الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الجانب الإنساني في شخصية النبي عليه الصلاة والسلام:
اخترت موضوعاً أساسياً في هذا الإيمان العظيم: الجانب الإنساني في شخصية النبي عليه الصلاة والسلام.
فالحديث نبدأ من رحمته إلى عدله، من محبته إلى سموه، من أدبه إلى حرصه.
إننا نرى في هذا النبي الكريم محمد عليه أتم الصلاة والتسليم الإنسان الحامي الرحيم، الذي لا تفلت من قلبه الذكي شاردة منْ آلام الناس وآمالهم إلا لبّاها ورعاها، وأعطاها من ذات نفسه كل اهتمام وتأييد، نرى فيه الإنسان الذي يكتب إلى ملوك الأرض طالباً إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل، ثم يصغي في حفاوة ورضاً إلى أعرابي حافي القدمين يقول في جهالة: اعدل يا محمد، فليس المال مال أبيك ولا مالك.
نرى في هذا العابد الأواب الذي يقف في صلاته يتلو سورة طويلة من القرآن الكريم في انتشاء وغبطة لا يقايض عليها بملء الأرض تيجاناً وذهباً، ثم لا يلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلف النبي في المسجد فيضحي بخطته الكبرى وحبوره الجيّاش وينهي صلاته -نقصد النبي الكريم- على عجل رحمة بالرضيع الذي كان يبكي وينادي أمه ببكائه.
نرى فيه الإنسان الذي وقف أمامه جميع الذين شنّوا عليه الحرب والبغضاء، وقفوا أمامه صاغرين ومثّلوا بجثمان عمّه الشهيد حمزة، ومضغوا كبِده في وحشيّة ضارية، فيقول لهم وهو قادر على أن يُهلِكم وأن يلغي وجودهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
نرى فيه الإنسان الذي يجمع الحطب لأصحابه في بعض أسفارهم ليستوقدوه ناراً تُنضِج لهم الطعام ويرفض أن يتميّز عليهم.
نرى فيه الإنسان الذي يرتجف حين يبصر دابة تحمل على ظهرها أكثر مما تطيق.
نرى فيه الإنسان الذي يحلب شاته، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله.
نرى فيه الإنسان وهو في أعلى درجات قوته يقف بين الناس خطيباً فيقول: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتدْ منه.
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، نشهد أنك أدّيتَ الأمانة، وبلغتَ الرسالة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى أساليب الرشاد.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أما عن رحمته صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(( إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ ))
[ الألباني عن أبي هريرة ]
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله، وأرشد المؤمنين إلى التزام الرحمة فقال لهم:
(( ارحَموا مَن في الأرضِ يرحَمْكُم من في السَّماءِ ))
[ الزرقاني عن عبد الله بن عمرو ]
وبيّن أيضاً أنّ الرحمة خيرٌ من الإفراط في العبادة، فقد خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ موضعاً يُدعى كراع الغميم فصام وصام الناس، ولمّا رأى بعض الناس قد شق عليهم الصيام بسبب وعثاء السفر دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، ولما قيل له إن بعض الناس لا يزال صائماً، فقال عليه الصلاة والسلام: أولئك العصاة.
(( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إلى مَكَّةَ في رَمَضَانَ، فَصَامَ حتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بقَدَحٍ مِن مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فقِيلَ له بَعْدَ ذلكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قدْ صَامَ، فَقالَ: أُولَئِكَ العُصَاةُ. ))
[ صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ]
رجلٌ يسرع الخُطا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخشاه الشوق الكبير، وتغبطه الفرحة العارمة ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة معه، وعلى الجهاد في سبيل الله تحت رايته، يقول له: يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت والدي يبكيان، فيقول عليه الصلاة والسلام ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما.
(( عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنه، قال: جاء رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: جِئْتُ أُبايعُكَ على الهجرةِ، وترَكْتُ أَبَوَيَّ يبكيانِ، فقال: ارجِعْ إليهما؛ فأَضْحِكْهما كما أبكَيْتَهما. ))
[ صحيح أبي داوود عن عبد الله بن عمرو ]
إن بسمة تعلو شفتي أب حنون، وتكسو وجه أم متلهّفة لا تُقدَّر بثمن عند الله، وعند محمد صلى الله عليه وسلم، حتى حينما يكون الثّمن جهاداً في سبيل الله، يُثبِت دعوته، وينشر الحق في الآفاق البعيدة، وحينما تتم العبادة على حساب رحمة الوالدين تتحول إلى عقوق.
والنبي صلى الله عليه وسلم يركّز على الرحمة تركيزاً شديداً كلما اشتدت إليها الحاجة، فهؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدَّين ثم تُعجِزهم ضحالة الدخل عن السَّداد فيعانون من أجل الديون، همّاً في الليل وذلاً في النهار، هؤلاء يَأسُو النبي الكريم جراحهم لكنه لا يملك أن يقول للدائن تنازلْ عن حقك، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو خير من يصون الحقوق، لكنه يهب الدائن شفاعته وقلبه وحبه إذا هو أرجأ مَدِينَه واصطبر عليه، حتى تحين ساعة فرج قريب، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرا، أو وضع له، أظَلَّهُ الله يوم القيامة تحت ظِل عرشه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ))
[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ]
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً:
(( مَن أراد أن تُستَجابَ دعوتُه ، وأن تُكشَفَ كربتُه فلْيفرِّجْ عن مُعسرٍ ))
[ البوصيري عن عبد الله بن عمر وهو ضعيف ]
بل يجعل النبي الكريم الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها، فيجعل كلّ عملٍ رحيم عبادة من أزكى العبادات، فعند النبي صلى الله عليه وسلم أنّ أعمالنا الرحيمة التي نسديها للآخرين إنما يراها الله قربات تُوجَّه إلى ذاته العليّة، فإذا زرت مريضاً فأنت إنما تزور الله، وإذا أطعمت جائعاً كأنما تطعم الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي ، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي. ))
[ صحيح المسلم عن أبي هريرة ]
ويصطبر النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله بصورة باهرة أخّاذة حينما رأى أمّاً تضمّ طفلها إلى صدرها في حنان بالغ، ورحمة فائقة، فالتفت إلى أصحابه وقال لهم:
أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قال أصحابه لا والله يارسول الله، قال: لله أرحم بعبده من هذه بولدها.
(( قَدِمَ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فألْصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَتَرَوْنَ هذِه المَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وَاللَّهِ وَهي تَقْدِرُ علَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا. ))
[ صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ]
ذات يوم تقدم أعرابي في غِلْظةٍ وجَفوةٍ وسأله مزيداً من العطاء، وقال له: اعدل يا محمد فيبتسم عليه الصلاة والسلام ويقول له: ويحك يا أعرابي من يعدل إن لم أعدل!
(( أَتَى رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بالجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِن حُنَيْنٍ، وفي ثَوْبِ بلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَقْبِضُ منها، يُعْطِي النَّاسَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قالَ: وَيْلَكَ وَمَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟))
[ صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ]
إن الطّمأنينة التي دفعت الأعرابي إلى هذا الموقف المُسرِف في الجرأة، هي هذه الطمأنينة وحدها تصوّر عدْلَ محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان هذا الأعرابي قادراً أن يقول مقالته تلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أقام بينه وبين الناس حُجَباً وبثّ في نفوسهم الخشية والرهبة.
لكنّ هذا النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم حطّم كل معالم التّمايز بينه وبين الناس، وحينما دخل عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل غريب يختلج بل يرتجف من هيبته، استدناه وربَتَ على كتفه في حنان بالغ، وتواضع شديد، وقال له قولته الشهيرة:
(( هوّن عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ))
[ سنن ابن ماجه عن قيس بن أبي حازم ]
وقد هيّأه تفوقه صلى الله عليه وسلم ليكون واحداً فوق الجميع، فعاش واحداً بين الجميع.
ويسأله أعرابي يوماً في بَداوةٍ جافّة: يا محمد: هذا المال مال أبيك؟ أم مال الله؟ ويبتدره عمر يريد أن يؤنّبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعه يا عمر، إن لصاحب الحق مقالاً.
(( أنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأغْلَظَ له فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ: دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا ، واشْتَرُوا له بَعِيرًا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً. ))
[ صحيح البخاري عن أبي هريرة ]
وانطلاقاً من قِيَم العدل التي آمن بها صلى الله عليه وسلم ودعا إليها، يبين عليه الصلاة والسلام ويقول:
(( كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ، دمُهُ ، ومالُهُ ، وعِرضُهُ ))
[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ]
(( لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق. ))
[ البيهقي عن البراء بن عازب ]
(( إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها. ))
[ صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين ]
لو أن إنساناً استطاع بطلاقة لسانه، وقوة حجّته أن ينتزع من فم النبي صلى الله عليه وسلم حكماً ولم يكن مُحقّاً فيه لا ينجو من عذاب الله، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))
[ صحيح البخاري عن أم سلمة أم المؤمنين ]
محبة النبي صلى الله عليه وسلم:
وإلى ومضاتٍ من محبته صلى الله عليه وسلم: محمد صلى الله عليه وسلم مُحبٌّ ودود، أطاع الله كثيراً، لأنه أحبه كثيراً، وبرّ الناس كثيراً لأنه أحبهم كثيراً، أحبّ عظائم الأمور، وترك سفاسفها ودنيّها، أحب عظائم الأمور ومارسها في شغف عظيم ممارسة مُحبٍّ مفطور لا ممارسة مُكلَّف مأمور، لقد سجد وأطال السجود وسُمِع وجيب قلبه ونسيج تضرّعه وبكائه، لأنه في غمرة شوق جارف، ومحبة أخّاذة، كان ينتظر الصلاة على شوق فإذا دخل وقتها قال:
(( يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها ))
[ صحيح أبي داوود عن سالم بن أبي الجعد ]
(أرِحْنا بها) لا أرحنا منها، وهذا هو الفرق بين الحب والواجب، ذات يوم كان في الطائف يدعو قومها إلى الله فقابلوه بالتكذيب والسخرية والإيذاء، أغرَوا به سفهاءهم، ألجؤوه إلى حائط رفع رأسه إلى السماء وناجى ربه فقال: يارب إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى ، أي إنه لا يخشى العذاب والألم إلا إذا كان تعبيراً عن تخلي الله عنه.
ثم أدرك صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي للمُحب الصادق أنه يشغله استحباب التضحية عن رجاء العافية فيستدرك فيقول: لكن عافيتك هي أوسع لي.
وذات يوم أقبل على محمد صلى الله عليه وسلم رجل فَظٌّ غليظ، لم يكن قد رآه من قبل، غير أنه سمع أن محمداً يسبّ آلهة قريش والقبائل كلها، فحمل سيفه وأقسم بالله ليُسَوِّيَنَّ حسابه مع محمد ودخل عليه وبدأ حديثه عاصِفاً مُزمجِراً والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وتنطلق مع بسماته أطياف نورٍ آسر، وما هي إلّا لحظات حتى انقلب المَغيظُ المُتجهّم مُحباً يكاد من فرط الوجد والحياء أن يذوب، وانكفأ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم يقبلهما ودموعه تنحدر غزيرة، ولما أفاق من بكائه قال: يا محمد والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغض إليّ منك، و إني لذاهب عنك وما على وجه الأرض أحب إلي منك.
ما الذي حدث؟ لقد أحب محمد الرجل من كل قلبه، فخرَّ جبروت هذا الرجل صريع حبٍّ وديعٍ فقلبُ محمد صلى الله عليه وسلم مفتوح دائماً لكل الناس، الأصدقاء والأعداء وحينما اقترب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسّته شعاعة من فيء قلبه الكبير، معذورة قريش حينما لم تدرك هذا السر، فقالت إن محمداً لساحر.
توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والود:
ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والود:
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُم عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُم؟ أَفْشُوا السَّلاَم بَينَكُم. ))
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
إذاً:
(( إذا أحبَّ أحدُكُم أخَاهُ ، فلْيُعلِمْه أنَّه أحبَّهُ. ))
[ الألباني عن المقدام بن معدي كرب ]
(( إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَمِمَّنْ هُوَ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ ))
[ قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ]
(( إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجَى اثْنانِ دُونَ صاحِبِهِما، فإنَّ ذلكَ يُحْزِنُهُ. ))
[ صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود ]
(( من هجر أخاه سنةً ، فهو كسفكِ دمِه. ))
[ صحيح أبي داوود عن أبي خراش السلمي ]
(( كفى بك إثمًا أن لا تزالَ مخاصِمًا ))
[ ضعيف الترمذي عن عبد الله بن عباس ]
(( عِفُّوا عن نساءِ الناسِ تعفَّ نساؤكم ، وبَروا آباءَكم تبرَّكم أبناؤكم ، ومن أتاه أخوه مُتنصِّلًا ؛ فليقبلْ ذلك مُحِقًّا كان أو مُبطلًا ، فإن لم يفعلْ لم يَرِدْ على الحوضِ ))
متنصلاً: أي معتذراً.
(( ألا أُنَبِّئُكم بِشِرارِكمْ ؟ قالُوا : بلى إِنْ شِئْتَ يا رسولَ اللهِ ! قال : إنَّ شِرارِكم الذي يَنزِلُ وحْدَهُ، ويَجلِد عَبْدَه ، ويَمنعُ رِفْدَهُ أفَلا أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ من ذلكَ ؟ قالُوا : بَلى إِنْ شِئتَ يا رسولَ اللهِ ! قال : مَن يُبغِضُ النَّاسَ ويُبغِضُونهُ قال : أفلَا أُنَبِّئُكم بِشَرٍ من ذلكَ ؟ قالُوا : بلى إِنْ شِئْتَ يا رسولَ اللهِ! قال : الَّذِينَ لا يُقِيلُونَ عَثْرةً ، ولا يَقْبلُونَ مَعْذِرَةً ، ولا يَغفِرُونَ ذَنبًا قال : أفلَا أُنَبِّئُكم بِشَرٍ من ذلكَ ؟ قالُوا : بَلَى يا رسولَ اللهِ ! قال : مَن لا يُرجَى خَيرُه ، ولا يُؤمَنُ شَرُّهُ . ))
[ الألباني عن عبد الله بن عباس ]
(( يا أبا أيُّوبَ ألا أدلُّكَ على صدَقةٍ يرضى اللَّهُ ورسولُه موضعَها قال بلى قال تُصلِحُ بينَ النَّاسِ إذا تفاسدوا وتقرِّبُ بينَهم إذا تباعَدوا ))
[ البيهقي في شعبه عن أبي أيوب الأنصاري وهو ضعيف ]
حرص النبي الكريم على أصحابه الكرام:
وإلى ومضات من حرصه على أصحابه الكرام:
كان من بين أصحاب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام صحابي جليل هو عثمان بن مظعون، وكان عثمان مُتبتّلاً غير مشفقٍ على نفسه حتى همّ ذات يوم أن يتخلص كلياً من نداء غريزته، وذات يوم دخلت زوجته على السيدة عائشة رضي الله عنها فوجدتها عائشة رثّة الهيئة، مكتئبة المنظر فسألتها عن أمرها، قالت: إن زوجي عثمان صوّامٌ قوّام_ ما هذا الأدب!- أي يصوم بالنهار ويقوم الليل، فأخبرت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال هذه المرأة امرأة عثمان بن مظعون، فالتقى النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم بعثمان وقال له: يا عثمان أمَا لك بي من أسوة؟ قال له عثمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ماذا فعلت؟ قال له النبي الكريم تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال له عثمان: إني لأفعل ذلك، فقال له النبي الكريم: لا تفعل، إن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، أعطِ كل ذي حق حقه.
(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ بَعثَ إلى عُثمانَ بنِ مَظعونٍ فجاءَهُ فقالَ يا عُثمانُ أرغِبتَ عن سنَّتي قالَ لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ ولَكن سُنَّتَكَ أطلُبُ قالَ فإنِّي أنامُ وأُصلِّي وأصومُ وأُفطِرُ وأنكِحُ النِّساءَ فاتَّقِ اللَّهَ يا عثمانُ فإنَّ لأهلِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لضَيفِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لنفسِكَ علَيكَ حقًّا فصُم وأفطِرْ وصلِّ ونَمْ ))
[ صحيح أبي داوود عن عائشة أم المؤمنين ]
وفي صبيحة اليوم التالي ذهبت زوجة عثمان إلى بيت النبوة عطِرةً نضِرةً كأنها عروس واجتمع حولها النسوة اللاتي كانت تجلس بينهن بالأمس رثّةً بائسةً، وأخذن يتعجّبن من فرْط ما طرأ عليها من بهاء وزينة، قلن لها: ما هذا يا زوجة ابن مظعون؟ قالت: والله –مغتبطة- أصابنا ما أصاب الناس.
انظر إلى هذا الأدب، إنسانية النبي عليه أتم الصلاة والسلام لم تحتمل حال زوجة يؤرّقها هجر زوجها لها، فذكّر زوجها بمَا لها عليه من حق، فكان عليه الصلاة والسلام أرحم الخلق بالخلق، فمن أقواله المؤكدة لهذه الحقيقة:
(( أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ ، تَكشِفُ عنه كُربةً ، أو تقضِي عنه دَيْنًا ، أو تَطرُدُ عنه جوعًا ، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا ، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه ؛ ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا ، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له ؛ ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ ))
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ]
سئل عليه الصلاة والسلام يا رسول الله: أي الناس أحبهم إلى الله فقال: (أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ) وقال صلى الله عليه وسلم:
(( إنَّ للهِ خَلقًا خلقَهم لحوائجِ الناس، يفزعُ الناسُ إليهم في حوائجِهم أولئك الآمِنُونَ من عذابِ اللهِ . ))
[ ضعيف الترغيب عن عبد الله بن عمر وهو ضعيف ]
ويقول أيضاً:
(( إنَّ للهِ أقوامًا اختصَّهم بالنِّعمِ لمنافعِ العبادِ ، يُقرُّهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، فحوَّلها إلى غيرِهم ))
[ صحيح الترغيب عن عبد الله بن عمر ]
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
لذلك أحد كبار العلماء ابن القيم يقول: الإيمان هو الخُلُق ومن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان.
ممكن أنْ نصلي، وأن نصوم، وأن نحج، وأن نزكّي، أما هو الدين في الحقيقة لدينا عبادات شعائرية: الصلاة والصوم والحج والزكاة عبادات شعائرية، لكن هناك تعليقات دقيقة جداً، يعني صلاة من دون رحمة، من دون استقامة، من دون محبة، من دون أداء واجبات، لذلك الأساس في الدين هناك عبادات شعائرية وهناك عبادات تعاملية، الشعائرية الصلاة.
أول نقطة دقيقة وقد تكون سلبية: عن الصلاة:
(( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً". قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. ))
[ ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه ]
الصيام: طبعاً لو أن الإنسان في الصيام اغتاب وفعل المعاصي خسر صيامه.
الحج:
(( مَنْ حَجَّ بمالٍ حرامٍ فقال : لَبَّيْك اللَّهُمَّ لَبَّيْك ، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ له : لا لَبَّيْك ولا سَعْدَيْك ، وحَجُّك مردودٌ عليك))
[ السلسلة الضعيفة عن عبد الله بن عمر ]
هذا الحج، الزكاة:
﴿ قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) ﴾
والصلاة كما قلت قبل قليل: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً". قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .
إذاً: الصلاة والصوم والحج والزكاة والنطق بالشهادة عبادات شعائرية، أمّا العبادة التي تكمّلها العبادة التعاملية: بكسب المال، بإنفاق المال، بالعلاقة بالوالدين، بإكرام الوالدين، بأداء الحقوق للزوجة، تربية الأولاد، تحرّي الحلال، بنود والله تصل إلى المئات وإلى الألوف، منهج إسلامي يبدأ من أخص خصوصيات الإنسان من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية.
فالبطولة أن نطبق المنهج بأكمله، لا أن نكتفي بالعبادات الشعائرية، فنحن الآن مليارا مسلم، ملياران من المسلمين وليست كلمتهم هي العليا، هذه الحقيقة المرّة، وليس أمرهم بيدهم، لذلك:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾
والعبادة كما قلت كثيراً: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تُفضي إلى سعادة أبدية.
لدينا العبادة الشعائرية، والعبادة التعاملية، والشعائرية والتعاملية متكاملان، الشعائرية دقيقة جداً، أهم شيء كسب المال، إنفاق المال، اختيار الزوجة، تربية الأولاد، إتقان عملك، أن تكون في العمل صادق.
يعني المنهج الإسلامي كما قلت قبل قليل ألوف البنود: كسب المال، إنفاق المال، اختيار الزوجة، العلاقة مع الوالدين، إتقان العمل في حرفتك، أن تكون مع الناس صادقاً، هذه العبادة التعاملية تبدأ من أخص خصوصيات الإنسان وتنتهي بالعلاقات الدولية.
أرجو الله أن يحفظ إيمانكم جميعاً، وأهلكم، وأولادكم، وصحتكم، ومالكم، واستقرار البلاد التي أنتم فيها.
الملف مدقق