أعزائي المستمعين إخوتي المؤمنين ، السلام عليكم و رحمة الله وبركاته .
أنْ نصل إلى رحمة الله في رمضان ونحظى بها ، فهي سرُّ وجودنا وغايةُ عبادتنا ، رحمةُ الله مقصِدُ كل مؤمن ، إليها تشتاق الأنفسُ ، وبها تطمئن القلوب ، قال تعالى :
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾
بل إن رحمة الله تعالى هي محطُّ الرحال ونهاية الآمال وغاية الغايات قال تعالى :
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ﴾
إلى أن يقول :
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) ﴾
ولكن ما حقيقة رحمة الله ؟ إنها كالروح في الجسد ، بها يقف وبها يتحرَّك وبها يفكِّر وبها يتكلَّم وبها يستمتع ، يسعد بها الإنسانُ ولو فقَد كلَّ شيء ، ويشقى بفقدها ولو ملَك كلَّ شيء ، رحمةُ الله ليست مِلكَ أحد فيمسكَها أو يرسلها ، و لكنَّها في متناول كل واحد من البشر، إذا هو دفع ثمنَها ، قال تعالى :
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) ﴾
و قال تعالى :
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ ما من نعمةٍ يمسك اللهُ معها رحمتَه إلا وتنقلب بذاتها نِقمةً ، وما من محنةٍ تحُفُّها رحمةُ الله إلا وتكون هي بذاتها نعمةٌ ، ينام الإنسانُ على الشوك مع رحمة الله ، فإذا هو مِهادٌ وفير ، وينام على الحرير وقد أُمسِكت عنه رحمةُ الله ، فإذا هو شوكُ القتاد ، يعالج أعسرَ الأمور برحمة الله ، فإذا هي هوادةٌ ويُسر ، ويعالج أيسرَ الأمور وقد تخلَّت عنه رحمةُ الله ، فإذا هي مشقَّةٌ وُسر ، يخوض المخاوِفَ والأخطار ومعه رحمةُ الله ، فإذا هي أمنٌ وسلام ، ويعبُر المناهجَ والسُّبلَ وقد أُمسِكت عنه رحمةُ الله ، فإذ هي مَهلكةٌ وبوارٍ ، رحمة الله لا تعِزُّ على طالب كائنا من كان ، في أيِّ زمان ومكان ، وحال ومآل ، وجدَها إبراهيمُ عليه السلام في النار ، وجدها يوسفُ عليه السلام في الجُبِّ ، كما وجدها في السجن ، وجدها يونسُ عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاثٍ ، ووجدها موسى عليه السلام في اليمِّ وهو طفلٌ مجرَّد من كل قوة وحراسة ، وجدها أصحابُ الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدُّور ، فقال بعضهم لبعض :
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)﴾
وجدها النبيُّ عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار والأعداءُ يتعقَّبون ويقصُّون الآثار ، ويجدها كلُّ مؤمن آوى إليها يائسا مما سواها قاصدا بابَ الله وحدَه من دون كل الأبواب .
أيها الإخوة الأحباب ؛ يبسُط اللهُ الرزقَ مع رحمته ، فإذا هو متاعٌ طيِّب ورخاءٌ ، وإذا هو رغَدٌ في الدنيا وزادٌ إلى الآخرة ، ويمسك رحمتَه فإذا هي مثارُ قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسدٍ و بُغضٍ ، وقد يكون معه الحرمانُ ببخلٍ أو مرض ، وقد يكون معه التَّلفُ في إسراف أو استهتار ، يمنح اللهُ الذُرِّيةَ مع رحمته ، فإذا هي زينةُ الحياة الدنيا ، ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة ، في الخلف الصالح ، ويمسك رحمته فإذا الذُّريةُ بالءٌ ونكد ، وعناء وشقاء وسهرٌ بالليل وتعبٌ بالنهار ، يهَب اللهُ الصحةَ والعافية مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيِّبة ، ويمسك رحمته فإذا الصحةُ والعافية بلاءٌ يسلِّطه الله على الصحيح المُعافى ، فينفق الصحةَ والعافية فيما يحطِّم الجسمَ ويفسد الروحَ ويذخر السوءَ ليوم الحساب ، ويعطي اللهُ الجاهَ والقوة مع رحمته فإذا هي أداةُ إصلاح ومصدر أمن ووسيلة لادِّخار الطيِّب الصالح من العمل والأثر ، ويمسك رحمته فإذا الجاهُ والقوةُ مصدرُ قلق على فوته و مصدر طغيان و بغيٍ ومصدر حقد وكراهية ، لا يقَرُّ لصاحبها قرارٌ ، ويدَّخر بها للآخرة رصيدا ضخما من النار .
أيها الإخوة الكرام ؛ بعد هذا الوصف الدقيق لآثار رحمة الله تطمح كلُّ نفس إلى أن تنال من رحمة الله ما يُسعدها في الدنيا و الآخرة ، فتسأل كيف السبيلُ إليها ؟ و هل في القرآن إشارات إلى موجباتها ؟ نعم ، قال تعالى :
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ﴾
أي إذا اتَّقيتَ أن تعصي اللهَ فقد حقَّقت أحدَ موجبات الرحمة ، و قال تعالى :
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) ﴾
أي إذا اتَّبعتَ المنهج الذي رسمه القرآن للإنسان و تفاصيله التي بيَّنته السُّنة فقد حقَّقت أحد موجبات الرحمة ، و قال تعالى :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) ﴾
فالصلاة هي العبادة الشعائرية التي إن صحَّت بامتثال أمر الله والإحسان إلى خلقه تتعرَّض النفسُ من خلالها لرحمة الله ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجدَ يدعو ويقول :
(( عَنْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ ))
و قال تعالى :
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) ﴾
فإذا أردتَ أن تناجيَ ربَّك فادعُه وإذا أردت أن يناجيَك ربُّك فاقرأ القرآن ، فهو رحمةٌ قال تعالى : ( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)) فإذا أحسنتَ إلى الخلق بكل أنواع الإحسان عندئذٍ تكون رحمة الله قريبةً منك وفي الحديث القدسي :
(( إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ))
الهم يا من وسِعت رحمتُك كلَّ شيء إنا نسألك موجباتِ رحمتك وعزائم مغفرتك ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، وشكرًا لإصغائكم ، وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته