الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة المجادلة.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1)﴾
توضيح لبعض الحقائق:
أيها الإخوة الكرام، بين يدي هذه السورة بعض الحقائق.
1- الحقيقة الأولى: مراحل الدعوة الإسلامية:
الحقيقة الأولى: لقد مر المسلمون في طورَين اثنين؛ طور مكي إيماني، وطور مدني تشريعي، وما لم يسلك الدعاة إلى الله هذا المنهج في ترسيخ الإيمان أولاً، وفي توضيح الشرع ثانياً فلن يفلحوا في دعوتهم، فكلٌّ منهما شرط لازمٌ غير كافٍ، فإن أنت بيّنت أمر الله وحكمه ولم تعرّف بالله عز وجل من خلال خلقه فهذا الأمر لا يُطبّق، فالذي يعرِف الآمر ولا يعرف الأمر كيف يتقرب إليه؟ أما الذي يعرف الأمر بعد أن يعرف الآمِر يتفانى في تطبيق الأمر، أما الذي يعرف الأمر ولا يعرف الآمِر يتفنّن في التفلّت منه، فلذلك أول حقيقة بين يدي هذه السورة هو أن المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مروا بمرحلتين؛ مرحلة مكية ومرحلة مدنية، مرحلة إيمانية، ومرحلة تشريعية، مرحلة تعرّفوا فيها إلى الله، ومرحلة تعرفوا فيها إلى أمر الله، إن الإنسان بالكون يعرف الله، وبالشرع يعبده، لذلك يجب أن يكون عمل الداعية على خطين: خط يعمل فيه على تعريف الناس بالله، وخط يعمل فيه على تعريفهم بأمر الله، لأن الإنسان إذا عرف الله تقرّب إليه عن طريق تطبيق أمره، هذه هي الحقيقة الأولى: في الدعوة إلى الله جناحان: جناح العِلم بالله، وجناح العِلم بأمره، نعرفه ونطيعه، نعرفه من خلال الكون، ونطيعه فيما شرعَ لنا، هذه ناحية.
فهذه السورة جاءت في المرحلة المدنيّة التي اختصّت في الأعمّ الأغلب بأمور التشريع، أما الشيء الأدق من ذلك فهو أن هذا القرآن العظيم كلام رب العالمين، هذا الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله بعد أن لفت النظر إلى الكون، وإلى الشمس والقمر، وإلى النجوم، وإلى الكواكب، وإلى الجبال، وإلى الرياح، وصل إلى أدّق علاقة بين المرء وزوجه، فهو شرع كامل ومنهج تفصيلي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
2- الحقيقة الثانية: الإسلام منهج متكامل:
هذا الإسلام ليس كما يفهمه بعض الناس على أنه صلاة وصيام وحج وزكاة ليس غير، بل هو منهج تفصيلي، وحينما فهم المسلمون الإسلام على أنه عبادات ليس غير، ابتعدوا عن حقيقة دينهم وصاروا في مؤخَّرة الأُمم، فالإسلام منهج تفصيلي يصل إلى أدّق نواحي حياتك، فهل هناك علاقة أشدّ خصوصية من علاقة الرجل بامرأته؟ ما من علاقة أشد خصوصية ودقة من علاقة الرجل بزوجته، ومع ذلك وصل الإسلام إلى هذه العلاقة وشرّع لها، وهذه هي الحقيقة الثانية.
3- الحقيقة الثالثة: اهتمام الإسلام بالأسرة:
أما الحقيقة الثالثة: لعل الله سبحانه وتعالى مِن بالِغ حكمته أن هذا المجتمع المسلم القوي لا يكون مجتمعاً قوياً إلا إذا كانت أصغر وحدة فيه متماسكة، فالمجتمع الإسلامي يتألف من أُسَر، والأسرة تتألف من زوج وزوجة وأولاد، وقوة المجتمع الإسلامي من تماسُك أُسَره، فكما أن الإسلام حريصٌ على قوة المسلمين وعلى رُقيّهم وعلى تألّقهم، حريص أيضاً على أصغر وحدة فيه، حريص على علاقة امرأة بزوجها، والحقيقة -أيها الإخوة- أن الإسلام يُلحّ أشدّ الإلحاح على تماسك الأُسَر، كما أنه يعتبر أية فكرة، أية عقيدة، أي تصرف يباعد الزوج عن زوجته فهذا من فعل الشيطان؛ لأن غاية أفعال الشيطان هي أن يُفرّق بين الرجل وزوجه، وكل تشريع الله عز وجل بَدءاً من غضّ البصر ومروراً بالمعاشرة بالمعروف، ثم الإحسان إلى الزوجة، كل هذه التشريعات المتعلقة بالزوجين من أجل تماسك هذه الأسرة.
فالأسرة إذا تماسكت نشأ الأطفال فيها نشأة صحيحة، فالأسرة المتماسكة تقذف للمجتمع بعناصر طيبة متوازنة، ذات تربية عالية، أما إذا تداعت أركان الأسرة من داخلها ونشأ الشّقاق والخلاف والتدابر والتقاطع بين الزوجين، فإن الأولاد سيكونون أول ضحية لهذا الخلاف، وإذا كان البيت بيتاً شقيّاً فيه الفوضى، وفيه العِداء، وفيه البُغض تخلخلت أصغر وحدة في المجتمع، إذاً ضعف الأسرة ينعكس على قوة المجتمع، والحقيقة ليس هذا غريباً أن يقول أحد كبار رؤساء الدول الكبرى: "إن أمريكا تواجه أربع تحديات"، ماذا تفهم من هذه التحديات؟ الصين مثلا؟ الاتحاد الأوربي؟ اليابان؟ لا، قال: "إن أمريكا تواجه أربع تحديات منها تفكك الأسرة"، دولة عظمى تمسك بقِياد العالم تواجه أكبر تحدٍّ في حياتها وهو تفكك الأسرة، وانحلال الأخلاق، وشيوع المخدرات وشيوع الجريمة، لذلك كانت قوة المجتمع من قوة أسره.
والشيء الذي يلفت النظر في هذه السورة أن الله في عليائه من فوق سبع سماوات، يشرّع لعلاقةٍ بين الزوجين، لتمتين هذه العلاقة، لتماسك الأسرة، وذلك من أجل أن ينشأ الأطفال في جو صحي، ومن أجل أن ينتهي المطاف إلى قوة المجتمع.
أيها الإخوة الكرام، إن المجادِلة هي امرأة اسمها (خولة بنت ثعلبة) ، وهناك روايات كثيرة تروي قصتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، من هذه الروايات أنها جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: "يا رسول الله إن زوجي تزوجني وأنا شابة ذات أهلٍ ومالٍ وجمال، فلما كبرت سني ونثر بطني وتفرّق أهلي وذهب مالي قال: أنت عليّ كظهر أمي، ولي منه أولاد إنْ تركتهم إليه ضاعوا –أنا أربيهم- وإن ضممتهم إليّ جاعوا" ، وقد ورد في بعض الروايات أن النبي بكى لِما كان في قلبه من الرحمة.
وتروي أيضاً بعض الروايات أن عمر بن الخطاب خليفة المسلمين وعملاق الإسلام كان يركب دابة، فمرّ في أحد أسواق المدينة، فاستوقفته امرأة كبيرة في السن وقالت له يا عمر: "كنت تُدعَى عميراً، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتّقِ الله يا عمر، فإنه مَن أيقن بالموت خاف الفَوت، ومَن أيقن بالحساب خاف العذاب" ، وهو واقف بكلّ أدب يستمع إلى هذه المرأة وهو خليفة المسلمين، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف! فقال: "والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زِلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر!"
وقالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك الذي وسِع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه" يبدو أنها كانت تخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت مستحية فخفضت من صوتها، والسيدة عائشة في الغرفة نفسها ما سمعت تفاصيل قولها، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
(( تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهيَ تقولُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبابي، ونثرتُ لَهُ بَطني، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي، وانقطعَ ولَدي، ظاهرَ منِّي، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليكَ، فما برِحَتْ حتَّى نزلَ جِبرائيلُ بِهَؤلاءِ الآياتِ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ .))
أيها الإخوة هناك رواية ثالثة لهذه القصة، وهذه الروايات تلقي ضوءاً واضحاً على حقيقة هذه القصة، تقول: لقد جاءت المجادِلَة تشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت لا أسمع ما تقول فأنزل الله عز جل: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ وروى ابن عباس أن هذه المرأة هي خولة بنت خويلد الخزرجية، وكانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم فرآها زوجها، وقد طلبها فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرأً به لَمَمٌ فأصابه بعض لمَمِه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ يعني حرّمها على نفسه.
كان الإيلاء والظهار من أنواع الطلاق في الجاهلية، والإيلاء: أن يحرّم الرجل زوجته عليه، والظِّهار: أن يقول أنت عليّ كظهر أمي، إن هذه المرأة التي حبستها لك أيها الزوج ليست أمك بل هي زوجتك، فإذا بدلت في الكلام، هذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، فكيف تجعل من زوجتك إنسانة كأمك! هذا شيء غير منطقي وغير واقعي وفيه ظلم شديد، وقد كان الإيلاء والظِّهار من أنواع الطلاق في الجاهلية، فسألت هذه المرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (حُرِمت عليه) بحسب ما هو شائع، ولم يكن الوحي قد نزل بعدُ في هذا الموضوع، فقالت: والله ما ذكر طلاقاً، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي، لمّا أُخبِرت أنه طلاق قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نثرت له بطني، فقال لها: (حُرمت عليه) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت هذه الآية.
أيها الإخوة، ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ والشكوى إلى الله من أعظم أنواع الشكوى، ومنها قوله:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(86)﴾
يُعاب مَن يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، هذه امرأة اشتكت إلى الله فسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، فإذا قال لك الطرف الآخر أو قال لك خصمك: أشكوك إلى الله، فإن كنت تعرف الله عز وجل ينبغي أن ترتعد أطرافك، ومفاصلك؛ لأن الله يسمع الشكوى من فوق سبع سماوات، قال عليه الصلاة والسلام:
(( اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّها ليس بينَها وبينَ اللهِ حِجابٌ. ))
فشكوى الإنسان إلى الله عز وجل شيء مخيف، وهذا الرجل اشتكت زوجته إلى الله.
﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ إن الله عز وجل مع كل إنسان، قال تعالى:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾
فهو مع كل إنسان بعلمه:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَآ أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(7)﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ سميع: إذا دعوته، بصير: إذا تحركت، عليم: إذا خطر في بالك خاطر، فهو يراك إن تحركت، ويسمعك إن دعوته، وإن فكرت في موضوع دقيق في باطنك يعلمه،
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
لذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله في زوجه، وينبغي على الزوجة أن تتقي الله في زوجها، لأن الله معهما يسمع ويرى، ويعلم من المخطئ ومَن المصيب، مَن الظالم ومن المظلوم.
﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ وإن أعظم درجة في الإيمان أن تعلم أن الله معك يراك ويسمع قولك ويعلم باطنك، وأفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه أينما كان، وأنت إذا كنت تعلم أن هناك شهيد يشهد عليك فلا بدّ أن تنضبط، فكيف إذا كان الشهيد هو الله عز وجل!
﴿ ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَٰتُهُمْ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔى وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2)﴾
تحريم التلاعب في الألفاظ:
ظاهر من امرأته؛ أي قال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ أي: ابتعدَ عنها ولم يؤدِّ لها حقها الزوجي، فهي محبوسة له بمنهج الله عز وجل، فإذا كانت هذه الزوجة محبوسة لزوجها وقصّر في حقها فقد أوقعها في العَنت وقوّى فيها جانب المعصية، فالزوج محاسب أشدّ الحساب إذا قصّر في حق زوجته، أو ما لبّى لها حاجتها التي أودعها الله فيها.
﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ هذا اللعب في الألفاظ لا يرضي الله عز وجل، فالزوجة زوجة، والأم أم، والأخت أخت، والخالة خالة، والعمة عمة، والأجنبية أجنبية، أما أن تخلط بين هذه الهُويّات فهذا لا يرضي الله سبحانه، فقد يقول لك قائل: هذه الأجنبية مثل أختي، وهذه مثل أمي، فهذا كله لعب في دين الله ما أنزل الله به من سلطان، لأن هذا الشرع العظيم مبني على قواعد علمية، فلو جعل الإنسان زوجته كأمه فابتعد عنها لأوجد خللاً في الأسرة، ولو أنه جعل امرأة أجنبية كأخته لأوجد خللاً أيضاً، فكل إنسان له هوية، وكل إنسان له طبيعة، وهذا شرع الله عز وجل يجب أن نأخذ به بدقائقه، قال: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ﴾ (أنت عليّ كظهر أمي) : تعبير مُفاده أن هذا الرجل ابتعد عن زوجته كما لو أنها أمه، وفي هذا ظلم شديد للزوجة، وفي المقابل فإن المرأة إذا امتنعت عن زوجها باتت والله غاضب عليها، وبالمقابل أي زوج ابتعد عن زوجته سهواً أو تقصيراً أو كيداً يحاسبه الله أشدّ الحساب.
قال هؤلاء النساء اللاتي هنّ أزواج الرجال: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ فالأمور واضحة الأم أم، والزوجة زوجة، فقولك لزوجتك: أنت كأمي ظلم لها، وقولك لامرأة وهي أجنبية: أنت كأختي غير صحيح أيضاً، فربما وقعتَ في الفاحشة معها وأنت لا تشعر، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لا يخلون رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما. ))
وكم من مأساة حدثت في المجتمع المسلم من جراء الاختلاط، حيث تقع المنكرات وتقع الخيانة، فيسقط الإنسان في الوحول؛ لأنه خالف منهج الله عز وجل.
﴿إِنْ أُمَّهَٰتُهُمْ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔى وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ إن الإنسان مُحاسَب على كل كلمة ينطقها، فهذا كلام مُنكَر لا يقبله الشرع ولا العقل ولا الفطرة ولا الواقع، لأن الزوجة زوجة، والأم أم، أما اللعب بهذه الأوراق لعب خطير، لأنه لعب بدين الله ولعب بسلامة الحياة.
﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُورًا﴾ الكلام المنكر هو الكلام الذي تُنكِره الفطرة السليمة، ينكره العقل الراجح، ينكره الواقع.
(وزوراً) ؛ أي: الكذب والتزوير للحقيقة.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ لكن الله سبحانه وتعالى يعفو عما مضى، ومعنى (غفور) أي: أنه يسامحك في هذا الذنب فلا يعاقبك عليه، أما العفو: فهو الذي ينسيك ذلك الذنب، فالله عفو غفور؛ أي: يسامحك ولا يعاقبك، ومن تمام إكرامه لك أنه ينسيك ذلك الذنب، فباب التوبة مفتوح مادام في الإنسان قلب ينبض وبقية من رمق الحياة، وهذا الباب المفتوح من أعظم النعم على المؤمنين، فكلما أخطأ الإنسان وزلت قدمه وجد الله تواباً رحيماً.
(( للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ. ))
﴿ وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ(3)﴾
فهذا الذي ظاهرَ من امرأته وقال لها: أنت عليّ كظهر أمي وابتعد عنها وحرّمها على نفسه، لا يمكن له في تشريع الله عز وجل أن يعود إلى مقاربتها إلا بشروط صعبة، وقد أرادها الله صعبة كي يعرف الإنسان للزوجة حقها، ويعرف أن هذا العقد الذي أبرمه مع الزوجة من أقدس العقود في حياته.
﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ﴾ فعليه أن يعتق عبداً، وقالوا: كمال هذا العبد أن يكون مسلماً.
﴿ وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)﴾
وهذه الكفارات على الترتيب: أولاً: عليه أن يعتق رقبة، وقد أشار العلماء في هذه الآية إلى أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن العبودية سوف تختفي وتنتهي وذلك لعلمه الغيب، بدليل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي: عليه أن يصوم ستين يوماً.
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ الأولى ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أما الثانية ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ وقال: يجب أن تطعم هذا المسكين مُدَّين من القمح.
﴿ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالإنسان له منهج ينبغي أن يسير عليه، فحتى في أخص علاقاته مع زوجته لا بدّ له من أن يقيم منهج الله عز وجل، فمن لغا وقال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، كان كلامه هذا كبيراً وخطيراً، فيقتضي ذلك منه أن يُعتِق رقبة، أو أن يصوم ستين يوماً، أو أن يُطعِم ستين مسكيناً.
فلما أنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة قال النبي عليه الصلاة والسلام لخولة بنت ثعلبة: (قولي لزوجك أن يُعتِق رقبة) فقال: لا أجد، فقال له: (صم شهرين متتابعين) قال: لا أستطيع، فقال له: (أطعِم ستين مسكيناً) قال: فأعِنّي، فأعانه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، كما أن امرأته خولة أعانته بشيء حتى أدى هذه الكفارة وعاد إلى زوجته.
﴿فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: لتؤمنوا بمنهج الله عز وجل، والله عز وجل خالق وله منهج، والنبي رسول الله وله سنة، فأنت كمؤمن بعد أن آمنت بالله ورسوله عليك أن تتبع منهج الله في كتابه، ومنهج النبي في سنته، ﴿ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لتؤمنوا به خالقاً ومُربّياً ومُسيّراً، لتؤمنوا به مُشرّعاً، فما معنى أن تؤمن بالله دون أن تؤمن بشرعه؟ وما معنى أن تؤمن بوجوده ثم لا تأتمر بما أمر ولا تنتهي عما عنه نهى وزجر؟
حدود الله وعقوبة المعتدي عليها:
﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ﴾ هناك آيات قيل فيها:
﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(229)﴾
وهناك آيات قيل فيها:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)﴾
هذه حدود الله عز وجل، وسيدنا عمر رضي الله عنه كان وقّافاً عند حدود الله، والحقيقة كما قال أحد العارفين بالله: (ليس الوليّ الذي يمشي على وجه الماء ولا الذي يطير في الهواء، ولكن الوليّ كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام) ، أي: أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من هم الكافرون هنا؟ إنهم الذين كفروا بحدود الله، فلم يعبؤوا بهذا المنهج، لم يقيموا أمر الله عز وجل، هؤلاء الكافرون لهم عذاب أليم، والعذاب مُطلق في الدنيا والآخرة، والقضية ليس لها خيار، فإما أن تختار طاعة الله ورسوله فتكون في سلام:
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)﴾
فإما أن تكون في سلام مع نفسك، وفي سلام مع من حولك، وفي سلام مع ربك، أو أن تكون في عذاب، طاعة الله تعني السلام، ومعصيته تعني العذاب، فهذه حدود الله، هذا هو الأمر، ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ بهذا التشريع وهذا المنهج وهذا الأمر وهذه الحدود لهم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٍ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ(5)﴾
معنى ﴿يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ أي: يشاقّون الله ورسوله ويعادونهما، ويعرضون عنهما، وهناك معنى آخر لـ ﴿يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ وهو: أنهم لا يقفون عند حدوده، لا يعبؤون بها فلا يقيمون لها وزناً ويستخفّون بها، وإن علامة المؤمن أنه إذا فعل ذنباً كان هذا الذنب كالجبل الجاثم على صدره، وعلامة المنافق أنه إذا فعل ذنباً كان هذا الذنب بالنسبة له كأنه ذبابة دفعها بيده، فذنب المنافق كالذبابة، وذنب المؤمن كالجبل الأصم.
أيها الإخوة الكرام، في هذه الآية بشارة عظيمة يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ إن هؤلاء الذين يعادونه ولا يعبؤون بحدوده، ولا بمنهجه، ولا بحلاله، ولا بحرامه، ولا يعتقدون أن هذا المنهج قويم، أو أنه صالح لهذا الزمن، هؤلاء الدين يتفلتون من منهج الله عز وجل إما تقصيراً أو كفراً، مع أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، فهناك مَن لا يطبق منهج الله كفراً بهذا المنهج، وهذا كفر حقيقي عملي، وهناك مَن لا يطبق منهج الله تقصيراً، فهذا الذي يخرج عن منهج الله إنكاراً أو تقصيراً له عذاب أليم.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ﴾ (كُبِتوا)؛ أي: قُهِروا وغُلِبوا وسُحقِوا ، شيء كبتّه أي قهرته وأضعفته وأهلكته، وقد جاء هذا الفعل في الآية بصيغة الماضي، لكنك قد تجد كافراً كبيراً قوياً غنياً، له يد طُولى في المجتمع، فكيف يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ﴾ والإجابة عن ذلك: أن هذا الفعل جاء بصيغة الماضي كبشارة للمؤمنين، وهذا يعني أن الإنسان حينما يكون في معصية الله فهو مغلوب وهالك عند الله، فسيكبته الله ويسحقه ويعاقبه، فالفعل الماضي هو البشارة.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ﴾ أي: كُبِتوا مع وقف التنفيذ ، فالإنسان إذا كان دخله حرام، أو كان متفلتاً من منهج الله في علاقاته، في كسبه للمال، في إنفاقه للمال، في حركته وفي نشاطه، فهذا التفلت معناه أنه لن ينتصر ولن يسعد، ولن يرتفع، ولن يرقى، لكن لو كان الرقي ظاهراً، والقوة آنية، سوف يُكبَت بعد حين.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ﴾ وهذا قانون، إن الذي يعادي الله عز وجل في كل الأزمان والعصور، والأمصار، وفي كل الحِقب قديماً كان أم حديثاً، في الماضي والحاضر والمستقبل لا بدّ له من أن يُهزَم ويُكبَت، والتاريخ بين أيديكم، فأين هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عزّروه ونصروه وافتدَوه بأرواحهم وأموالهم وكانوا معه ولم يتخلوا عنه الآن؟ إنهم في أعلى عليين، أما الذين ناصَبوه العِداء وأخرجوه من دياره وقاتلوه ونكّلوا بأصحابه فأين هم الآن؟ إنهم في مزبلة التاريخ، وهذا التاريخ بين أيدينا والتاريخ يعيد نفسه.
فالإنسان إذا كان في خندق الحق فهو مع الحق، والحق سيؤيده وسينصره، وإذا كان في خندق معادٍ لأهل الحق فمهما كان يبدو قوياً إلى حين لكن الله سبحانه وتعالى لا بدّ أن ينتقم منه، لهذا قال الله عز وجل:
﴿ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78) وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
فالباطل من خصائصه الوجودية أنه زاهق، الباطل الاعتقادي زاهق، الباطل السلوكي زاهق، أي شيء يكون خلافاً لمنهج الله زاهقٌ إن عاجلاً أو آجلاً.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ﴾ إن أكبر نعمة أنعمها الله عليك أن تكون مع الحق، وأن تكون مؤيداً للحق وأن تكون مناصراً للحق، وأن تكون في خدمة أهل الحق، وأن تكون جندياً للحق، وأن تكون داعياً للحق، وأن تكون صابراً من أجل الحق، فهذه أعلى مرتبة في الحياة، أما أحطّ مرتبة في الحياة فهي أن تكون مع الباطل داعياً له، ومؤيداً له، مروّجاً له، ومناصراً له.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ﴾ لذلك قيل: "كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله" ، فلمجرد أن تكون مطيعاً لله، وعدوك الألدّ الخَصِم القوي في معصية الله فأنت منتصر عليه لا محالة. "كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله"
﴿وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٍ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ والله عز وجل قبل أن يعاقب يبيّن، وهذا أسلوب الحكيم، فهؤلاء الكافرون الذين كُبتوا، وسوف يُكبَتون بيّن الله لهم قبل أن يُكبَتوا آياتِه الكلامية؛ وهي القرآن، وآياته التكوينية؛ وهي أفعاله، وآياته الكونية، وهي خلقه، فآياته الكونية دالة عليه، وآياته التكوينية تشير إليه، وآياته القرآنية مبيّنة لِمَا عنده من نعيم أو عذاب.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ﴾ هذه سنة الله في خلقه، فالله مع المؤمنين: ينصرهم ويؤيدهم ويحفظهم ويوفقهم، وهذا من أصل المنهج، كما أن الله يكبت أعداءه ويُخزيهم ويعذبهم عذاباً أليماً، ويعذبهم عذاباً مهيناً، ويعذبهم عذاباً عظيماً في الدنيا، وفي الآخرة لهم جهنم وبئس المصير، والخيار واضح جداً؛ فإما أن تكون مع الحق أو أن تكون مع الباطل، وليس بين الحق والباطل موقف ثالث، فإن لم تكن مع الحق فأنت مع الباطل، وإن لم تكن على منهج الله فأنت على منهج أعدائه، والدليل قوله تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾
﴿ أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ(1) فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ(2)﴾
﴿ يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ شَهِيدٌ (6)﴾
الدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فنحن الآن في دار عمل، وقد أُعطِي الإنسان في الدنيا حرية الحركة، فلك أن تصلي ولك أن لا تصلي، ولك أن تصوم ولك أن لا تصوم، ولك أن تحج ولك أن لا تحج، ولك أن تزكّي ولك أن لا تزكي، كما أن لك أن تستقيم ولك أن تنحرف، ولك أن تصدق ولك أن تكذب، ولك أن تُقبِل ولك أن تُعرِض، ولك أن تخلص ولك أن تخون، فأنت الآن في حرية حركة وفي دار عمل، وكل شيء بحسابه، وكل شيء مُسجّل، قال تعالى:
﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
لكن أيها الإخوة، حينما يكافئ الله بعض عباده المؤمنين على بعض أعمالهم الصالحة تكون مكافأتُه هذه تشجيعية لبقية المؤمنين، وحينما يعاقب الله إنساناً منحرفاً على بعض أعماله السيئة، يكون عقابه هذا ردعاً لبقية المسيئين، لكن الحساب الأوفى والدقيق والكامل والرصيد إنما يكون يوم القيامة.
﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ(185)﴾
وقال الله عز وجل:
﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ﴾ فسينبئهم بأدقّ الدقائق، أدق المخالفات.
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(17)﴾
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنۢبِهِۦ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)﴾
﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14) مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(15)﴾
كلام الله عز وجل كلام واضح كالشمس، يبين لنا أن هناك منهجاً بين أيدينا، كما أن هناك رباً كريماً عليماً حكيماً مُطَّلعاً، يعاقب ويكافئ فإن أحسنتَ فلك وإن أسأت فعليك.
يعني هنا لما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٍ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ*يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ فكل الخلق سيأتون :
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾
﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ﴾ فالإنسان سيُحاسب على أدقّ الدقائق، وأدق التصرفات، لماذا غضب؟ لماذا رضي؟ لماذا أعطى؟ لماذا منع؟ لماذا وصل؟ لماذا قطع؟ لماذا أثنى؟ لماذا ذمّ؟ لماذا أعرضَ؟ لماذا أقبلَ؟ فكل المواقف والتصرفات يحصيها الله عز وجل، ولسوف يُنَبَّأ بها الإنسان يوم القيامة، وعلى الإنسان أن يقدِّم لله عز وجل الحجة على ذلك ﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ شَهِيدٌ﴾ .
الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض:
﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ (7)﴾
قال الله عز وجل:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾
هناك حقيقتان: الأولى: هي أن تعلم أن الله يعلم، أما الثانية: فهي أن تعلم أن الله قدير، فعلمه يطولُك وقدرته تطولُك، فإذا أيقنت أن الله يعلم وسيحاسب وسيعاقب استقمت على أمره، فالفرق بين الإيمان والكفر، وبين السعادة والشقاء، وبين النجاة والهلاك هاتان المقولتان: الله يعلم وسيحاسب وسيعاقب.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ فكل إنسان -أيها الإخوة- وهو يفعل فعلاً ما إذا أدخل في حساباته أن الله مُطَّلع عليه، وأنه يعلم سرّه وجهره، وأنه سوف يحاسبه وسوف يعاقبه كفّ عن أفعال السوء، لكن أخطر مرض يصيب الإنسان هو الغفلة عن الله.
فمعظم الناس الذين يأكلون المال الحرام يأكلونه وفي توهّمهم أن الله لن يحاسبهم، والحقيقة أنه يعلم وسيحاسب ويعاقب.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يُرينا من آياته، فهو يرينا كيف يقصم الإنسان الظالم، كما يرينا كيف يرفع الإنسان المستقيم، ويرينا كيف يُغني الإنسان الأمين، ويرينا كيف يفقر الإنسان غير الأمين، فهناك أحداث نراها بأعيننا، فضلاً عن أن هذا القرآن فيه كل شيء، فالأحداث كلها تنطق بما في القرآن الكريم، بل إن الأحداث أو أفعال الله عز وجل هي في حقيقتها تأويل القرآن الكريم، وتأويلها بالقرآن هو وقوع وعده ووعيده.
كلمة ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ تعني أن الأحداث أمامك، فإذا رأيت شاباً مؤمناً مستقيماً على أمر الله يعمل صالحاً ويطلب الحلال، علمت أن هذا الشاب لن يُعامل كما يُعامل الشاب المتفلت الذي اكتسب المال الحرام، وفعل الموبقات.
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
فكلمة ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ تعني أن الأمر واقع أمام عينيك، فهناك وقائع شتى تؤكد أن الله مع المؤمن يؤيده وينصره ويحفظه ويوفقه، أما الكافر فإن الله يخذله ويعاقبه ويهلكه ويفضحه، هكذا ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ لأنه يعلم ويحاسب وسيعاقب.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ﴾ لقد جلس صفوان بن أمية مع عمير بن وهب في مكان خالٍ لا يراهما ولا يسمعهما فيه أحد، فقال عمير لصفوان: "لولا أطفال صغار أخاف عليهم العَنت، ولولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، لذهبت إلى محمد فقتلته وأرحتكم منه" ، فاستغلّها صفوان فقال: "أما ديونك فهي علي بلغت ما بلغت، وأما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر، فانطلق لما تريد" ، فأمر عمير بن وهب أن يُسقى سيفُه سُمّاً، وأن تُجهَّز راحلته، ثم ركبها وعلّق سيفه على ظهره وذهب إلى المدينة ليقتل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلق لِمَا أردت، وانطلق عمير إلى المدينة ليقتل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان هذا بعد موقعة بدر، وقد كان لعمير ابن وقع أسيراً، فقرر في نفسه أنه إذا سئل: لماذا أنت هنا؟ أن يقول: جئت لأفدي ابني، فلقيه عمر بن الخطاب في الطريق، فقال: هذا عدو الله جاء يريد شراً فقيّده بحمّالة سيفه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي الكريم: "يا عمر أَطلقْه" فأطلَقَه، قال: "يا عمر ابتعد عنه" فابتعد عنه، قال: "يا عمير ادنُ مني فدنا منه" ، قال: "اجلس، ما الذي جاء بك إلينا؟" قال: جئت أفدي ابني، فقال النبي: "وهذا السيف الذي على عاتقك؟" قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر، فقال النبي: "ألم تقل لصفوان بن أمية لولا ديون ركبتني ما أطيق لها سداداً، وأطفال أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه" ، فوقف وقال: "أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسول الله" .
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ﴾ يعني اثنين ﴿وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ فأسلم عمير، أما صفوان فطار قلبه فرحاً، وكان يقول لمن حوله: انتظروا أخباراً سارة بقتل محمد، فانتظر أياماً طويلة وأسابيع مديدة، فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة فينتظر القوافل لعلها تأتي بخبر مقتل محمد عليه الصلاة والسلام، ثم فوجئ بأن عميراً قد أسلم.
فأي حديث تتكلمه مع أخيك الله يعلمه، حتى الخاطرة، وحتى الشيء الذي يغيب عنك يعلمه الله، فهو علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما سيكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ أيها الإخوة الكرام، مع كل إنسان ملكان يكتبان حسناته وسيئاته، بل إن الأبلغ من هذا أن الله معه يسمع أقواله ويرى أفعاله، فكلما قوي إيمان الإنسان قويَ شعوره بأن الله معه سميع بصير عليم، يقول تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)﴾
فهو معك وأنت في بيتك مع أهلك وأولادك، كما أنه معك في عملك، وفي مركبتك، وفي سفرك، فهو معك في أي مكان، يراك ويسمعك ويعلم حالك، وكلما شعرت بوجود الله عز وجل وأنه قريب منك وأنه سميع بصير كلما كنت أكثر انضباطاً.
وهذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، فالمؤمن يعلم أن الله يعلم، أما الكافر فلا يعلم شيئاً من هذا القبيل، وفي درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى الآيات التالية:
﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ(8)﴾
الملف مدقق