- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (054)سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة القمر، ومع الآية السابعة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)﴾
من نعم الله تعالى على عباده نعمتا الهداية والإيجاد:
الله -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (13)﴾
هداية الإنسان بيان الحقيقة، بيان سرّ الوجود، بيان غاية الوجود، بيان المنهج التفصيلي، بيان افعل ولا تفعل، بيان ملامح الطريق إلى الله -عزَّ وجلَّ- هذا على الله
﴿
كلمة السماوات والأرض مُصْطَلَحٌ قرآني يعني الكون، والكون يعني: ما سوى الله
﴿
فكما أنَّ الله خَلَق فقد نَوَّر، خَلَقَ وهدى، قال:
﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (50)﴾
فنعمة الهداية لا تقلَّ عن نعمة الإيجاد، ونعمة الإيجاد لا تقلّ عن نعمة الهداية، فلذلك ربّنا -عزَّ وجلّ- يقول:
أهمية القرآن الكريم:
1-كتاب بلسان عربي معجز:
﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّۢ مُّبِينٍ (195)﴾
فيه الأمر وفيه النهي، فيه الوعد وفيه الوعيد، فيه بيانٌ للباطل وبيانٌ للحق، فيه تاريخ الأمم والمستقبل البعيد، فيه المَثَل والقصَّة، فيه الحقائق المُجَرَّدة
﴿
وقد تأتي ممدَّدةً بقصَّةٍ مطولةٍ مغزاها
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ
2-كتاب متوافق مع النفس البشرية:
لذلك فربّنا -عزَّ وجلَّ- جعل هذا الكتابَ كتاب هداية، ولأنه كتاب هداية فإنّه يتوافَق مع طبيعة النفس، فمن أمرٍ إلى نهيٍ إلى قصِّةٍ إلى بيان مستقبلٍ، إلى وعدٍ إلى وعيدٍ، إلى بيان موعظةٍ إلى مَثَلٍ، إلى قصَّةٍ، فالله -عزَّ وجلَّ- نوَّع الأساليب في كتابه، أحياناً يستخدم ربّنا -عزَّ وجلَّ- قصص الأقوام السابقة من أجل أن نستنبط العِبَر، ودائماً وأبداً أُؤكِّد لكم أنَّ أية قصةٍ في كتاب الله لا يمكن أن تكون قصَّة بالمعنى الذي يفهمه عامّة الناس، لأن كلام الله -عزَّ وجلّ- أجلَّ وأعظم من أن يكون قصصاً تطّلِع عليها، أو تقرأها، أو تأخذ علماً بها، كتاب الله -عزَّ وجلَّ- أجلَّ وأعظم من ذلك، وما من قصةٍ إلا وهي تعبيرٌ غير مباشرٍ عن حقيقةٍ، فالسعيد من قرأ القرآن الكريم واستنبط منه المواعظ والعِبَر، والسعيد من تجاوز أبطال القصة ووقائعها وحوار أبطالها ووصل إلى مغزاها؛ إلى الهدف الكبير الذي من أجله ذَكَر الله هذه القصَّة، فلذلك ربّنا -عزَّ وجلّ- يقول:
3-كتاب تولى الله -عزّ وجلّ- بذاته حفظه:
هذا كتاب الله تولَّى الله بذاته حفظه، أليس الحديث الشريف -الصحيح طبعاً- تفسيراً لكلام الله؟ السُنة مُبَيّنة، كما أن الله -جلّ جلاله- تولَّى بذاته حفظ كلامه، تولَّى أيضاً حفظ سُنَّة نبيِّه؛ لأنه من لوازم فهمِ كلامه فهمُ أقوال نبيِّه -عليه الصلاة والسلام-، إذاً فالله -عزَّ وجلّ- تولَّى بذاته حفظ كتابه وحفظ سنَّة نبيه، وهذا من قبيل:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (12)﴾
فأنت أمامك كتاب:
﴿
أمامك كتابٌ كما نَزَل على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- هو بين يديك؛ آياته الكونية وآياته التكْوينية، مواعظه وعِبَره، قِصصه وأمثاله، أوامره ونواهيه كل هذا بين يديك، أي: إنسانٌ بين يديه كلام خالقه ولا يسعد به؟!! ورد في الأثر:
﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمْ ۚ
(( اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا،
سبيلك للتمتّع بعقلك وقدراتك وحوّاسِّك الخمس طاعة الله -عزَّ وجلَّ-.
((
4-كتاب ميسَّر:
القرآن ميسَّر ولا سيما في هذا الزمان، طبعات القرآن شيء يحير العقول؛ من جميع القياسات، بأفخر ورق وأجمل خط وأوضح عبارة، تفسير مفرداته وتفسير آياته، التفاسير تملأ كل مكان، القرآن متلو مجوَّد بصوت قرَّاءٍ كبار، يمكن أن تسمعَه مسجَّلاً، أن تقرأه مطبوعاً، أن تقرأ تفسيره، أن تحضر مجلس علم يُفسَّرُ فيه القرآن
﴿ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ مَهْجُورًا (30)﴾
أي: بإمكانك أن تستمعَ إلى تفسير كلام الله في المساجد، وبإمكانك أن تقرأَ التفاسير، بإمكانك أن تقرأَ القرآن، وأن تستمعَ إليه، بإمكانك تسألَ عن معانيه.
أيها الإخوة؛ حُرْقَةٌ في القلب إلى أبد الآبدين بسبب أن الإنسان يكتشف بعد فوات الأوان أن كل سعادته بمعرفة منهج ربّه، والقرآن منهج ربّنا -عزَّ وجلَّ-، فهذا بين أيدينا ونحن أحياء.
(( اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ. ))
العاقل من اتعظ بغيره:
﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (18)﴾
عاد قومٌ جاءهم نبيٌّ كريم فكذَّبوه، ولم يعبؤوا بدعوته ولا برسالته، وعصوا أمره، وكذَبوه تكذيباً قولياً وعملياً، يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾
هذه الآية ألم تتحقَّقْ في هذا العصر؟ كم من قريةٍ
رحمة الله بعباده تكمن بالإنذار قبل العذاب:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ
قال:
ألا يكفي أن الله -عزَّ وجلَّ- يقول لك في كتابه:
﴿
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾
هذه آية.
﴿
أليست هذه آية؟
(( إذا قام أحدُكم عن فراشِه ثم رَجَع إليه فلْيَنْفُضْه بصَنِفَةِ إزارِه ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإنه لا يَدْرِي ما خَلَفَه عليه بعدَه، وإذا اضْطَجَع فلْيَقُلْ: باسْمِكَ ربي وضعتُ جَنْبِي، وبك أَرْفَعُه، فإن أَمْسَكْتَ نفسي فارْحَمْها، وإن أَرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عبادَك الصالحينَ، فإذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ:
فيجب أن تعلمَ علم اليقين أنَه إذا استيقظت فقد سمح الله لك أن تعيشَ يوماً جديداً.
من مشاهد آيات الله الدالة على عظمته عذاب قوم عاد:
﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ
صرصراً أي: هي ريح لها صوتٌ مخيف، أي ريحٌ باردةٌ لها صوتٌ مخيف
﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍۢ مُّسْتَمِرٍّۢ (19) تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍۢ مُّنقَعِرٍۢ (20)﴾
حينما تأتي رياحٌ عاتية فإنها تقلع أشجار النخل من جذورها، ومن منقعرها أي: من أصولها، فالله -عزَّ وجلَّ- صوَّر لنا مشهداً من مشاهد آياته الدالة على عظمته.
﴿ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍۢ مُّنقَعِرٍۢ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (21)﴾
ضرورة فهم الأمور وتفسيرها فهماً أساسه التوحيد:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ
ولأن الله.
﴿
لأن الله يقول عن ذاته:
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ
﴿
﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ
فأنت إذا فسَّرت الأحداث كلِّها تفسيراً أساسه التوحيد تسعد بهذا التفسير، أما إذا فسَّرت الأحداث تفسيراً أساسه الشِرك فإنك تشقى بهذا التفسير؛ لأنه كما ورد عن النّبيّ أنه قال:
(( ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله عنه أكثر ))
فالإنسان العاقل يجعلُ من هذا الحديث القدسي نبراساً له.
(( ..يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ ))
﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ (30)﴾
﴿ وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰٓ أَهْلَكْنَٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)﴾
﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ (17)﴾
أي: يا عبادي أنا لا أجازي غير الكفور؟ هذا كلام الله، فيجب أن تفسِّر ما يقع تفسيراً توحيدياً لتكون هذه الأحداث متصلة بهذه القِصص
أنواع العقاب وكيفية الاتقاء منه:
أحياناً يأتي العقاب جماعياً، وفي أحيان كثيرة يأتي العقاب فردياً، فعلى الإنسان ألاّ يغتر إذا كان الناس في بحبوحة، فقد يأتي العقاب فردياً له بالذَّات، فالعاقل لا يطمئن إلا إلى طاعة الله، ولا ينجيك من الله إلا أن تطيعه.
(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ(22)﴾
ينبغي لك أن تخاف، فإنك إن خفت من الله -عزَّ وجلَّ- اتقيت الخوف منه بطاعتك، إذ لا ملجأ منه إلا إليه.
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ(21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ(23)﴾
خطورة التكذيب العملي:
كما تحدَّثت في دروسٍ سابقة: التكذيب الخطير هو التكذيب العملي، ألا تجد في سلوك الإنسان ما يدل على أنه مؤمن بالآخرة، فالإنسان عندما يكون راكباً سيارة وسيجتاز حدود بلد آخر، فما دام مؤمناً أن هناك حواجز وتفتيشاً دقيقًا، ويوجد تكليف برسوم جمركية، فتجده يهيئ أغراضه ويرتبها ترتيباً معيناً، حركته في ترتيب الأغراض يعني أن هناك حاجزاً سوف يسأله: فهذه من أين جئت بها؟ وهذه ممنوع أن تدخل فعليها رَسْم، فكل إنسان ما دام مؤمناً أن هناك عند الحاجز سؤالاً فإنه يرتب الأغراض ترتيباً معيناً، أما إذا كان إنسان لم يُبال إطلاقاً، ومعه أشياء كلها ممنوعة فمعنى هذا أن تفكيره معطَّل إذاً
أهمية التركيز على مضمون الدعوة، واصطفاء الله-عزَّ وجلَّ- لحملة هذه الدعوة:
﴿ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرًا مِّنَّا وَٰحِدًا نَّتَّبِعُهُۥٓ إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ (24)﴾
هذه نقطة دقيقة جداً وهي ثابتة على مدى الأزمان، فأحياناً الإنسان لا ينظر إلى فحوى الدعوة بل ينظر إلى الداعي، يقول: فلان صديقي أعرفه حينما كان صغيراً، فلان أين أصبح كذا وكذا؟! إنه يتعامى عن مضمون الدعوة، ويتعامى أن مضمون الدعوة خطير جداً، وهو مضمون مصيري يحدد مصيره في الدنيا والآخرة، فلا يلتفت إلى مضمون الدعوة، ولا إلى الأمر والنهي، ولا إلى الموعظة، ولا إلى القصَّة، ولا إلى العبرة، ولا إلى الآية الكونية، فقط يلتفت إلى هذا الذي يقول، من فلان؟ ومتى صار داعيةً؟ ومتى صار كذا وكذا؟ فالذي يحجبه عن الحقيقة هو أنه ترك الفحوى ونظر إلى المتكلِّم، هذه النظرة الشخصية المبنية على حسد أحياناً أو على شعور بالندّية هذه النظرة تحجبه عن الحقيقة،
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ ۚ قَالَ
هذا النّبي يُعَدُّ قِمَّة المجتمع:
(( إنَّا -مَعْشَرَ الأنبياءِ- تنامُ أعيُنُنا ولا تنامُ قُلوبُنا ))
النّبيّ الكريم يقظٌ دائماً، متصلٌ بالله دائماً، صفوة الخلق وحبيب الحق، توجد مستويات هناك حجر ماسٍ تقليد بألفين أما الماس الحقيقي بخمسمئة ألف؛ يوجد فرق كبير جداً، فهؤلاء الأنبياء إن الله -جلَّ جلاله- اصطفاهم على الخلق.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ (33)﴾
صفوة الله من خلقه هؤلاء الأنبياء، قِمَم في العلم وفي الكمال والخُلُق، والفصاحة والبيان، والفطانة والنقاء والِعصمة هم قِمَم، فإذا توهَّم الإنسان أن هذا النبي إنسان وهذا إنسان.. ردَّ الشاعر فقال:
محمَّدٌ بشرٌ وليس كالبشَرِ بل هو ياقوتٌ والناسُ كالحجرٍ
فالجوهرة حجر ولكنه حجر كريم، الجوهر فحم ولكن جاءه ضغطٌ شديد وحرارةٌ كبيرة فصار ماساً،
الإنسان الذي يصل إلى مرتبة عالية فهذا تحمَّل ضغوطًا لا يتحمَّلها عامَّة الناس، ودفع ثَمَن هذا المقام عند الله باهظاً، ترك الدنيا وزهد فيها وقال:
فلو شاهدت عيناك من حســـــــننا الذي رأوه لمـا وليت عنا لغيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنــــا خلعـت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولــو ذقـت من طعـــم المحبة ذرة عذرت الـذي أضحى قتيـلاً بحبنا
ولــو لاح مـن أنـوارنـا لــك لائـح تركـت جمـيـع الكـائـنات وجـئتنا
ولــو نسمـت مـن قربنـا لـك نسمة لــمُـت غريبـاً واشـتيـاقـــاً لقربنـا
فـمـا حـبنا سهـلٌ وكـل مـن ادَّعـى ســــــهـولته قلنـا لـه قــد جهـلتنـا
هناك إنسان خطب فتاة والدها عالِم فقال: كم تريد من المهر يا سيدي؟ قال: أن تحضر مجالس العلم هذا هو المهر، فحضر المجلس ومجلس وراء مجلس انجذب إلى الحق واستغرق في محبَّة الله -عزَّ وجلَّ- ونسي وصالاً، فلمَّا عاتبته وقالت: "أين الوعد؟" قال:
الاتصال بالله سبب سعادة الإنسان و طمأنينته:
أحياناً الإنسان يكون سارحاً في الدنيا ضائعاً هائماً على وجهه، مبعثراً مشتَّتاً كئيباً أحياناً، فإذا وصل إلى الله وجد السعادة والطمأنينة والرضا والفوز والتفوّق، فالله -عزَّ وجلَّ- سلعته غالية وهو عزيز، أي بأعمال بسيطة لا تكلِّفك شيئًا، بركعتين، أو بليرتين تدفعهما!! الله أعظم من ذلك.
﴿
﴿
﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
فإذا طلب الإنسان مرتبة عالية في الدنيا، حتى الإنسان في هذه الدنيا وبسنين محدودة لكي يجلس ويعاين مريضًا ربع ساعة ويأخذ ألف ليرة، يكون قد درس ثلاثة وثلاثين سنة قبلها، لا يقدر إنسان لم يدرس إطلاقاً أن يفتح عيادة ويستقبل مرضى ويأخذ على كل مريض ألف ليرة لا يقدر، أما ثلاثة وثلاثون سنة دراسة فممكن أن تستقبل مريضاً وتأخذ منه ألفاً خلال خمسة دقائق، ومعنى هذا أنه عنده علم، أنا أضرب مثلاً؛ فإنسان يصل إلى مراتب عُليا في الدين بلا تعب؟ لا يوجد عنده وقت يحضر مجلس علم لأنه مشغول، ولا يوجد عنده وقت ليقرأ القرآن، ليس متفرغًا لأن يطبِّق أحكام الله-عزَّ وجلَّ-، يقول لك: لا تدقق نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، هذا المستوى المتفلِّت المقصِّر، بالطبع هان الله عليهم فهانوا على الله، أو هان أمر الله عليهم فهانوا على الله.
﴿ أَءُلْقِىَ ٱلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنۢ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)﴾
قال العلماء:
العبرة بخواتيم الأمور و عاقبتها:
يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلْأَشِرُ (26)﴾
العِبرة بخواتيم الأمور وبالنتائج، العِبرة بعاقبة الأمور وبالنهايات وبعد الممات.
﴿ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ (26)﴾
العِبرة أن الإنسان إذا جاءه ملَك الموت، ورأى مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، وكل ألوان النعيم التي تنعَّم بها في الدنيا لا يراها إطلاقاً، لا يرى إلا العذاب، أما حينما يأتي مَلَك الموت إلى الإنسان ويُطْلِعُه على مقامه في الجنَّة يقول كذلك: لم أر شرَّاً قط، مرَّة امرأة أحد أصحاب رسول الله كلَّفته بشيءٍ لا يطيقه، أو طلبت منه شيئاً لا يطيق شراءه فقال:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍۢ جَزَآءًۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (17)﴾
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى:
أي أن الإنسان إذا عاش مئة سنة يقول لك: ما شاء الله إنه معمِّر، الجنَّة لا يوجد فيها عمر، فمليون مليون، ومليار مليار، ومليار مليار بليار إلى أبد الآبدين، الأبد شيء صعب على العقل أنْ يتصوَّره، ولا يوجد رقم بالأبد، وأكبر رقم مقداره صفر إذا قسته للأبد، فالحقيقة أن الخسارة الحقيقية هي أن يخسر الإنسان هذه السعادة الأبدية، وأن يخسر الإنسان نفسه التي بين جنبيه.
﴿ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ ۗ
أخطر حدث في حياة الإنسان مغادرة الدنيا:
الْمَوْت يَأْتِي بَغْتَة والقبر صندوق الْعَمَل
كم من زوجٍ جاءه الموت قبل يوم العُرس، وكم من طالب علمٍ لم يستمتع باختصاصه ولا ساعة بعد أن نال الدكتوراه وافته المنيّة، كم من إنسانٍ شيَّد بيتاً بشكلٍ رائع ولم يسكنه، فالذي يضع كل البيض في سلَّةٍ واحدة يخسر، اجعل للدنيا نصيباً وفق منهج الله، وللآخرة نصيباً وفق منهج الله -عزَّ وجلّ-.
إقامة الحُجّة على قوم عاد:
﴿ إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ (27)﴾
طلبوا ناقة تخرج من الجبل، فالله -سبحانه وتعالى- أعطاهم سؤلهم وخرجت الناقةُ من الجبل،
طبعاً شيء غير معقول جبلٌ صخري، فأرسل الله لهم الناقةَ كي يقيم عليهم الحُجَّة
لكنَّ هذه الناقة التي خرجت من الجبل بناءً على طلبهم.
﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌۢ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍۢ مُّحْتَضَرٌ (28)﴾
الماء بينهم وبينها يحضرون يوماً فيشربون من ينابيع الماء، وتحضر الناقة يوماً فتشرب اليوم كلّه
مراحل الدعوة إلى الله:
كلّكم يعلم أنّ الله -سبحانه وتعالى- يبدأ مع الإنسان:
1 ـ الدعوة البيانية:
﴿
2 ـ التأديب التربوي:
3 ـ الإكرام الاستدراجي:
﴿
4 ـ القصم:
المشاركة و الدعم و الإقرار للإثم مشاركة في الإثم:
طلبوا معجزة فخرجت الناقة من الجبل فعقروها فاستحقَّوا الهلاك وانتهى الأمر، لذلك:
﴿
الذي عقرها
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (30)﴾
العلماء استنبطوا من ذلك: أن الذي يرضى بفعلٍ ما هو شريكٌ مع الفاعل،
عقاب الله للكافر بكلمة واحدة كن فيكون:
﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ(29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ (30) إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ (31)﴾
كلمة
﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَٰحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32)﴾
أيّها الإخوة؛ ذكرت لكم في الدرس السابق أن كل هذه القصص لها مفتاح، ومفتاحها في آخر السورة وهو:
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ (45) بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ(46)﴾
فما ذكر الله لنا هذه القصص إلا لينبئنا أننا إذا فعلنا مثل أفعالهم استحقِّ علينا الهلاك مثلهم، إذا فعلنا مثل أفعالهم فنحن هالكون مثلهم فانتبهوا، هؤلاء الأقوام فعلوا ذنباً واحداً فدمَّرهم الله -عزَّ وجلّ- فكيف بمجتمعٍ فيه كل المعاصي والآثام؟! لذلك قال تعالى:
﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا (58)﴾
والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق