن الدرس اليوميّ الذي نُمتحن به مقدارُ افتقارِنا إلى الله ومقدار اعتزازنا بِأنفسِنا، ففي اللحظة التي نفتقر إلى الله يتولاَّنا الله بالرّعاية والعِناية، وفي اللحظة التي نعتدُّ فيها بأنفسنا يتخلى الله عنا، لذلك مِن دُعاء النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-:  

(( اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو فلا تَكِلني إلى نَفسِي طرفةَ عينٍ، وأصلِح لي شَأني كلَّه لا إلَه إلَّا أنتَ))

[ أخرجه أبو داود، و أحمد عن أبي بكرة نفيع بن الحارث  ]

لذلك القانون: تفتقر فيتولاَّك، تستغني فيتخلى عنك، أنت بين الافتقار وبين الاستغناء، الاستغناء جهل، والافتقار علم، الاستغناء ضعفٌ في الأخلاق، أمّا الافتقار قمّة الأخلاق، ولا تنسوا أنَّ أصحابَ النّبيِّ -رضوانُ الله عليهم- وهم قممُ البشريّةِ حينما قالوا:" لن نُغلبَ من قلةٍ" تخلى اللهُ عنهم. 

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)﴾

[ سورة التوبة ]

يوم حنين أعجبتكم كثرتكم، في بدرٍ افتقرتم: 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾

[ سورة آل عمران ]

صدقوني أنَّ هذا الامتحان يصيبُ كلَّ مؤمنٍ في اليوم عشراتِ المرات، إذا خطر بباله أنه متمَكِّن، وأنّ خبرتهُ عميقة، أن مالهُ وفير، أنّه بالدّراهم يحلُّ كلَّ مشكلة، اعتدَّ بمالهِ، اعتدَّ بقوتهِ، اعتدَّ بعلمهِ، اعتدَّ بخبراتهِ، يتخلى اللهُ عنه، ويلقِّنه الله درساً لا يُنسى، تأتيهِ المشكلةُ من حيثُ لا يحتسب، من مكان طمأنينَتهِ، من مأمنه، يُؤتَى الحذِرُ من مَأمنِه، فأنا هذا الكلام تعليق على قوله تعالى: (فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا)   فكيف أنّكَ شؤون العلم تبدأ بإتمام مرحلة ابتدائية، فإعدادية، فثانوية، فإجازة أو ليسانس أو بكالوريوس، ثم دبلوم عام، دبلوم خاص، وماجستير، ودكتوراة ثم بورد إذا كان بالطب مثلاً، أكريجيه، (إف آر إس) كيف الشهادات مسلسلة هكذا؟! صدقوني أنَّ مراتب الإيمان مسلسلة إلى أن تنتهي في أعلى مستوياتها في العبودية لله -عزَّ وجلَّ-، حينما بلغ النّبيُّ سدرة المنتهى ماذا قال الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ (10)﴾

[ سورة النجم ]

أي أنتَ في أعلى مستوياتك حينما تشعر بعبوديتك لله -عزَّ وجلَّ-، أنتَ في أعلى درجاتِ رقيِّك حينما تشعرُ أنّكَ مفتقرٌ إلى الله، كُلَّما ازددتَ إدراكاً لعبوديتكَ لله ازددت رفعةً عِند الله وعندَ النّاس، وأمدَّكَ الله بقوةٍ منه، وبعلمٍ منه، و بغنىً منه، أنتَ غنيٌ بالله فقيرٌ بذاتك، أنتَ قويٌ بالله ضعيفٌ بذاتك، أنتَ عالمٌ بالله جاهلٌ بذاتك، فلذلك أيُّها الإخوة كانَ الأنبياء عُبَّاداً لله-عزَّ وجلَّ- والمؤمن يعرف هذه العبودية، لذلك حينما يعقل الإنسان هذه الحقيقة لا تجد على لسانه فلتةً تشير إلى شِرْكِهِ، دائماً يقول: إن شاء الله، لقد أكرمني الله، لقد منَّ الله عليّ بفضلهِ فأعطاني كذا، لا يرى أنَّ الذي حصّلهُ بجهدهِ، ولا بكسبهِ، ولا بذكائهِ، ماذا قال قارون؟  

﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

فأهلكه الله: 

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ (81)﴾

[ سورة القصص ]

ماذا قال إبليس؟

﴿ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ (76)﴾

[ سورة ص ]

فأهلكه الله -عزَّ وجلَّ-، ماذا قال قوم بلقيس: 

﴿ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍۢ وَأُوْلُواْ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾

[ سورة النمل ]

ماذا قال قارون؟ (إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى) هذا هو الشرك، المؤمن يرى أنّ الله -سبحانه وتعالى- أكرمهُ، أكرمهُ إذ خلقهُ. 

﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًٔا مَّذْكُورًا (1)﴾

[ سورة الإنسان ]

أنعم عليه بنعمة الوجود، أنعم عليه بنعمة الإمداد، أنعم عليه بنعمة الإرشاد، لذلك المؤمن دائماً يخترق النعمة إلى المُنْعِم، والكافر يقف عند النعمة، المؤمن يخرقها إلى المُنْعِم، أما الكافر يقفُ عندها ويستمتع فيها بلؤمٍ شديد. 


 من هو المَجْنُون؟


إذاً: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ) الحقيقة أنَّ المَجنون من عصى الله، لذلك:

﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَءَاتَىٰنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَٰرِهُونَ (28)﴾

[ سورة هود ]

من هو المجنون؟ الذي عُمِّيَت عليه رحمة الله، في مقتبلِ العُمر يرى المالَ كلَّ شيء، في أوسطه يراه شيئاً وليس كلَّ شيء، وهو على شفير القبر يراه ليس بشيء: "يا أهلي يا ولدي لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حلِّه وفي غير حلِّه، فالهناء لكم والتبعة علي"

المؤمن يرى طاعة الله هي كل شيء، يُصَدِّق الله -عزَّ وجل-، هناك نقطة دقيقة جداً ذكرتها اليُوم في الخطبة: كان من الممكن أن نأتي جميعاً إلى الدُّنيا دفعةً واحدة، وأن نغادرها دفعةً واحدة، لكن شاءت حِكمة الله أن نأتيها تباعاً، لماذا؟ لأنَّه يمكن لأحدنا أن يُعَلِّم الآخر، فالإنسانُ الذي عمره خمسونَ سنة قد تراكمت عندهُ الخِبرات، والحقائق، والتّجارب، والمعارف، وعرف الله، يُلَخِّص كلَّ هذا العمر وكلَّ هذه التَّجارِب لِمن كانَ صغيراً بِكلمات، فسرُّ التَّعليم أنَّك تأخذُ خِبرات الأجيال، هذا كِتابُ الله-عزَّ وجل- حينما تستَمِعُ إلى تفسيره، فهذا عمل خطير جِداً لأنَّه منهجُكَ في الحياة، فالتَّعليم عن طريق اللُّغة شيء راقٍ جداً، وهذا الشّيء يليقُ بالإنسان لأنَّ الله -عزَّ وجل - قال:  

﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ (4)﴾

[ سورة الرحمن  ]

أنتَ مكرم بِالبيان، والبيانُ شفهيّ، وهُناك بيان كتابيّ، والكِتابيّ أرقى وأسمى لأنَّه ينقلُ المَعارِف من جيلٍ إلى جيل، ومن أُمّة إلى أُمّة، ومن قارةٍ إلى قارّة؛ فلذلك: (فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ)

  فإذا شخص أمسك إنسان بكيلو من الذهب الخالص، وقال له آخر: هذا ليس بذهب، هذا معدن رخيص، هذا الاتهام يجعل هذا المعدن رخيصاً؟ أبداً، تقييمك لا يغيِّر حقائق الأشياء، فلو قالوا عنه: (مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ) هو عند الله نبيٌ مُرسل، فالمؤمن الصّادق لا يُلقي بَالاً لِأقوال النَّاس فيه، من عرفَ نفسَهُ ما ضرتهُ مقالةُ النّاس بهِ، ازدُجِر: أي زَجَرتهُ الجن، أي أصَابتهُ لوثةٌ عقليّة، هذا مِن عملِ الجن، والحقيقة حِينما يتخلَّف المُجتمع وتفشو فيه المادة يصبِحُ المؤمن غريباً، قال -عليه الصّلاةُ والسَّلام -: 

(( بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

(( طوبى للغرباءِ، قيل: من الغرباءُ؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثيرٍ من يعصيهم أكثرُ ممن يطيعُهم))

[  أخرجه أحمد، والطبراني، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو  ]

الإنسانُ إذا أقامَ شرعَ اللهُ وترك كلَّ المُوبقات، وتركَ كلَّ المُلهيات، وضبطَ لسانهُ، يُتَّهمُ عند النّاس بأنّه مجنون، وأنّه لا يعرف كيف يعيش، وأنَّ الذين أكلوا المال الحرام هم الأذكياء والأقوياء؛ هذا حال المجتمع في آخر الزَّمان، يُكذَّبُ الصَّادق ويُصدَّقُ الكاذب، يُؤتَمَنُ الخائن ويُخوَّنُ الأمين، هذا من علامات آخرِ الزمان التي أشار إليها النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام -. 

(فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ) معنى ذلك أنّ هناك سؤالًا دقيقًا الآن، هذه التُّهمة التي اتُّهِمَ بها هذا النَّبي الكريم سيدنا نوح -عليهِ السَّلام- ألا يسأل أحدكم هذا السؤال؟ لماذا أثبتها الله في القرآن الكريم؟ هي تهمة طُرِحَت، والنَّبي - عليهِ الصَّلاة والسَّلام - قالوا عنه: ساحرٌ ومجنون، وقالوا عنه: كاهن، و قالوا: عنه شاعر، لماذا أثبت الله هذه التهم المفتراة على أنبيائه في قرآنه الكريم الذي يتلى إلى يومِ الدِّين؟! الجواب بسيط جداً: أي من أنت إذا كان نبيٌ كريم قد اتُّهِمَ بالجنون، وأُثبتت هذا التهمة في القرآن الكريم لِتُتلَى إلى يوم الدِّين؟ ومن أنت إذا انتقدك منتقد أو انتقص من قدرك إنسانٌ جاهل؟ لا تعبأ فربنا -عزَّ وجلَّ- جعل الأنبياء قدوةً لنا.


الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء:


﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ (10)﴾

[ سورة القمر    ]

الله -عزَّ وجلَّ- ما كان بالإمكان أن يخلق النبي وأصحابه المحبِّين في عصرٍ دون أن يخلق معهم إنساناً كافراً ولا مكذباً ولا مفترياً، فيعيش النَّبي مع أصحابه حياةً جميلةً وادعةً، كلها مودة، وكلها محبة، و كلها خدمة، و كلها مؤاثرة، والإسلام ينتشر هكذا ببساطة من دون جهد، وحروب، وغزوات، لا يُوجَد رجل كافر ينتقد النَّبي، ولا شاعر يهجوه، ولا كفار يُخرجُونه من بلده، ولا أشخاص يتَّبعونه في طريق الهِجرة، ولا أشخاص يؤذونهُ في الطَّائف، ولا أشخاص يَأتَمِرُونَ عليه في الخندق، ألم يَكُن هذا ممكناً؟ إنه ممكن، ولكن كيف يظهرُ كمالُ النَّبي؟! شاءت حكمة الله أن يجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، والإنسان بالابتلاء والامتحان يظهر معدنه، فما كان لنا أن نعرف قدرَ النَّبي لولا هؤلاء الكفار الذين نَكَّلوا، واتَّهموا، وأخرجوا، وكذبوا، وفعلوا الأفاعيل، وقد صبر النَّبي وصبر حتى أكرمه الله   -عزَّوجل-.

أنا أقول لكم هذا الكلام: الإنسان إذا اتّبع الحق فربما أصابته بعض المتاعب، أحياناً من أقرب النّاس إليهِ، أحياناً من زوجته، من أولاده أحياناً، من إخوته، من جيرانه، فوطِّن نفسك على أن الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، وطِّن نفسك على أنك مُبتلى، على أنّك ممتحن، على أنّ الله لن يُمكِّنك قبل أن يبتليك، لن يعطيك قبل أن يجعلك تجاهد في سبيله؛ فلذلك هذا معنى قول الله -عزَّ وجلَّ-: (وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ) أثبت لنا هذه التهمة الباطلة المفتراة على نبيٍ كريم كي يكون لنا قدوةً في تحمل الشدائد، وذكر: ( فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا) فالله -جلَّ جلاله- جعل أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان أن يكون عبداً لله، وكلما ازداد افتقاراً لله ومعرفةً بقدره وضعفهِ ازداد قرباً ورفعةً وقوةً وعلماً وغنًى، لذلك النقطة الدقيقة جداً أنَّ الله خلقك ضعيفاً لتفتقر في ضعفك فتسعد في افتقارك، ولم يخلقك قوياً لأنه إذا فعل ذلك استغنيت بقوتك فشقيت باستغنائك، استغنيت فشقيت، افتقرت فسعدت.   


أهمية الدعاء و أسبابه:


(فَدَعَا رَبَّهُ) إخواننا الكرام؛ والله الذي لا إله إلا هو يكاد الدّين كله في النهاية يكون دعاءً صادقاً لله -عزَّ وجلَّ-، هذه الأدعية التي دعاها النّبي، وأصل الدعاء من أرقى أنواع العبادة، الدعاء هو العبادة، والدعاء هو افتقار، فالإنسان لما يكون مؤمنًا بالدعاء، الله – عزَّ و جلّ - قال: 

﴿  قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَآؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًۢا (77)﴾

[ سورة الفرقان ]

أولاً: أي أن الله -عزَّ وجلَّ- يعبأ بنا إذا دعونا، يحبنا إذا دعونا، يكرمنا إذا دعونا، يستجيب لنا إذا دعونا، ينصرنا إذا دعونا، ينقذنا إذا دعونا، يحمينا إذا دعونا،ويوفقنا إذا دعونا، لماذا؟ لأن الإنسان لا يدعو إلّا من يؤمن بوجوده، هل يمكن لك أن تدخل إلى بيت فارغ لا يوجد فيه إنسان وتخاطب واحداً موهوماً؟ غيرمعقول، أنت لاتدعو إلا إنسانا ًمؤمناً بوجوده.

ثانياً: أنت لا تدعو إنساناً لا يسمع، بل تدعو إنسانًا أمامك تراه رأي العين وهو مستمعٌ إليك، فلو كان لا يسمع فلا تدعوه.

ثالثاً: إنسان موجود ويسمعك، لا تدعو عدوَّك بل تدعو من يحبك.

رابعاً: الإنسان لا يدعو إلا إنسانًا مؤمنًا بوجوده، يستمع إليه، محباً له، قادراً على إنقاذه مما هو فيه، فأنت حينما تدعو الله حقيقةً أنت مؤمنٌ بوجوده، ومؤمنٌ بأنه يسمعك، مؤمن بأنّه يحبك، مؤمن بأنه قادر على إنقاذك مما أنت فيه؛ لذلك يعبأ بك، الدُّعاء معناه المعرفة ، أنت لا تدعو الله إلا إذا عرفته لذلك: (قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَآؤُكُمْ) (قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) ، شيء آخر: 

﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)﴾

[ سورة النمل ]

فالمضطر من له غير الله؟! إخواننا الكرام؛ يجب أن تعلموا علم اليقين أن الإنسان إذا أَلَمَّت به مصيبة وكان مستقيماً على أمر الله، عليه أن يعلم العلم القطعي أن هذه المصيبة التي شاءها الله له وهو على استقامةٍ على أمر الله سوف ترفعه مرَّتين، سوف ترفع مستوى معرفته بالله، وسوف ترفع مستوى محبَّته لله، هناك قفزتان وراء كل مصيبة للمؤمن المستقيم.

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ (155) ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ (156) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ(157)﴾

[ سورة البقرة ]


إن الله-عزَّ وجلَّ-  يحب الملحين في الدعاء:


أيها الإخوة؛ (فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ) إن الله يحبُّ المُلِّحين في الدُّعاء.

(( مَن لم يَدعُ اللَّهَ سبحانَهُ، غَضبَ علَيهِ ))

[ أخرجه الترمذي، وابن ماجه واللفظ له ، وأحمد عن أبي هريرة ]

إن الله يحبُّ من عبده أن يسأله حاجته كلها، إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح عجينه: 

(( لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا؛ حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ ))

[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك وضعفه الألباني  ]

ادع الله: 

(( إنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حتَّى إذا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، نَزَلَ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فيَقولُ: هلْ مِن مُسْتَغْفِرٍ؟ هلْ مِن تائِبٍ؟ هلْ مِن سائِلٍ؟ هلْ مِن داعٍ؟ حتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة  ]

يجب أن تجعل الدعاء أساس حياتك، حسنًا لو هناك مشكلة، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصّلاة، ليكن لك صلاة الحاجة، النبي شَرَعَ لنا صلاة الحاجة، لك مشكلة صلّ صلاة الحاجة، (فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ* فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ) لدينك يا رب.


 الدعاء سبب قوة الإنسان و غناه:


يقولون: إن نور الدِّين الشّهيد -هكذا قرأت والله أعلم- حينما أراد أن يدفع الفرنجة عن هذه البلاد وكانت هناك معركةٌ حاسمة فسجد وقال: "يا رب من هو نور الدين حتى تنصره؟ انصر دينك" ، وأيضاً أنت ادعُ الله -عزَّ وجلَّ-، وربنا -عزَّ وجلَّ- إذا ساق لك شبح مصيبةٍ من أجل أن يسمع صوتك، من أجل أن يسمع دعاءك، من أجل أن تستيقظ لقيام الليل، من أجل أن يسمع تهجُّدك، من أجل أن يُكَرِّمك، بعد كل مصيبة هناك شَدةٌ إلى الله، وكل شِدَةٍ وراءها شَدّة، كل محنةٍ وراءها مِنْحة؛ هذا هو المعنى. 

﴿ فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍۢ(11) وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ (12)﴾

[ سورة القمر   ]

أنت بالدّعاء تصبح أقوى الناس، لأنَّ الله أقوى من كل قوي، أنت بالدعاء تصبح أغنى الناس لأن الله أغنى من كل غني، ملخَّص الدين كله أي أن تكون مع الله بالدعاء، وإذا قال الله -عزَّ وجلَّ-:

﴿ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ (23)﴾

[ سورة المعارج ]

أي يدعون الله دائماً في كل أحوالهم، والدعاء كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: 

(( الدُّعاءُ هوَ العبادةُ، ثمَّ قالَ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ))

[ أخرجه أبو داود، الترمذي، وابن ماجة عن النعمان بن بشير  ]

ومن لا يدعوني أغضب عليه، والدعاء هو العبادة، الشّيء الدّقيق أن الإنسان بالدعاء يقفز قفزةً نوعيةً في معرفته بالله، وفي محبته له، وإذا أردت أن تُحدِّث الله فادعه، وإذا أردت أن يُحدِّثك الله -عزَّ وجلَّ- فاقرأ كلامه، هل هناك أمتع من أن تناجي الله -عزَّ وجلَّ-؟!


 بعض من أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-:


لذلك احفظ أدعية النّبي-عليه الصلاة والسلام-؛ أدعيةٌ جامعةٌ مانعةٌ محكمة، اجعل كتاب دعاءٍ في جيبك، الإنسان في وقت ميِّت أحياناً يركب مركبة عامة، يسافر، يمشي في الطريق، فإذا معه كتيِّب دعاء، وقرأ أدعية النبي وحفظها وأصبحت ملكه فهو قادر على أن يدعو الله في كل لحظة، وإن كان بأي لغة، وبأية طريقة، وبأي أسلوب الدعاء مقبول، لكن تجد أن دعاء النبي جامع مانع، مثلاً:

(( اللهمَّ اهدِنا فيمَن هدَيت (بعد الهدى العافية)، وعافِنا فيمَن عافيت (بعد المعافاة يتولاك)، وتولَّنا فيمَن تولَّيت، وباركْ لنا فيما أعطيت، وقِنا شرَّ ما قضيت، إنك تَقضي ولا يُقضى عليكَ، إنه لا يَذِلُّ مَن والَيت، ولا يَعزُّ مَن عاديت، تباركت ربَّنا وتعالَيت ))

[ أخرجه أبو داود، الترمذي، والنسائي وابن ماجة عن الحسن بن علي بن أبي طالب    ]

فأحياناً يخلق الله من الشيء القليل شيئًا كثيرًا، هذا دعاء جامع مانع. 

(( قلت يارسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها، قال: قولي اللهمَّ إنَّك عفوٌ (كريم) تحبُّ العفوَ فاعفُ عني ))

[ أخرجه الترمذي، وابن ماجة وغيرهم عن عائشة أم المؤمنين  ]

(( اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في دِيني و دُنيايَ، وأهلي ومالي، اللَّهمَّ استُرْ عَوراتي، و آمِنْ رَوعاتِي، اللَّهمَّ احفَظْني من بينِ يديَّ ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فَوقِي، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغْتَالَ مِن تحتي ))

[ رواه أبو دواد، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد عن عبد الله بن عمر . ]

( اللهم اغفر زلتي، اغفر ذنبي، وأقل عثرتي، وأمن حوائجي) اقرأ الأدعية: 

(( ما أصاب أحدًا قط همٌّ و لا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، و نورَ صدري، و جلاءَ حزني، و ذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ و حزنَه، و أبدلَه مكانَه فرجًا... ))

[ أخرجه أحمد، وابن حبان، والطبراني عن عبد الله بن مسعود ]

(اللهم اهدنا بالهدى ونقنا بالتقوى) 

(( اللهمَّ ارزقني حبَّك، وحبَّ من ينفعني حبه عندك، اللهمَّ ما رزقتني مما أحبُّ فاجعلهُ قوةً لي فيما تحب اللهمَّ ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب  ))

[ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطمي ]

(اللهم دلني عليك ودلني على من يدلني عليك) أدعية جميلة جدًا، (اللهم نحن بك وإليك)

(( عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ مُكاتَبًا جاءه فقال: إنِّي عجزتُ عن كتابتي فأعِنِّي قال: ألا أعَلِّمُك كلماتٍ عَلَّمَنيهنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو كان عليك مِثلُ جَبَلٍ دَينًا أدَّاه عنك، قل: اللَّهُمَّ اكْفِني بحلالِك عن حرامِك، وأغْنِني بفَضْلِك عمَّن سِواك ))

[ أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب  ]


المؤمن ينجِّيه الله من الكرب العظيم دائماً:


(فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ* فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍ) سمعت مرة أنّه في قرية من قرى إيطاليا نزل فيها أمطار في ليلة واحدة ثمانمئة ميليمتر، ونحن مستوى أمطار دمشق في العام كله مئتان وستة عشر، وفي ليلة واحد نزل ثمانمئة ميليمتر، فربنا-عزَّ وجلّ- إذا فتح أبواب السّماء يصبحُ الماء مُصيبةً.

(فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍۢ مُّنْهَمِرٍۢ* وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا) فالتقى الماءان ماء السَّماء مع ماء العُيون، (فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ) أي أن هذا الأمر هو إهلاك هؤلاء القوم غرقاً، أما المؤمنون: 

﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

﴿ وَحَمَلْنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍۢ وَدُسُرٍۢ (13)﴾

[ سورة القمر  ]

سيدنا نوح ومن آمن معه (عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍۢ وَدُسُرٍ) أي في سفينة مؤلَّفة من ألواح ومن حبال مربَّطة بها الألواح.  

﴿ وَحَمَلْنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍۢ وَدُسُرٍۢ (13) تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ(14)﴾

[ سورة القمر  ]

بحفظنا ورعايتنا، أحياناً الإنسان يتكلم كلمة لطيفة فيقول لك: هذه الحاجة لزمتني في وقت الشِّدة فكأنَّ ثمنها مليون ليرة، فالإنسان حينما تأتي مصيبةٌ كبيرة، يأتي كربٌ عظيم، يكون مستقيماً سابقاً والله ينجيه فيشعر بقيمة الإيمان، في الرخاء المؤمن غير واضح؛ مؤمن مستقيم لكنه ضائع مع النّاس، أما حينما يأتي الكرب العظيم والبلاء الشديد يجعلُ الله -عزَّ وجلَّ-النّاس كأعجازِ نخلٍ منقعر ترى هذا المؤمن قد حفظه الله -عزَّ وجلَّ- بحفظه الشديد، وهناك آلاف القِصص ولا مجال لذكرها هنا، آلاف القصص تؤكِّد أن المؤمن المستقيم ينجيه الله -عزَّ وجلَّ-، وأنا أقول لكم دائماً: أنه ما من مصيبةٍ أعظم من أن ترى نفسك فجأةً في البحر، في الليل وأنت لا تحسن السباحة في أعماق البحر، ثم يأتي حوتٌ فيلتقمك لتصبح في بطنه، في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر، وظلمة اللَّيل البهيم.. فسيدنا يونس نادى في الظلمات:  

﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ(87) فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

يجب أن توقن بهذه الآية، المؤمن ينجِّيه الله من الكرب العظيم دائماً : (وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ) هذا قانون. 


عاقبة المكذبين بالدعوة إلى الله:


طبعاً: (وَحَمَلْنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍۢ وَدُسُرٍۢ * تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) دعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وعلانيةً، فنادى نوحٌ ربه:  

﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِىٓ إِلَّا فِرَارًا (6)﴾

[ سورة نوح ]

والله -عزَّ وجلَّ- قال: (تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا) وحفظنا، ورعايتنا، (جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) أي لهذا النبي الكريم الذي كفروا بدعوته.  

﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ(15)﴾

[ سورة القمر   ]

نحن يهمنا آخر آية التي هي مفصلية -كما يقولون- هنا: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُر* أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ*سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ *بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) ، وبالمناسبة هناك ساعة عامة وساعة خاصة، الإنسان إذا طغى وبغى له ساعةٌ خاصة ينتهي فيها؛ الموت، والإنسان إذا استقام وعمل أعمالاً صالحة يكون الموت عرسه، وفرحته، وتحفته (وَلَقَد تَّرَكْنَٰهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) أي هل من متذَكِّر؟ 

﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (16)﴾

[ سورة القمر  ]

دائماً العذاب يأتي قبله إنذار، وهذه السُّور وهذه القصص إنذار من الله -عزَّ وجلَّ-، فالإنسان العاقل يبادر إلى طاعة الله، والصُّلح معه، والإنابةِ إليه حتى ينجو من عذاب الله، والعذاب محقق ما دام هؤلاء الأقوام فعلوا فاحشة واحدة، أما في آخرِ الزمان الفواحش كلها مرتكبة؛ لذلك الله -عزَّ وجلَّ-قال: 

﴿  وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا (58)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي ما من (قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا)

﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل ]

فنحن ينبغي أن نُعِدَّ الاستقامة والتَّوبة كَي يَنجو الإنسانُ إمّا من ساعةٍ خاصّة أو من ساعةٍ عامة. 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور