الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة المجادلة ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ(11)﴾
الله سبحانه وتعالى يخاطب عامة الناس بأصول الدين، وها هو ذا يخاطب المؤمنين خاصة بفروع الدين، وهذه الآية من أدب المجلس، ولا بدّ للمؤمن من مجلس علم، إما أن يجلس في خطبة جمعة، أو في مجلس علم، ولهذا المجلس آداب، وتعد هذه الآية مع الأحاديث الشريفة الصحيحة تُعد بمجملها من آداب مجالس العلم التي أقرّها القرآن الكريم.
حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مجالسه:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ﴾ لقد كان أصحاب النبي رضوان الله عليهم شديدي التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنهم كانوا حريصين على مجالسه حرصاً لا حدود له، حريصين على حضور هذه المجالس، وعلى أن يكونوا في مقدمة الصفوف حول النبي صلى الله عليه وسلم طلباً للقُربى من الله عز وجل، لكن هذا الحرص الشديد من كل أصحاب النبي على أن يكونوا مع النبي وفي الصفوف الأولى نشأت منه مشكلة الازدحام.
سبب نزول الآية:
يروي بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه، فجاء قومٌ من أهل بدر من الأنصار والمهاجرين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف للناس مكانتهم وكان يُنزل الناس منازلهم، فهؤلاء الأصحاب الذين سبقوا بقية المؤمنين حينما عاونوا النبي صلى الله عليه وسلم وخاضوا غِمار الحرب في موقعة بدر مع النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً عليهم وعلى مكانتهم، فجاؤوا وسلّموا ولم يتزحزح لهم أحد، ولم يكن هذا الفعل انتقاصاً لأصحاب رسول الله، إلا أن كل صحابي كان يحرص حرصاً شديداً على مكانه إلى جنب النبي وفي الصف الأول، فطرحوا السلام ولم يستجب أحد لهم، فتألم النبي عليه السلام، وعُرف ذلك من وجهه فنزلت هذه الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ﴾ .
أيها الإخوة الكرام، قال العلماء: إن هذه الآية متعلقة بمجالس العلم، كما أنها متعلقة بمقاعد القتال أيضاً، فأصحاب النبي رضوان الله عليهم من شدة حبهم لربهم كان بذل أنفسهم في الحرب من أحبّ الأشياء إليهم، فكانوا يزدحمون في الصف الأول من القتال، ولا يسمحون لأحد أن يزاحمهم هذا المكان، فقال علماء التفسير أن هذه الآية متعلقة بمجالس العلم، ومقاعد القتال من جهة، وما سبب ذلك إلا تنافس الصحابة على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الخير الذي جعله الله هدفاً لهم.
أيها الإخوة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار في أحاديث كثيرة إلى بعض هذه الآداب، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( مَن سبَق إلى ما لم يَسبِقْ إليه مُسلِمٌ فهو أحقُّ به. ))
نظام مجلس العلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:
(مَن سبَق إلى ما لم يَسبِقْ إليه مُسلِمٌ فهو أحقُّ به) كما أن هناك توجيهاً آخر يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم:
(( لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ. ))
فلا يجوز للمؤمن أن يُومئ إلى إنسان ليقوم من مجلسه ويجلس هو فيه، لأن المؤمنين سواسية عند الله عز وجل، ومقامك ليس في مكانك بل في مكانتك، وقد نهى النبي في أحاديث كثيرة جداً بلغت درجة التواتر (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ) فمن سبق إلى مجلس فهو أحق به، ولا ينبغي للقادم الجديد أن يُقيم أحداً من مجلسه ليجلس فيه، لكن هذا الشأن مختلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام _لمصلحة راجحة ولحكمة بالغة_ طلب من أحد أصحابه أن يقوم من مجلسه، لوجب على هذا الصحابي أن يبادر إلى طاعة رسول الله، النبي نهى القادم عن أن يقيم أحداً من مجلسه، أما لو أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار إلى أحد أصحابه -لحكمة راجحة ولكمال رفيع- ينبغي لهذا الصحابي أن يبادر إلى طاعة رسول الله.
وإذا قام الإنسان طواعية من نفسه كان ذلك جائزاً، فقد كان سيدنا علي رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه يجلس إلى جنب النبي عليه الصلاة والسلام، فدخل سيدنا الصديق رضي الله عنه وهو صاحب رسول الله، وهو سيد أصحابه، فما كان من الإمام علي كرّم الله وجهه إلا أن قام من مجلسه إكراماً لسيدنا الصديق وأجلسه مكانه، فإذا بادرت بالقيام لأخ كريم كبير في السن هذا من أدبك، وهذا من علمك، وهذا من فقهك، وهذا من كمالك، أن تقوم لإنسان يتفوق عليك بالعلم تكريماً له لِمَا يحمل من علم، أن تقوم لحافظ كتاب الله، أن تقوم لإنسان له فضل عليك، هذا من أدب المؤمن مع إخوانه، أمّا أن تُقيم أنت أحداً لتجلس مكانه، فهذا ممّا نهى عنه النبي أشدّ النهي، فهناك فرق كبير بين أن يقوم أحدهم لك إكراماً لعلمك، أو إكراماً لمكانتك، أو إكراماً لسنّك، أو إكراماً لفضلك، وبين أن تُقيم أنت أحداً لتجلس مكانه.
أيها الإخوة الكرام قد قيل "لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل" ، فإذا قمت من مجلسك لإنسان كبير في السن، أو لإنسان يحمل كتاب الله عز وجل، فهذا العمل من مقتضيات أدبك مع الله وهذا العمل من مقتضيات معرفتك بسنة رسول الله، أما أن تقيم أنت أحداً لتجلس مكانه، فهذا لا يجوز أبداً لأنه (مَن سبَق إلى ما لم يَسبِقْ إليه مُسلِمٌ فهو أحقُّ به) كما قال عليه الصلاة والسلام.
لكن هناك نقطة؛ لو أنك قمت لإنسان من مكان، ثم خرجت من المجلس إكراماً له لكان فعلك هذا منهياً عنه، لأنه لا مؤاثرة في الخير، فلك أن تقوم من مكان إلى مكان أقل منه، أما أن تلغي مجلس العلم من أجل أن تكرم أخاً فهذا ليس وارداً إطلاقاً، لأن الخير كله في المؤاثرة، ولا مؤاثرة في الخير، فلا ينبغي لك أن تؤثر أحداً كائناً من كان على نصيبك من الله.
أيها الإخوة الكرام؛ للنبي عليه الصلاة والسلام حديثان: يقول في الأول لأصحابه الأنصار:
(( لمَّا طلَع سعدُ بنُ مُعاذٍ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَما نزَلتْ بَنو قُرَيْظةَ على حُكْمِهِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :قوموا إلى سيِّدِكم، أو إلى خيرِكم. ))
سيدنا سعد، وفي حديث آخر يقول:
(( مَن أحبَّ أن يتمثَّلَ لَه الرِّجالُ قيامًا، فليتبوَّأ مقعدَه منَ النَّارِ. ))
إن أردت السيادة والاستعلاء، إن أردت أن يخضع الناس لك، أن يقوموا لك تعظيماً لذاتك، من أراد ذلك فليتبوأ مقعده من النار، أما إذا قام الأصحاب لسيدهم فهذا مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لإخوانه الأنصار، قال: (قوموا إلى سيِّدِكم) .
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ﴾ فقد أمرك الله عز وجل أن تفسح للناس في المجلس لا أن تقوم له، من هنا جاء قولهم: تزاحموا تراحموا، لأن التفسّح غير القيام.
﴿إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ﴾ أي وسِّع فُرجَةً لأخيك ليجلس فيها، وهذا هو معنى تفسّحوا.
﴿يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ﴾ وإن من بلاغة القرآن أن الجزاء من جنس العمل، قال بعض العلماء: يفسح الله لكم في قبوركم ويصبح القبر مدّ البصر، وقال بعضهم: يفسح الله لكم في مكانتكم يوم القيامة، وقال بعضهم: يفسح لكم في قلوبكم فيتجلى الله على هذا القلب؛ فإذا أنت أفسحت لأخيك كافأك الله عز وجل بما يتجلى به على قلبك من طمأنينة وسكينة، والحقيقة أن يتجلى الله على قلبك بالسكينة هذا أعظم عطاء إلهي، ولكن لا يعرفه إلا من ذاقه، فإذا أطاع الإنسان الله عز وجل، وآثر أخاه على ذاته كافأه الله عز وجل بأن يفسح الله له؛ المعنى الأول: يفسح لكم في قبوركم، والمعنى الثاني: يفسح لكم في قلوبكم، ففرق كبير بين أن ترى قلباً ممتلئاً برحمة الله، بالسكينة التي أنزلها الله عليه، وبين أن ترى قلباً منقبضاً كئيباً. وإن العالم الآن يعاني من كآبة ما بعدها كآبة، فحينما آثر الناس أنفسهم ومصالحهم وذواتهم على إرضاء الله عز وجل ابتلاهم الله بالكآبة، أما إذا آثرت أخاك فسح الله لك قلبك وملأه نوراً وسكينة وتجلياً.
1. المعنى الأول:
أن الله يفسح لكم في قبوركم حيث يغدو القبر روضة من رياض الجنة.
2- المعنى الثاني:
يفسح الله لكم في قلوبكم فتغدو مهبطاً لتجليات الله ولسكينته، وإن في القلب شيئاً ثميناً جداً لا يعرفه إلا المؤمن، فقد تملك المال الوفير، وقد تملك أجمل بيت، وأجمل مركبة، لكن الانقباض يعصر قلبك، وهذا ما قال عنه الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
فقال بعض العلماء: فما بال الملوك والأغنياء؟ أية معيشة ضنك يعانونها؟ إن المال كله بأيديهم، فلهم أن يأكلوا ما يشاؤون، وأن يسكنوا في أي مكان يشاؤون، فأجاب العلماء عن المعيشة الضنك التي يبتلي الله بها الأقوياء والأغنياء أنها ضيق القلب، ففي قلبهم من الضيق والكآبة ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، هذا معنى قول الله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)﴾
3- المعنى الثالث:
أن الله سبحانه وتعالى يوسّع عليكم في الدنيا والآخرة.
فليس من المقبول أبداً لا في مجلس علم ولا في صلاة جمعة ولا في طواف في الحج أو في العمرة أن تزاحم وأن تدفع بيدك، وأن تكون فظّاً غليظ القلب، فأنت بهذا تكون قد تخليت عن هوية المؤمن، فالمؤمن لطيف، يحب الآخرين.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ﴾ فإذا كلفكم النبي صلى الله عليه وسلم بعمل قوموا إلى هذا العمل سريعاً، كلفكم أن تجاهدوا مثلاً، كلّفكم أن تعاونوا أخاكم، كلّفكم أن تفعلوا شيئاً وأنهى المجلس، ينبغي أن تقوموا.
﴿وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ﴾ أي: اذهبوا أو ارتفعوا، والشيء النّشاز هو العالي من الأرض، ﴿ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ﴾ يقول الله عز وجل:
﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أيها الإخوة الكرام، إن الآية في مطلعها تبيّن أدب المجلس، وأدب الانصراف، وقد كان كل صحابي حريص أن يكون آخر الناس بقاء مع رسول الله، كان كل صحابي حريص على أن يبقى مع رسول الله وحده، فيبقى بعد أن يأتي الأمر بالانصراف ليختلي برسول الله فيفوز بما يعتقده أنه مغنم كبير، لكن هذا كان يؤذي النبي فيستحيي من أصحابه، فوقت النبي صلى الله عليه وسلم ليس له وحده، بل لكل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى علّمنا في هذه الآية أدب الجلوس في المجلس، وأدب الانصراف منه، ولكنه يبين لنا في مقطعها الأخير حقيقة خطيرة جداً: وهي أن مكانة الإنسان عند الله لا تأتي من مكانه في المجلس، وإنما تأتي من استقامته، ومن ورعه، ومن علمه، ومن عمله.
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ﴾
1- يرفع الله الذين آمنوا عن الذين لم يؤمنوا درجات، فشتان بين المؤمن وغير المؤمن.
2- والمعنى الثاني يرفع الله الذين أوتوا العلم عن الذين لم يُؤتَوا العلم درجات.
3- وهناك معنى آخر يقول: يرفع الله الذين آمنوا وأُوتُوا العلم عن الذين آمنوا ولم يُؤتَوا العلم.
قال عليه الصلاة والسلام:
(( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ))
وقال:
(( وإنّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكواكب. ))
فالمسافة بين العابد وبين العالم كبيرة جداً، فهي كالمسافة بين النبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الخلق وحبيب الحق - وبين آخر مؤمن في الأرض، كم المسافة بعيدة! وهي نفسها بين العالم والعابد؛ وذلك لأن العالم ينفع أمة، أما العابد فلا يستطيع أن ينفع إلا نفسه، لأن العالم معه سلاح خطير وهو العلم، بينما لا يملك العابد هذا السلاح، فأدنى شُبهة تزحزحه، وأدنى ضغطٍ يخرجه عن الاستقامة، وأدنى إغراءٍ يحول بينه وبين طاعة الله عز وجل، ومقاومة العابد هشّة سريع الفتنة، فامرأة تغير مجرى حياته، صفقة تقلبه رأساً على عقب، هذا العابد، ولأنه عابد غير عالم لا يستطيع أن يعلم.
أما حينما شكا شريكٌ شريكَه طالبَ العلم إلى رسول الله قال عليه الصلاة والسلام:
(( كان أخَوَانِ على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فكانَ أحدُهُما يأتِي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والآخَرُ يَحْتَرِفُ فشَكَى المُحْترِفُ أخاهُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال :لَعلَّكَ تُرْزقُ بِهِ. ))
لأن طالب العلم يتعلم لغيره، بينما يعبد العابد لنفسه، وطالب العلم معه سلاح خطير وهو العلم، أما العابد فلا يملك السلاح، فيدخل عليه الشيطان من ألف باب وباب، فأي إغراءٍ يفتنه، وأي ضغطٍ يُفسده، وأية شبهةٍ تصرفه عن طريقه، فهناك فرق كبير بين العابد والعالم. (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) (وإنّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكواكب) .
أيها الإخوة الكرام: يرفع الله الذين آمنوا عن الذين لم يؤمنوا، ويرفع الله الذين أوتوا العلم عن الذين لم يُؤتوا العلم، ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم عن الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات.
قال بعض المفسرين: في هذه الآية توجيه لطيف لطيف، لأنها جاءت تتمة لآية أدب المجلس، أن أيها المؤمن إذا رأيت من يفوقك في العلم فأكرمته كان هذا من أدبك مع الله، لأنه من أكرم أخاه فكأنما أكرم ربه، فأكرِم أولي العلم، وأكرِم أولي الفضل، وأكرِم أولي الإيمان، فأنت بهذا من أهل الفضل لأنك عرفت أهل الفضل.
قيمة الإنسان بمكانته لا بمكانه:
لكن الشيء الذي أريد أن ألفت النظر إليه مثل يوضح حقيقة:
إذا كان هناك حاجب عند أستاذ من أعلى مستويات الأساتذة في الجامعة، وكان لهذا الأستاذ مكتب وكرسي، فهذا الحاجب يستطيع في غيبة الأستاذ أن يجلس مكانه على كرسيه وراء المكتب، فجلوس هذا الحاجب على كرسي سيده في مكتبه لا يرفع قدره في العلم درجة واحدة، أما لو تلقى هذا الحاجب العلم، فأخذ أقل شهادة (إعدادية)، ثم ارتقى فنال الشهادة الثانوية، ثم ارتقى أكثر فدخل الجامعة، فالذي يرفع هذا الحاجب ليس أن يجلس مكان أستاذه وراء مكتبه، فالإنسان قيمته ليست بمكانه بل بمكانته، وهناك فرق كبير بين المكان والمكانة، فبإمكانك مثلاً أن تذهب إلى العمرة وأن تصلي في المكان الذي صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإمكانك أن تقبّل الحجر الذي قبّله النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل هذا يرفع من مقامك عند الله؟ لا، بل إن الذي يرفع مكانك عند الله هو أن تتبع رسول الله وتطبق سنته وتقتفي أثره، فحينما قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ﴾ ، أراد من طرْف خفي أن يذكّر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن مكانتهم عند الله لا علاقة لها بمكانهم من رسول الله، فهل تصدقون أن رئيس المنافقين في عهد النبي كان يجلس إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام، فلما مات أعطاه النبي قميصه ليُكَفَّن به. فالمنافق إذاً يمكنه أن يجلس في مكان قريب من رسول الله، قال تعالى:
﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ(81) ﴾
فقيمتك ليس بمكانتك بل هي في إيمانك وعملك، لذلك قال الله عز وجل: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فهو عليم بأعمالكم، خبير بها، والخبرة أبلغ من العلم، خبير بأعمالكم؛ أي: يعلم خلفيات أعمالكم، بنياتكم، بمقاصدكم، بملابسات حياتكم، بحجم العمل، بحجم التضحية ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ .
إذاً فمكانتك متعلقة بإيمانك، مكانتك متعلقة بعلمك، مكانتك متعلقة بعملك، إيمانك وعلمك وعملك، هذه الأشياء الثلاثة تحدد مكانتك عند الله، فلا يمنع أن تكون في آخر المجلس، مع أن السبْق إلى الصفوف الأولى مندوب له في الإسلام، أما إذا تخلفت عن الصف الأول لسبب قاهر، فليس معنى ذلك أنك تراجعت، لأن العبرة في أن تكون قريباً من الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام، سيدنا عمر بن الخطاب قدّم مرة سيدنا ابن عباس رضي الله عنهم، وكان فتىً صغيراً، فتضايق بعض أصحاب النبي من هذا التصرف وعرف هذا في وجوههم، فسأله أمامهم عن معنى الآية:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾
وكان قد سأل بعض أصحاب رسول الله عن هذه السورة فأجابوه إجابة عادية، فقال ابن عباس رضي الله عنه: هذه السورة فيها نعي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن إدراكه لكتاب الله كان عميقاً جداً، لذلك كان عمر رضي الله عنه يقدمه في المجلس على من هم أكبر منه سناً، وقد ورد في التاريخ أيضاً أن سيدنا عمر ولّى إنساناً من الموالي على بعض المناطق، فلما تضجّر بعض الناس من ولايته قال عمر بن الخطاب القول الشهير: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) .
وتروي الكتب أن أبا سفيان وقف مرة بباب عمر بن الخطاب ساعات طويلة فلم يُؤذَن له، والذي يلفت النظر أن بلالاً وصهيباً يدخلان عليه بلا استئذان، فلما دخل عاتب عمرَ بن الخطاب فقال: شيخ قريش (سيد قريش) يقف ببابك ساعات طويلة دون أن تأذن له، وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان؟ فقال عمر: هل أنت مثلهما؟
﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ﴾ فقيمة الإنسان بسبْقه في الإسلام، وقيمته بتضحياته، وقيمته بعلوّ إيمانه، وقيمته بأعماله الطيبة التي قدمها في سبيل مرضاة الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية أصلٌ في أدب المجلس.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
آداب المجلس في السنة المطهرة:
ننتقل الآن إلى بعض الأحاديث الشريفة الصحيحة المتعلقة بهذه الآية:
(( عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يُقام الرجل من مجلسه وأن يجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا. ))
فلا ينبغي أن تقيم إنساناً ليجلس آخر مكانه (ولكن تفسحوا وتوسعوا) . هذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام
وجاء في حديث آخر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. ))
وهذا أدب ثانٍ من أصول السنة في آداب المجلس.
ومن أدب المسجد أيضاً أيضاً ما رواه عبد الله ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( لا يحل للرجل أن يفرّق بين اثنين إلا بإذنهما. ))
لا يحلّ أن تجلس بين اثنين إلا بإذنهما.
أيها الإخوة، ويروي كُتّاب السيرة أن نفراً ثلاثة قدموا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فبينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذهب واحد، فلما وقفا على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام سلّما، فأما أحدهما فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، فجلس خلف الصفوف، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( بينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ إذ أقبلَ ثلاثةُ نفَرٍ، فأمَّا أحدُهُما فوجدَ فُرجةً في الحلقةِ فدخلَ فيها، وأمَّا الآخرُ فجلسَ وراءَ النَّاسِ، وأدبر الثَّالث ذاهباً، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا أنَبِّئكُم بخبرِ الثَّلاثةِ؟ أمَّا الأولُ فآوَى إلى اللهِ فآواهُ اللهُ، وأمَّا الثَّاني فاستحيَا فاستحيَا اللهُ منه، وأمَّا الثَّالثُ فأعرضَ فأعرضَ اللهُ عنه. ))
الأول آوى إلى الله فآواه الله، والثاني استحيا فجلس خلف الصفوف، ولم يزاحم أحداً فاستحيا الله منه، وأما الذي انصرف أعرض فأعرض الله عنه.
وعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا جلسنا في مجلس، في لقاء، في سهرة، ثم انقضى هذا اللقاء وأردنا القيام، أن ندعوَ بهذا الدعاء:
(( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتـوب إليك. ))
فيجب أن نُنهي كل مجلس بهذا الدعاء؛ لأنه من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لنا.
وقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً أن ندعو بهذا الدعاء عند انفضاض كل مجلس، وهو:
(( اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا. ))
ينبغي إذا انفضّ المجلس أن ندعو بهذا الدعاء الثاني.
ومن أدب جلوسك مع أصحابك في مجلس علم، في خطبة جمعة، في لقاء ودّي، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل فكلّمه لم يصرف وجهه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف، وإذا صافحه لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزعها، ولم يُرَ متقدما بركبتيه جليساً له قط. ))
[ أخرجه أحمد وفي سنده ضعف ]
وما رُئي عليه الصلاة والسلام في كل حياته مادّاً رجليه قط أدباً مع الله عز وجل، وأدباً مع أصحابه، ومن آداب المجلس كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يَسْتَلْقِيَنَّ أحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ علَى الأُخْرَى. ))
لأن هذا الجلوس فيه كِبر، اجلس في أدب، ومن أدب المؤمن أنه لا يضع رجلاً على رجل إذا جلس في مكان.
ومن أدب المجلس قوله:
(( إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره . ))
ليقم، وليغسل وجهه؛ لأن الإنسان إذا اقترب من النوم فإنه يعدي بنومه، ويُحيل بعض من في المجلس إلى نيام، وهذا مما لا يليق بمجلس العلم.
الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيها الإخوة الكرام، يقول تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ(11) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيۡرٌ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)﴾
لقد كثر طلب الصحابة الكرام من أجل لقاء رسول الله، ووقت النبي عليه الصلاة والسلام ثمين جداً، بل إن معظم المنافقين كانوا يتمنون ويطلبون من رسول الله أن يلتقي بهم لغاية في نفس يعقوب، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يميز بين المؤمنين والمنافقين، فجعل لهذا اللقاء ثمناً، وهذا الثمن صدقة، وهي ليست للنبي عليه الصلاة والسلام إطلاقاً، فهناك من يفهم هذه الآية على غير ما أرادها الله عز وجل، فالمعنى: قدِّم صدقة بين يدي لقائك مع رسول الله، لأن هذه الصدقة التي أمرنا الله بها تفرز الناس قسمين: المنافق لا يدفع، أما المؤمن فيدفع ويلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً﴾
أهداف هذا الصدقة:
1- إن الفقراء سينتفعون بهذه الصدقة.
2- يظهر صدق المؤمنين ونفاق المنافقين.
3- من خلالها يصبح اللقاء معقولاً، شيء بلا ثمن، مبذولٌ لكل من أراد، والنبي عليه الصلاة والسلام لكل أمة المؤمنين، فإذا استأثر به أحدهم وأطال الجلوس، وطلب الثاني لقاء ليفوز عليه بهذا اللقاء، بهذه الطريقة يخرج الموضوع عن هدفه.
وسأضرب على ذلك مثلاً _ولله المثل الأعلى_ إن أي إنسان يقدِّم طلباً يُدرَس الطلب، فلو كانت طلبات الشهادات العامة مثلاً بلا رَسْم لتقدم خمسمائة ألف طلب، وكل هؤلاء ليسوا جادّين في تقديم الشهادة، وطبعاً حينما تُقدَّم الطلبات يجب أن تُعَد لهؤلاء المتقدمين المراكز والمقاعد والأسئلة وما إلى ذلك، ثم تُفاجأ أن معظم الذين تقدموا بهذه الطلبات لم يأتوا إلى الامتحان، أربكوا، فما الحل؟ الحل أن تضع رسماً مع الطلب، فالجاد في تقديم الامتحان يدفع الرسم، هذا حل، وهذا مثل بسيط، فأحياناً وقد وقع هذا الشيء قديماً كان تقديم طلب امتحان لأداء الشهادة الثانوية بلا رسم، فيتقدم مئتا ألف طلب، وعلينا أن نُعِدّ لهذا الامتحان القاعات والمراكز والمراقبين والأوراق والأسئلة، ثم نُفاجَأ أن معظم المراكز فارغة، وهؤلاء الذين قدموا الطلبات غير جادين في رغبتهم في أداء الامتحان، فالرسم له فائدة أنه يفرز الجاد عن الهازل، يفرز الجاد عن غير الجاد.
فإذا كانت النجوى بلا ثمن فأي إنسان يحب أن يلتقي مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون هذا الشخص منافقاً أو عدواً للرسول عليه الصلاة والسلام، فجاء هذا التوجيه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً﴾ أولاً: يظهر إيمان المؤمنين وحرصهم على هذا اللقاء، ثانياً: ينتفع إخوانهم الفقراء بهذا، أما المنافق لن يدفع صدقة للفقراء، فهذا فرز دقيق، والشيء الثالث والأهم هو أن الصدقة ليست للنبي لأن الأنبياء لا يأخذون الصدقة إطلاقاً، فقد قرأت قصة لا أدري مدى صحتها أن النبي عليه الصلاة والسلام قُطِع عنه الوحي أسبوعين أو أكثر فقال: يا عائشة لعلها تمرة أكلتُها من تمر الصدقة خطأً، تمرة رآها على السرير فأكلها، لعلها تمرة من تمر الصدقة خطأً أكلتُها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتعفف أشد التعفف إلى درجة غير معقولة عن مال الصدقة، فهذه الصدقة ليست له، إنما هي للفقراء.
فمثلاً أنت أخ في المسجد إذا قدمت عملاً لأخ آخر، أخ طالب علم، أو ساعدت إنساناً، أو قدمت لإنسان آخر شيئاً، هذا يجعل جلوسَك في هذا المجلس متألقاً، أنت أتيت بهدية إلى الله، فما هذه الهدية؟ أن تكرم أخاً لك، فهناك طلبة العلم وهناك الكثير من المحتاجين والفقراء، وربما يكون المسجد بحاجة إلى أشياء، فإذا قدمت شيئاً ثم حضرت مجلس العلم ما الذي يحصل؟ تتألق؛ لأن معك هدية إلى الله، قدمتها لأخيك، فلا يوجد شيء بلا ثمن، هذا إذا أردنا أن نتوسع في مفهوم هذه الآية؛ عملك الصالح الذي تعمله قبل أن تأتي إلى مجلس العلم يجعلك أكثر فائدة واستفادة وتلقّياً في هذا المجلس ممّا لو لم تقدّم هذه الصدقة.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً﴾ فمعنى النجوى هنا هي اللقاء الخاص، أما اللقاء العام فهو شيء آخر.
﴿ذَٰلِكَ خَيۡرٌ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ﴾ فهذا العمل الطيب يعود عليك بالخير، وهذا العمل الطيب يعود عليك بطهارة النفس، فأنت قمت بعمل لله عز وجل، عندما أتيت بيت الله أتيت ومعك هدية.
﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ قال العلماء: هذا أمر على مستوى الندب لا مستوى الفرض، أي إذا كان بإمكانك أن تخدم أخاً فقيراً محتاجاً، تُعينه، وتؤمّن له بعض الحاجات، وتقدم شيئاً للمسجد، فهذا يعني أنك قدمت بين يدي لقائك مع الله هذا العمل الطيب الذي ربما أعانك على الطهارة النفسية، وجلب لك الخير العميم، وهذا هو فحوى الآية وعلاقتها بواقعنا، قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيۡرٌ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(12) ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٍۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ(13)﴾
أأشفقت أن تقدّم جزءاً من مالك إلى إخوانك الفقراء المحتاجين المساكين؟ حياتك الدنيا كلها من أجل العمل الصالح.
﴿فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ فالقصد لا أن تأتي إلى مجلس العلم كمستمع ليس غير، القصد أن تأتي متفاعلاً مع هذا الدين، فهناك إخوان كثيرون يطرحون عليّ هذا السؤال: ما بالنا ننكر قلوبنا؟ والإجابة: أن الإنسان إذا قلّ عمله الصالح أنكر قلبه، وشعر بسآمة في صلاته، فهو يقرأ القرآن لا يتأثر، ولا يخشع قلبه، ولا يقشعرّ جلده إذا قرأ القرآن، يصلي فلا يشعر بالقرب من الله عز وجل، ولا تذوب نفسه في الصلاة، فما الحل إذاً؟ الحل هو الإكثار من العمل الصالح لأنه قليل، والدليل، قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا (110)﴾
الاستقامة تمهد الطريق إلى الله:
الحقيقة أن الأمر ثمين، والحقائق واضحة وناصعة، أنت في علاقتك مع الله إذا كنت مستقيماً على أمره زلّلت كل العقبات في الطريق إلى الله، هذه النقطة الأولى.
كل معصية حجاب بينك وبين الله، كل مخالفة حجاب بينك وبين الله، كل تقصير حجاب بينك وبين الله، فإذا حُجبت عن الله عز وجل فماذا بقي من الدين؟ يبقى أفكار، ثقافة، بقي من الدين طقوس مملة، بقي من الدين عادات وتقاليد، وهذا هو سبب انصراف الناس عن العبادات، فالعبادات عندهم جوفاء لا معنى لها، لأنهم لما قصّروا ولم يفعلوا الخيرات، وفعلوا بعض المنكرات حُجِبوا عن الله، ولما حُجِبوا عن الله عز وجل أصبحت العبادات عندهم جوفاء لا تقدم ولا تؤخر، وسأضع الآن يدي على شيء دقيق في حياة كل مؤمن.
فأنت يجب أن تستقيم على أمر الله تماماً، ويجب أن يكون لك عمل صالح تبتغي به وجهه، فكل إنسان عنده إمكانيات ليعمل عملاً صالحاً، فالطبيب إذا عالج المرضى الفقراء كان هذا عملاً صالحاً، والمحامي إذا دافع عن إنسان مظلوم كان هذا عملاً صالحاً أيضاً، كذلك المدرس إذا درّس طالباً ضعيفاً وفقيراً في مادة، فإذا قدمت شيئاً من علمك، من خبرتك، من اختصاصك، من مالك، من جاهك، من مكانتك، إذا كان لك عمل لا تبتغي به إلا وجه الله:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)﴾
فإذا أُضِيف هذا العمل إلى طاعتك لله فإنه يجعلك تتألق، فإذا لم يمتلك الإنسان حاسة يشعر من خلالها أن قلبه موصول أو مقطوع عن الله فهذه مشكلة كبيرة جداً، فالإنسان الموصول يعرف أنه موصول بطاعته لله، واستقامته على أمره، وتأديته لواجباته الدينية، والعمل الصالح، هذا يصله بالله عز وجل، فإذا اتصل بالله وصل إلى كل شيء، وما فاته شيء من الدنيا.
والشيء الذي أريد أن أقوله هو أن الاستقامة تمهّد الطريق، لكن العمل الصالح هو الذي يدفعك على هذا الطريق، فمهما ارتقت ثقافة الإنسان الإسلامية، ومهما أكثر من حضور مجالس العلم، ومهما تزين بزينة الإسلام، فإن لم يكن مستقيماً، وله عمل صالح يبتغي به وجه الله فإنه لن يتألق، ولن يتصل، ولن يسمح الله لقلبه أن يتشبّع بالسكينة والتجلي.
فيا أيها الإخوة الكرام، هذه آيات دقيقة أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون نبراساً لنا في طريقنا إلى الله، الحقيقة أدب، فالإسلام منهج كامل، وأنت تعلم علم اليقين، ينبغي أن تشرب الماء وفق سنة رسول الله، جلوسك، تناولك للطعام، حركتك، بيعك، شراؤك، أداؤك لحرفتك، فهناك مشكلة يعاني منها المسلمون وهي أن المسلم قد يكون ملتزماً من رواد المسجد، لكنك إذا حاككته بالدرهم والدينار وجدت بوناً شاسعاً بين انتمائه ومعاملته، إذا بعته أو اشتريت منه، إذا صنع صنعة فهو لا يتقي الله فيها، والدين الحقيقي في دكانك، وفي حرفتك، وفي مصنعك، وفي مكتبك، وفي بيعك وفي شرائك، وفي خلوتك وفي جلوتك، وفي اتصالاتك، وفي كل نشاطاتك.
لذلك أيها الإخوة، هناك شيء لا بد أن نقوله صراحة؛ إن لم نستقم على أمر الله كان الطريق إلى الله غير سالك، وعندئذ يغدو الإيمان ثقافة، ويغدو الإسلام عادات وتقاليد، كما تغدو العبادات طقوساً لا تقدم ولا تؤخر، نحن نريد أن نصل إلى الله، والوصول إلى الله شيء ثمين جداً، فإذا نظر الله عز وجل إلى قلبك وألقى فيه السكينة تقول: والله الدنيا كلها لا تعدل شيئاً أمام هذه السكينة، وهذا الذي نحرص عليه، فقد وصل أصحاب النبي -على قلتهم- إلى هذا، فُفتِحت أمامهم المشارق والمغارب، أما حينما ترك المسلمون دقائق دينهم، وتركوا استقامتهم، وأعمالهم الطيبة، أصبح الدين عندهم انتماء تاريخياً ليس غير، وهذا الانتماء التاريخي سبّب لهم متاعبَ لا حصر لها.
آداب أخرى من آداب المجلس:
أيها الإخوة، هناك بعض من أدب المجلس أضعه بين أيديكم:
من أدب المجلس: أنه إذا سُئل أحدكم عما يعلم فليقل به، ونريد هنا أن نوسع الدائرة قليلاً، فأنت الآن تجلس في مجلس علم، فلو جلست في مجلس آخر مع إخوانك، فما هو الأدب الكبير؟ قال: "إذا سئل الرجل أحدكم عما يعلم فليقل به، وإذا سُئِل عمّا لا يعلم فليقل: الله أعلم" ، وأنت أحياناً قد تتورط في مجلس فتتكلم عمّا لا تعلم، وإذا تكلمت عمّا لا تعلم وقعت في إثم كبير، يقال: "فإن من علم الرجل إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم والله أعلم" ، فهذا من أدب المجلس، أنت بمجلس وطُرِحت عليك قضية، أو سُئلت سؤالاً وأنت لا تعرف الجواب فقل: لا أعلم، ولا تخشَ لومة لائم، فأن تقول كلاماً غير صحيح، وأن تقول ما لا تعلم، أن تقول على الله ما لا تعلم، أن تفسر آية بما لا تعلم، هذا مما يتناقض مع أدب المجلس، فاحفظ أمانة العلم، فإن سُئلت عما تعلم فقل، فإن لم تكن تعلم فقل: لا أعلم، فهذا نصف العلم، واقتدِ في ذلك بـالإمام مالك، إمام دار الهجرة، الذي جاءه وفد من أقاصي المغرب من الأندلس، وكان سفرهم قد استغرق أشهر، وكان معهم ثلاثون سؤالاً، فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً، فلما قيل: أين إجابات الأسئلة الباقية؟ قال: لا أعلم، فقالوا: الإمام مالك لا يعلم، فقال: "قولوا لمن أرسلكم إن الإمام مالك بن أنس لا يعلم" و هذا من أدب المجلس.
هناك أدب آخر، فعن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنَّ بني إسرائيلَ لمَّا وقعَ فيهمُ النَّقصُ، كانَ الرَّجلُ يرى أخاهُ علَى الذَّنبِ فينهاهُ عنهُ،فإذا كانَ الغدُ لم يمنعهُ ما رأى منهُ أن يَكونَ أكيلَه وشَريبَه وخَليطَه فضربَ اللَّهُ قلوبَ بعضِهم ببعضٍ ونزلَ فيهمُ القرآنُ. ))
فنحن إذا جلسنا مع بعضنا، وجامل بعضنا بعضاً، رأينا منكرات كثيرة فسكتنا، رأينا مخالفات كثيرة فسكتنا، استحيينا أن نجهر بأمر الله، استحيينا بعبادة الله، فسكتنا عن منكرات المجلس فقال الله عز وجل:
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)﴾
فإذا كنت في مجلس علم أو في لقاء خاص فسُئلت، فإن كنت تعلم فقل ما تعلم، وإن كنت لا تعلم فقل: لا أعلم، وإن رأيت منكراً فأنكِره إما بيدك إذا كان الفاعل ابنك مثلاً، أو أنكره بلسانك إن كان صديقك، أو أنكره بقلبك إن كنت لا تستطيع أن تجهر بالإنكار، وذلك أضعف الإيمان.
أيها الإخوة، لا بدّ من أن نتناصح، لأن التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الفريضة السادسة بعد الفرائض الخمس، والله سبحانه وتعالى جعل التواصي بالحق أحد أركان النجاة فقال:
﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)﴾
أما إذا تركت أمةُ النبي صلى الله عليه وسلم الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر انتقلت من أمة الاستجابة إلى أمة التبليغ، وأمة التبليغ ليس لها عند الله أدنى ميزة.
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(80)﴾
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(111)﴾
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
وإذا قال المسلمون: نحن أولياء الله فالجواب: قل فلمَ يعذبنا الله بذنوبنا؟ فعندئذ نحن بشر ممن خلق الله عز وجل، ليس لنا أية ميزة، أما إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر عندئذ تكون لنا الميزات.
الملف مدقق