وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المجادلة - تفسير الآيات 8-10
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 مراقبة الله، وآداب النجوى

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة الكرام... مع الدرس الثاني من سورة المجادلة، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ﴾

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

 أيها الأخوة... إن هذه الآية تبدأ بقوله تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾

 فكيف نرى أن الله يعلم ؟؟ إن هناك معنىً مركباً يقول: إنك حين ترى بعينك مصير الظالم الذي يدمره الله عز وجل، و ترى مصير آكل المال الحرام كيف يُذهب الله ماله، وترى كيف ينتقم الله من المعتدي، كما ترى بعينك أن المستقيم يوفَّق وينصَر ويحفَظ ويؤيَّد، فهذه الأحداث كلها وقعت تحت سمعك وبصرك، و معنى ذلك أن الله يعلم، لأن الله سبحانه وتعالى يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
 أيها الأخوة... إن الإنسان حين يعلم أن الله يعلم يكون قد قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله عز وجل.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

 يعني: ألا ترى أفعاله.. ألا ترى توفيقه للمؤمنين وعقابه للكافرين.. ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى ينمّي المال الحلال ويبارك فيه ويمحق المال الحرام ويذهبه.. ألم تر أن المؤمن المستقيم يحيى حياة طيبة، وأن المعرض عن الله يعيش معيشة ضنك، هذه الحوادث بين يديك وتحت سمعك وبصرك، فإذا كان الله يجزي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فمعنى ذلك أن الله يعلم، و هذا ردع للإنسان عن أن يرتكب معصية وهو يعلم أن الله يعلم، فأفعال الله تعالى تدل عليه، كما أن خلقه وكلامه يدلان عليه، فهذه الآية تشير إلى أفعال الله عز وجل، فإذا تتبع الإنسان أحوال الناس رأى أن الله مع المستقيم مؤيداً وناصراً وحافظاً وموفقاً، كما أنه يعاقب المنحرف إما بإتلاف ماله أو بإلقاء الخوف في قلبه أو بمشكلة تجعل حياته جحيماً.
 إذاً: الله يعلم، فإذا علمت أن الله يعلم انحلت مشكلاتك مع الله، لأن الله سبحانه وتعالى جعل معرفته علة وجودك على وجه الأرض، قال:

 

 

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12) ﴾

 

(سورة الطلاق)

 وكما قلت في درس سابق: إذا للإنسان كان جهة قوية تضبط حركاته وسكناته، وتحاسبه حساباً عسيراً على أفعاله، وهي تعلم كل شيء عنه، فإنه سيستقيم على أمرها مرغماً، لأن حركته مسجلة عليه، فكيف إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ؟

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

 

 إن علم الله ليس قاصراً على حركاتك وسكناتك، بل إن كل ما في الكون خاضع لعلم الله، فعلم الله يتعلق بكل ممكن في الكون، و الله سبحانه يعلم السرّ وأخفى، فهو يعلم ما تعلن ويعلم ما تخفي ويعلم ما خفي عنك، وإذا علمت أن الله يعلم فلا بدّ لك من أن تضبط سلوكك.
 الله يعلم السرّ وأخفى...

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾

 فإذا كان هناك ثلاثة أشخاص جالسون في مجلس، وكان فيهم رجل موظف من قبل جهة قوية بيدها زمام الأمور، فالكلام عندها سيكون منضبطاً إلى أقصى درجة، فكيف إذا علمت أن الله موجود مع كل واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة.. أو أدنى من ذلك أو أكثر ؟؟!
 النجوى: هي الكلام غير الصالح للنشر ؛ أي: كلام مؤامرة، وقد ذكرت في الدرس الماضي أن عمير بن وهب قال لصفوان بن أمية: لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، فهذه نجوى؛ أي: مؤامرة وكلام غير معلن يكون بين شخصين أو أكثر على انفراد، في مكان آمن، لا يستمع فيه أحد إليهم، والأبواب مغلقة، وربما يكونون في مكان بعيد، أو في فلاة أو قمة جبل، فالله سبحانه مع هؤلاء يعلم ما يقولون.

﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾

 أي: إنه معهم يستمع إليهم ويعلم نواياهم ويعلم خبثهم وسوء طويتهم، وسوف يحاسبهم أشدّ الحساب، أيها الأخوة: لو علم هؤلاء الثلاثة الذين يتناجون بما يسخط الله أن الله معهم وسيحاسبهم هل كانوا سيتناجون ؟ إطلاقاً... لو أن كل من يعصي الله علم أن الله معه فهل يعصي ربه ؟ هذا مستحيل... و لو علم كل من أراد أن يقترف معصية أن الله ناظر إليه لما اقترفها... إذاً: ألا ترون معي أنك إذا علمت أن الله يعلم استقمت على أمره، وأن الذي لا يستقيم على أمره لا يعلم أن الله يعلم.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾

 

 لذلك ورد في الحديث القدسي

((: يا موسى أتحب أن أكون جليسك، قال: كيف ذلك يا رب ؟ قال: أما علمت أني جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني ؟؟ ))

 فيجب عليك أن تعلم أن الله معك حتى وإن كنت وحدك، "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
 التطبيق العملي لهذه الآية:
 إن التطبيق العملي لهذه الآية هو أن الإنسان إذا كان مع أصدقائه أو إخوانه أو جيرانه أو أقربائه أو مع من يلوذ به في مكان مغلق، لا أحد يستمع فيه إليه، وكان يتكلم كلاماً لا يرضي الله وجب عليه أن يعلم أن الله معه، فكم من مجلس يغتاب فيه المسلمون، ولو علم هؤلاء المغتابون أن الله يعلم ما يقولون لما اغتابوا، لو علم الأفاكون أن الله يعلم ما يأفكون ما أفكوا، و لو يعلم العصاة أن الله معهم لما عصوه، و إذا علم الإنسان العادي أن الله يعلم انضبط أشد الانضباط، فإذا زارك أحد علية القوم مثلاً، وكان إنساناً وقوراً قوياً استحييت أن ترتدي ثياباً مبتذلة أمامه، كما استحييت أن تسب ابنك، أو أن ترفع صوتك أو أن تنطق بكلمة سوء أو أن تفعل فعلاً شنيعاً أمامه، وهو إنسان من علية القوم، فكيف إذا علمت أن الله معك ؟ لذلك كان أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه أينما كان، "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "

 

﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾

 قد يقول قائل: لماذا ذُكر العدد لثلاثة و العدد خمسة ؟لماذا لم يذكر الاثنين أو الأربعة، إن قوله تعالى:

 

﴿وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ﴾

 يعني: أقل من ثلاثة، وقوله:

﴿وَلَا أَكْثَرَ﴾

 يعني ولا أكثر من أربعة أو خمسة أو ستة، وقد قال بعض المفسرين: إن بعض المنافقين كانوا ثلاثة فتآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قد كان منهم خمسة تآمروا عليه، فأراد الله أن ينوه بهم وبمؤامرتهم وبنجواهم التي تسخط الله عز وجل.
 إن ملخص هذه الآية يقول: إذا علمت أن الله يعلم فلا بدّ من أن تستقيم على أمره، فاجهد أن تعلم أن الله معك يراقبك، وهناك الكثير من الآيات التي تدلك على هذا المعنى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)﴾

 

(سورة النساء)

﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) ﴾

(سورة الفجر)

﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219) ﴾

(سورة الشعراء)

 فعلمك أن الله معك له وزن كبير في حسابات الإيمان، فكيف إذا علمت أيضاً أن الله يعلم ما تقول ؟ وأنه سوف يحاسبك على ما تقول ؟ و أنك سوف تلقى الله رؤوس الأشهاد يوم القيامة بهذه النجوى التي كانت بينك وبين زيد أو عبيد على انفراد في غرفة مغلقة من دون أن يشعر بكم أحد، فالإنسان أحياناً قد يتكلم بكلمة لا ينبغي له أن يقولها، فإذا هي تنشر في الصحف فيقرؤها الناس جميعاً، و الخبر إذا أذيع أو نشر في محطات إعلامية استمع إليه العالم كله، لاسيما إذا كان خبراً شائناً أو فضيحة أو خيانة.. فإذا ضبط الإنسان بالخيانة أو التجسس، ثم أذيع اسمه في شتى بقاع الأرض لكان هذا مما يندى له الجبين، كذلك هو حال النجوى التي كانت بينك وبين فلان على انفراد، وقد كنت تظن أن أحداً لا يراكما، إنك سوف تلقى الله بها على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وما أعظمها من فضيحة !! فليس هناك فضيحة أكبر من أن يكون هناك كلاماً غير معد للنشر ولا للإعلان ثم يصبح معروضاً على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

 قال لي أحد الأصدقاء أنه كان قد وضع جهاز (الأنترفون) في بيته بين غرفة الضيوف والمطبخ، و زاره يوماً بعض الضيوف، وأطالوا الجلوس، وكان هذا الجهاز مفتوحاً وهو لا يشعر، فدخل إلى المطبخ وقال لزوجته: هؤلاء الثقلاء لم يذهبوا إلى الآن، فماذا حصل بعدها ؟ قال: لقد بقيت سنوات وأنا أخجل أن أنظر إليهم، لأن هذا الكلام نقل إليهم عبر هذا الجهاز، فقد يتكلم الإنسان أحياناً بكلمة شائنة أو قذرة أو فيها خسة نفس أو مؤامرة أو عدوان، فما هو موقف الإنسان يوم القيامة إذا أعلنت هذه الكلمة على رؤوس الأشهاد ؟ هذه هي الفضيحة الحقة.
 وضوح المؤمن:
 إن من عظمة إيمان المؤمن أن يكون سرّه كعلانيته وعلانيته كسرّه، وأن تكون خلوته كجلوته وبالعكس، قال عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( تركتكم على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا ضال ))

 فالمؤمن واضح ليس عنده أسرار أو شيء لا يقال، و ليس عنده موقف حقيقي وموقف معلن، فليس ثمة شيء يفعله في السرّ و يستحيي أن يفعله في العلن، فأموره واضحة لأنه يطبق منهج الله، فهو يسمح بكل ما سمح الله به و لا يستحيي منه، فالله تعالى سمح بالزواج مثلاً، فترى الناس يطلقون أبواق السيارات يوم العرس، وهم لا يستحون من ذلك لأنه شيء مسموح به، كما أن لمؤمن يحرم ما حرمه الله تعالى، و إن أجمل ما في المؤمن هو الوضوح، أما غير المؤمن فهو مخيف، لأن مظهره غير مخبره، و ظاهره غير علانيته، كما أن باطنه غير سريرته،فهو يقول شيئاً أما بعض الناس، ثم يغيره أمام آخرين، قال تعالى:

 

 

﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾

 

(سورة البقرة)

 فذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ً، وإن أجمل ما في حياة المؤمن الوضوح، فهو لا يقول شيئاً يستحيي أن ينقل عنه، أو شيئاً يرجو السامع ألا يتكلم به لأنه يتكلم الحق، والحق لا يخشى أن يُبحَث فيه أبداً، فالحق حق والباطل باطل، فقد يكون الإنسان أحياناً أسير كلمة قالها، قال أحدهم:.

 

احـفظ لسانك أيها الإنسـانُ  لا يلدغنّك إنه ثعبـــانُ
كم في المقابر من قتيلِ لسانه  كانت تهاب لقاءه الشجعان

 وقد يتكلم الإنسان حياناً كلمة ترديه وتشقيه و تبعده، وكلكم يعلم الحديث الصحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا ))

 فحينما تعلم أن كلامك من عملك، وأنك محاسب على هذا العمل عليه تنجو.
 الكلام من العمل !!!

 

 

﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

 و هذا أقوى شاهد على أن كلام الإنسان من عمله، دققوا في هذه الآية:

 

 

﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

 

 لم يقل: بما قالوا، بل: بما عملوا، فمعنى ذلك أن نجواهم عمل، فقد جاء الأنبياء بالكلمة، كما كفر الكفار بالكلمة، والزواج الشرعي يتم بالكلمة، والزنى يتم بالكلمة، فالكلمة لها دور خطير جداً، إنك قد ترقى و تعلو بكلمة و قد تسقط و تهلك بكلمة.
 فلو كان العمل شيئاً غير الكلام لقال الله عز وجل: ثم ينبئهم بما قالوا، والنجوى كلام.

﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

 ولعل النبي عليه الصلاة والسلام قد استنبط هذا المعنى الدقيق في حديثه السابق من هذه الآية، فكلام الإنسان من عمله، وإذا عدّ الإنسان كلامه من عمله استقام على أمر الله وضبط لسانه، ومن صفات المؤمن ضبط اللسان، فهو يفكر ملياً قبل أن يتكلم.
 كان عمر بن الخطاب _ وهو عملاق الإسلام _ يتمنى لو أن له رقبة كرقبة الجمل، لأنه يفكر بالكلمة ملياً قبل أن يلقيها، فقد يكون هناك كلمة تفرق بين زوجين أو شريكين، أو بين أم وابنها، فالشر كله كلمات تلقى.
 نجوى المنافقين:
 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ﴾

 و يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد نهى المنافقين عن هذه اللقاءات الجانبية والمؤامرات الخفية و الدسائس و العمل الخسيس الذي لا يُرضي الله، لأن الإنسان الواضح يعمل تحت ضوء الشمس أما الإنسان غير المستقيم فهو يعمل في الظلام بعيداً عن الظهور.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ﴾

 

 لقد كان هؤلاء المنافقون الذين يجلسون مع اليهود ويتآمرون على النبي صلى الله عليه وسلم يظهرون أمام النبي الولاء، ويبطنون له العداء، ويظهرون هذا العداء أمام اليهود عندما يختلون، فهم أصحاب موقف ازدواجي، والمنافق _كما قلت في درس سابق_ هو شخص قَبِل انفصام الشخصية، فهو يتقن أدواراً متباينة، فيتقن دور المؤمن المسلم المعظم للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يتقن دور الكافر العدو اللئيم، فإذا التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام أظهر له الولاء وإذا خلا بمن معه أظهر العداء، و هذا شأن المنافق.
 نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم تشريعٌ:
 قال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾

 وهذه الآية تعني نهي النبي تشريع، و أذكر مرة أن امرأة ضاقت ذرعاً بزوجها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادت أن تخلعه، فقال عليه الصلاة والسلام لها:

(( لو تراجعينه ))

 أي: لو تقبلين به، فقالت هذه المرأة العاقلة: يا رسول الله أتأمرني ؟ فقال:

(( لا إنما أنا شفيع ))

 فلو أنه أمرها وعصت لكانت عاصية لله، فيجب أن نعلم علم اليقين أن طاعة رسول الله هي عين طاعة الله، وأن إرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله، قال تعالى:

 

﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132) ﴾

 

(سورة آل عمران)

 وقال:

 

﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

 

(سورة الحشر 7)

 إن هؤلاء الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه قد وقعوا في معصية الله عز وجل، فهناك إنسان واحد إذا عصيته عصية الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 الإثم والعدوان:

﴿ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ﴾

 (الإثم): المنكرات، فقد يتحدث أحدهم عن مغامراته مع النساء، أو عن بعض الأشخاص الذين وقعوا في المعاصي والآثام و الفحشاء والمنكر، فالحديث عن المعصية وأساليبها ومسبباتها ونتائجها إثم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة تجرح عدالة الإنسان، فالعدالة والضبط صفتان في المؤمن، فالضبط صفة عقلية والعدالة صفة نفسية، وقد تسقط العدالة أو تجرح باختلال أحد هاتين الصفتين، فمن عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوَّته وحرمت غيبته، فإنك إن ظلمت الناس أو كذبتهم أو أخلفت ما وعدتهم سقطت عدالتك، "ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له "
فهناك أشياء ثلاثة تُسقط العدالة: الظلم والإخلاف والكذب، و هناك أشياء كثيرة تجرحها، كالتنزه في الطرقات المليئة بالكاسيات العاريات مثلاً، أو الحديث عن النساء في المجالس الخاصة، كقول أحدهم: فلانة شكلها كذا وطولها كذا، أو صحبة الأراذل،أو البول في الطريق، أو الأكل فيه، أو أن يمشي الإنسان حافياً في الطريق، أو التطفيف بتمرة في الميزان، أو أكل لقمة من حرام، أو علوّ الصياح في البيت، أو قيادة الكلب العقور ليتباهى به، أو إطلاق العنان للفرس، ومن هذا القبيل من يسرع في سيارته في الطرقات الآن، فهذه الأمور كلها تجرح عدالة الإنسان، فالمؤمن كامل، قال تعالى:

 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

 الإثم: كالحديث عن المعاصي ودور اللهو والأفلام والمسرحيات والممثلات والزناة والمنحرفين و الانحراف الجنسي، أو سلب أموال الناس بغير حق والمؤامرة على أملاكهم وغصب حقوقهم، كأن يأخذ أحدهم محل ثم يلقي بشريكه في الطريق، أو أن يغتصب بيتاً، أو يأكل مالاً محرماً، أو يحوز على هذه المركبة ليست له، أو أن يماطل في وفاء الدين، فهذا كله من العدوان.

 

 

﴿ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ﴾

 إن الأوامر الموجودة في القرآن الكريم هي أوامر الله، وقد يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر آنية تنظيمية، فلو أن النبي أعطى أمراً، ثم خولف هذا الأمر لكانت هذه المخالفة معصيةً للرسول، ومن عصى الرسول فقد عصى الله.
 تحية اليهود النبيَّ عليه الصلاة والسلام:
 ثم يقول تعالى:

 

 

﴿ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ﴾

 كان اليهود إذا أرادوا أن يحيّوا النبي عليه الصلاة و السلام يقولون: السّام عليكم، والسّام هو الموت، فكان عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( وعليكم ))

 الله تعالى يمهل ولا يهمل:
 قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ﴾

 أي: يقولون لو كان هذا رسول الله كما يدعي لعذبنا الله بما نقول، فنحن حينما نقول السّام عليك يا محمد نستهزئ به وندعو عليه بالموت، فلو أن هذا نبي حق لعذبنا الله بما نقول و قد غاب عنهم أن الله يمهل ولا يهمل، وهناك الكثير من الأشخاص الذين ينطقون بكلمة الكفر فيقول أحدهم: أين الله ؟ وقد غاب عنه أنه في دار عمل لا في دار جزاء، وأن الله سبحانه وتعالى قد يعاقب فوراً وقد لا يعاقب وذلك لحكمة يريدها، يقول الله عز وجل:

 

 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) ﴾

 

(سورة الأنعام)

 وفي آية أخرى يقول:

 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69) ﴾

 

(سورة النمل)

 فـ (الفاء) لها معنى، و (ثم) لها معنى، (الفاء): تعني أن تأتي عاقبة المكذبين عقب تكذيبهم،وهناك آلاف الحوادث من هذا القبيل، كإنسان يحلف يميناً غموساً كاذبة فيصاب بالشلل لتوه، وقد يكون هناك إنسان يحلف يميناً غموساً كاذبة ثم يحيا عشرين عاماً من دون مصيبة، وذلك لحكمة أرادها الله، فالله عز وجل عليم بكل شيء، وأفعاله كلها لحكمة، ولكننا لا نعلم الحكمة، فقد يأتي العقاب سريعاً وقد يتأخر، لكن العقاب إذا تأخر فلا ذلك يعني أن الله غافل، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾

 

(سورة إبراهيم)

 لماذا يحسب الإنسان الله غافلاً ؟ لأنه لا يرى العقاب السريع، والله أحياناً قد يؤخر العقاب، وإذا أخره كان ذلك لحكمة بالغة، و ليس معنى ذلك أنه لم يقع، فلا بد له من أن يقع، ثم يقول الله عز وجل:

 

﴿ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾

 يعني ذلك أن العقاب الحقيقي يكون يوم القيامة في النار، قال تعالى:

 

 

﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

 

(سورة آل عمران 185)

 ثم يقول:

 

﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾

 و إذا عاقب الله عز وجل الإنسان في الدنيا كان ذلك أفضل بمليون مرة من أن يؤخر عقابه إلى الآخر، فهو إذا عاقبه في الدنيا كان معنى ذلك أنه أعطاه فرصة للإصلاح والتغيير، وإذا أحب الله عبده عجّل له بالعقوبة، فإذا جاءك العقاب بعد الذنب فاعلم بأن هذه علامة طيبة، فقد أعطاك الله فرصة لتتوب، أما إذا ركب الإنسان رأسه واقترف المعاصي والآثام ثم لم يأته العقاب فمعنى ذلك أن عقابه أُخِّر ليوم القيامة، وهذا شيء خطير جداً.
 التناجي بالبر والتقوى:

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ ﴾

 ليس هناك من إنسان ليس له أصدقاء و إخوان وأصحاب، فإذا أراد أن يتناجى معهم في سهرة أو حفلة أو نزهة أو سفر، فليتحدث عن أعمال البر، كإصلاح ذات البين،أو الدعوة إلى الله، أو الذكر، أو خدمة الشباب المؤمن، وهذا حديث يفتخر به كل إنسان، يقول تعالى: أيها المؤمنون، إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كما فعل المنافقون وتناجوا بالبر والتقوى، والحقيقة أن هاتين الكلمتين جامعتان، فالبر يشمل صلاح الدنيا، فهناك آلاف الهموم التي تشغل المسلمين اليوم، فإذا ناجيت أخاك فناجه في أمر من أمور المسلمين، أو ناجه في أمر من أعمال البر، كمشكلة توفير مساكن للشباب وتزويج الشباب مثلاً، أو مشكلة صيانة الأعراض، أو مشاكل المرأة المسلمة، أو مشكلة نشر الثقافة الإسلامية، أو مشكلة دعوة الناس إلى الله، أو مشكلة أن يكون كتاب الله بين المسلمين هادياً ومرشداً، فإذا ناجيت أخوك فناجه في أعمال البر التي تعود على المسلمين بالخير.

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ﴾

 كما فعل اليهود والمنافقون.

 

 

﴿ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

 فلو أن هذا اللقاء مسجل خفية عنك مثلاً، فلا ينبغي عليك _إذا كنت مؤمناً_ أن تتكلم كلمة تستحيي منها، لأن المؤمن الصادق واضح كالشمس، فإذا تكلم في بيته أو في خلوته مع أصدقائه وجيرانه فهو لا يتكلم إلا في خير المسلمين، فهو يعنيه ما يعني المسلمين، ويؤلمه ما يؤلمهم، و يفرحه ما يفرح المؤمنين، فكلامه لا يمكن أن يكون مأخذاً عليه، لأنه يعمل لله ويعمل تحت ضوء الشمس، على بيضاء نقية ليلها كنهارها.
 فيا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فتناجوا بالبر والتقوى وبطاعة الله، كأن تتناجوا بكيفية الدعوة إلى الله، أو كيفية إقناع الناس بأحقية هذا الدين، أو طرق تعليم كتاب الله، وأساليب جذب الناس إلى بيوت الله و حملهم على الاستقامة، فمناجاة المؤمنين تكون إما بالبر وهو صلاح أمر المسلمين، أو بالتقوى وهي صلاح دينهم، وقد جاء في الدعاء الشريف:

 

 

(( اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ))

 فإذا اكتفى المسلمون في بلادهم ذاتياً، فأكلوا ما يزرعون، و لبسوا ما ينسجون واستعملوا الآلات التي يصنعون، فما كانوا عالة على أحد، فهذه نعمة كبيرة، كذلك إذا أُمِّنت المياه للبيوت جميعها، وعبّدت الطرقات، وأشيدت المستشفيات والجامعات، وحوفِظ على الانضباط الأخلاقي كان كل هذا من البرّ، فالمجتمع المسلم يحتاج إلى طبابة جيدة وإلى تجارة رابحة وإلى تصنيع مُتْقَن، فهناك أعمال كثيرة تعود بالخير على المسلمين، و تمنعهم من أن يكونوا تحت رحمة أمم أخرى، لقد ذكرت لكم مرةً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يزور بلدة إسلامية من رعاياه، فلفت نظره أن كل الفعاليات الاقتصادية في يد غير المسلمين فآلمه ذلك، فلما سألهم اعتذروا، فقال رضي الله عنه:كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟؟ فقد أدرك هذا الخليفة الراشد أن الإنسان إما منتج أو مستهلك، فالمنتج قوي ومتحكم، أما المستهلك فهو ضعيف، و نحن مثلاً قد نبيع الصوف فيرجع إلينا قماشاً مصنوعاً بألف ضعف، والإحصاء في ذلك بسيط، فسعر الرطل من صوفنا سبع عشرة ليرة، فيعود هذا الصوف مصنعاً منسوجاً إلينا بألف و سبعمائة ليرة، فلو أننا صنعنا إنتاجنا من القطن بأيدينا، و استثمرنا بترولنا بأيدنا لكان أولى بنا.
 فلذلك كان هذا البرّ صلاحاً للمسلمين، فالمسلم يحتاج إلى مدرسة وطبيب وطريق ومستشفى و بيت يسكنه، فكل مشروع من أجل المسلمين ومن أجل حاجياتهم ومن أجل مستقبل أولادهم هو عمل طيب.

 

 

﴿ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

 فالضمان صحي مثلاً، يرعى في صندوق العمليات التي تكلف مئات الألوف للناس الفقراء الذين يحتاجون لعمليات من هذا النوع، فهذا عمل طيب، كذلك هو عمل الجمعيات الخيرية التي تلبي حاجات الفقراء والمساكين، كجمعية دار الأيتام، فإذا كان هناك إنسان فقد والديه فإنه يجد في المجتمع داراً تؤويه، وتعطف عليه وتطعمه أطيب الطعام و تلبسه أجمل الكساء، و هذا مشروع شيء جيد جداً.
 وهناك من عندنا أعمال البرّ ما لا يُعد ولا يُحصى، فإذا ناجيت أخوك فناجه بالبرّ، وحدثه عن طموحاتك و ما تنوي أن تفعل في خدمة المسلمين فهذا هو البرّ.
 والتقوى تكون في الدعوة إلى الله وتطبيق شريعة الله والأخذ بيد الناس إلى الله.

 

 

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

 أي إن النهاية إلى الله.

 

 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾

 

(سورة الغاشية)

 كما قلت في درس سابق إن الإنسان حينما يوضع في قبره يقول له الله عز وجل:

((عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ))

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

 فمهما كانت مظاهر الموت فخمة فلا بدّ من وقفة مع الله عز وجل، فهذه الآية تقول: أطيعوا الله الذي إليه مآلكم ومصيركم.

 

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾

 و هذا هو الكلام الخسيس و المؤامرات والدسائس والغيبة والنميمة والإفك والبهتان والسخرية والعداء الخفي.

 

 

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾

 

 فهذا من وسوسته ومن فعله، وهذه النجوى يفرح بها الشيطان لأنها توقع بين المؤمنين، وإن هدف الشيطان الأول هو أن يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فهو يحرش بينهم، و يستفز بعضهم على بعض، فإذا كان بهم بقية جاهلية استجابوا لاستفزازه ووقعت بينهم العداوة والبغضاء، لذلك ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((إياكم وفساد ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، لا أقول حالقة الشعر وإنما حالقة الدين))

 فالخلافات العالقة بين إنسانين من شأنها أن تفسد دينهما، "يا ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك "، فمن الممكن أ يحدث خطأ في أساس البيت فيهدم البيت عندئذ ويستغني عنه صاحبه، كما يمكن أن يحدث في العمل فيؤسس الإنسان عملاً جديداً، أما الخطأ الذي يصيب الدين فهو أمر خطير، فـ

((إياكم وفساد ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، لا أقول حالقة الشعر وإنما حالقة الدين ))

 وإن الشيطان حينما يئس أن يُعبد في جزيرة العرب رضي بالتحريش بين المؤمنين، لذلك كان كل خلاف بين المسلمين أساسه من الشيطان، فإذا وقع بينهم العداوة والبغضاء فهذا من عمل الشيطان.
 للآية معنيان:

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

 هذه الآية لها معنيان.
 1- لو فرضنا أن مؤمناً _لا سمح الله وقدر_ زلت قدمه وانزلق لسانه في مجلس وتكلم بكلمة لا ينبغي له أن يقولها، فإن هذه النجوى التي انزلق بها المؤمن تحزنه، لأن الإنسان الذي يتكلم بما يسخط الله محجوب عن الله.
 2- أن المنافقين إذا تكلموا في مجالسهم الخاصة كادوا للمؤمنين، وإذا بلغ المؤمنين هذا الكلام حزنوا، فإذا تأمر إنسان عليك مثلاً فطعن بك أو طعن بعلمك وكال لك الصاع صاعين، فهذا فعل الشيطان، ولكن الله طمأننا فقال:

 

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾

 إنهم مهما تكلموا و تآمروا، فإن فعلهم هذا ليس بضار المؤمنين شيئاً إلا بإذن الله.
 التوكل على الله من صفات المؤمن:

 

 

﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

 أي إذا كنت مؤمناً كان فاستقم على أمر الله وتوكل عليه، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32) ﴾

 

(سورة فصلت)

 الله ولي المؤمنين،يدافع عنهم و ينصرهم ويؤيدهم و يحفظهم و يكرمهم ويعطيهم، ولا يستجيب لمن من يعاديهم، فهذه بشارة من الله:

 

﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

 فإذا كنت مؤمناً حقاً فتوكل على الله، وإذا توكلت على الله فأنت أقوى الناس، وإن قنعت بما أعطاك الله فأنت أغنى الناس، وإن أطعت الله فأنت أكرم الناس، و من توكل على الله فهو أقوى الناس، لأن أقوى قوة معك، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك من معك ؟ ثم يقول الله عز وجل:

 

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾

 نبدأ بهذه الآية في الدرس القادم إن شاء الله، لنشير إلى أدب المجلس فمجلس العلم أساسي في حياة المسلم، ولهذا المجلس آداب نوه بها القرآن الكريم تارة، ونوه بها النبي عليه الصلاة والسلام في مواطن كثيرة، والإنسان إذا حضر مجلس علم عليه أن يعرف آداب هذا المجلس، فالإنسان أحياناً قد يسيء وهو لا يشعر، فكم من مخالفات تُرتَكب فـ (تشوّش) على الجالسين درسهم، وهذا الذي (يشوّش)لا يدري ماذا يفعل، فحبذا لو تعلمنا جميعنا آداب مجالس العلم، وكيفية الحضور والإنصات، وللمجالس آداب كثيرة.
 وسأشير إلى هذه الآية بشكل موجز.

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

 ففي أيام زحام قد يأتي إنسان فلا يجد مكاناً فيستحيي، فهناك رجل جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فآوى إلى الله فأواه الله، وهناك رجل آخر ما وجد مكاناً فأعرض، فأعرض الله عنه، فإذا جاء أخ مسلم فلم يجد مكاناً، فأعطاه أحد الأخوة مكاناً لكان هذا أمراً جيداً، وهو من صفات المؤمنين، وقد يكون هناك إنسان جالس في مكان مريح لوحده، بينما يكون أخوه غير مرتاح، وقد قال تعالى:

 

﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾

 والجزاء من نفس العمل، يعني إذا فسحت لأخيك فسح الله لك من رحمته، و إذا أعنت أخاك أعانك الله، و إذا نفست غن أخيك كربة دنيوية نفس الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، فمن أساليب ربنا عز وجل أنه يجازي على الإحسان إحساناً مشابهاً له.

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾

 والدرجات عند الله هي درجات العلم والعمل وهذه الآية من أوضح الآيات.

 

 

﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور