وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة المجادلة - تفسير الآيات 14-22 صفات المنافقين، وضرورة التزام الجماعة المؤمنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتَنا وزدنا علماً، وأرِنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع والأخير من سورة المجادلة ومع الآية الرابعة عشرة، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ(14)﴾

[ سورة المجادلة ]

 

تولّي غير المؤمنين:


هؤلاء هم المنافقون، وقد ذكرت لكم أن النّفاق لا يأمنُه إلا منافق، ولا يخافه إلا مؤمن، وأن النفاق يسري بين المؤمنين كالنار في الهشيم، فإذا لم يكن المؤمن يقِظاً، واعياً، حريصاً على سلامة إيمانه فإن النفاق يسري إلى قلبه وهو لا يشعر، لكني لا أقول أن هذا نفاق الكفر، إنما نفاق المعصية، فحينما يخضع المؤمن لضغوطٍ أو لمغريات أو لشبهات فإنه قد ينحرف في داخله، بينما يكون محافظاً على ظاهره، وهذا النوع من النفاق خطير جداً، إلا أن شفاءه مُحقَّق، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾ هؤلاء المنافقون هم الذين والَوا، والحقيقة الإيمان في حقيقته ولاء؛ ولاءٌ لله ورسوله والمؤمنين، والكفر والنفاق عِداء وبغضاء، فمَن أحبّ الله ورسوله والمؤمنين فهو مؤمنٌ ورب الكعبة، ومَن أبغضَ المؤمنين كان بغضه هذا أحد أنواع النفاق، فإذا أردت أن تطمئن على قلبك فانظر إليه، أيحب المؤمنين أم أنه يُبغِضهم؟
 هؤلاء المنافقون الذين تحدّث الله عنهم ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا﴾ هؤلاء هم اليهود ﴿تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾ قال الله عز وجل:

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾

[ سورة الفاتحة ]

 هذه آيات في الفاتحة، فالناس ثلاثة رجال؛ رجل عرف الله وأطاعه، فهو من الذين أنعم الله عليهم، وهداهم طريق الاستقامة، وقرّبهم، وتجلّى على قلوبهم، وأسعدهم في الدنيا والآخرة.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ المغضوب عليهم؛ الذين عرفوا وانحرفوا، وقال بعض المفسرين: هم اليهود، والذين ما عرفوا فانحرفوا هؤلاء الضالون، يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾ .

الانتماء إلى جماعة المؤمنين:


 أيها الإخوة، أذكر لكم بالمناسبة أن الإيمان إنما هو انتماء، المؤمن ينتمي إلى مجموع المؤمنين، فهو يشعر أنه أحد أفراد المؤمنين، كما يشعر أنه لصيقٌ بهم، فيؤلمه ما يؤلمهم، ويُسعده ما يسعدهم، ويُفرحه ما يفرحهم، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه، ويتمنى لهم ما يتمنى لنفسه، يتمنى رِفعتهم ورُقيّهم، يتمنى أن يفوزوا فإذا فازوا شعر أن هذا الفوز له، الإيمان ولاء، والمؤمن يوالي أهل الإيمان، أما الذي يتولّى أهل الكفر والعصيان وينتمي إليهم ولو كان انتماء باطلاً، وينضم إليهم ويدافع عنهم، يحبهم فهو منهم، فقد ورد في الحديث الشريف: 

(( كلُّ نفسٍ تُحشَرُ على هواهَا، فمنْ هَوى الكفرةَ فهوَ معَ الكفرةَ، ولا ينفَعُه منْ عملِهِ شيئًا. ))

[ ضعيف الجامع ]

 فهناك من الناس مَن يذهب إلى بلاد الغرب، فيعود ويتحدث عن كل شيء من فضائلهم، أما سقَطاتهم وانحرافاتهم وانحلال أُسَرِهم، وتفلّت أخلاقهم، وسوء عقيدتهم فيكتمه، ويُبرِز مزاياهم، فهو إذاً وليّ لهم، لكن المؤمن الصادق يتولى المؤمنين.
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾ والانتماء الحقيقي أيها الإخوة إنما يكون إلى مجموع المؤمنين، لا تنتمي إلى جماعة صغيرة بل إلى مجموع المؤمنين، لتحس بعد ذلك أن أي مؤمن على وجه الأرض أقرب الناس إليك، ولو تباعدت الأجسام واختلفت البلاد، واختلفت اللغة واللون والعرق، وذلك لأن انتماءك إلى مجموع المؤمنين يجعلك أقرب الناس إلى أي مؤمن.
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ﴾ فهؤلاء المنافقون ليسوا من المؤمنين، ﴿وَلَا مِنۡهُمۡ﴾ فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

ثمرة الدين:


 إخواننا الكرام، هناك نقطة دقيقة جداً؛ هذا الدين له ثمرة واحدة، كيف أن التجارة –وقد ذكرت هذا في الخطبة- التجارة وما فيها من اختيار المحل وتزيينه، وتجهيزه بالآلات، الاستيراد، المبيع، جمع ثمن البضاعة، المحاسبة، الإعلان، كل النشاطات التجارية من أجل أن تحقق شيئاً واحداً هو الربح، فإن لم تحقق ربحاً كانت هذه التجارة لا معنى لها، كما أن الدين كلَّه؛ بعقيدته بعباداته، بطلب العلم وتعليمه، كل ما في الدين من أجل أن تتصل بالله فتسعد بهذا الاتصال، فإن لم يكن لك اتصال بالله ما فعلت  شيئاً، فهؤلاء المنافقون ما قطفوا ثمار الدين، لأنهم ما استقاموا على أمر الله، ولا أدَّوا ما أمرهم الله به، فكان انتماؤهم انتماء شكلياً، كما أنهم ليسوا مع الكفار، فلا هم مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فهم لم يأخذوا ميزات المؤمنين، ولا تفلّت الكافرين، عندهم انضباط إرضاءً للمؤمنين لا إرضاء لله عز وجل، بعض انضباطهم إرضاء للمؤمنين، وحقيقتهم مع الكافرين، فلا هم مع هؤلاء أحرار فيما يتحركون، ولا هم مع المؤمنين يقطفون ثمار إيمانهم، هذه مشكلة ولو أردنا أن نحلل هذه المشكلة على مستوى كل مؤمن؛ فأنت مثلاً محسوب على الناس أنك مؤمن، محسوب عند أقربائك ومَن حولك، عند جيرانك، وزملائك مِن المؤمنين، فإن لم تقطف ثمار الإيمان ضيّعت هذه وتلك، فثمرة الإيمان هي الاتصال بالله عز وجل، وحُسن العلاقة به، والإقبال على الله، دوام ذكره، والسعادة بالقرب منه، هذه ثمرة الإيمان. 
 إن هذه العلاقة تحتاج إلى وسائل، فالمركبة لا تمشي إلا إذا استُكملت جميع أجزائها، المحرك والوقود والمكبح والإضاءة والكهرباء، أما لو كان عندك قطع من سيارة فهي لا تسير، وقد يكون لهذه القطع ثمن، لكنها لا تسير، فأنت لا تستطيع أن تسير إلى الله، ولا أن تتصل به وأن تجني ثمار الإيمان قرباً وسعادة إلا بطاعتك لله، فإن لم تفعل هذه الطاعة خسرت ثمار الدين، وبقي انتماؤك إلى الدين شكلياً، فلا أنت مع أهل الدنيا المتفلّتين، ولا أنت مع المؤمنين تقطف ثمار إيمانهم، وهذه هي المشكلة، قال: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾
 

الولاء للمؤمنين:


 التولي: إنك قد تعامل إنساناً غضب الله عليه بعلاقة عمل، فهنا لا شيء عليك، أما الولاء: الحب، الولاء الانتماء، الولاء أن تدافع عنه، أن تصوّب عمله، وأن يميل قلبك إليه، أن تسترشده، أن تستلهمه، أن تصغي إلى نصائحه، أن تُكبِره، أن تُعظِّمه، هذا هو الولاء.
فهؤلاء ﴿ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ المنافق يعلم أنه منافق، ويعلم أنه كاذب، لذلك يلجأ إلى الأَيمان المغلظة ليستر حاله، فكلما رأيت إنساناً يُكثِر من حلف الأيمان بسبب وبغير سبب، بمبرر وبغير مبرر فاعلم أن فيه ثُلْمَةٌ من النفاق.
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ (ألم تر) أين جوابها؟ أي انظر إلى حالهم، انظر إلى وضاعة شأنهم، انظر إلى ازدواج شخصيتهم، انظر إلى بعدهم عن الله، انظر إلى أن الله سيفضحهم، يقول الله عز وجل:

﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 وقال: 

﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

 فهل من الممكن لإنسان أن يُظهِر خلاف ما يُبطِن إلى ما لا نهاية! لا بدّ من أن يفضحه الله عز وجل، لا بد من أن يكشف حقيقته، لا بدّ من أن يُظهر ما يُضمِر، وهؤلاء الذين يقول الله عنهم: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم﴾ كان هؤلاء المنافقون يجلسون إلى اليهود، وينقلون إليهم كل ما قاله النبي للمسلمين، فقد كانوا يخونون الله ورسوله، ماذا قال النبي ينقلون أقواله وخططه إلى الكفار واليهود ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ .

 علاقتنا بهذه الآية:


 قد يقول قائل: ما علاقتي بهذه الآية؟ إذا والى إنسان إنساناً بعيداً عن الله، مقطوعاً عنه، من أهل الدنيا، من أهل المعاصي، من أهل الكفر، والاه، وأحبه، ونقل له كل شيء عن المؤمنين، فإنه بذلك ينتمي إليه ولا ينتمي إلى المؤمنين، فتنطبق عليه هذه الآية، هؤلاء الذين يوالون أعداء الله، يدافعون عن أعداء الله، ويكبرونهم، وينسجمون معهم، ويمدحونهم، ويُثنون عليهم، هؤلاء يوالونهم، فقل لي مَن توالي أقل لك من أنت، والمؤمن يوالي المؤمنين.

﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ(15)﴾

[ سورة المجادلة ]

 إن لم يعامل الإنسان الله عز وجل فإنه يسوء عمله ويُحبَط، أكثر شيء أتمنى أن يكون واضحاً لديكم إذا كان لديك عمل فافحص عملك واعرضه على كتاب الله، ثم انظر هل عملك وفق المنهج؟ وهذا هو الشرط أول، وهل تبتغي به وجه الله؟ وهذا هو الشرط الثاني، إن كان مجمل عملك، في بيتك، وفي عملك، وفي حرفتك، وفي الطريق، وفي النزهة، وفي علاقاتك المالية والاجتماعية، وفي إقامتك وسفرك، حركتك في الدنيا، اعرِضْها على كتاب الله، فإن كانت وفق منهج الله، وتبتغي بها وجه الله فهنيئاً لك وهنيئاً لمسعاك، أما إذا كان في العمل معصية أو خلل، أو كانت النيّات ليست طيبة فلا بدّ أن تصحو قبل فوات الأوان، فما دام هذا القلب ينبض فهناك فسحة للتوبة، فسحة للإصلاح.
 إن الله عز وجل ما جعل هذا الكلام قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، وكلاماً نتعبّد الله به إلا ليكون هذا الكلام درساً بليغاً لنا، فاسأل نفسك: هل أنت توالي المؤمنين أم توالي أهل المعصية والفجور؟ عمّن تدافع؟ ومن تتمنى أن يرقى؟ هؤلاء أم هؤلاء، هل يؤلمك ما يؤلم المؤمنين؟ هل يقلقك ما يقلق المؤمنين؟ هل يرضيك ما يرضيهم؟ هل يسعدك ما يسعدهم؟ فإذا كنت كذلك كان ولاؤك للمؤمنين، أما إذا واليت أهل الدنيا وأهل المعصية والفجور وانضممت إليهم وانتميت إلى فئتهم، وأعنتهم ودافعت عنهم ومحّضْتَهم الحب كان ولاؤك لغير المؤمنين، والولاء قضية مهمة جداً، فقد جاء في الحديث أن العبد يقول يوم القيامة: يا رب لقد فعلت كذا وكذا، فيقول الله تعالى:

(( أوْحَى اللهُ تَعالى إلى نَبيٍّ من الأنبياءِ أنْ قُلْ لِفلانٍ العابِدِ : أمَّا زُهدُكَ في الدنيا فتَعَجَّلْتَ راحةَ نفْسِك، وأمَّا انْقِطاعُكَ إِليَّ فتَعزَّزْتَ بِي، فماذا عَمِلْتَ فِيما لِي عليكَ؟ قال: يَا ربِّ! ومَاذا لَكَ عَلَيَّ؟ قال: هَلْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ أو هل والَيْتَ فِيَّ ولِيًّا؟ ))

[ ضعيف الجامع ]

 أي: هل تحبّ إنساناً لا تحبه إلا في الله ولم يكن لك عنده مصلحة أبداً،لا علاقة مالية ولا علاقة اجتماعية، ولا قرابة، ولا شيء آخر، لا تحبه إلا لله لأنه مؤمن، فإن كان في حياتك أشخاص تحبهم لله؛ العلاقات المادية منقطعة، علاقات القرابة منقطعة، علاقتك معهم علاقة الإيمان، فتحبهم لله، إذاً أنت مؤمن، أما إذا أحببت مَن لك مصلحة عنده فأنت من أهل الدنيا، لأن هذا الذي يبني علاقاته على أساس مصالحه، فيوالي الجهة التي يأتيه الخير منها ولو كان ذلك على معصية، ويعادي الجهة التي لا تنفعه ولا تضره ولو كان ذلك على طاعة، فهو منافق، لأن هذا أحد أنواع النفاق، فالمنافق حركته مع مصالحه، أما المؤمن الصادق فهو يحب أي مؤمن من دون علاقة مادية ولا علاقة قرابة، لأنه لا يحبه إلا لله، فإذا كان في حياة أحدنا علاقات خالصة لوجه لله، أن تحب مؤمناً لا تحبه إلا لله، وأن تُبغض كافراً أو فاسقاً أو منافقاً أو فاجراً لا تبغضه إلا لله فأنت مؤمن ورب الكعبة، أن تحب لله وتبغض لله، أن تعطي لله وتمنع لله، أن ترضى لله وتغضب لله ، هذا الذي يقيم علاقاته على أساس علاقات الإيمان فهو مؤمن.
 فعلاقتنا بالآية؛ أنه يجب عليك أن توالي المؤمنين وتنتمي إليهم وتحبهم لله، وأن تُبغِض الفاسق لله، يجب أن تسترشد المؤمنين لا أهلَ الدنيا. 
قال تعالى:

﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا (28)﴾

[ سورة الكهف ]

 فهؤلاء المنافقون الذين والَوا اليهود ومحضوهم النُّصح، ونقلوا إليهم أخبار النبي وأصحابه هؤلاء: ﴿أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾
أيها الإخوة، ما منا واحد إلا ويحب السلامة لنفسه، فإذا علم أن المنافق سوف يُعاقَب أشد العقاب في الدنيا والآخرة ينبغي أن يبتعد عن النفاق، إلا أن الشيء الذي يلفت النظر أن الجزاء بعيد، أما المغانم فهي قريبة، وهذا من ابتلاء الله للناس، فالأشياء المحسوسة قريبة، أما الجزاء فهو خبر جاء في كتاب الله، أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن الصادق يصدّق خبر الله عز وجل فيرتدع، أما غير الصادق فيتّبّع ما بين يديه من مكاسب مادية وشهوات، وينسى وعد الله ووعيده، ثم يندم أشد الندم حينما يأتي العقاب.
﴿إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ اي هذا العمل سوف يسوءهم، هو سيّئٌ وسوف يسوء صاحبه.

اليمين الفاجرة سلاح المنافق:


﴿ ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ(16)﴾

 إن سلاح المنافق هو اليمين الفاجرة، فالمؤمن أقوى من أن يؤكد كلامه بيمين، لأن كلام الإنسان الصادق واضح وحقيقي، فكلما رأيت إنساناً يُكثِر الحَلْف فاعلم أن فيه ثُلمة من النفاق، وقد قال الله عز وجل: 

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلْأَيْمَٰنَ ۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَٱحْفَظُوٓاْ أَيْمَٰنَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)﴾

[ سورة المائدة ]

 فإن لم يصدقك الذي يستمع إليك فلا تُلقِ عليه كلاماً أبداً، لأنك إنسان صادق، ومن أبرز خصائص المؤمن الصدق، فإذا سُئلت فأجب من غير أَيمان، لكن المنافق يعلم أنه منافق ويعلم أنه يكذب على الناس، وأنه يُدجِّل عليهم، وأنه يمثّل عليهم، فهو من أجل ألا يُفتَضح يلجأ دائماً إلى حلف اليمين.
﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةً﴾ ﴿جُنَّةً﴾ أي: ستراً أو ردْءاً أو دريئة يستترون بها. 

جزاء المنافقين:


﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لأن الازدواجية عذابها مُهين، فقد يبطن الإنسان شيئاً ويُظهر شيئاً، فهذا الذي أبطنَه سوف ينكشف، وحينما ينكشف يُهان الإنسان، وليس هناك شعور أشد على النفس من أن تُفتضَح، من أن يعلم الناس حقيقة الإنسان وهو يحاول أن يسترها، فهذا عذاب مهين، وإذا كان للإنسان مظهر معين ثم كُشِفت حقيقته كان هذا الكشف شيئاً مخيفاً، إنسان له أسرار فاحشة ومنحرفة، لكن يملك مظهراً راقياً، فإذا كُشِفت أسراره وافتُضِح أمره فهو في عذاب مهين، العذاب المهين؛ أن يُكشَف الإنسان على حقيقته إذا كان منافقاً، يُبدِي شيئاً ويخفي شيئاً.
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ كيف صدوا عن سبيل الله؟ الحقيقة للمنافق مظهر، وله مخبر، له ظاهر وله باطن، كما أن له مواقف معلَنة ومواقف حقيقية، فلو كشف الإنسان المنافق، ورأى هذه الازدواجية ينصرف عن طريق الدين كله، فهذا المنافق قد صدّ الناس عن الله وهو لا يشعر، دعك من الكلام، المعاملة؛ فإذا أنت عاملت إنساناً معاملة راقية جداً، وكنت محسوباً على الناس أنك مؤمن، لجذبت هذه المعاملة الراقية الناس إلى الدين، فإذا أسأت معاملتهم نفّرتهم من الدين، فكل إنسان عنده ازدواج في شخصيته، وله ظاهر وله باطن يصدّ الناس عن سبيل الله وهو لا يشعر.

لماذا ينافق المنافق ؟؟


 المنافق لماذا يفعل هذا؟ لماذا ينافق؟ لماذا يظهر ما لا يُبطن؟ لماذا يدجّل؟ لماذا يكذب؟ لماذا يوالي أهل المعصية والفجور؟ لماذا يوالي أهل الدنيا؟ إنه يفعل ذلك من أجل الدرهم والدينار، من أجل المكاسب المادية، فما من إنسان إلا وفي ذهنه هدف معيّن، وإن هدف النفاق هو المكاسب المادية والدنيا، فقد نافق المنافقون من أجل الدرهم والدينار، لكن ربنا عز وجل طمأنَهم أن أموالهم وأولادهم لن تغني عنهم من الله شيئاً، فهذا الذي سعَوا في سبيله وضحوا من أجله بدينهم لن يغني عنهم من الله شيئاً، فمن ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى. 
النقطة الدقيقة عندما يعصي الإنسان ربه، ويبيع دينه ويبيع عِرضه أحياناً من أجل الدنيا، هذه الدنيا لا تغني عنه من الله شيئاً، فقد لا ينتفع بها، وقد لا تمنعه من مصيبة تُلِمّ به، قال:

﴿ لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ(17)﴾

[ سورة المجادلة ]

 لقد أكثر الله عز وجل من ذكر أوصاف المنافقين كي نحذر الوقوع في طريقهم، وما ذكر الله أوصاف المنافقين إلا لنكون يقظين من أن تزلّ أقدامنا إلى سلوكهم.
 ليسوا على شيء:
 قال تعالى:

﴿ يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ (18)﴾

[ سورة المجادلة ]

 إن المنافقين ليسوا على شيء، والمشكلة هي أن المنافق أحياناً قد يظن أنه على شيء، يظن أنه يفعل شيئاً رشيداً، يفعل شئياً لمصلحته، يفعل ما يرضي مطامحه، يفعل شيئاً ليرقى عند الناس، يفعل شيئاً ليكسب المال الوفير، هو يتحرك من أجل مصالحه التي يراها مصالح له، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا﴾ فسوف يكشف الله لهم حقيقتهم، يكشف لهم كذبهم، يكشف لهم نفاقهم، يكشف لهم دَجَلهم، ليسوا على شيء، أنت لست على شيء إلا إذا عرفت الله، لست على شيء إلا إذا أطعته، لست على شيء إلا إذا كنت مؤمناً مستقيماً.
 كلمة "ليس على شيء" : إذا كان الإنسان معتنقاً لعقيدة صحيحة نقول: هو على شيء، وإذا كان لفلان عمل طيب يرضي الله نقول: هو على شيء، وإذا كان فلان ينطوي على علم عميق نقول هو على شيء؛ أي على شيء حقيقي، أما إذا قال الله عز وجل: ليسوا على شيء فمعنى ذلك أنهم ما حققوا شيئاً، وما كسبوا شيئاً، وما نالوا شيئاً، وما وصلوا إلى شيء، وما نجحوا في شيء، فالمنافق لم يحقق من الدنيا شيئاً إلا أنه استحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. 

جهل المنافقين:


﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ﴾ من شدة جهلهم بالله يظنون أنّ الكذب الذي كانوا يكذبونه على المؤمنين ينطلي على الله عز وجل، فهؤلاء الذين يسلكون الحِيَل الشرعية ألا يظنون أنّ هذه الحيل تنطلي على الله، فهم ليسوا على شيء، فعندما تعامل الإله، خالق الكون الذي يعلم السر وأخفى، حينما تعامل خالق الكون الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء على أنه يمكن أن ينطلي عليه شيء، فأنت إذاً لا تعرف الله، فقد أشار الله إلى جهلهم وإلى غفلتهم بهذه الآية: ﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ﴾ فأنت لك أن تقول كل شيء تريد، لكن بربك: ألا تعلم إنك صادق أم كاذب؟ لك أن تنصح الناس بأي شيء لكن بربك ألا تعلم إنك إنما تنصحهم أو لا تنصحهم! فلو كان عند البائع لون كاسد مثلاً، ثم طلب منه شخص أن ينصحه بلون جميل، فأشار إليه باللون الكاسد، غير الجميل، ألا يعلم البائع من نفسه أنه يغشّ المشتري؟ قال الله عز وجل:

﴿ بَلِ ٱلْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾

[ سورة القيامة ]

 فليس هناك من إنسان إلا ويعلم حقيقة نفسه، وقد بلغ النفاق بهؤلاء مبلغاً أرادوا فيه أن يغشّوا الله عز وجل:

﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾

[ سورة النساء ]

 قال تعالى: ﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ﴾ .
 وقال:

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾

[ سورة الكهف ]

 إخواننا الكرام، يجب على الإنسان ألّا يبرّئ نفسه، فكلما بالغ في اتهامها نجح في الخلاص من النفاق، وكلما أكثر من محاسبة نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، فلا تُراعِ نفسك ولا تجامل، ولا تداهن، ولا تتملق نفسك، بل افحصها فحصاً جيداً.

هؤلاء المنافقون: 


أولاً_ أعد الله لهم عذاباً شديداً: أمام المنافق عذاب شديد في الدنيا.
ثانياً_ عمل المنافق سيئ، وسوف يسوءه هذا العمل، 
ثالثاً- هؤلاء يصدون عن سبيل الله وهم لا يشعرون: منفّرون من الله ورسوله.
رابعاً_ هؤلاء لهم عذاب مهين: حينما يفضحهم الله عز وجل.
 إن هذا المال الذي جمعوه بسب نفاقهم وولائهم لأهل الدنيا لن يغني عنهم شيئاً، كذلك أولادهم الذين ضحّوا بدينهم من أجل دنياهم، لن يغنوا عنهم شيئاً أيضاً، فقد يمنع الإنسان ابنه من أداء العبادات من أجل مستقبله القريب، ويُقحِمه في مجالات تُفسِده، يُدخِله في مجالات تبعده عن الله عز وجل من أجل أن يضمن له مستقبله القريب أيضاً..
 فهذا المال الذي جمعوه بنفاقهم، ومداهنتهم، وكذبهم، ودجلهم، وهؤلاء الأولاد الذين أقحموهم في متاهات الضلالة والشهوات من أجل مستقبلهم القريب، قال هؤلاء ﴿لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ*يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ﴾ ما قولكم؟ والله إنه شيء مخيف، أعدّ الله لهم عذاباً شديداً؛ أعمالهم سيئة وسوف تسوءهم، فقد صدوا عن سبيل الله، لهم عذاب مهين، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ وهم فوق كل ذلك يحسبون أنهم على شيء وهم ليسوا على شيء، ويوم القيامة سيحلفون لله كما يحلفون للمؤمنين في الدنيا، وذلك منتهى الجهل، لأن الإنسان حينما يظن أن الله سبحانه وتعالى لا يعرف حقيقته فهو لا يعرفه إطلاقاً. 
﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ﴾ إن الكذب شيء خطير، فإذا فشى الكذب في مجتمع فاقرأ عليه السلام، فالصدق أساس الرقي. 

﴿  يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚأَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(18) ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ(19)﴾

[ سورة المجادلة ]

﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ﴾ ؛ أي: غلبهم وسيطر عليهم، وهيمن عليهم، وسخرهم لمآربه، واستخدمهم لإضلال البشر. 
﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ﴾ لقد أنساهم ذكر الله وطاعته، فإما أنه جعلهم غافلين، وإما أنه جعلهم عصاة، وفي كِلا الحالتين استحوذ عليهم، فأنساهم ذكر الله، فما ذكروه اعتقاداً وما ذكروه طاعة. 
﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾ مَن كان له رغبة في قراءة التاريخ فليقرأ، هؤلاء الذين نافقوا، هؤلاء الذين كفروا، هؤلاء الذين عصَوا، هؤلاء الذين كادوا للمؤمنين ما مصيرهم عبر التاريخ كله؟ مصيرهم إلى مزبلة التاريخ، إلى الهلاك والدمار والندم الشديد، أما هؤلاء الذين وقفوا مع الحق وناصروه، ووالَوا المؤمنين، ودعوا إلى الله عز وجل، فما مصيرهم؟ لقد كان مصيرهم التألق في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾ .

أقسام الناس:


 الناس الرجلان: إنسان يوالي الشيطان والكفار فهو غافل عن الله، مقطوع عن الله، متفلّت، مسيء فهو شقي في الدنيا والآخرة، وهناك إنسان يعرف الله؛ منضبط، موصول، مُحسِن فهو سعيد في الدنيا والآخرة، على كل تقسيمات بني البشر لا يزيد الناس على رجلين:

(( فالناسُ رجلانِ: رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ ))

[ صحيح الجامع ]


معاني (يحادون):


 ايها الإخوة، ثم يقول تعالى في الآية العشرين:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ (20)﴾

[ سورة المجادلة ]

 1- المعنى الأول:

إن الذي يحادِدُ الله ورسوله هو الذي لا يعبأ بحدوده ولا بأمره ولا بنهيه، فلا يقيم حدوده، يخرق حدوده، لا يلقى لها بالاً، ولا يعظّمها، لا يخشى أن يخرقها، يستهين بها.

 2- المعنى الثاني:

إن الذين يحادّون الله ورسوله هم الذين يعادون الله ورسوله، فكيف يُعادي الله؟ يطعن في دين الله، يسخر من أوامر الله، أي أمر إلهي يسخر منه، يقول: هذا الأمر لا يصلح لهذا الزمان، شيء مضحك، يسخر من أوامر الله، فهو يتلذذ في انتهاك حرمات الله.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فإما أنهم لا يعبؤون بحدود الله، أو أنهم يقفون موقف المعادي لله ورسوله.

مصير من يحادّ الله ورسوله:


 قال تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ﴾ هم الأذلة، وكأن الله سبحانه وتعالى هنا يبين أن مصيرهم إلى الذل، وليس هناك من شيء يمكن أن يهزّ أركان النفس ويرضّها رضّاً أليماً كأن يُذلَّ الإنسان، والله -أيها الإخوة- لو قرأتم التاريخ كله لما وجدتم فيه إلا تأكيداً لهذه الحقيقة.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ﴾ فقد تجد أحياناً أخّين في أسرة واحدة، أحدهما مؤمن مستقيم وَرِع، والآخر فاجر منحرف، فقد يكون الفاجر في البداية حرّاً طليقاً يفعل ما يريد، وله شعبية بين أهله، فإن كان أهله منحرفين فإنهم يُكبِرونه ويثنون عليه ويفتخرون به، أما هذا المؤمن المستقيم فيكون بينهم في تعتيم، ولكنك بعد حين ترى أن هذا المنحرف وقع في شر عمله، فإما أن يقع في مرض عُضال، أو فقر مُدقِع، أو ساق الله عز وجل له من الإهانات ما لا يعلمها إلا هو، أما هذا الشاب المستقيم فيرفعه الله في الدنيا قبل الآخرة.

الغلبة لله ورسوله:


﴿  إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ(20) كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)﴾

[ سورة المجادلة ]

 ألا ترضى أن تكون مع القوي العزيز؟ ألا ترضى أن يكون الله سبحانه وتعالى القوي العزيز ناصرك ومدافعاً عنك؟ ﴿كَتَبَ ٱللَّهُ﴾ في اللوح المحفوظ ، فهذا من كلمات الله: 

﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿كَتَبَ ٱللَّهُ﴾ وقد ذكر الله تعالى كلمة ﴿كَتَبَ﴾ من أجل أن يطمئننا إلى أنه شيء ثابت قطعي مكتوب عنده.
﴿كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ﴾ لكن هذا في العاقبة، فالله عزّ وجل يمتحن ويحرّك الأشخاص، فهو أحياناً يحرك الكافر، فيبدو لك أنه أقوى منك، لكن العاقبة لك، في النهاية الأمور لا تستقر إلا على نصرة المؤمن، فالأمور في البدايات قد تتحرك حركة لا ترضي المؤمن، لكن الأمور لا تستقر، فحينما قوي الكفار في عهد النبي وجاؤوا بجيش كبير في معركة الخندق، ثم نقض اليهود العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح الإسلام على وشك الانهيار، لم تكن القضية عندئذ قضية انتصار أو هزيمة، بل كانت قضية نكون أو لا نكون، إلى أن قال أحدهم أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ فقال تعالى:

﴿ هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا(11) إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

 لكنه قال أيضاً:

﴿  مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ صدِّق أيها الأخ الكريم أنه إذا استوى الكافر والمؤمن، والمستقيم والمنحرف، والمحسن والمسيء، والذي يخاف الله والذي لا يخافه، والمطيع والعاصي، والعالِم وغير العالم، إذا استويا كان هذا متناقضاً مع وجود الله، والدليل قوله تعالى:

﴿  أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 فيجب عليك أن تثق بالله وتتفاءل وتوقن أن العاقبة لك إذا كنت مع الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك.

كـن مع الله ترى الله معك    واترك الكل وحاذر طـمعك 

وإذا أعطـاك من يمنعـــــه    ثم من يعطي إذا ما منعـــك

[ عبد الغني النابلسي  ]

 قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ على مستوى أسرة، وعلى مستوى عمل أحياناً، فإذا كان هناك رجلان في عمل مثلاً، وكان أحدهما يريد أن يبني تجارته على معصية الله ولا يعبأ بأوامر الدين، أما الآخر فكان يخاف الله عز وجل ويبني تجارته على طاعة الله، فقد تجد المتفلت في البدايات يغتني سريعاً، لكن الله عز وجل يقصمه بعد حين، أما الخائف من الله فيرفعه الله، فانظر دائماً إلى عواقب الأمور، لأن العبرة بالعواقب، لا بد من بدايات مُحيّرة من أجل أن يُمتحن الإنسان، لكن الأمر لا يستقر بعد حين إلا على إكرام المؤمن وإهلاك الكافر.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ لذلك جاء في دعاء القنوت (سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت) فمن المستحيل أن تكون في صف أعداء الله وأن تكون عزيزاً، ومن المستحيل أن تكون في صف أولياء الله وأن تكون ذليلاً ﴿كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ .

المؤمنون لا يوادّون من حادّ الله ورسوله:


 ثم يبن الله عز وجل في هذه الآية الخطيرة أن الإنسان الذي يودّ من حادّ الله ورسوله لا يمكن أن يكون مؤمناً، قال تعالى:

﴿ لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (22)﴾

[ سورة المجادلة ]

 فهو يعادي الله ورسوله، هو يهزأ بالدين ويطعن به، هو يرى أن الدين لا يصلح لهذا الزمان، هو يسخر من أحاديث رسول الله، هذا الذي يحادد الله ورسوله لا يمكن أن يواليَه مؤمن.
﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ﴾ فإذا كان لإنسانٍ أبٌ غير مستقيم، لكنه لا ينهى ابنه عن العمل الصالح، فهذا لا تنطبق عليه الآية، إذا كان الأب غير ملتزم، لكنه لا يُنكِر على ابنه المستقيم استقامته، هذا الأب يجب أن يُوالى، لأن الله سبحانه وتعالى سيأخذ بيده بعد حين إن شاء الله، أما الإنسان الذي يحارب الدين، ويريد أن يصد الناس عن سبيل الله ويهزأ بالدين فلا يجوز أن يوالى.
﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ إن علاقات العمل شيء، والعلاقات الحميمة شيء آخر، فمن الممكن للإنسان في أي عمل كان أن يتعامل مع إنسان غير ملتزم تعاملاً جيداً في حدود العمل، عليه واجبات يؤديها، عليه مواقف يقِفها كما ينبغي أن يقفها، أما أن يقيم علاقة حميمة مع إنسان يحادد الله ورسوله فهذا أمر من المستحيل أن يقبله مؤمن.
فالله سبحانه وتعالى يقول هنا: ليس في الأرض كلها إنسان مؤمن واحد يود من يحادد الله ورسوله ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾
فالحقيقة تقول: إن هناك شيئاً اسمه التناقض، كما أن هناك شيئاً اسمه التعاكس، فهذه الجدران فيها لون غامق ولون فاتح، فالألوان فيها متعاكسة لكنها موجودة، أما الضوء والظلام فهما متناقضان، فوجود الضوء ينقض وجود الظلام، ووجود الظلام ينقض وجود الضوء، فالألوان هذه متعاكسة، لكنها ليست متناقضة، بينما الضوء والظلام شيئان متناقضان، فدققوا فيما سأقول:
 المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان يتناقض مع إنسان كافر لا يعبأ بالدين، ولا بأمر الله، ولا بنهيه، فهما لا ينسجمان ولا يتوافقان ولا يتماشيان، فإذا تماشيا كان أحدهما ليس على الحق، وقد وافق الطرف الآخر.
﴿وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ﴾ إن هذه الآية تذكرنا بقوله تعالى:

﴿  قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)﴾

[ سورة التوبة ]

 وهذه الآية خطيرة جداً، يعني إذا كنت ترى أن البقاء في هذا البيت أغلى عندك من طاعة الله، أو أن هذه التجارة المشبوهة إن في طريقة تعاملها أو في نوع بضاعتها، هذا المسكن الجيد، وتلك التجارة الرابحة إن كانت أغلى عليك من الله ورسوله، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ أي إن طريقك إلى الله في هذه الحال غير سالك، إن كان هناك أشياء تؤثرها على طاعة الله، وهذه الآية نفسها: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾ فالمؤمن قلبه ممتلئ بالإيمان، ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ المؤمن مُسدَّد، المؤمن مؤيَّد، المؤمن كلامه مؤثِّر، المؤمن عمله حكيم، المؤمن مُلهَم، المؤمن يتولاه الله، فيسدد خطاه، ويلهمه الصواب، ويدله على الخير، ويعينه عليه، وهذا هو معنى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ فإذا أيّدك الله تعالى تفعل الشيء المستحيل، إذا كان الله معك، خالق الكون أيّدك، فأحياناً قد يتكلم الإنسان كلاماً مؤثراً، أو يتصرف تصرفاً حكيماً، يتكلم كلاماً فصْلاً، يتكلم فيأسر القلوب، فيكون هذا بتوفيق الله وتأييده، ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ فتصور أن هناك آلة كهربائية لا تتحرك بسبب عدم وجود الكهرباء فيها، فالمروحة مهما حرّكتها بإصبعك فإنها تدور دورتين ثم تتوقف، أما إذا جاءت القوة الكهربائية فإنك لن ترى حركة الريش من سرعتها، فإذا كان الإنسان بعيداً عن الله فهو كأنما يحرك المروحة بيده، أما إذا جاءت القوة الكهربائية لهذه المروحة دارت بسرعة مذهلة، فإذا استمد الإنسان من الله العون والتوفيق يفعل ما لا يفعله الآخرون، فهل تصدق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الذين لا يزيدون عن بضعة آلاف قد وصلوا إلى أقاصي الأرض فاتحين، ألم يخطر ببالك هذا السؤال: بضعة آلاف وصلوا إلى الصين، إلى بلاد الأندلس، ففتحوا البلاد، واليوم هناك مليار ومائتا مليون مسلم معاصر وضعهم لا يرضي! هذا السؤال دقيق، وجوابه سهل، وهو قوله تعالى:

﴿  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)﴾

[ سورة مريم ]

 ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ ألا تتمنى أن تكون مؤيّداً من الله عز وجل؟ ألا تتمنى أن يكون الله معك دائماً يُلهِمك الصواب ويدلك على الخير ويعينك عليه ويدافع عنك، ويعطي كلامك قوة تأثيرية؟
﴿وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ الحقيقة عندما قال ربنا عز وجل:

﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّٰتِ عَدْنٍۢ ۚ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ(72)﴾

[ سورة التوبة  ]

 فأعلى مرتبة يمكن أن ينالها الإنسان هي أن يرضى الله عنه، فمن هو الذي يرضى عنه خالق الكون، فأنت كمؤمن مهما كان حجمك صغيراً، فقد تكون موظفاً بسيطاً، أو صانعاً بمحل، لكن إذا كان الله راضياً عنك فأنت ملك الملوك، إذا كان الله راضياً عنك فأنت أسعد الناس، إذا كان الله راضياً عنك فالله معك ولا أحد في الكون يستطيع أن يصل إليك، (إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك ؟)
 أيها الإخوة الكرام، إن هذه مرتبة متاحة لكل إنسان بطاعة الله، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾ فالمؤمن إذا عرضت عليه الدنيا بأكملها على أن يعصي الله فإنه لا يعصيه، فيستوي عنده التِّبر والتراب، يستوي عنده كل شيء دون أن يعصي الله عز  وجل ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾ والناس يتوهمون أن الإيمان كلمة قالها إنسان، لا، إن الإيمان مرتبة راقية جداً.
 ﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ﴾ وحينما يرضى الله عنهم يتجلى على قلوبهم، حينما يرضى عنهم يسعدهم، فإذا أسعدهم رضوا عنه ﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ .  
﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ﴾ الحقيقي طبعاً، كما أن هناك حزب الشيطان ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾ وهنا قال تعالى: ﴿ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور