- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
الحج مناسك و مشاعر :
أيها الأخوة الأكارم ، مع اللِّقاء الثالث من لقاءات مناسك الحج ، وقد تَحَدَّثنا في اللِّقاء السابق عن الإحرام ، وعن محْظوراته ، وبعد أن أحْرم الحاج واتَّجه إلى مكَّة المُكَرَّمة ، بقي أمامه دُخول مكَّة زادها الله شرَفاً وتعظيماً . وقبل أن نمْضي في الحديث عن تفاصيل مناسك الحج بعد الإحرام ، لا بدَّ من ملاحظة .
أيها الإخوة الأكارم ، الحجّ مناسك ، لكنَّ هذه المناسك لا بدّ لها من مشاعر ترافق هذه المناسك ، فإذا خَلَتْ هذه المناسك من المشاعر يشْعر الحاج بِعَدم جدْوى حجِّه ، ولا أقول : بعدم صحَّة حجِّه ؛ لأنَّ أمر الله عز وجل أعظم وأجلّ من أن يأمرك من أن تأتي من بلادٍ بعيدة وتدفع عشرات الألوف من أجل أن تقوم بِحَركات وسكنات ، ولا تشْعر معها بِشَيْء ، فهذا الذي أتمناه عليكم ؛ فإذا طاف أحدكم ولم يشْعر بِشَيْء ، وسعى ولم يشْعر بشَيْء ، وخواطره مُتَعَلِّقة بالدنيا ، ينبغي أن يعدّ هذا مُؤَشِّراً خطيراً في حياته ، كيف أنَّ الإنسان يجد ضوءًا أحْمر يتألّق في مرْكَبَتِه ، فهذا الضوء الأحمر مُؤَشِّر خطير ، وذلك أنَّ الزيْت انتهى في المُحَرِّك ، وربَّما احْترق المُحَرِّك .
فيا أيها الأخوة ، الدِّينُ النَّصيحة ، فإذا طُفْتَ البيْت ، وسَعَيْتَ بين الصفا والمرْوة ووقَفْتَ في عرفات ، ونَفرْتَ إلى مِنى ، وفي أثناء الصلاة ، وفي أثناء الدعاء ، لم تشْعر بِشَيْء إطْلاقاً فهذا مُؤَشِّر خطير ، ماذا تفْعل ؟ تُتابِع المناسك على هذه الطريقة ، ويجب أن تُراجع نفْسك وتبْحث عن السَّبب وعن العلَّة ؛ لعلَّ هناك تقْصيرًا ومعْصِيَة ، وأنا أقول لكم - وهو ليس مفْروضاً عليكم - : إذا طُفْت البيْت ولم تشْعر بِشَيْء أعِدِ الطواف ، لأنَّك أنت هناك للطاعة والعبادة ، هل هناك في الحرمين الشريفين شيءٌ يُغْريك غير الصلاة أو الطواف والدعاء ؟ أنا أقول لكم : هناك حجَّاج مَحَلُّهم الأسْواق والشِّراء والأقرباء ، فهم من دون أن يشْعروا انْتَقَلوا من عبادة عظيمة إلى سِياحة ممتِعَة ! ومن لوازم السِّياحة الأكْل الطّيِّب ، والمناظر الجميلة ، والكلام المُمْتِع على حِساب مشاعر الإيمان التي كان ينبغي أن يشْعروا بها ، وهم يؤَدِّون مناسك الحجّ .
الحجّ رِحْلةٌ روحِيَّة لها ميزاتٌ خاصَّة :
إذاً بادئ ذي بدْء دخلتَ إلى مكَّة ، وزُرْتَ الكعبة وطُفْتَ حولها ، وسَعَيْتَ بين الصفا والمروة ، فإن لم تشْعر بِإقْبالك على الله ، وإن لم تشْعر بوجل واضْطِراب وقُشَعْريرةٍ ودموعٍ تنْهَمِر ، إذْ أنَّك في ضِيافة الرحمن فهذا مؤشر خطير ، وأنا أقول لك : صلاتك في البيْت الحرام، وصلاتك في مقام النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم غير صلاتك في بلدك ، إذا صحَّ التعْبير صلاتك في بلدك كأنَّك تسْبح معاكِساً للنَّهْر ، لكنَّ صلاتك في الحرمين الشريفين كأنَّك تسْبح باتِّجاه النَّهْر ، وبِبَساطة يخْشع قلبك وتتأثَّر ، لأنَّك في ضِيافة الرحمن ، فأوَّل عطاء إلهي تسْتحِقّه هناك أن يتَجَلَّى على قلبك ، وأن يُشْعِرَك بِطَعْم اللِّقاء وطعْمِ القُرْب ، ففي بلدك يمكن أن تُحاول أن تخْشع فلا تتمَكَّن إلا أنَّه هناك أدْنى مُحاوَلَة تفْعلها في البيت الحرام تجد الجواب جاهِزاً، وهو التَّجلي ، فالأمر أعظم بِكَثير ، إنَّنا دخلْنا مكَّة ، ما شاء الله ، ما هذه الشوارع وهذه الجُسور وهذه الإضاءة ؟ وقد يقول : ربَّما حرمُهم يمْلك إضاءة قطْرنا كُلِّه ! خطر بِبالي أن أضع بينكم هذا المثل : دعوْتُ أخوةً لنا لِيَتَغدُّوا ، فجاء أحدهم ، وحينما حضر رفع العتب وما أكل ، أنا أحرص على أن يأكل ، وكذا إذا دعانا ربُّنا إلى بيته ، لا من أجل أن يسْقط عنا الفرض ، وهو يسْقط لا شكّ ، فالله تعالى حينما يدْعو عبده إلى بيته فقط من أجل ألاَّ يُحاسبه على تقْصيره ، بل هناك دعوة إلى اللِّقاء مع الله عز وجل ، وضَعْ في ذِهْنِك أنَّ هذا الحجّ رِحْلةٌ إلى الله ، وهي رِحْلة روحِيَّة لها ميزاتٌ خاصَّة فالذي يُؤْلموني أشَدَّ الألم أنَّهُ في كُلِّ عام أُهَنِّئ الحجاج القادمين ، فأصبحتْ لي هواية أن أسْتَمِعَ إلى ما يقولون ، ستون بالمئة منهم أو ثمانون بالمئة ولا أُبالغ يُحَدِّثُكَ عن كُلِّ شيء إلا عن الحج ، يحْكي تفاصيل رُكوب الطائِرة ودُخول جدَّة، وتفاصيل الطعام والمَحَلات التِّجاريَّة ، وتفاصيل مُعاملة الجوازات ؛ هل هذا هو الحج ؟! إلهٌ يدْعوك إلى بيته من أجْل العبادة ثمَّ تنْقلب إلى سائِح !!
أوَّلاً أنت مُحْرم ، بالإحرام نركب الطائرة ، ومحَطَّةُ الطائِرَة في مطار جدَّة ، وخرجْنا من المطار ، واتَّجَهْنا إلى مكَّة المكرَّمة ، ثم يتَوَجَّه الحاج بعد إحرامه إلى مكَّة أوَّلاً ؛ ما معنى ذلك ؟ إذا كان لك صديق أو قريب فهذه الزيارات الجانِبِيَّة دليل عدم الشَّوْق الكافي ، أما إن ذَهَبْتَ قبل الحج إلى جَدَّة فلا مانع ، ولكن ليس في أيام الحج الحَرِجَة ، لذلك فالآداب أن يتَوَجَّهَ الحاج بعد إحْرامه إلى مَكَّةَ أوَّلاً ، فإذا دَخَلَ حُدود الحرَمِ - أي حرَمَ مكَّة ، وأيّ كتاب ممكن أن تجد فيه حدود الحرم - يُسْتَحَبّ أن تقول : اللهمّ هذا حرمك وأمْنك ، فحَرِّمْني من النار وأمِنِّي من عذابك يوم تبعث عبادك ، واجعلني من أوْليائك وأهل طاعتك ؛ هذا قبل دُخول مكَّة ، فإذا وصل إلى مكَّة يسْتحبّ أن يغْتَسِل اتِّباعاً للسنَّة قبل أن يبْحث عن بيْتٍ ، يمكن أنه في الأيام السابقة كانت هناك أماكن للاغْتِسال ، أما الآن فلا يوجد أماكن تغْتَسِلُ فيها بِمَكَّة إلا في بيتٍ ، فإن كنتم أعضاءً في فوجٍ فهذه المُهِمَّة مُعْفَوْن منها ، والله عز وجل سَخَّر لكم أُناساً يبحثون لكم عن هذا البيت والمُقام .
البِداية الناجحة يعْقِبُها نِهاية ناجحة :
هناك نقْطة سَأضَعُها بين أيْديكم ، إن في مَكَّة أو المدينة الذي يحْصل عند بعض الحجاج أنه بِمُجرَّد أن وصل إلى المدينة ، علْماً أنَّ الإنسان أغلب الظنّ يكون له يومان إن لم نقل أكثر لم ينَمْ فيهما ، فإذا كنت مُنَهك القوى ، وخائر العزيمة ، ومتاعب المطار ، وانْتِظار الطائرة ، والصُّعود للطائرة ، والنُّزول من الطائرة ، والانْتِظار في الدَّوْر ، إذا أردْتَ أن تدْخل مكَّة المُكَرَّمة مُباشرةً رُبَّما تُفاجأ أنَّ تعَبَكَ الشديد وقواك المُنْهمرة حالَ بينك وبين هذا الحال القلبي الرائع الذي ينبغي أن يشْعر به الحاج إذا دخل مكَّة ، فهذه نصيحة أخَوِيَّة لا علاقة لها بِمَناسك الحج اِبْحث عن بيت ، وانْطلق إليه ، واغْتَسِل ، وخُذْ قِسْطاً من الراحة ، والْبِسْ ثِياباً جديدة ، أو المناشف الجديدة ولا تدْخل إلى الحرم المكِّي إلا وأنت في كامل قِواك ، لأنَّ البِداية الناجحة يعْقِبُها نِهاية ناجحة ، ولأنَّك إن دخلت مع التعب والإرهاق لِتَطوف سبعة أشواط مُتتالِيَة ، وبعْدها تسْعى بين الصفا والمروة سبْعة أشْواط ، وتُصَلي بعدها ، فأغْلب الظنّ لن تشْعر بالمشاعر التي ينبغي أن تُرافق المناسك ، وإذا لم تشْعر بها شَعَرْتَ بِما يُسَمَّى الإحْباط ، فلئلا تقعوا في هذه المُشْكلة أنْصَحُكُم أن تتَوَجَّهوا إلى البيت الذي أُعِدَّ لاسْتِقْبالكم ، وأن تأخذوا قِسْطاً جيِّداً مديداً من الراحة ، وأن تنْطلقوا للطواف في أوْقات يُرَجَّحُ أنَّها أقلّ الأوْقات ازْدِحاماً ، فلو أنَّك انْطَلَقْتَ إلى الحرم بلا خبرة ، وكان هناك ازْدِحام شديد ، وهذا دَفَعَك ، والآخر أزاحك ، وذاك عَصَرك ، وأنت أوَّل مرَّة تدخل فيها إلى الحرم ، فأنا أريد أن تكون خِبْرات الآخرين بِأَيْديكم ، فالذين حَجُّوا ثلاثين حَجَّة يعْرِفون من أين تُؤكَل الكَتِف ، فعلى سبيل المثال لو أنَّ أحداً ذهب للحرم المدني وصلى الفجْر وبعد الصلاة مباشرة ذهب إلى المقام النبوي الشريف سَيَجِد ازْدِحاماً لا يوصف ، ودفْعاً غير معقول ، ولا يزال يدْفع حتى يجد نفْسه في الطريق ، أليس كذلك ؟ فأين المشاعر إذاً ؟ وأين الشوْق وأين المقامات التي يتحدَّث عنها العلماء في الخطب ؟ لذلك أنا أنصح أخواني بِصلاة الفجْر ؛ صَلِّ الفجْر واجْلس لتقرأ القرآن ساعة ، حتى ينْفضّ أكثر المُصلين إلى البيوت ، وفي الساعة السابْعة بإمكانك أن تقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام نصف ساعة أمام الحائط من دون أن يُزْعِجَكَ أحد ، طبْعاً كُلُّ إنسان لا بدّ أن يقع في ِخطأ في أوّل حجّه ، لكن باعتبار أنَّكم أعضاء فوْج ، وأُمناء الأفواج خبراتهم بين أيديكم مبْذولة ، فاسْألوا : أيّ الأوقات المناسبة للطواف حوْل الكعْبة ؟ فلو ذهبت وقْت المغْرب والعشاء، ووجدْتَ ازْدِحاماً غير معْقول ، فالأفضل الطواف على الساعة الثانية عشرة ليلاً أو الساعة الثانية ليلاً ، أو الساعة الثالثة بعد الظهْر ، حيث يكون هناك حرّ شديد ، وأنت شاب ومعك مظلة ، إذْ يمكن اسْتعمالها في أثناء الطواف ، وليس المهمّ أن تطوف ، وإنما المهمّ أن تشْعر أنَّك تطوف ؛ تأدية المناسك مع حصول المشاعر، والله لو بكى أحدكم في أثناء الطواف من شِدَّة القرب يعْرف أنَّ هذا هو الحجّ ، وهذا هو الصلْح مع الله ، وهذه هي حجَّة الفرْض ، وهكذا أمرَ الله بتأدية الحجّ ، والقُرْب يُعَبَّر عنه بالبكاء أحْياناً ، وبالقُشَعْريرة ، وبالوَجَل أو الخوف ، وبالسرور أحياناً ، فهذه هي مشاعر الحاج .
ما يستحب في مكة :
يُسَنّ أن تدْخل مكَّة حافِياً ، ويجوز أن تمْشي حافياً وقْتاً مُعَيَّناً ، دليلاً على التواضع إلا أنَّ الأوْلى أن تكون مع المجموع في الأمور الفرعيَّة ، ويُسَنّ أنْ يتجَنَّب الحاج إيذاء الناس ومُزاحمتهم ، وأنْ يتلّطَّف ويرْحم إخوانه الحجاج ، ويُسْتحبّ أن يكون أوَّل عملٍ له حينما يدْخل مكَّة الطواف ، وذلك قبل السَّكن وتغْيير الثِّياب ، وقد علَّقْنا عليها تعليقًا بسيطًا وهو أنَّ السفر كان على مراحل ، أما الآن فقد صار مُتَّصِلاً ، فقد وصل المُتَحَدِّث في الحج الماضي منهكًا ، يقول : يمكن أنّه لم يمرَّ بِحياتي منذ خمْسين عاماً شُعورٌ بالتَّعَب المُتَّصِل كهذا الوقْت .
فإذا أراد الحاجُّ أن يدْخل الحرم ، أي المسْجد الحرام ، فعليه أن يسْتحضِر الخُشوع والخُضوع لله تعالى ، ويبْدأ الدُّخول بِرِجْلِهِ اليُمْنى قائِلاً : أعوذ بالله العظيم ، وبِوَجْهه الكريم ، وسُلْطانه القديم من الشيطان الرجيم ، بسم الله والحمد لله ، اللهمّ صلِّ على نبِيِّنا محمَّد وعلى آل محمَّد ، اللهمَّ اغْفِر لي ذُنوبي ، وافْتَحْ لي أبواب رحْمتك ، إذْ أساساً دُخولك لى المسْجد من أجل الرَّحْمة ، وخُروجك منه من أجل الفضْل ، وقد عَلَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخَلْنا المسْجد أن نقول :" اللهم افتح لي أبواب رحْمتك . . . ." فإذا خرجت من المسجد :" اللهمّ افتح لي أبواب فضْلك "، فالمسْجد لنزول الرحمة ، وخارجه لاكتساب فضل الله تعالى ، وهناك بشارة لكم وهي إذا وقع بصرك على الكعْبة أوَّل مرَّة ، هناك دعْوة مُستجابة ، فاطْلب وتمنَّ ، هكذا ورد في السنَّة، وإذا كنت بطلاً فاسْأل الله خير الآخرة قبل خير الدنيا ، فالدنيا زائلة ، اللهمّ اهْدِني واهْد بي ، اللهمّ دُلَّني عليك ولا تجْعل حوائِجي إلا إليك ، اُدْع ساعة مثلما تريد ، شُغلُك هو الدعاء والمناجاة والاتِّصال بالله ، فينبغي أن تدْعو ، لأنَّ لك دعْوةً مُسْتجابة ، ولك دعوة مُسْتجابة إذا الْتَزَمْتَ المُلْتَزَم ، وكذا عرفات ، فالمَنْسَك الواحد فيه الدعاء ، فالصلاة تُجْمع وتُقْصر من أجل الدعاء ، وأقول لكم : يا خَيْبة الحاج إذا اشْتَغَل بِعَرَفات بغير الدعاء ، ويا خسارته ، وقد أتى من بلادٍ بعيدة ودعاه المولى عز وجل لِيَسْتجيب له ، ويغْفر له ، لذلك من وقف في عرفات ولم يغْلب على ظَنِّه أنَّ الله تعالى قد غفر له فلا حجَّ له ، أنت في ضِيافة أكرم الأكرمين ، وأنت تأتي لهذه البلاد وليس لك لا أهل ولا تجارة ، ولا مصالح ولا منافع ، كُلُّ هذا من أجْل الله . أذكر أوَّل حجَّة بِعَرفات ، كان الحرُّ شديدًا ، فناقشْتُ نفسي وقلت : يا ربّ أنْ يأتي الباكستاني من عشرات ألوف الكيلومترات ، ويدْفع آلاف الدولارات من أجل أن يقف في هذا المكان كالصَّنَم؟! ليس هذا هو الحج ! إنما الحج لِقاءٌ مع الله ، ولذلك : لَبَّيْك اللهمّ لبَّيْك أساسه نداءٌ تسْمعه ؛ تعال إليَّ يا عبدي ، وإلى ضِيافتي ، ولِأُريحك من هُمومٍ كالجبال . فإذا وقع بصر الحاجِّ على الكعبة المُشرَّفة ، رفع يديهِ وقال : " اللهمَّ زِدْ هذا البيت تشْريفاً وتعظيماً ، وتكْريماً ومهابَةً ، وزِدْ من شَرَّفَهُ وعَظَّمَهُ ممَّن حجَّهُ واعْتَمَرَهُ تشْريفاً وتعْظيماً وتكْريماً وبِراً ، اللهمّ أنت السلام ومنك السلام ، تباركتْ يا ذا الجلال والإكرام " ، وقد ورد أنَّهُ يُسْتجاب دُعاء المُسْلم عند رؤيته للكَعْبة المُشَرَّفة ، فلْيُكْثِر من الدُّعاء ، فعليك أن تأخذَ قِسْطاً وافِياً من الراحة حين وُصولك لِمَكَّة ، واغْتسِل وارْتَدِ المناشف الجديدة ، وتوَجَّه إلى الكعْبة وحينما يقعُ بصرك على الكعْبة أكْثِرْ من الدُّعاء ما اسْتَطَعْتَ .
وإذا دخلتَ البيت الحرام فليس هناك صلاة تَحِيَّةِ المَسْجد لكِنَّ طوافك هو التَّحِيَّة ، أما إذا وَجَدْتَ أنّ هناك ازْدِحاماً لا يُحْتَمَل ونُصِحْتَ أن تبْقى إلى ساعَةً متأخِّرَةٍ من الليل قبل أن تطوف فصلِّ حينئذٍ ركعتين تَحِيَّةً للمسْجد ، ولا تُصَلَّى ركعتا تحيَّة المسْجد إلا إذا أخَّرْتَ الطواف عن وقْتِ دُخول المسْجد .
بِحَسَب الدرْس السابق ، إذا أحْرمْتَ مُفْرِداً فطَوافُكَ طواف القُدوم ، وإذا أحْرَمْتَ مُعْتَمِراً وفي نِيَّتِكَ أن تتمَتَّع بين العمرة والحج فَطَوافك طوافك الرُّكْن ، فالأمْر يخْتلف بين طواف السنَّة - طواف القُدوم ، وبين طواف الركنٍ - وهذا بِحَسَبِ النِّيَّة ، وقد اتَّفَقْنا جميعاً على أنّ أنْسب حجَّةٍ لنا الحج المُفْرِد ، فإذا أحْرَمْنا من رابغ أحْرَمنا بِحَجّ ، فهذا الطواف طواف القُدوم .
كيفية الطواف :
كيْفِيَّةُ الطواف : الكعْبة فيها رُكْن يماني ، والحجر الأسْود ، ولها أربع جِهات اتِّجاه نحو الشام ويُقابله الحِجْر وهو القوْس ، ونحو اليَمَن الرُّكْن اليماني ، والشرْق الرُّكْن العِراقي ، والغرب معْروف ، فأنت يجب أن تأتي الكعْبة من جِهَتِها المُقابلة لليَمَن . فيستقبل الحاجُّ القبلة من الجهة التي بين الركن اليماني والحجر الأسود جاعِلاً الحجر عن يمينك ، ومَنْكِبَكَ الأيْمن عند طرف الحجر ، وهذا سنَّة ، وإلا فهناك طريقة أُخرى أشْرحها بعد قليل . وتكون الكعْبة على يسار الحاجِّ ، ويمْشي فيَتَجاوز الحجَر وفالباب ، حتى يبْلغ الركن العِراقي ، ولا يفْعل في الأشْواط التالية ما يفعله في المرة الأولى ، أي أن تتَّجِه إلى الكعْبة من عند الحجر . قبل أن نمْضي في الحديث عن كيفيّة الطواف ، لا بدَّ من شروط الطواف .
شروط الطواف :
شروط الطواف : أوَّلاً : الطهارة من الحدث الأكبر والأصْغر ، والطهارة من النَّجاسة ، فإذا انْتَقَضَ وُضوءك في أثناء الطواف فقد لا تُصَدِّق أنَّك تحْتاج إلى أكْثر من ساعة ونِصْف كيْ تُعيد الوُضوء لأنَّهُ ليس في الحرم المَكِّي دَوْرة مياه إطْلاقاً ، إلا مكان الشُّرْب ، وحينما تُحاوِل أن تتوضَّأ بِمَكان عالٍ ، تجد مَشَقَّة ما بعْدها مَشَقَّة ، فَمُلَخَّص كلامي ؛ الأوْلى قبل أن تدْخل البيت الحرام أن تنْقُضَ وُضوءك ، وأن تقْضي حاجاتك ولو بِشَكْلٍ قصْري حتى تضْمن أنَّك تبْقى ولو ساعَةً في البيت الحرام ، فَكُنْ مُسْتَعِداً ، ولا تترك قضاء الحاجة يشْغلك عن الطاعة ، فلا تدْخل الحرم المكي إلا متوضَّئًا ، وأنت تشْعر بالخِفَّة ، واللهِ لما كنت أحجّ لا أغْبِطُ إلا الشباب ، وأقول : إنَّ الحجّ يحْتاج إلى شباب ! لأنَّهُ سبْعة أشْواط ، وازْدِحام ، وسَعْي ، فالقَضِيَّة ليسَتْ سهْلة لهذه الدَّرجة ! الحجّ عبادة بَدَنِيَّة بأعلى درجات العبادة ، فالطهارة من الحدث الأكبر والأصْغر ، والطهارة عن النَّجاسة .
ثانياً : مُلامسة الرجل المرأة تنْقض الوُضوء عند السادة الشافِعِيَّة ، فإذا كان الإنسان شافعِياً ومَسَّتْ يده امْرأة أجْنَبِيَّة عنه انتقض الوضوء ، إلا أنَّني أُبَشِّرُكم وأُطَمئِنُكم وأنتم في الحرم المكي ؛ صَدِّقوني إذا كنت مُخْلِصاً وصادِقاً ، وتبْتغي وجْه الله عز وجل لا تشْعر أنَّك رجل ، وأنَّ عنْصر النِّساء لا يدْخل في حِسابك إطْلاقاً ، بِمَعْنى إذا مسَّت يدك يد امْرأة لا تشْعر بِشَيْء إطْلاقاً لأنَّك في مكانٍ عظيم ، فهذا الموضوع ينْتَسِخ كُلِيًّا ، وهي مُلاحظة أضعُها بين أيديكم ، قَلِّدْ المذْهب الحَنَفي وأنت مُطمئنّ ، لن تشْعر بِشَيْء من جهة النِّساء ، إلا إن كان ذهابك لِشَيْء آخر فهنا تكون علامة الاسْتِفهام . والطهارة عند الأحناف واجبة وليست بِفَرْض ، فمن طاف طواف الإفاضة مُحْدِثاً حَدَثاً أصْغر فعليه دم ، أي هَدْي ، أما عند الشافِعِيَّة فالطهارة شرْط لِصِحَّة الطواف ، فالوُضوء شرْط أساسي لِصِحَّة الطواف ، إذْ لا يُعْقل من أجل الوُضوء تُقَدِّم هَدْياً بِخَمْسة آلاف .
ثالثاً : سَتْرُ العوْرة ، وما أكثر الحُجاج الذين يتساهلون فَتَنْزِل المنْشفة عن نصف بطنه ، وتظْهر سُرَّتُه ، ويكون طوافه غير صحيح ، وإذا كان في طواف الرُّكن أصبح حجُّه غير صحيح ، فتجد عَشَرات الحجاج منْشفتهم تحت السرَّة ، لذلك عليك بضبط المنشفة بِشَكْل صحيح حتى تتأكَّد أنَّهُ في أثناء الطواف لن تُكْشَف عَوْرتك .
وأن يكون طوافه ضِمْن المسْجد الحرام ، فإذا دَخَل في الحجر أصبح طوافه باطِلاً ضِمْن المسْجد وخارج الكعْبة ، لأنَّ الحِجْر يُعَدّ من الكعبة ، فالطواف به باطل ، ولو طاف بالطابق الثاني جاز له ذلك ، كما أنَّني أنصحكم أن تطوفوا حول الكعبة من تحت ، وهذا هو الشعور الروحاني فإن لم تجد ففي الطابق الثاني .
وأن يسْتكمل سبعة أشواط كاملات ، فلو شَكَّ هل طاف سِتَّةً أو سبْعةً ماذا يفْعل ؟ أخذ باليقين ، وهو السِتَّة ، أما عند الأحناف إذا شَكَّ في الطواف عليه أن يُعيد الطواف ! وهذا في طواف الركن ؛ وطواف الإفاضة ، وهو أخْطر طواف ، فإذا شَكَكْتَ فالأولى لك أن تُعيدَهُ ، إلا أنَّ هناك طريقًا يمكنك أن تسْتعملها كي تعرف عدد الطواف ، ولكن ليس أن تأخذ سُكَّرَة ولما تنْتهي من أكلها تدرك أنَّك طفْتَ سبْعاً !! لأنَّك إن شككْت بالركن عليك الإعادة ، أما إن شككْتَ بغير الركن كَطَواف القُدوم فيُمْكن أن تبْني على الأقلّ وتُكْمِل ، أحدهم أخذ كتاباً وبدأ يطوف ثمّ اخْتلط عليه كم طاف فذَهَب لِشَيْخه فقصَّ له ما حدث ، فقال الشيخ : يا بنيّ ، أنت طُفْتَ بالبيْت ولم تطُف بِرَبِّ البيت ، فعاد الغُلام ، والْتَجأ إلى الله ، وأخْلص فإذا به ينْسى كم طاف فعاد لِشَيْخه فقصَّ عليه ما جرى ، فقال الشيخ : أنت طُفْتَ برَبِّ البيت ولم تطُف بالبيت ، فالإنسان عليه أن يجْمع ببين الحال والضَّبْط ، أحدهم سأل شيْخاً فقال : يا شيخ ، لو أنَّ رمضان جاء في شهر الحج فهل أصوم ؟!! هذا سؤال فخّ ؟!! .
إذاً فالطواف بِعَكْس عقارب الساعة ، ومع حركة الذَّرة حول النواة ، كما أنَّ نظام الذَرَّة وحتى المَجَرَّة وكُلُّ ما في الكون يدور عكْس عقارب الساعة .
ثمَّ إنَّ مسألة تقبيل الحجر أيها الأخوة قلتُ لكم : إنَّهُ سنَّة ، وعدم إيذاء المؤمنين فرْض ، فكم هو جاهِلٌ ذاك الذي يُضَحي بالفرْض من أجْل السنَّة ، وما رأيْتُ من مَثلٍ حول هذه الحادثة ، مِن أبٍ حوله أولاده ، جاءه أحد أولاده الأشْقياء ، فرَكَلَ أوَّل ولدٍ فَطَرَحَهُ أرْضاً ، وضرب الثاني ، ودفع الثالث حتى وصل إلى أبيه ، وقال : دعْني أُقَبِّلُ يدك يا أبت !!! وهذا الذي يفعله أكثر الحجاج ، لا يهمُّه الأمْر ، فتجده يضْرب بالمرفق ، مما قد يُصيب الآخرين بالإغْماء ، فأنت يا أخي المؤمن لسْتَ مُضْطرًّا ، فَكُلَّما كان علْمُكَ أعْمق تكون مناسكك أرْقى ، يُمْكن أن تُتاح لك خمْسون حَجَّة ، ولا يُتاح لك أن تُقَبِّل الحجر ، ولا شيءَ عليك ، فمن بعيد تُسَلِّم وتُشير ، إلا أنَّهُ يمكن للإنسان إذا اشْتاق له ، وأراد أن يُقَبِّلَهُ جاء في وَقْتٍ نادر ، فينْتظر دَّوْره ، فهذا لا مانع منه أما أن يدفع ، ويؤذي ، ويجعل بعض النِّساء ينْكَشِفْن من أجل التَّقْبيل فهذا لا يجوز ، ثمَّ إنَّ الحجر الآن قِطَع متناثِرَة ضِمْن بلاستيك شَفاف .
ثمَّ إنَّ المألوف في الطواف في هذه الأيام أن يكون حاجٌّ وراءه مجموعة وبيده كتاب، فهم يُرَدِّدون وراءه ، ولكن أنت كحاجٍّ راقٍ ولك علاقة بالله تعالى ، الشيء الجماعي لا قيمة له ، فأنت إن دعوْت الله في دينك واسْتِقامتك وأمور أولادك ، ثمَّ هذا الدُّعاء الجماعي يُصْبِح مثل الفُلْكلور ، وانتَفَتْ الرُّوحانِيَّة منه ، وهي تحْتاج إلى خلْوة مع الله ، ومن أهَمِّ الأدْعِيَة أن تقول : " اللهمَّ آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار " أجْمل شيء بالحج هو الدعاء ، وأن تدْعو لِزَوْجتك ، وأولادك ، ومن ناسبك .
ونِيَّةُ الطواف واجِبَةٌ في غير الحج والعُمْرة ، فالنِّيَّة في الحج والعمْرة سنَّة ، لأنّ الطواف أساس الحج .
سنن الطواف :
سنن الطواف : أمّا السنن فأن يطوف ماشِياً ، ولو طاف راكباً أو محْمولاً صَحَّ ، وفاتَتْه الفضيلة فليس لأتْفَهِ سَبَبٍ تقول : أريد حمَّالة ! أما لسبب كالمرض ، أو مُقْعد فلا مانع ، اللهمَّ لا تجْعلني لِطَوافٍ محْمولاً .
ومن السُّنَن الاضْطِباع والرَّمَل في الطواف الذي بعْده سَعْي للذَّكَر لا للأنثى، فالاضْطِباع أن تجْعل الرِّداء على الكَتِف الأيْسَر ، والكَتِف الأيْمن مَكْشوف ، هذا هو الاضْطِباع، وأوَّل الأشْواط الثلاث تَرْمُل ، إلا أنَّ الرَّمَل في الطواف المُزْدَحِم مُسْتحيل ، وهو سنَّة من تركه لا شيء عليه ، لكن إذا كنت شاباً ، وأمكنَك إذا وَسَّعْتَ الدائِرَة أنْ ترْمُل فهو أفْضل ، وقد ذكر لي أخوة أطِباء كثيرون وأقسَموا لي أنَّ لهم مئات المرْضى عندما يذْهبون للحجّ يُجَمَّد مَرَضُهُم ! لأنَّهُم في ضِيافة الله تعالى ، فأنا أُطَمئِن كُلّ من له متاعب صِحِيَّة إن شاء الله تعالى لن يجد شيئاً منها وهو في بيت الله ، إذاً الاضْطباع والرَّمَل في الطواف الذي بعده سَعْي بالنِّسْبة للذَّكَر لا للأنثى ، وهو في الأشواط الثلاث الأولى ثمّ يكون الطواف عادِياً .
القُرْب من الكَعْبة إنْ اسْتطاع ، ولم يخْش ازْدِحاماً ولا إيذاءً ، وأمْكن معه الرَّمَل وهو مُسْتَحَبٌّ للرَّجُل دون المرأة .
واِسْتِلام الحجر وتقْبيله عند الطواف الأوَّل ، وعند كُلّ طواف ، واسْتِلامُ الرُّكْن اليماني وتقْبيل اليد بعْده عند مُحاذاته ، فإن خَشِيَ الزِّحام أشار بيَدِه وقَبَّل يدَهُ ، ولا يجوز للنِّساء اسْتِلامُ ولا تقْبيل الحجر والرُّكْن إلا عند خُلُوِّ المطاف ، واللهِ أرادتْ حاجَّةٌ أن تُقَبِّلَ الحجر فَخَرَجَتْ كما خلقها الله تعالى ! هذا لا يجوز ، تَفَقَّهوا قبل أن تَحُجُّوا :
((عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا أَسْدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزَنَا كَشَفْنَاهُ ))
فكيْف إذا خلَعَتْ كُلَّ ما على الرأس من أجْل أن تُزاحم الرِّجال ؟!
وعند اِسْتِلام الحجر الأسود أوَّل مَرَّة يقول : " بسم الله ، والله أكبر ، اللهمَّ إيماناً بك، وتَصْديقاً بِكِتابك ، ووفاءً بِعَهْدك ، واتِباعاً لِسُنَّة نَبِيِّك محمَّد صلى الله عليه وسلم "، ويقول عند كُلِّ شَوْطٍ : " الله أكبر ، ولا إله إلا الله " ويقول في أثناء رَمَلِهِ في الأشْواط الثلاث الأولى : " اللهمّ اجْعله حجاً مبْروراً ، وذنْباً مغْفوراً ، وسَعْياً مَشْكوراً " ، وفي الأربع الأخيرة : " اللهمّ اغفِر وارْحَم واعْفُ عما تعْلم إنَّك أنت الأعزّ الأكْرم ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حَسَنة وقِنا عذاب النار ".
أنْصح أخواننا الكرام أن يقْتَنوا كُتباً صغيرة في الأدعية النبَوِيَّة ، فأنت كيف بك إذا كنت بِصَحْراء في أيام الصيْف الحارة ، أثْمن شيء بِهذه الرِّحْلة الماء البارد ، وأثْمن شيء في الحج أن تحْفظ الأدْعِيَة النَّبَوِيَّة ، فالحجُّ دُعاء ، بِعَرَفَة دُعاء ، وبِمِنى دُعاء ، وبالطواف دُعاء، وبالسَّعْي دُعاء ، وأينما كنت دُعاء ، وما أكثر كتب الدُّعاء ، والأسْواق تَعُجّ بهذه الكُتب ، لأنَّها سبْعة أشواط ، فهل يُعْقل أنْ تَظَلَّ ساكتاً ؟! ولو أدَّى الأمْر أن تدْعوَ بالعامِيَّة ، المهمّ ألا تسْكت احْفظ الأدعية ، وتذاكرها مع إخوانك ، كما أنَّه مما يُفْسد الدُّعاء التفاصيل ، وادْع بِجَوامع الدعاء وبِأدْعِيَةِ النبي صلى الله عليه وسلَّم وأدْعِيَة القرآن .
هناك بعض الأدْعِيَة كأن تقول : " اللهمّ البيت بيْتك ، والحرم حرمك ، وهذا مقام العائذ بك من النار " .
الحج عبودية لله :
اِسْمحوا لي بهذه الملاحظة من خِبْرتي في الحج والعُمْرة : إذا ذهب الإنسان إلى الحج وله مرْكز اجتماعي مُتألِّق بِبَلَدِه وذهب بهذه النَّفْسِيَّة فَصَدِّقوني أنَّهُ يُحْجب عن الله تعالى لماذا ؟ لأنَّ هذا الحج عبوديَّة لله ، فإذا كان لك مرْتبة عسْكَرِيَّة أو دينيَّة أو مدير له شهادة كبيرة كُلُّ هذا اتْرُكْهُ بِبَلَدِك ، وكُنْ عبْداً لله تعالى في هذا الموْطن ، صار الحج لا طعْم له ، وذهب مقْصَدُه ، الكبرياء رداء الله تعالى فلا تُنازعه فيه ؛ هذا الأمْر الأوَّل .
الشيء الثاني : إذا كنت من أهل اليسار ، فلا تقل : أنا أُذِلُّ الدراهم ولا أُذَلَّ ، تضيعُ على الفندق ، فإذا اعْتَمَدْتَ على مالك في الحج فلا ينْفعك مالك ، وإن اعْتَمَدْتَ على مكانتك الرفيعة فالله يُلْهم رجلاً وضيعًا يُهينك في الحرم ، فإياك أن تدْخل الكعْبة ، وأن ترى أنَّ لك مكانةً وحجمًا بالبلد ، فَكُلُّ الرُّتب والمقامات والوجاهات ضَعْها على جنبٍ .
هناك حالة ثالثة إلا أنَّها خاصَّة بالإخوة المُتَفَوِّقين ، أحياناً يكون للرجل منا دَعْوةٌ ببَلَدِه ، طليق اللِّسان ، خطيب مسْجد ، وله التِزام بالدِّين ، فهذا يذهب للحج مُعْتَمِداً على مكانه عند الله عز وجل فَيَنْحجب ! فالحاصل أن تذْهب للحج دون أن تعْتمد على مكانتك ، ولا على مقامك عند الله ، ولا على مالك ، إذاً يجب أن تأتي الحج ، وأنت مُفْتَقِر ، وعَبْدٌ لله تعالى ، لذلك :
(( عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْعَجُّ وَالثَّجُّ ))
فلا تحْتاج إلى أناقة ، إذْ تجد من يتباهى بالمَنْشَفة التي يلفُّها عليه ، وذاك يقول لك: أخذْتُ هذا النعل بثمانين ريالاً ! هل هذا الكلام يُقال وأنت في بيتِ الله تعالى ؟! فيا أيها الحجَّاج عليكم بالافْتِقار .
أحياناً تكون للإنسان مكانة في مجْتمعه تمْنعه من الجلوس في أرض المطار ، وهو ذاهب للحج ، إلا أنَّ الأمْر يخْتلف في الحرم المكِّي وغيره ، فتجد هذا الأخير في الدرج ، وفي الأرْض ، ويضْطجع على الأرض ، ويركب أتعس سيارة ، فالتواضع في الحج مُمْتِع ، فالطبيعة هي التواضع وليس التكَبّر ، والحج العج والثجّ ، شعْر طويل ، وعرق ، ولهَث ، كُلُّ هذا جائِز لأنَّك في مقام العُبودِيَّة ، وجهاد الضعيف والمرأة الحج ، ألا أنه جهادٌ لا شَوْكة فيه .
تتمة سنن الطواف :
من سنن الطواف الموالاة بين الأشواط ، فالأفضل ألا يفرَّق بين أشواطه بِشَيْءٍ ولو بطل وُضوءه في أثناء طوافه تَوَضَّأ ، وبنى على طوافه أيْ أتَمَّهُ ، صحَّ ، إلا أنَّ الأفْضل أنْ يستأنِفْ ، ويبْدأ طوافه من جديد .
وينبغي أن يكون في أثناء الطواف خاضِعاً خاشِعاً حاضِرَ القلب مع الله تعالى ومُتأدِّباً مع المقام الذي هو فيه ، ظاهِراً وباطِناً ، فهُوَ في صلاةٍ ، وأيُّ صلاةٍ فهو يطوف بِبَيْتِ خالق الكون سبحانه وتعالى .
مكروهات الطواف :
مكروهات الطواف : ويُكْرَهُ التَّكَلُّم في أثناء الطواف إلا بِخَيْرٍ ، كأمْرٍ بالمعروف ، ونَهْيٍ عن المنْكر ، فلو وقع لأحَدٍ من الطُّوافين ساعة فعليك أن تُنَبِّهَهُ ، فالطواف عبادة وصلاة، إلا أنَّهُ ليس كالصلاة يمكن أن تتكَلَّم من أجل الخير .
ويُكْرهُ الأكْل والشُّرْب في أثناء الطواف ، وتَشْبيك الأصبع والفَرْقعة ، ويُكْرهُ الطواف مَحْصوراً أو جائِعاً ، ولْيَخفض بصره ، وبعْضَهُنَّ كاشِفات الوَجْه ، فالإنسان بِبَلَدِه عليه أن يَغُضَّ بصره ، فكيف بالبلد الحرام ؟!! وبعد اسْتِكمال الطواف يُسَنُّ سنَّةً مُؤكَّدة أن يُصلي ركْعتين ، والجَهْلُ كلّ الجهْل حينما يحْرص الحاج أنْ يُصَليّ عند مقام إبراهيم ، فمع أنَّ هذه سنَّة إلا أنَّهُ يُسيء للحجاج وللطائِفين فتجد كُلَّ الحركة سَهْلة إلا عند مقام إبراهيم حيث المُزاحمة والمُشادَّة ، وهذا يدُسّ فوق المُصَلِّي وتنشأ معارك ومُدافعات ، نسْأل الله العافية ، وأنا أرْجوكم أن تُصَلوا هاتين الركعتين في أيِّ مكان بعيدٍ عن مقامِ إبراهيم ، أنت في عبادة هل يُعْقل أن تؤذي المسلمين ؟! لذلك صَلِّها بِمكانٍ بعيدٍ وأيُّ مكانٍ بالحرم يُجْزئ في الصلاة ، والأفْضل أن يُصَلِّيهما خلف مقام إبراهيم إن أمْكَنَهُ ، ولا يُحْرج بذلك الطائِفين ، فإن لم يُمْكِنْهُ ففي الحطيم ، فإن لم يمْكنه ففي أيِّ مكان من المَسْجد الحرام فلا تؤذِ المسلمين من أجل سنَّة ، إذْ الفرض ألاَّ تؤذِيَ المسلمين ، فتَنَبَّه ! وهاتان الركعتان مطْلوبتان مادام الإنسان حَيًّا ، والأَوْلى أنْ يُصَلِّيهما بعد الطواف على التوالي ، يقرأ بعد الفاتحة الكافرون ، وفي الثانية الإخلاص ، وبعدهما يدْعو بما شاء من خيْري الدنيا والآخرة ، وأجْمل شيءٍ بالحج الطواف ، ففي أيام العيد تكون قد تَحَلَّلْتَ وستُصَلي بالحرم ، ما الذي يمْنعك أن تطوف باليوم طوافاً أو أكثر وبعد كُلِّ أوقات الصلاة ؟ وهو أجمل ما في الحج .
نحن ولله الحمْد كما يقولون بالتعبير العامي قاتَلْنا من أجْل أن يكون الحج من حقِّ أيِّ إنسان لم يحجّ ، ولو كان عمْره ثمانيَ عشرة سنة ، فقد كان سنُّ الحج سابِقاً ثلاثًا وخمسين سنة فما أكثر .