بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من سورة القمر، ومع الآية الثالثة والثلاثين.
الغاية من ذكر قصص الأمم السابقة مع أنبيائهم:
أيّها الإخوة؛ قبل أن نمضي في الحديث عن الأقوام الذين كذَّبوا واستحقوا عذاب الله -عزَّ وجلَّ- لابدَّ من حقيقةٍ محوريةٍ في هذا الدرس وهي: أنّ كلّ قومٍ كذَّبوا الحق وانحرفوا وعصوا، جاءهم الإنذار تلو الإنذار، فركبوا رؤوسهم واستكبروا ثمّ جاءهم العذاب، السؤال هنا: إذا تحققَ الإنسانُ أنّ هذا الإنذارَ صادقٌ ولا شكَّ في مصداقيّته أبداً، وأنّ هذا الذي وَقَعَ بعد الإنذار من عذابِ استئصالٍ لا يمكن لواحدٍ أن يتفلَّتَ منه، فإذا ثبتَ لديكَ مصداقيّةَ الإنذارِ وحتميّةَ العِقاب فماذا يَجِبُ عليك أن تعملَ؟ أنت في تعاملك مع الدنيا ومع من حولك إذا ثبت لديك أنّ واحداً من الناس إذا قال فعل، وأنّه إذا أراد أن يفعلَ فلن تستطيعَ أن تتفلَّتَ من قبضتِهِ، أنت تَجِدُ نفسكَ مستقيماً على أمرِه.
العبرةُ من هذه القِصص أنّ الله -سبحانه وتعالى- حدثنا عن أقوامٍ كثيرين، حدثنا عن قوم نوح وعن قوم صالح وعن عادٍ وثمود، وحدثنا عن قوم فرعون وعن قوم لوط، وكيف أنّ هناك قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً، كذَّبوا دعوة الأنبياء وكذَّبوا وعيد الأنبياء وانحرفوا فجاءهم العذاب الأليم، وهذه سُنّةُ الله في خَلْقِهِ.
﴿ ٱسْتِكْبَارًا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا (43)﴾
ومرّةً ثانية أعود وأقول: إنّ كلّ القِصص في كتاب الله لا يمكن أن تكونَ قصةً؛ بمعنى أنّ أشخاصاً ووقائع وحوادث وحِواراً ووصفًا وبداية وعقدة ونهاية نقرأُها فنستمتعَ بها، أو نقرأُها فنأخذُ علماً بها، قِصص كتاب الله -عزَّ وجلَّ- فوق هذا بكثير، إنّها قوانين صيغت على شكل قِصصٍ، وإنّها حقائقٌ صيغَتْ على شكل حوادث، وإنّها سنن صيغَتْ على شكل أشخاصٍ يتحاورون، فالذي يعنينا من هذه القِصص أنّ الإنذاَر صادقٌ، وأن العِقاب حَتْميٌّ، فإذا كان الإنذارُ صادقاً والعِقابُ حتمياً فماذا ينبغي أن نعملَ؟ ينبغي أن نستقيمَ على أمرِ الله وأن نَفِرَّ إليه وأن نلجأَ إليه.
عمل قوم لوط انحراف عن الفطرة:
الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ (33)﴾
قومُ لوط الذين أرسلَ الله لوطاً إلى هدايتهم كانوا منحرفين انحرافاً أخلاقياً، آثروا الرجال دون النساء، واليوم كما تعلمون في أمريكا وحدها -كما تقولُ الإحصاءات- سبعة عشر مليون شاذ، وما مرض الإيدز الذي هو وباء العصر إلّا بسبب هذا الانحراف، فهؤلاء القوم انحرفوا عن الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى طريقةٍ شاذةٍ في إشباع هذه الرغبة، الحقيقة فرق كبير بين الزاني وبين اللّوطيّ، فالزاني خالف الحكم الشرعي، لكن الشاذ خالف الفطرة، إنّه فرقٌ كبيرٌ جداً، فالتصميم الإلهي:
﴿ وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰ(45)﴾
فهناك المكان الطاهر المكان الذي يُنبِتُ.
﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ(223)﴾
مكانُ إنجابِ الأولادِ، المكانُ الطبيعي الذي خُلِقَ للإنسان، فالذي أراد انحرافاً وشذوذاً لم يُخالِفْ الحكم الشرعي بل خالفَ الفطرة؛ لذلك هؤلاء القوم خالفوا الحكم والفطرة معاً فاستحقوا الهلاك هذا على مستوى قوم، حسنًا على المستوى الفردي؟! الإنسان إذا انحرَفَ وخالَفَ تعليمات الصانع فالعقابُ حتميٌّ لكن رحمة الله -عزَّ وجلَّ- تقتضي أن يسبقَ عقابَهُ إنذارُهُ لذلك قال تعالى:
﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ(33) إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍۢ(34)﴾
طبعًا القصة معروضة في أماكن أخرى بشكل مفصل، أحياناً ربّنا -عزَّ وجلّ- يَعرِضُ القِصةَ مفصلةً في مكان وموجزة في مكان آخر، بل إن بعضَ علماءِ التفسيرِ قالوا: إن كلّ قِصةٍ عُرِضَتْ في كتاب الله -عزَّ وجلّ- عُرِضَتْ من زاوية، فإذا رأيت قصة موسى -عليه السلام- مثلاً عُرِضَتْ في أماكن عديدة جداً، ففي كلّ مكانٍ من كتاب الله عُرِضَتْ القِصةُ من زاويةٍ معينة، فاليوم في سورة القمر ليس هناك تفصيلات كثيرة حول هذه القِصة (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ* إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) رياحٌ فيها حجارة أهلكتهم.
(إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍ) من هم آل لوط؟ الذين آمنوا معه، فالقاعدة الثانية أن الله -سبحانه وتعالى- إذا أَنزَلَ بلاءً عاماً وكان في هؤلاء القوم أناس مؤمنون صالحون مستقيمون فالله -جلَّ جلاله- يُنجِيهم.
﴿ وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)﴾
حقيقة الإيمان أن الأمور كلها بيد الله تعالى:
لكلّ شيءٍ حقيقة وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم:
(( ...لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَدَخَلْتَ النَّارَ... ))
[ أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد عن زيد بن ثابت ]
ليس هناك شيء طائش، شظية طائشة أو قذيفة طائشة أو رصاصة طائشة كلّ هذه القذائف مُسوَّمة؛ أي عليها اسم صاحبها، هذا هو الإيمان ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾
إن لم نؤمنْ أنّ الأمور عند الله محسوبة بأدقِّ التفاصيل فالإيمان يحتاج إلى تجديد، فهؤلاء القوم الذي استحقوا الهلاك من الله -عزَّ وجلَّ-، لكن آل لوطٍ الذين آمنوا معه نجَّيناهم بسحر.
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍۢ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍۢ (33) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)﴾
لا تقلْ: طائشة بل قلْ: مُسوَّمة، وهذه قاعدةٌ مطبقةٌ في كلّ الحياة، كلّ شيء مُسوَّمٌ ولا يوجد في الحياة شيء طائش أبداً، لأنّ الله -عزَّ وجلَّ- كماله مطلق، أي كلّ شيء بيده (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ) .
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54)﴾
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾
(نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍ) ويمكن أن تستمعَ إلى آلاف القِصص في حياتِنا، كيف أنّ الله -سبحانه وتعالى- نجّى المؤمن المستقيم من كربٍ عظيم، من كارثةٍ كبيرة، من مصيبةٍ طاحنة لسببٍ صغيرٍ صغير لم يُلْقِ له بالاً، لكن:
﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
أن ينجيَ الله المؤمنينَ هذا أحدُ قوانين الله -عزَّ وجلَّ-، نجاة المؤمنين من الكرب العظيم إحدى سنن الله -عزَّ وجلَّ-.
طاعة الله أساس كل طمأنينة:
بالمقابل الإنسان مهما كان ذكياً ومهما كان عاقلاً وحكيماً، مهما أخذ الحيطة والحذر، مهما استعدّ لكلّ الاحتمالات، مهما سدَّ كلّ الثغرات فقد يأتيه المُصابُ من مأمنِهِ، وقد قيل: "يُؤتَى الحذِر من مأمنه"، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، فعليكُمْ بالدُّعاءِ عبادَ الله ))
[ رواه الإمام أحمد،و الطبراني عن معاذ بن جبل ]
فالإنسان لو أنّه لم يكنْ مستقيماً، وكان حكيماً وذكياً وعاقلاً وسدَّ كلّ الثغرات، وأخذَ كلّ الاحتياطات، وتوقَّع كلّ الاحتمالات، وأخذَ بكلّ الأسباب فالله -جلَّ جلاله- يُؤدّبُهُ من الجهة التي اطمأن إليها، ومن الجهة التي أغلقها، ومن الجهة اعتمد عليها، ومن مكانٍ لا يتوقَّعه، فما الذي ينفعك؟ لا ينفعك حذرك بل تنفعك استقامتك -دققْ في هذا الكلام- لا ينفعك ذكاؤك ولا مالك ولا حذرك، ولا ينفعك أن تأخذَ بالأسباب ولا أن تسدَّ الثغرات، ولا أن تتوقَّعَ الاحتمالات، ولا أن تغطيَ المُشكلات، لا ينفعك إلّا أن تطيعَهُ، فإن أطعتَهُ طمأنَك، وحماك، وحفظَك، وأيَّدَك، ونصرَك.
الآن الإنسان أحياناً يكونُ غارقًا في المعاصي ولكن يقولُ: هذه القضية أغلقتها، هذه القضية أخذت الحيطة منها، لا (لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ) فلا يمنعُكُ من الله إلّا أن تكونَ على أمره ونهيه، والحَذِرُ يُؤتَى من مأمنِهِ، فمثلاً: أحياناً طبيب متفوق في اختصاصه وقد أمضى ثلاثين عاماً في دراسة هذا المرض وأسباب الوقوع فيه، هو واثقٌ من نفسه إلى درجة أنّه لن يُصابَ بهذا المرض لأنّه عليمٌ بكلّ تفاصيله ودقائقه، مِثْلُ هذا الإنسان الذي اعتمدَ على علمه وظنَّ أن الأسباب وحدها تكفي قد يُصابُ بهذا المرض تأديباً له على شركه أو على اعتماده على الأسباب.
إذاً ننطلقُ في بداية هذا الدرس من أن الله -سبحانه وتعالى- ذَكَرَ لنا أقواماً كثيرين جاءتْهم رسالة السماء فكذبوا بها، أنذروا بعذابٍ إذا هم عصوا فلم يعبؤوا بهذا الإنذار، فجاءهم العذاب الأليم فاستأصلَهم، قال تعالى:
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (30)﴾
فإذا أيقنْتَ بمصداقيّة الإنذار وإذا أيقنْتَ بحتميّة العِقاب فالمنطق والعقل والفطرة تدعوك إلى طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، (إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) أي رياحاً محملةً بالحجارة فأهلكَتْهم عن آخرهم (إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍ) وكلّ إنسان له معاملة خاصة إذا كان مطيعاً لله، هناك من يقول: إن البلاء يعم، البلاء يعم بحالة واحدة؛ أن يسكتَ الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعلاً البلاء يعم، أما الإنسان المستقيم الذي يذكر الله -عزَّ وجلَّ- ويُذكِّرُ بالله ويأمرُ بالمعروف وينهى عن المُنكر، فمثل هذا الإنسان الله -جلَّ جلاله- يأخذُ الله بيده ويحفظه وينصره، والحقيقة التي تعرفونها جميعاً هي أنّ الله -سبحانه وتعالى- حينما قال:
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـًٔا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
وفي آية أخرى:
﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ (194)﴾
وفي آية:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (153)﴾
قالوا: هذه المعيّةُ الخاصةٌ، معيّة النصر والتأييد والحفظ والتوفيق، لكن هذه المعيّةُ مشروطةٌ، هي خاصةٌ ومشروطةٌ، مشروطةٌ حينما قال الله -عزَّ وجلّ-:
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ (12)﴾
أنا معكم إن فعلتم كذا وكذا، فمعيّة الله -عزَّ وجلّ- خاصةٌ ومشروطة؛ خاصةٌ بالمؤمنين وبالمتقين وبالصابرين، ومشروطة بطاعة الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك.
الصدق و الإخلاص نجاة للمؤمن:
﴿ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ (35)﴾
دققوا في هذه الآية (إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍ* نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا) النجاةُ نعمةٌ كبيرةٌ جداً، لكن لئلا تتوهم أنّ هذه قِصة، وأنّ هذه وقعت ولم تقعْ بعد اليوم، دققْ في قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ) إلى يوم القيامة، أرأيتم كيف أن الله -سبحانه وتعالى- لا يريدها قِصةً؟ بل يريدها قانوناً، يريدها قاعدةً، يريدها حقيقةً ثابتةً، يريدها متجددةً في كلّ زمانٍ ومكان، وأنت بعد ألفي عام وبعد أربعة آلاف عام من هذه الحادثة مؤمن يعيش في القرن العشرين، في مكان من بقاع الله الواسعة، لو أنّه كان صادقاً مخلصاً وجاء كربٌ عظيم نجَّيناهم بسحر.
أحياناً يوجد كوارث عامة وزلازل وفيضانات وصواعق، وأحياناً براكين، حدثني صديق: وقع زلزال في بعض البلاد العربية فوقع بناء بكامله ولم ينجُ منه أحدٌ إلّا إنسان خرج منه قبل دقائق، فأحياناً إذا أراد الله -عزَّ وجلّ- أن ينجيَ إنساناً من كربٍ عظيم يخلقُ له حاجةً خارج هذا المكان فيخرج، طبعاً لا مجال لذِكْرِ تفاصيل القصة لكن هناك آلاف الِقصص، تشعرُ أن قوةً إلهيةً كبيرة دفعت هذا الإنسان عن هذا المكان، (نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ) سأذكِّرَكم ببعض الآيات المشابهة لهذه الآية:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ (22)﴾
آية ثالثة:
﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ(87) فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
(وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا كلام يُلقي في قلوبكم الطمأنينة والبشرى والثقة بعدالة الله والثقة بحفظ الله، الإنسان من دون إيمان يكون تحت أخطارٍ كبيرةٍ جداً؛ أخطار صحية، أخطار في أجهزته وأعضائه، أخطار في السير، أخطار حوادث وقهر أحياناً، أخطار فقر مُدْقِع.
طائرة قبل سنوات ارتطمَتْ بالأرض لخطأ في قيادتها، أحد الركاب الذين أراد الله أن ينجيَهُ لم يستخدمْ حزام الأمان، وعدم استخدامه هو الذي أنقذَهُ -حالة غريبة جداً-، انشقت الطائرة بجانب مقعده ولو كان مربوطًا لما خرج منها، ألقى بنفسه خارج الطائرة بعد أن وقعت على الأرض، وهناك حالات نجاة عجيبة جداً!! طائرة تطير فوق أوروبا احترقت في السماء ووقع منها راكب على ارتفاع أربعين ألف قدم نزلَتْ على غابةٍ في جبال الألب مغطَّاة بثلوج سماكتها خمسة أمتار، فخمسة الأمتار مع الأغصان المرنة امتصَتْ هذه الصدمة ونَزَلَ على قدميه.. وقبل عامٍ أو أكثر أصاب طائرة تطيرُ من جدة إلى دلهي فيما أعتقد، أصابَ هذه الطائرة خلَلٌ في إحدى النوافذ، أمٌ تحملُ طفلين صغيرين ولِدا حديثاً توأمين، فالطائرة مضغوطة ثمانية أمثال، فحينما انفتحَتْ النافذة فجأةً لخللٍ أصابها، الطفلان خرجا من النافذة ووقعا في البحر على ارتفاع أربعين ألف قدم، وما بقي واحد إلّا وهو أيقن بهلاكهما، وذهبت أمهما إلى بلدها في الهند، ثمّ جاءتها مذكرة أن ارجعي إلى الخليج لسببٍ ما، وقد ظنت أنّها ستُعْطى التعويض إذا بولديها أمامها، هذان الطفلان الصغيران نزلا إلى جنب صيَّاد سمك، فغاص وأنقذهما وأخذهما إلى المستشفى؛ طفلان، فالله -عزَّ وجلّ- إذا أراد أن ينجيَ إنسانًا.
إذا كـنـت فـي كـل حـالٍ معـي فعن حمل زادي أنا في غنى
وإذا العناية لاحظتك عيونـهــا لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبـكلّ أرض قد نزلت قفـارها نم فـالـمـخـاوف كــلّهُنَّ أمــانُ
أنت يَجِبُ أن تثق برحمة الله وبعدالته ومحبته لك، فإذا كنت معه كان معك وأنقذك من كلّ شيءٍ تخافُهُ، طبعاً هذه القِصص حادة صارخة لكن يوجد آلاف القِصص نعيشها جميعاً، فأحياناً شبح مصيبة ينزاحُ عنك، وأحياناً مشكلة تنجو منها، أو مطب كبيرٌ تتفلَّتْ منه أو أحياناً مصاب كبير، حدثني أخ يدفعُ زكاة ماله، محله مغلق، وقد شعر بضيقٍ شديد ألمَّ به -يوم عطلة- فركب مركبته واتجه إلى المحل وكان أول احتراقه، بدأ يحترق الورق، صار فيه ماس كهربائي، فما الذي أشعره أن اذهبْ إلى محلك التجاري؟ قال لي: أوشك كلّ شيء في المحل أن يحترق ولكن في أول المرحلة، تسمعُ قِصصاً كثيرة جداً، هذه القصص إكرامٌ من الله (إِلَّآ ءَالَ لُوطٍۢ ۖ نَّجَّيْنَٰهُم بِسَحَرٍ* نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا) لكن إيَّاك أن تتوهم أن هذه قصة بل هذا قانون (كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ) .
من قوانين الله الثابتة فضح المنحرف و لو بعد حين:
﴿ وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ (36)﴾
أي: سيدنا لوط، أحياناً بسبب معرفة الإنسان بقوانين الله؛ فالمرابي قد يقال له: إن الله -سبحانه وتعالى- قد يدمِّر مالك كلّه فقد يستهزئ، لكن أنت إذا عرفت قوانين الله -عزَّ وجلّ-، لا أقول: تعلم الغيب -حاشا لله- لكن أقول لك: يمكن أن تتنبَّأ بما سيكون من قبيل معرفة القوانين، فالذي يأكلُ مالاً حراماً ربّنا -سبحانه وتعالى- يدمرُ ماله،والذي يعتدي على أعراض الآخرين فالآخرون يتعدون على عرضه، الذي يَعُقُّ والديه -في الأعم الأغلب- يعقُّه أولادُه، فهناك قوانين ثابتة، وأنت بالقوانين الثابتة يمكن أن تعرف ما سيكون لا من قبيل معرفة الغيب-لا والله- ولكن من قبيل معرفة القوانين (كَذَٰلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ* وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا) ، بالمناسبة لا يليق بكمال الله وهو ربّ العالمين أن يرىَ عبده منحرفاً وأن يمَّدهُ إلى آخر الطريق، هذا الشيء يتنافى مع ربوبيّة الله -عزَّ وجلَّ-، إنسان قوي وذكي وظالم ومنحرف وكافر وعاصٍ وفاجر وكلّ شيء بيده، ورتَّبَ أموره على نحوٍ يسعده في وهمه، فمَثَلُ هذا الإنسان أن تمضيَ خطته إلى نهايتها من دون تدخل الإله العظيم فهذا يتناقض مع ربوبيته؛ لذلك قال أحدهم: (عرفت الله من نقض العزائم) ، تكون خطة محكمة جداً جداً.. ومدروسة ومدعّمة ومغطاة، فالله -سبحانه وتعالى- بسببٍ لم يخطرْ على بالِ من أحكمها تنكشفُ خطته ويفتضحُ أمره ويقعُ في شرِّ عمله.
مثلاً: إنسان يأتي ببضاعة انتهى مفعولها وحقق أرباحاً طائلة، وضع لصاقة جديدة ويبيعها بشكل مغرٍ وبأسعار معقولة وبإيحاء أنّها بضاعة جيدة جداً إلخ... فغش الناس كثيراً، وهو ذكيٌ جداً، كيف انكشف أمره؟ نسي في بعض العلب أن يضعَ اللّصاقة الجديدة فوق القديمة فانكشف أمره -وهذا في بلد آخر- على أثر الغش التجاري ظهر قانون كان فيه قسوة بالغة لأنّه غطى انحراف المنحرفين، فإنسان يغشُ الناس ويبتزُ أموالهم ويبني مجده على أنقاض الآخرين وحياته على موتهم، وغناه على فقرهم، وتمضي خطته إلى نهايتها!! هذا يتناقض مع ربوبية الله -عزَّ وجلَّ-، لذلك فالإنسان مهما كان حذراً، ومهما كان قوياً وحكيماً ويقظاً ومستعداً، مهما غَطَّى الأمور، مهما سدَّ الثغرات وتوقع الاحتمالات، مهما أخذ بالأسباب إن كان منحرفاً لابدَّ من أن يُدمَرَ لسببٍ تافهٍ، فلو تتبعتم كيف ينهار الإنسان المنحرف تجدون شيئًا عجيباً، مَرَّ بمخاطر كبيرة جداً ونجا منها وعند أتفه الأسباب فُضِحَ أمره؛ هذا من فعل الله هذا بتقدير الله، هذا بحكمة الله -عزَّ وجلّ-.
(وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ) معنى (تماروا) أي: لم يؤمنوا بهذه النُّذر، بل ناقشوها وقلَّبوها على وجوهها، رفضوها واستهزؤوا بها وطالبوا بالدليل والدليل لم يعجبهم، فالإنسان المنحرف يتسلى بالمنطق ولا يفكر تفكيراً جاداً بل يفكر تفكيراً هازلاً؛ هذه المماراة (فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ) .
أمر الله هو النافذ مهما اعتد الإنسان بنفسه:
﴿ وَلَقَدْ رَٰوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِۦ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ(37)﴾
سيدنا لوط عنده ضيوف كرام، ملائكة بشكل شباب صباح الوجوه، فقوم لوط لما رأوا عنده هؤلاء الشباب صباح الوجوه راودوه عن ضيفه، بل إن بعض القصص المأثورة تروي أن امرأة لوط بلَّغَتْ قومها أنّه عند زوجي شبابٌ مُرْدٌ فأقبلوا (وَلَقَدْ رَٰوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ) ، الله -عزَّ وجلّ- قال: (فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ) لم يروا شيئًا، الله -عزَّ وجلّ- مهما كان الأمر عصيباً؛ يتوقف القلب أحياناً يموتُ فجأةً، مرة قاضٍ -القصة قديمة قبل خمسين عاماً- متفق مع الخصم على حكم معين وعلى شهادة معينة، وقف على قوس القضاء فجاءته نوبةٌ قلبية وهو على القوس، فجاء قاضٍ مكانه فحَكَمَ وفق الحقِّ، فالإنسان مهما اعتدَّ بنفسه فربّنا -عزَّ وجلَّ- أَمْرُهُ هو النافذ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
(وَلَقَدْ رَٰوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِۦ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ) أحياناً الإنسان المُرَبِّي إذا وعظ إنساناً آخر وتوعَّده بعقابٍ إذا هو فعل كذا وكذا، ففعل ما نهاه عنه وجاء العِقاب، هناك كلمة لابدَّ من أن يقولها: ألم أقل لك لا تفعل؟! ألم أنذرك هذا العِقاب الأليم؟! هذا معنى قوله تعالى: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ) .
أوامر الله -عزَّ وجلَّ- التكليفية و التكوينية:
﴿ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38)﴾
هم في الليل راودوه عن ضيفه، وفي الصباح أرسل الله عليهم حِجارةً من السماء فدمرتهم.
﴿ فَجَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74)﴾
وليس هذا غريباً علينا، نحن في كلّ حين نستمعُ إلى براكين وإلى زلازل وإلى صواعق وإلى فيضانات وإلى حروب أهلية.
﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
(فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ) فكلّ إنسان انحرف فهذا الانحراف له ذلك العِقاب، ولكن أحياناً يكونُ عقاباً جماعياً تتناقله الأفواه، لكن أحياناً كثيرة جداً يكون عقاباً فردياً، فالله -عزَّ وجلّ- له أمر تكليفي وله أمر تكويني، ففي الأعم الأغلب الأمر التكويني هو ثمرة للأمر التكليفي، فربّنا يأمرُ وينهى، له فعل تكويني هذا أمره التكليفي، فعله التكويني يكافئُ المحسن ويعاقبُ المسيء، ولو تتبعت الأمر ملياً لوجدتَ العَجَب العُجاب، لوجدت فعل الله يُفَسَّرُ بحفظ المؤمن وتوفيقه والأخذ بيده ونصره، وإسعاده وإلقاء السكينة على قلبه، وأن فعل الله نفسه يَنصَبُ على المنحرف شقاءً وإخفاقاً وابتلاءً ومصاباً، فأوامره واضحة أما أفعاله فتؤيّد أوامره.
تأويل الآية الحقيقي وقوع وعدها ووعيدها:
لذلك قال العلماء: تأويل الآية الحقيقي وقوع وعدها ووعيدها، لما ربّنا -عزَّ وجلّ- قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾
ما تأويل هذه الآية؟ حينما يُدمَرُ مال المرابي فتدميرُ مالِه أدقُّ تأويلٍ لهذه الآية، لما يقول ربّنا -عزَّ وجلَّ-:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)﴾
الحياة الطيبة أوضح تفسيرٍ لهذه الآية، الحياة الطيبة التي يحياها المؤمن المستقيم هي نفسها تأويل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا) ، والمعيشةُ الضَنْكُ؛ إن رأيت بيتًا فيه تفلُّتٌ من دون صلاة ولا انضباط وفيه اختلاط ولا يوجد مال حلال، فإن وجدت في هذا البيت كلّ يوم مشكلة وخصومات عميقة، الزوج والزوجة متخاصمان، الأولاد مشتتون، هذا البيت قطعة من الجحيم وهو أوضح تأويل لقوله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾
لو رأيت إنسانًا تصدَّقَ ببعض ماله فنما مالُه، نماء ماله أوضح تأويلٍ لقوله تعالى:
﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
لو رأيت إنساناً نَمَّى ماله بشكلٍ غير مشروع فدمرَ الله مالَه (يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ) أوضح تأويلٍ لهذه الآية، فالتأويل الحقيقي: وقوع الوعد والوعيد، وهو أدق تأويلٍ وأفصحه وأوضحه.
أثر الورع على حياة الإنسان:
(فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ) والآن نستنبطُ ممّا سأقوله قاعدة يستأنس بها: سألت طبيب أسنان هل مرَّ عليك إنسان لم يقلعْ سِنًّا من أسنانه؟ فذَكَرَ لي رجلاً كان من الورع أنّه لم يشرب كأس شايٍ مغلية على سخانةٍ في المدرسة، وعمره ست وثمانون لا يوجد عنده سِنٌّ مقلوع، فالورع أحياناً له أثر كبير؛ الحياة الطيبة، الصحة الجيدة، الاستقامة، فهذه كلّها لها آثار كبيرة، وقد قيل: (أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوة) ، والعبد يقول:
(( أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! ))
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]
من عاش تقياً عاش قوياً؛ لذلك أعظم تأويل لكتاب الله:
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
انظر إلى شاب مؤمن مستقيم ورع، وانظر إلى مصيره وانظر إلى تألقه في الحياة، وإلى التوفيق الذي يصيبه، سعادته البيتية وأموره المنتظمة، ثم انظر إلى منحرف تجده على النقيض فالمصائب تأتيه من كلّ جانب، لا يُوفَقُ، ليس سعيداً في بيته؛ هذا معنى قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا)
القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج للناس جميعاً:
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40)﴾
القرآن مُيَسَّرٌ، ذكرْتُ مراراً أنّك إذا أردْتَ أن تفهمَ كلام الله فكلّ الناس في خدمتك، يمكن أن تفهمه وأن تقرأَه وأن تستمعَ إليه وأن تستمعَ إلى تفسيره، فربّنا -عزَّ وجلَّ- يسّره لأنه كتاب هدايةٍ، لأنه منهجنا، لأنه طريقنا إلى السعادة، لأنه كتابنا المقرر وفيه نجاتُنا.
﴿ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ (41)﴾
الآن خرجنا من الجزيرة إلى إفريقيا، فكلّ هؤلاء الذين ذكرَهم الله -عزَّ وجلّ- عاشوا في جزيرة العرب، الآن خرجنا إلى قومٍ آخرين.
﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَٰهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍۢ مُّقْتَدِرٍ (42)﴾
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُۥ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ (14) ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)﴾
فمثلاً الناس كلّهم قلقون إلى درجة غير معقولة من مرض الإيدز، تصور دولاً عظمى بكلّ إمكاناتها، بكلّ هيئاتها العلمية والأموال ذات الحجوم الفلكية، يقول لك: ثمانمئة ألف مليون كلّها موظَّفة في البحث العلمي للوصول إلى مادة مضادة لهذا الفيروس، العالم كلّه بخمس قاراته، بكل هيئاته وأرقى جامعاته، بكلّ إمكاناته واقفٌ مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس على الإطلاق، والإصابات بعد خمس سنوات مقدَّرة بمئة وعشرين مليوناً، الآن الإصابات أربعة وثلاثون مليوناً، ويمكن أن توظِفَ ألف مليون دولار فيغير هذا الفيروس شكله، كلّها ذهبت أدراج الرياح، فهذا جندٌ من جنود الله -عزَّ وجلَّ-، والله عنده جنود كثيرة: الزلازل جند، وهذا الفيروس جند، وكلّ شيء يرسله الله -عزَّ وجلّ- لحكمةٍ بالغة.
لا ضمان للكفار من عذاب الله- سبحانه وتعالى- الأليم الأبديٍ:
أيّها الإخوة؛ انتهت الِقصص التي جاءت تباعاً، والتي تؤكدُ أنّ الله -سبحانه وتعالى- يرسلُ الأنبياءَ وينذر، فإن لم يُصَدَّقَ الأنبياء وإن لم يتبع منهجه يُنزِلُ عِقابُهُ الأليم، وذكرت في أول الدرس أنّ الإنسان العاقل يجب أن يتحرى مصداقيّة هذا الإنذار، وأن يتحرى حتميّة وقوع العِقاب، فإذا ثبت لديه مصداقيّة الإنذار وحتميّة الوقوع فالعقل يأمرُهُ أن يستقيمَ على أمر الله وإلّا أصابَهُ ما أصابَ هؤلاء، الآن هذا المعنى جاء بآيةٍ دقيقة، قال تعالى:
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ (43)﴾
يخاطبُ أهلَ مكةَ: (خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ) هل معكم براءة؟ معكم ضمانة؟ معكم دليل على أنّكم لن تُعذَبوا كما عُذِّبَ هؤلاء؟ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ) أي هل أنت من نوع آخر؟ فالكفر واحد وملّة الكفر واحدة، المعصية واحدة، الفسق واحد، الفجور واحد، التكذيب واحد وفي أي مكان وفي أي زمان الكافر كافر، والمؤمن مؤمن، والمستقيم مستقيم، والمنحرف منحرف، فقال: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ) فعلتم ما فعلوا، واقترفتم ما اقترفوا، وعصيتم كما عصوا، وانحرفتم كما انحرفوا، وبغيتم كما بغوا، وظلمتم كما ظلموا (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ) فهل معكم ضمانة؟ معكم دليل؟ معكم كتاب سابق نزل من السماء يضمن لكم عدم العذاب؟ (أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ) ؟
﴿ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ (46)﴾
هذه الآية خطيرة جداً، فمعنى إهلاك قوم لوط بحجارة من السماء ليست بشيء أمام ما ينتظرهم من عذابٍ أبدي، وإهلاك قوم فرعون غرقاً ليس بشيء أمام ما ينتظرُهم من عذابٍ أبدي، وإهلاك قوم صالح بالصيحة هؤلاء الأقوام الذي كذَّبوا فأهلكهم الله -عزَّ وجلَّ-، فحتّى هذا الهلاك وهذا القَصم، وهذا العذاب الأليم وهذا البطش الشديد، إذا قيس بما ينتظرُهم من عذابٍ أليمٍ ودائمٍ وأبديٍ ليس بشيءٍ، قال:
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44)﴾
الكافر إذا رأى حوله جمعاً غفيراً والناس كلّهم كذلك، كلّهم غارقون في الملذّات، يشعرُ بطمأنينة ناتجة عن كثرة العصاة، ويقول لك: الناس كلّهم هكذا، فهل من المعقول أن الكلّ على غلطٍ؟ فإذا انحرفوا في أخلاقهم وبيعهم وشرائهم وكذَّبوا وأكلوا مالاً حراماً وانغمسوا في الملذات، وتتبعوا البرامج المنحطة، فالكلّ عنده اللاقط يقول لك: انظر للأسطح، فإذا كان المنحرفون قد أصبحوا كثيرين فهل هذا يعفينا من العِقاب؟! ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ) قال: (بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) أدهى من كلِّ ما ذُكِرَ، فهذا العذاب ينتهي ساعة أو ساعتين انتهى، فإذا إنسان ارتكب جريمة قَتْلٍ وأثناء إعدامه شنقاً -شيء مؤلم جداً- ولكن بربع ساعة ينتهي، فعذاب الاستئصال ينتهي أثره، أما عذاب الآخرة فهذا لا ينتهي.
﴿ وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ (77)﴾
إلى أبد الآبدين هذا معنى قول الله -عزَّ وجلّ-، والنقطة الدقيقة إذا وجدْتَ معظم الناس انحرفوا في كسبِ أموالهم وعلاقاتهم، وانحرفوا في نزهاتهم واختلاطهم، انحرفوا في اقترافهم المعاصي وفي تتبعهم صرعات العصر، وعمّ هذا كلّ الناس، هل معنى أن يكون عامًا وشاملاً أنّه حقٌّ؟ الحقُّ حقٌّ والباطل باطلٌ.
﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾
فعلى الإنسان ألاّ يستأنس بكثرة المنحرفين، ولا بكثرة أدوات المعصية وهي منتشرة وواسعة، (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ* بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) هذه الآيات القليلة هي مغزى السورة بكاملها،وكلّ هذه الِقصص من أجل هذه الآيات القليلة (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ* أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ* بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) هذا كلام خالق البشر؛ لذلك قالوا: الموت للكافر أهون شيءٍ لما بعده، والموت للمؤمن أصعب شيءٍ لما بعده، آخر ألم يتألَّمُهُ المؤمن ساعة النزع وانتهى في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وحتّى القبر روضة من رياض الجنة، فآخر ألم يذوقُهُ المؤمن ألم النزعِ.
(( إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ بيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ -أوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، يَشُكُّ عُمَرُ- فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ في المَاءِ، فَيَمْسَحُ بهِما وجْهَهُ، ويقولُ: "لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، إنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يقولُ: في الرَّفِيقِ الأعْلَى حتَّى قُبِضَ ومَالَتْ يَدُهُ. ))
[ أخرجه البخاري عن عائشة أم المؤمنين ]
أما أقلّ ألم يذوقه الكافر فألم النزع لما بعده، لذلك الآية الكريمة (بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) ، ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ- في آياتٍ نؤجِّلُها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍۢ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ (48)﴾
الملف مدقق