وضع داكن
21-11-2024
Logo
ندوات مختلفة - إذاعة الشرق - الحلقة : 7 - تأملات في سورة العصر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تأملات في سورة العصر :

أعزَّائي المستمعين إخوتي المؤمنين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . 
ورَد في الحديث الشريف : رغم أنف عبد - أي خاب و خسر -  أدرك رمضان فلم يغفر له إن لم يُغفَر له فمتى ؟ 
نص الحديث

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ  ))

[ رواه الترمذي ]

أيها الإخوة ؛ في سورة العصر أقسم اللهُ بمطلق الزمن لهذا الإنسان الذي هو في حقيقته زمنٌ ، فقال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾

[ سورة العصر ]

فالإنسان بضعةُ أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بِضعٌ منه ، وقد ورَدعن الحسن البصري قولُه : 
ما من يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا وينادي : يا ابنَ آدم أنا خلْقٌ جديد وعلى عملك شهيد فتزوَّدْ مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
 لقد أقسم اللهُ بالزمن لهذا الإنسان فقال : ( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) بمعنى أن مُضيَّ الزمن وحدَه يستهلك عمرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله ووعاء عمله الصالح ، والذي هو ثمنُ جنة ربِّه التي خُلق لها ، وهل الخسارة في العُرف التجاري إلا تضييع رأس المال من دون تحقيق الربح المطلوب ، لكنَّ الإنسان إذا أستثمر الوقتَ فيما خُلِق له يستطيع أن يتلافى هذه الخسارة ، وذلك بالإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

أولاً : الإيمانُ أيها الإخوة هو اتِّصالُ هذا الكائن الإنسانيِ الصغير الفاني المحدود بالأصل المطلق الأزليِّ الباقي ، الذي صدر عنه هذا الوجود ، وعندئذٍ ينطلق هذا الإنسانُ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير ، ومن حدود قواته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة ، ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا اللهُ ، هذا الاتِّصالُ فضلاً عن أنه يمنح الإنسانَ القوة والامتداد والانطلاق ، فإنه يمنحه السعادةَ الحقيقية التي يلهث وراءها الإنسانُ ، وهي سعادة رفيعة وفرحٌ نفيس ، وأُنسٌ بالحياة والكون ، كأنس الحبيب بحبيبه ، وهو كسبٌ لا يعدله كسبٌ  وفقدانُه خسرانٌ لا يعدله خسران ، وعبادةُ إلهٍ واحدٍ يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، فلا يذِلُّ لأحد ولا ينحني رأسُه لغير الواحد القهَّار ، فليس هناك إلا قوةٌ واحدة ، ومعبود واحد ، وعندئذٍ تنتفي من حياة الإنسان المصلحةُ والهوى ليحِلَّ محلَّهما الشريعةُ والعدل والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله يرفع من قيمته في نظر نفسه ، ويثير في نفسه الحياءَ من التدنِّي عن مرتبته التي رفعه اللهُ عليها .
قال تعالى : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) .
ثانياً : ولأن الإيمان حقيقةٌ إيجابية متحركة كان العملُ الصالح هو الثمرةَ الطبيعية للإيمان ، فما إن تستقر حقيقةُ الإيمان في ضمير المؤمن حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في صورة عملٍ صالح، فلا يمكن أن يظل الإيمانُ في نفس المؤمن خامدا لا يتحرَّك كامنا لا يتبدَّل ، فإن لم يتحرك الإيمانُ هذه الحركةَ الطبيعية ، فهو مزيَّفٌ أو ميِّت ، شأنه شأن الزهر ينبعث أريجها منها انبعاثا طبيعيا ، فإن لم ينبعث منها فهو غيرُ موجود ، والعمل الصالح ليس فَلتةً عارضة ولا نزوة طارئةً ولا حادثة منقطعةً ، إنما ينبعث عن دوافعَ ويتَّجه إلى هدف ويتعاون عليه المؤمنون ، فالإيمان ليس انكماشا وسلبيةً وانزواءً وتقوقُعًا ، بل هو حركةٌ خيِّرة نظيفة وعمل إيجابيٌّ هادف ، وإعمارٌ متواصل للأرض ، وبناء شامخٌ للأجيال يتَّجه إلى الله ويليق بمنهج الله الذي يصدر عن الله .
ثالثا : ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ) ولأن النهوض بالحق عسير والمعوِّقات كثيرة ، والصوارف عديدة فهناك هوى النفس ومنطق المصلحة ، وظروف البيئة ، وظروف العمل ، والتقاليد والعادات ، والحرص والطمع ، فيأتي التواصي بالحق ليكون مذكِّرا ومشجِّعا ومحصِّنا للمؤمن الذي يجد أخاه معه يوصيه ويشجِّعه ويقف معه ويحرص على سلامته وسعادته ولا يخذله ولا يُسلِمه ، وفضلا عن ذلك فإن التواصي بالحق ينقِّي الاتِّجاهات الفردية ويقوِّيها ، فالحقُّ لا يستقرُّ ولا يستمرُّ إلا في مجتمع مؤمن متواصٍ متعاون متكافل متضامن ، فالمرءُ بالإيمان والعمل الصالح يكمِّل نفسَه ، وبالتواصي بالحق يكمِّل غيرَه وبما أن كيان الأمة مبنيٌّ على الدين الحقِّ الذي جاءنا بالنقل وأكّده العقلُ وأقرَّه الواقعُ وتطابق مع الفطرة ، فلا بدَّ من أن يستمرَّ هذا الحقُّ ويستقرَّ حتى تشعر الأمةُ بكيانها ورسالتها ، والتواصي بالحق قضيةٌ مصيرية ، فما لم تتنامى دوائرُ الحق في الأرض تنامت دوائرُ الباطل وحاصرتْه ، فالتواصي بالحق يعني الحفاظَ على وجوده والأداء لرسالته .
رابعا: قال تعالى ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) وقد شاءت حكمة الله أن تكون الدنيا دارَ ابتلاء للشرِّ والخير ودار صراع بين الحق والباطل ، لذلك كان التواصي بالصبر ضرورةً للفوز بالابتلاء والغلبة بالصراع ، إذًا لا بدَّ من التواصي بالصبر على مغالبة هوى النفس وعناد الباطل وتحمُّل الأذى وتكبُّد المشقة ، لذلك يُعدُّ الصبرُ وسيلةً فعَّالة لتذليل العقبات ومضاعفة القدرات وبلوغ الغايات ، قال تعالى :

﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)﴾

[ سورة النساء ]

أرجو اللهَ أن تكونوا قد أفدتم من هذه السورة وشكرًا لإصغائكم وإلى لقاءٍ آخر إن شاء اللهُ تعالى 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور