الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وأرنا الحقَ حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادكَ الصّالحين.
أيّها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والأخير من سورة القمر، ومع الآية الكريمة السابعة والأربعين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍۢ (47)﴾
الفرق بين المجرم والمؤمن:
المُجرمُ هو الذي أجرمَ بحقِ نفسهِ، والخاسِرُ هو الذي خسِر نفسه، والظَّالم هو الذي ظلمَ نفسه، أشدُّ أنواعِ الظُّلم أن تَظلم نفسك، أشدُّ أنواعِ الإجرام أن تُجرم بحقِ نفسك، أشدُّ أنواع الخَسارة أن تخسر نفسكَ في الأبد الذي خلقك الله له، فهؤلاءِ المُجرمون الذين ما عَرفوا الله، وبالمُقابل ما طَبَّقوا أمره، ولا ائتمروا، ولا انتهوا، وابتعدوا، وانساقوا مع شهواتهم، هؤلاء المجرمون كما قال الله عنهم: (فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) الضَّلال هنا والسُّعر هنا، عقولهم في ضَلال، أفكارهم مُشتَّتة، تصوُّراتُهم غيرُ صحيحة، أقوالهم مُتناقضة، هَدفُهم غيرُ واضح، سِرُّ وجودهم غير مُعَرَّف لديهم، يعيشونَ على هامشِ الحَياة، يتحركون حركةً عشوائيّة؛ في ضلالٍ، مذهبٌ يأخذُهم ومذهب يَجلبِهُم، يَتأرجَحون، يَتذبذبون، يتحرَّكون حركةً عشوائيّة، في ضَلال، المُؤمن على خلافِ ذلك عرفَ حقيقةَ الوُجود، عَرف حقيقة الدُّنيا، عَرف حقيقةَ نفسه، عَرف سرَّ وجوده، عَرف غايةَ وجوده، عرف لِماذا جاء الله بهِ إلى الدُّنيا، عَرف أين كان قبل أن يُخْلَق، وما يؤُول إليهِ حالهُ بعد الموت، عرف الحكمة البالغة التي خلق اللهُ مِن أجلها الإنسان، عرَف الأمانة، عَرف التَّكليف، عرف المنهج، عرف الحلال والحرام، عرف الحق والباطل، عرفَ الخير والشر، عرفَ تفاصيل المنهج الإسلاميّ في حياته الخاصّة، وفي علاقتهِ بجسده، بزوجته، بأهله، بأولاده، في بيعه، في شرائه، في كسبه للمال، في إنفاقه للمال، في كُلّ نشاطاته، في لَهوهِ، في فرحهِ، في حزنهِ، عرفَ الله وعرفَ منهجه،ُ فالكافر في ضلالٍ، والمؤمن:
﴿ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًۢا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
لا يضل عقله ولا تشقى نفسه.
الكافر (فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) الآن قلبه ملتهب في حرقة، يعصِرهُ الألم، يعصِره القلق، يعصَرهُ الضّياع، مُشتَّت، مُبَعثر، قلق، مُتشائم، مُمَزَّق، وصف ربنا له -عزَّ وجلَّ- جامعٌ مانع (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) ، (إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) زواجه يشقيه، بيته قطعة من جهنم، في عمله غير موفَّق، في علاقاته غير ناجح لأنه انحرف عن منهج الله.
أيّها الإخوة الكرام؛ لو أنّه من الممكن أن تبتعد عن أصل الدّين وعن منهج الله -عزَّ وجلَّ- وأن تستقيم أمورك إذاً لا حاجة إلى الدين، لكن كل إنسانٍ ما عرف الله وما عرف منهجه لابدَّ من أن ينحرف، ومن لوازم جهله وشروده أن يعتدي، ومن لوازم عدوانه أن يُحاسَب وأن يُعاقَب، لذلك حياةُ الإنسان خطأٌ وعقابٌ، انحرافٌ وعقابٌ، وتشردٌ وعقابٌ، (إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) صورة قدمتها الآية التالية لكنَّها رهيبة.
الآن ائتِ بإنسان وقيِّد يديه واربطهُ من رجليهِ واسحبهُ وراءَ مركبةٍ في أرضٍ وَعِرة على وجههِ، لا يستطيع أن يتلقى الصّدمات بيديه، يداهُ مقيدتان، مربوطٌ من رجليه تسحبه مركبةٌ على أرضٍ وَعِرة فيها النتوءات والصُّخور والأشواك والنباتات، ما حال هذا الإنسان؟! قال:
﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ (48)﴾
هذه التي كذَّبتم بها، وهذه التي استهزأتم بها، وهذه التي لم تدخلوها في حساباتكم إطلاقاً، دقّق في أحوال النّاس، يَحسِبُ حِساباً لِكلِّ شيء، يُخطِّطُ لكُلِّ شيء، يخطط لعشرين عاماً قادمة، يخطط لأولاد أولاده، إذا بنى مسكناً فهذا المسكن لا يستهلكه لا هو ولا عشرة أجيال من بعده، يخطط لكلِّ شيء، إلّا هذا الذي وعدنا الله به أو توعدنا به أخرجه من حساباته (ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) ؛ لذلك:
﴿ أَفَمِنْ هَٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَٰمِدُونَ(61)﴾
هذه الحقائق مصيريِّة متعلقةٌ بمصير كل إنسان بسعادته الأبدية، متعلقةٌ باستحقاقه دخول الجنة أو باستحقاقهِ دخولَ النَّار(إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) ، المؤمنون لا يَضِّلُ عقلهم ولا تشقى نفوسهم، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ) فالأولى بالإنسان العاقل أن يأخذ موقفًا واضحاً من هذا الكلام؛ هذا كلام خالق الأكوان، أعندك شكٌ في أنه ليس كلام الخالق؟ ائتِ بالدليل، إما أن تأتي بدليل إيجاب، أو بدليل سلب، إن أتيت بالدليل على أنه كلام خالق الكون يَجبُ ألّا تنام الليل، يجبُ ألا تَركُنَ إلى الدنيا، يجبُ أن تدقق في كل عملٍ تفعله، إذا كان الله سيحاسبك، إن كنتَ تعتقدُ أنَّ الله موجود ويعلم، وسيحاسب إن لم تستقم على أمره فلابدَّ أن في العقل خللاً(ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ)
القدر دليل على وجود الله و كماله ووحدانيته وحكمته وعلمه :
ثم يقول -الله عزَّ وجلَّ- حقيقةً الكون كله ينطق بها، بل إن هذه الحقيقة تنتظم كل ما في الوجود، هذه الحقيقة لو درست مئة عام، ولو قرأت كل كتاب، لو انتسبت لكل الجامعات لا تفي كل الدراسات بحق هذه الآية، يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍۢ(49)﴾
كلمة (بِقَدَرٍ) دليل وجود الله، ودليل علمه، ودليل حكمته، مثل بسيط: مفتاح الكهرباء يمكن أن يوضع في أعلى السقف، أو أعلى الحائط، ويمكن أن يوضع على مستوى الأرض، ويمكن أن يوضع على ارتفاع مترين ونصف، أو على ارتفاع متر، فإن رأيته في مكانٍ مناسب في مستوى اليد ألا تستدل من هذا على أن هذا المكان المناسب مقدرٌ تقديراً حكيماً، وأن الذي وضعه في هذا المكان إنسان عاقل، ودرس حاجةَ المُستعمِل إليه، فلو جعله في أعلى الحائط لاضطررت إلى استعمال السلم لإطفاء المصباح، ولو جعلته على مستوى الأرض لاضطُّر صاحب البيت أن ينبطح كي يغلق المصباح؛ ليس حكمةً، أما حينما تراه في مكان مناسب في تقدير دقيق معنى ذلك أن الذي وضعه في هذا المكان حكيم، فإذا نظرت إلى ما حولك تجد أن كل شيءٍ خلقه الله بقدر، بقدرٍ معجز، أي أنَّ الكون كله مصداقٌ لهذه الآية، هذه الآية تنتَظِمُ الكون كلَّه، وهي أكبر دليلٍ على وجود الله، وعلى حكمته، وعلى قدرته، وعلى خبرته، وعلى علمه (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، أما كلمة (كُلَّ شَىْءٍ) : الشيء الصغير بقدر، والشيء الكبير بقدر، والشيء الصامت الجامد بقدر، والشيء المتحرِّك كالحيوان بقدر، والشيء الذي ينمو، كالنبات بقدر، والشيء الذي يفكر- الإنسان-بقدر (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، فالشيء الساكن والمتحرك بقدر، الصامت والناطق بقدر، الصغير والكبير بقدر، الحاضر والغائب بقدر، المعلوم والمجهول بقدر (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، هذا القدر قدَّر حقيقته، قدَّر صفته، قدَّر مقداره، قدَّر زمانه ومكانه، قدَّر علاقاته، قدَّر تأثُّره وتأثيره (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، يكاد يكون هذا أكبر دليلٍ على وجود الله وعلى علمه وقدرته وحكمته وكماله ووحدانيته (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
بعض أدلة (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ):
أيّها الإخوة؛ حجم الأرض بقدر، لو زاد حجمها عن حجمها الحقيقي لأصبح وزن الأشياء عليها كبيراً جداً غير محتمل،
ولو قلَّ حجمها لكان وزن الأشياء عليها غير محتمل، والدّليل أنَّ الإنسان حينما صَعد إلى القمر كانت حركته مزعجةً جداً، فأيّة قفزةٍ يرتفع خمسة أمتار، لأن وزنه هناك سدس وزنه على الأرض، ولو الإنسان كان على أرضٍ أكبر من أرضنا بضعفين لكان وزنه ضعفين؛ إذاً حجم الأرض بقدر، دورتها حول نفسها بقدر، لو أنها تدور كل ساعة، ساعة ليل وساعة نهار؛ شيء غير معقول و غير محتمل، لو أن الأرض تدور حول نفسها كل شهرٍ مرةً لصار النَّهار شهراً والليل شهراً، لو أنها تدور حول الشمس كل ألف عامٍ مرةً فالإنسان يرى الربيع فقط، أو الخريف فقط، أو الشتاء فقط، أما دورتها حول نفسها بقدر، حجمها بقدر، دورتها حول نفسها بقدر، دورتها حول الشّمس بقدر، مساحة اليابسة الخُمس، والمسطحات المائية أربعة أخماس بقدر.
الحرارة التي عليها بقدر، من عشر إلى أربعين يحتملها الإنسان، ولو أن الأرض توقَّفت عن الدَّوران لأصبح وجهها المقابل للشمس ثلاثمئة وخمسين درجة فوق الصفر، والذي على خلاف الشمس مئتين وسبعين تحت الصفر (الصفر المطلق)، أمّا الحرارة فمعقولة،
المياه بقدر، الهواء بقدر، لو أنَّ الأوكسجين في الهواء زاد عن حدِّه لاحترق كلُّ شيء، نسبة الأوكسجين بقدر فيصبح الهواء نافعاً غير ضار
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
3 ـ دوران الأرض حول الشمس:
الآن دورتها حولَ الشَّمس بقدر، تسير بمدار إهليلجي لهُ قطران، قطر طويل وقطر قصير،
فإذا وصلت إلى القطر القصيرفالمسافة تقلّ بينها وبين الشمس، هناك احتمال أن الشمس تجذبها؛ لذلك تزيد سرعتها زيادةً ينشأ عنها قوةٌ نابذةٌ تُكافئ القوة الجاذبة بقدر، فإذا وصلت إلى القطر الأبعد وبقيت على سرعتها العالية فهناك احتمالٌ كبير أن تتفلت من جاذبية الشمس فتنطلق في الفضاء الخارجي، ولذلك تقل سرعتها هنا ليكون جذب الشمس كافياً لربطها بمدارها.
الآن ارتفاع السرعة بقدر، فلو ارتفعت فجأةً لانهدم كل ما على الأرض، ولو انخفضت فجأةً لانهدم كل ما على الأرض
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، محور الأرض مائل بقدر،
هذا الميل نتج عنه الصيف والشتاء والخريف والربيع، ولو كان عمودياً على مستوي الدوران لأُلْغِيَت الفصول؛ بقدر.
الآن الشمس بُعدها عن الأرض مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر بقدر، فلو اقتربت لاحترقت، ولو ابتعدت لهلك من عليها برداً،
بُعدُها عن الشّمس بقدر، بُعدُها عن القمر بقدر، حجم القمر بقدر، الشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض بقدر
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الجبال موزَّعةٌ في الأرض توزيعاً دقيقاً جداً بحيث إن الجبال تغدو رواسي أن تميد بكم لئلا تميد بكم، كيف أنَّك تضع على العجلة 5غ أو 10 غ مِن الرصاص في مكان دقيق جداً من أجل ألا تميد أثناء الدوران السريع،
كذلك الجبال كانت رواسي للأرض لئلا تميد بها
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الآن لو نزلنا إلى الأرض رأينا الجُزُر، هذه الجزيرة لها مُهمْة أن تستقطب المنخفضات الجوية، وهذه الصحراء الحارة الهواء عليها ساخن، وإذا سخن الهواء تمدد، وإذا تمدد تخلخل فالضغط منخفض هنا، والمنطقة القطبية باردة والهواء مكثَّف أي الضغط مرتفع، ومن تباين الضغطين تنشأ الرياح من القطبين إلى خط الاستواء،
والأرض إذا دارت صارت الرياح مائلة من الغرب إلى الشرق، رياح غربية تسوق السحب
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
بخار الماء؛ الهواء يحمل بخار الماء ولكن بقدر، كلُّ درجة حرارةٍ للهواء تتحمَّل كميةً من بخار الماء، فإذا قلَّت الحرارة تخلَّى الهواء عن الماء فكانت الأمطار،
سحابة مشحونة ببخار الماء فإذا لامست سحابةً باردةً انكمش بخار الماء وشكَّل قطراتٍ تنعقد على ذرات الغُبار فتكون الأمطار.
﴿ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا (14)﴾
سمَّاها الله المعصرات، وكأن قماشاً غمسته في الماء فاحتمل ماءً كثيراً فإذا عصرته نزل منه الماء، وهذه حقيقة نزول الأمطار من السُّحب المُحمَّلة ببخار الماء ثم لامست جبهةً باردةً فتخلَّت عن مائها، وانقلب بخار الماء إلى قطرات ماء فكانت الأمطار (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الآن النباتات؛ كلُّ محصول له برنامج، القمح ينمو في وقتٍ واحد، المحاصيل تنمو في وقتٍ واحد، وأمّا الفواكه والثِّمار والخضار فتنمو في فتراتٍ بعيدة، فثلاثة أشهرٍ حقل البطيخ يعطيك البطيخ كلَّ يوم، أكثرُ الخضراوات والفواكه مُبَرمجة، تنضج في فترة ما بين شهرٍ أو شهرين، بإمكانك أن تقطع من ثمار هذه الشجرة لشهرين أو ثلاثة دون أن تصاب بأذى (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الحيوان؛ تعطيك البقرة من الحليب أضعاف ما تأكل، فلو أنها تستهلك من الطّعام ما يقابل ثمن الحليب لما ربَّى أحد بقرةً، لو أنَّ الدجاجة تعطيك في الشهر بيضة واحدة لما ربّى أحد الدجاج، تعطيك كل يومٍ بيضة، فينبغي أن يكون إنتاجها أكبر من مصروفها من أجل أن تقتنيها (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
بعض الشّواهد الأخرى من عالم الحيوان والنبات؛ الطّيور الجوارح التي تتغذَّى بصغار الطّير عددها قليل لأنّها قليلة التفريخ، تعيش في مواطن خاصة لكنّها طويلة الأعمار،
فلو أن هذه الطّيور الجوارح كانت تبيض كثيراً وتفرِّخ كثيراً وتعيش في كلّ بقاع الأرض لأكلت كلَّ الطُّيور، لكنّ أعمارها طويلة، وأعدادها قليلة، وأماكنها محدودة، وبيضها محدود، وتفريخها محدود.
أمّا الذُّباب فيبيض ملايين البويضات لكنّه يعيش أسبوعين فقط ويموت، فلو أن الذباب عاش شهرين أو سنتين أو عقدين لغُطِّيَت الأرض كلها بالذباب، فنمط توالده أيضاً بقدر (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الميكروبات من أكثر مخلوقات الله عدداً، ومن أكثرها توالداً لكن بالمقابل من أضعفها فالبرد يقتلها، والحر يقتلها، وحمض المعدة يقتلها، والمُصول تقتلها، والهواء وحده يقتلها، فهي من أكثر المخلوقات عدداً ومن أشدها توالداً لكنها ضعيفةٌ جداً فهناك تناسب (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الحيَّات الصغيرة سمها ناقع، زُعاف، وسرعتها كبيرة وسلاحها في الهروب واللدغ، أما الثعابين الكبيرة سلاحها بقوة عضلاتها، ضعيفة السُمِّيَة لكن عضلاتها قوية (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
هناك حيوان يدافع عن نفسه بالجري، حيوان يدافع عن نفسه بالتلوُّن كالحرباء،
بعض الأسماك تطلق صعقةً كهربائية، أحياناً أربعة آلاف فولط تقتل من حولها، وهناك سمك يطلق سحابة سوداء حوله فيغيب عن الأنظار، فكل حيوان له وسيلة للدفاع عن نفسه
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
البويضة في الإنسان بعد أن تُلقَّح وتتجه نحو الرحم تأكل جدار الرحم ففيها صفة آكلة اللحوم، وتنغرس في هذا الجدار، حينما تَتَّهتك جدار الرحم في مكان التصاق البويضة تصبح البويضة وسط بركة من الدم هو غذاؤها (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الحبل السري للطفل طوله بحكمةٍ بالغة،
ولو كان أكثر طولاً لفسد الغذاء في داخله، ولو كان أقل طولاً لكان الغذاء غير مناسبٍ للطفل، فحبله مناسب جداً
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
كلُّكم يعلم -أيُّها الإخوة- أن ثدي المرأة بعد الولادة يفرز سائلاً أبيضَ مائلاً إلى الصُفْرَة فيه كل مناعة الأم، وفيه مادةٌ تذيب الشحم الذي داخل أمعاء الطفل؛ لذلك هذه المادة تعطيه مناعة الأم وتذيب الشحوم التي داخل الجهاز الهضمي، وفي اليوم التّالي يُفرَز اللّبن (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ).
حليب الأم تتبدَّل كميته من بضع فناجين إلى لتر ونصف إذا نضج، من يحدد هذه الكمية؟!
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) تركيب حليب الأم يتبدَّل-وقد لا تصدقون- في الرضعة الواحدة، فلو أخذنا الحليب في أول الرضعة لكان ماؤه كثيراً، وفي آخرها قلَّ ماؤه وتركزت فيه المواد الغذائية، يتبدل تركيب الحليب في رضعةٍ واحدة وكل يومٍ بحسب نمو الطفل (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الطُّحال يأخذ الخلايا الكريات الحمراء التي ماتت، يأخذها فيحللها إلى عواملها الأولية، حديد، هيموغلوبين، الحديد يعاد سَوُقُه إلى نقي العظام، ليعاد تصنيعه من جديد والهيموغلوبين يذهب إلى الكبد ليكوّن الصفراء، وفي الثانية الواحدة يموت اثنان ونصف مليون كرية حمراء، والطُّحال يأخذ هذه الكريات ويحللها فهو مقبرةٌ لها،
والطُّحال معمل دم احتياط، فلو تعطَّلت مراكز تصنيع الكريات الحمراء في نقي العظام لَعَمِل الطُّحال كمعملٍ لكريات الدم الحمراء، والطُّحال مستودع لكريات الدَّم الحمراء، أعرف شاباً جامعياً في كلية الطب انتهى أجله بسببٍ قد لا يصدَّق، إن هذا الطحال عمل بنشاطٍ أكبر مما ينبغي، فصار يأخذ كريةً طيبةً فيقتلها، مات هذا الشاب بسبب مرضٍ اسمه (فرط نشاط الطحال)، ومعنى ذلك أن كل واحد منا لو اختل توازن الطحال أو عمل أنشط مما ينبغي لانتهت حياته
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
نسب الملح في الدم من سبع إلى ثمان بالألف، فلو قلَّت أو زادت لمات الإنسان، فتأتي الكلية لتعيِّر الملح في الدم، إن أكلت طعاماً مالحاً فالكلية تطرح الملح الزائد، ولو أكلت طعاماً بلا ملح فالجسم يأخذ الملح حتى من الفواكه، فإن أكلت الملح الزائد طرحته الكلية لتبقى النسبة سبعة إلى ثمانية بالألف، وإن لم تأكل الملح اشتقَّته الأجهزة من أي غذاءٍ آخر (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الغدّة النخامية ملكة الغدد، تسيطر على كل الغدد الصمَّاء في الجسم،
وتفرز اثني عشر هرمونًا، وزنها نصف غرام، ولها إفراز لو تعطل لأمضى الإنسان الوقت كله إلى جانب الصنبور والمرحاض، ليشرب مئات اللترات من الماء وليفرغها في المرحاض، هي مركز ضبط السوائل في الجسم، وهناك مركز الحرارة في الجسم، عندما يكون الإنسان مضطجعاً ويريد أن ينهض، لو لم تكن هناك شوارد في الدم تضيِّق لمعات الشرايين، إذا وقف الإنسان يقف ويقع؛ لأنه كان مضطجعاً فلما وقف بحكم الجاذبية نزل الدم إلى الأسفل، وحصل نقص تروية أصيب بالدوار فوقع الإنسان، فحينما يُزمع الإنسان أن ينهض هذه الشوارد تنبه الأوعية، تضيق لمعتها وتبقي الدم محبوساً في القسم الأعلى
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
18 ـ مطابقة العين:
مطابقة العين شيء لا يُصدَّق، لو أنَّك شاهدت سيارةً تجري في الطريق، أنت تراها بشكلٍ دقيقٍ، دقيق في كل أحوالها، والعدسة واحدة، والشبكية واحدة، ولوحة المحرق واحدة، فكيف ينطبع الخيال على المحرق الثابت على العدسة والشيء المرئي متحرك؟ معنى ذلك أن هناك عضلات دقيقة جداً وحساسة جداً وعالمة جداً تضغط الجسم البلوري في العين ثلاثة ميكرون من أجل أن يبقى الخيال على الشبكية، فكيفما تحركت السيَّارة، أو كيفما تحرَّكت الكرة تراها أنت على الشبكية بشكلٍ دقيق، فالمطابقة التي في العين يعجز عن فهمها الإنسان، بل إنَّ الإنسان حينما يرى ما دون ستين متراً فالعين تُجري أدقّ عملية مطابقة، ولو أنّ الله -سبحانه وتعالى- أوكل هذه العملية إلى الإنسان لما عرف ماذا يفعل، ولغابت عنه المشاهد والحقائق، فالعين تطابق وأنت لا تشعر. القلب له مطابقة، فلو أنَّ الإنسان خُطِّط قلبه في العناية المشدَّدة لرأيت أنَّ الإنسان إذا حمل الوسادة ارتفعت نبضات قلبه على مستوى كيلو، وعلى مستوى عشرين غراماً أحياناً، ومئتي غرام، إذا حمل ورأيت اللوحة كيف تشير إلى التخطيط وعدد ضربات القلب لرأيت فرقاً واضحاً، فالإنسان يمشي أو يجري ترتفع نبضات قلبه، يصعد الدرج ترتفع، يبذل جهداً ترتفع، ما هذا المُحَرِّك المتوافق مع الجهد؟! ليس في عالَم الميكانيك محرِّك استطاعته متبدِّلة بحسب حمولته،
هذا الشيء غير موجود لكن قلب الإنسان تتبدَّل استطاعته بتبدُّل الجهد المفروض عليه
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ ).
أيها الإخوة؛ عندما يشاهد الإنسان -كما تعلمون- شيئاً مخيفاً، كيف أن هذه الصورة تنتقل من العين إلى الدماغ، الدماغ يأمر الغدَّة النخامية -الملكة- بالتصرُّف، والغدَّة النخامية تأمر الكَظَر، والكظر يأمر القلب برفع نبضاته، ويأمر الأوعية بتضيّيق لمعتها، ويأمر الكبد بطرح سكّرٍ في الدم إضافي، ويأمر الكبد بطرح هرمون التجلُّط، ويأمر الرئتين برفع وجيبهما بثوانٍ معدودة (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
كيف يمشي الإنسان في الطريق فيستمع إلى صوت بوق سيّارة فينحرف نحو اليمين وهو لا يشعر ماذا فعل؟! كيف أنَّ الصوت وصل إلى الأذنين معاً، فوصل إلى الأولى قبل الثانية بجزء من ألف ومئتين وستمئة وعشرين جزء من الثانية، وعرف الدماغ أنَّ الصوت وصل إلى هنا قبل هنا، إذا الصوت من جهة اليمين فيعطي أمراً إلى جهة اليسار (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الإنسان أحياناً عند طبيب الأسنان إذا كان هناك عمل طويل يضع له أنبوباً يسحب لُعَابَه، لماذا؟ لأن الإنسان لا يستطيع بلع ريقه إلا إذا أغلق فمه، فما دام الفم مفتوحاً اللُعاب يتجمَّع، وفي النوم كيف ينام الإنسان ثماني ساعات أحياناً وفمه مغلق؟ أين اللُعاب؟ أين يذهب؟ كلُّما تجمَّع اللُعاب في فمِ النائم أعطى الجسم إشارةً إلى الدماغ، الدماغ يأمر البلعوم ولسان المزمار بفتح طريق المري وإغلاق طريق التنفُّس فيبلع الإنسان لُعابَه وهو نائم،
وهو لا يشعر
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
22 ـ تقلب الإنسان في نومه:
الإنسان وهو نائم – دققوا-هناك هيكل عظمي، وهناك عضلاتٌ تحت الهيكل العظمي وعضلات فوقه، وزن الهيكل العظمي مع وزن العضلات التي فوق الهيكل العظمي تضغط على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، فإذا ضغطت عليها فإن الأوعية الدموية تضيق لمعتها، فإذا ضاقت ضَعُفَت التروية، فإذا ضعفت التروية شعر الإنسان بالتنميل، وهو نائم هناك مراكز ضغط في الجسم تتحسَّس فتُبلِّغ الدماغ، والدماغ يأمر العضلات بأن يقلب على الطرف الآخر؛ وأنت نائم، والإنسان النائم يتقلَّب ثمان وثلاثين إلى أربعين مرَّة، فلو صوَّرنا إنساناً نائماً لرأيناه يتقلَّب من ثمانٍ وثلاثين إلى أربعين مرَّة، والله عزَّ وجلَّ- قال: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلْوَصِيدِ ۚ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)﴾
من إعجاز القرآن العلمي، لو أنَّ أهل الكهف لم يتقلَّبوا لتفسَّخوا بعد شهرٍ واحد، بقوا في كهفهم ثلاثمئة وازدادوا تسعاً، إذاً تقليب الإنسان (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
والله أيها الإخوة: لو أمضيت الوقت كلَّه في تأمُّل بديع صنع الله -عزَّ وجلَّ، في جسمك فقط لما وصلت إلى نتيجة، ولما أحطت بهذه الآيات (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، والله أيها الإخوة؛ لو أمضيت الوقت كلَّه في تأمُّل بديع صنع الله -عزَّ وجلَّ- في جسمك فقط لما وصلت إلى نتيجة، ولما أحطت بهذه الآيات (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ).
التفكر والتأمل أساس معرفة الخالق:
قلتُ قبل قليل: إنَّ هذه الآية تنتظم الكون كلَّه، وإنَّ الكون كلّه مصداقٌ لهذه الآية، وأيُّ شيءٍ تراه عينك إنَّما هو من تقدير حكيم عليم، لذلك إذا أردت أن تعرف الله فتأمَّل في بديع صنعه، إذا أردت أن تعرفه حقَّ المعرفة تفكَّر في خلق السماوات والأرض، انظر إلى طعامك، قال تعالى:
﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ(24) أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّا (25)﴾
انظر إلى أصلك ممَ خُلِق؟
﴿ خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ (6)﴾
خمسمئة مليون حوين تحتاج البويضة إلى حوينٍ واحد، لماذا الحوينات التي عند الرجل تُفرَز إلى آخر أيام حياته؟ الرجل قد يُنْجِب وهو في الثمانين وفي التسعين، أمّا المرأة بويضاتها محدودة فإذا انتهت دخلت في سنِّ اليأس. (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ، لو أنَّ امرأةً في التسعين حَملَت، فهذا شيء لا يُحتمَل ولا يُعقَل، رحمةً بالمرأة، فبويضاتها معدودة تنتهي في الأربعين، في الخمسين، في السادسة والأربعين وتدخل سنَّ اليأس، أمّا الرجل فغير محدودة (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
الرجل قد يفقِدُ شعره كلَّه، لكن المرأة يقلُّ شعرها لكنّها لا تفقد شعرها كلِّياً (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) ؛ هناك حِكَم بالغة يحتاج الإنسان أن يقف عندها، على كلٍّ الموضوع طويل..، الأطيار تحتاج إلى درس، الأسماك إلى درس، الجُزُر والخلجان والرؤوس إلى درس، الأمطار والسُحُب درس، الرياح درس، كلُّ مخلوقٍ لو تأمَّلتَ صَنعَته ودقَّته لعرفت أن الله -سبحانه وتعالى-.
﴿ وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)﴾
﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (50)﴾
لذلك هذه الآية تعدُّ إحدى الآيات الجامعة في كتاب الله.
﴿ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍۢ(49) وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ (50)﴾
هذا تقريبٌ لنا، لمح البصر يحتاج إلى وقت، أما الله -عزَّ وجلَّ- فالوقت من خلقه، وبين إرادته وأمره ليس هناك زمن إطلاقاً
(وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٌ) ، فالله -عزَّ وجلَّ- يزلزل أعظم المدن في أربع ثوان،
مدينة عريقة، كبيرة، ناطحات سحاب، يمكن بسبعة رختر تكون منتهية كلها، شُيّدت فيها الأبنية منذ أكثر من مئة عام تسقط في أربع ثوان، أغادير أربع ثوان انتهت كلها، فالله -عزَّ وجلَّ- رحيم، 5.3 في الشام هذه نعمة لأنه لم يحدث شيء، في العقبة 7.2 كل الأبنية فيها تضعضعت، في القاهرة 6.3، أما 7 فمنتهية؛ عظَّم الله أجركم، فما هذه الحياة؟! كل منجزات الإنسان، كل عماراته، كل شيء بناه بسبع رختر يكون كله منتهياً
(إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍ) .
هذه الهزَّات الخفيفة إنذار مبكِّر، إذا عَمَّ الفساد، وانغمس النّاس في المُلهيات، وأكلوا الربا، واستباحوا المحرَّمات أقلقهم الله -عزَّ وجلَّ-(وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ) ، مرَّة ضربتُ مثلاً أذكره بعد الأذان: أيها الإخوة؛ هناك رافعات ضخمة في المعامل تقوم على المغنطة، فإذا أُحيطت قطعة حديد كبيرة بوشيعة كهربائية تصبح مغناطيسية، يمكن لهذه الرافعة أن تحمل عشرة طن، ولا يستطيع إنسان مهما كان قوياً أن ينزع منها شيئاً، لكن الذي يعمل على هذه الرافعة لو ضغط الزر الذي يقطع الكهرباء عن هذه الرافعة ربع ميليمتر كل شيء يقع، قطع الكهرباء يلغي عمل الرافعة؛ هذا مثل تقريبي، فضغط بسيط عشرة أطنان حديد محمولة ملتصقة بالرافعة، والإنسان مهما كان رياضياً لا يستطيع أن ينزع منها شيئاً، أما العامل الذي على هذه الرافعة فضغطة أقل من عشر الميليمتر لقطع الكهرباء كل شيء يقع، فكيف بخالق الكون؟!(وَمَآ أَمْرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ) كن فيكون زُلْ فيزول.
إهلاك الأقوام السابقة نتيجة لأفعالهم:
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ(51)﴾
أي من كان على شاكلتكم، من شايعكم، من كان مثلكم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ) من قبل، عاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب.
﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍۢ(51) وَكُلُّ شَىْءٍۢ فَعَلُوهُ فِى ٱلزُّبُرِ (52)﴾
أي في الكتب مسجَّل كل شيء فعلوه، الإنسان يوم القيامة يقول:
﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)﴾
الآن يخالف السرعة فتُرسَل له إلى البيت صورة سيارته مع رقمها ملونة مع التاريخ، مع السرعة ويجعلونه يدفع الغرامة، الإنسان يتمكّن أن يضبط حركاته، فيقول لك: الطريق مراقب بالرادار، الصالة مراقبة تلفزيونياً، مُراقب الإنسان من قِبَل أخيه الإنسان فكيف من قِبَل الواحد الديَّان ؟!(وَكُلُّ شَىْءٍۢ فَعَلُوهُ فِى ٱلزُّبُرِ) ، ما قولك أن يأتي الإنسان يوم القيامة وأن يشاهد أفعاله كلَّها صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، بوقتها، وزمنها ومكانها، وملابساتها، ونواياها وكل ما يرافقها، أن يراها أمامه معروضةً وينادي الحقّ -جلَّ جلاله-:
﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾
الإنسان إذا أدخل في حسابه اليومي أنّ كل أعماله مُسَطَّرةٌ عليه وسوف يحاسَب عنها لابدَّ من أن يستقيم على أمر الله.
كل أعمال الإنسان مسجَّلة عليه:
﴿ وَكُلُّ شَىْءٍۢ فَعَلُوهُ فِى ٱلزُّبُرِ(52) وَكُلُّ صَغِيرٍۢ وَكَبِيرٍۢ مُّسْتَطَرٌ(53)﴾
مسجَّل.
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ (181)﴾
و الله قال: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ) هذه سجِّلت عليهم، هناك كلمات فيها كفر أحياناً، يقول:
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78)﴾
وأناسٌ كثيرون يقولون لك: هذا جهدي وهذه خبرتي، هذا كدّي وسَعْيي، وينسى فضل الله -عزَّ وجلَّ-، بدل أن يقول: هذا من توفيق الله، وهذا من فضل الله عليّ (إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى) (سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ) .
أحدهم في سهرة قال: أنا لن أموت قريباً، فسُئل: ما الدليل؟ قال: لأنني أمشي كثيراً، وآكل قليلاً، وأبذل جهداً، ولا أحمل همَّاً، ولا أُدَخِّن، قال هذا الكلام يوم السبت، وفي السبت الذي يليه كان تحت الأرض، واجتمع أصدقاؤه ولم يكن بينهم، فعلى الإنسان ألا يتكلَّم كلاماً أكبر من حجمه (سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ) ، طبعاً الإنسان يجب أن يأكل قليلاً-كلامه صحيح-، وأن لا يدخِّن وأن يبذل جهداً، وألا يتلقَّى الأمور بهمّ شديد فالله المدبِّر، والتوحيد يخفِّف من وقع المصائب، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، ولكن أن تعتقد أن هذه الأشياء وحدها تطيل العمر فهنا الشرك (وَكُلُّ صَغِيرٍۢ وَكَبِيرٍۢ مُّسْتَطَرٌ) .
أنواع إكرام المؤمنين يوم القيامة:
الآية بدأناها (إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَٰلٍۢ وَسُعُرٍ) ، والآن الطرف الآخر (طرف المؤمنين) قال:
﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّٰتٍۢ وَنَهَرٍۢ(54)﴾
1. النعيم المادي:
هؤلاء الذين اتقوا ربهم في الدنيا، وهؤلاء الذين التزموا أمر الله ونهيه، والذين تقرَّبوا إلى الله وتعرَّفوا إليه، هؤلاء الذين أقبلوا عليه، هؤلاء الذين ذكروه أناء الليل وأطراف النهار، هؤلاء الذين استقاموا على أمره وخدموا خلقه، هؤلاء الذين اتقوا أن يعصوه أو أن يغضبوه، اتقوا سخط الله -عزَّ وجلَّ-
(إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّٰتٍۢ وَنَهَرٍ) هذا النعيم المادي.
﴿ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ(55)﴾
أحياناً الإنسان يُدْعَى إلى وليمة ويكون ضيف الشرف، فهناك إكرامان: إكرام مادي، وإكرام معنوي، ترحيب منقطع النظير وتكريم، يوضَع في أفضل مكان، وتُقَدَّم له آيات الاحترام والتبجيل، فأحياناً الإنسان يجمع بين التكريم المادي والتكريم الأدبي، (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّٰتٍۢ وَنَهَرٍ) ماديّاً، أما معنوياً: (فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ) فمركز المؤمن عند الله كبير، ومن الأدعية: ( اللهمَّ اجعلني في عين نفسي صغيراً وفي عين الناس كبيراً) ، هناك أشخاص عند الله كبراء وعند أنفسهم صغراء.
(( كم من أشعثَ أغبرَ ذي طِمرينِ لا يُؤبَهُ له لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه منهم البراءُ بنُ مالكٍ ))
[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]
(فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ) (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّٰتٍۢ وَنَهَرٍ) ، اللهمَّ اجعلنا من هؤلاء.
الملف مدقق