أعزَّائي المستمعين إخوتي المؤمنين ، السلام عليكم و رحمة الله وبركاته .
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ﴾
في هذه الآية الكريمة أيها الإخوة إشارة لطيفة إلى علاقة وشيجة بين شهر رمضان وبين فضل القرآن ، فالقرآن أُنزل في رمضان أو رمضان أنزل في فضله قرآن ، ربما كان شهرُ رمضان إعدادا للإنسان كيما يفوز بالقرآن .
القرآن كلام الله المنزَّلُ على نبيِّه المنقولُ بالتواتر المتعبَّد بتلاوته المتحدَّى بنظمه المعجِز بمضمونه ، قطعيُّ الثبوت لا ريب فيه ، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه ، يهدي لِلَّتِي هي أقومُ ، لا يحزن قارئُه .
وهو كما قال الإمامُ عليٌّ كرَّم الله وجهه : نورٌ لا يُطفَأ مصباحُه ، وسراجٌ لا يخبو توقُّده ، وبحر لا يُدرك قعرُه ، ومنهاجٌ لا يضلُّ سالكُه ، وفرقان لا يُخمَد برهانُه ، وتبيان لا تُهدَم أركانُه ، وشفاءٌ لا تُخشَى أسقامُه ، وعزُّ لا يُهزَم أنصارُه ، وحقٌّ لا يُخذَل أعوانه ، وهو معدِن الإيمان وينبوع العلم ورياض العدل .
أيها الإخوة الأحباب ؛ حينما يقتني أحدُنا آلةً بالغة التعقيد غالية الثمن ذاتَ نفع عظيم تراه حريصا حرصا لا حدود له على اقتناء الكُتيِّب الذي تصدره الجهةُ الصانعة ، والذي يتضمّن طريقة الاستعمال وأسلوب الصيانة ، فهو حريص على اقتناء هذا الكتيب حريص على ترجمته حريص على فهمه ، حريص على تنفيذ تعليماته بدقَّة بالغة ، وهذا الحرص نابعٌ من حرصه على سلامة هذه الآلة وعلى مستوى مردودها .
وهذا الإنسانُ أيها الإخوة ؛ بجسده الذي يعد أعقدَ آلة في الكون ، ففي خلاياه وأنسجته ، وفي أعضاءه وأجهزته من التعقيد والدقَّة والإتقان ما يعجز عن فهم بنيتها وطريقة عملها أعلمُ علماء الطبِّ ، وفي هذا الإنسان نفسٌ تعتلج فيها المشاعرُ والعواطف ، وتصطرع فيها الشهواتُ والقيم ، ما يعجز عن تحليلها وتفسيرها أعلمُ علماء النفس ، وفي هذا الإنسان عقلٌ فيه من المبادئ والمُسلَّمات والقوى الإدراكية والتحليلية والإبداعية ما أهَّله ليكون سيِّدَ المخلوقات.
والآن :
ألا يحتاج هذا المخلوقُ الأول كما يحتاج صاحبُ هذه الآلة إلى كتاب من خالقه ومربَّيه ومسيِّره يبيِّن له فيه الهدفَ من خلقه ، والوسائل الفعَّالة التي تحقِّق هذا الهدف .
ألا يحتاج هذا المخلوق الأول إلى كتابٍ فيه منهجٌ يسير عليه ، و يضبط حركاته و نشاطاته من الخلل و الخطل و العبث .
ألا يحتاج هذا المخلوق الأولُ إلى كتاب فيه مبادئ سلامته ؛ سلامة جسده من العطب و سلامة نفسه من التردِّي و سلامة عقله من التعطيل و التزوير .
ألا يحتاج هذا المخلوقُ الأول إلى كتاب فيه مبادئ سعادته فردًا ومجتمعا في الدنيا والآخرة .
إنه القرآن الكريم الذي لا يقلُّ في عظمة إرشاده وتشريعه عن عظمة إيجاد السموات والأرض ، قال تعالى:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) ﴾
و قال تعالى :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ﴾
فكما أن الله جل جلاله يُحمَد على نعمة الإيجاد إيجاد السماوات والأرض ، كذلك يُحمَد وبالقدر نفسه على نعمة الإرشاد ، إرشاد الإنسان من خلال القرآن إلى طريق سلامته وسعادته الأبدية ، فالكونُ خلقُه والقرآنُ كلامه ، وفضلُ كلامه على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .
إنه القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، في كل جانب من جوانب حياته المادية والنفسية والاجتماعية والعقلية ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) ﴾
إنه القرآن الذي إن اهتدى الإنسانُ بهديه و اتَّبع أحكامَه فلن يضلَّ عقلُه ولن تشقى نفسُه ، قال تعالى :
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
إنه القرآن الذي إن سار الإنسانُ على نهجه و استمسك بحبله فلن يخاف في الدنيا و لن يحزن على ما فاته منها ، قال تعالى :
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
إنه القرآن الذي يعِد المؤمنَ من ذكرٍ أو أنثى بالحياة الطيِّبة التي عزَّ نوالُها على كثير من الناس ، قال تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
إنه القرآن الذي يضمن للمؤمنين الشعورَ بالأمن ، ذلك الشعور الذي يُعدُّ أثمنَ ما في حياة الإنسانِ ، بل هو أساس الصحة النفسية ، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾
أيها الإخوة الأحباب ؛ أرجوا اللهَ أن تكونوا قد أفدتم من هذا الموضوع وشكرًا لإصغائكم وإلى لقاء آخر إن شاء اللهُ تعال .
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته