وضع داكن
25-12-2024
Logo
الدرس : 85 - سورة البقرة - تفسير الآيات 256-258 الدين أساسه الاختيار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الحق هو الشيء الثابت والهادف أما الباطل فهو الشيء الزائل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السادسة والخمسين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾ 

[ سورة البقرة ] 

أولاً: كلمة (دين) دان بمعنى خَضَعَ، والإنسان بحسب جِبِلَّته وفطرته، وبحسب ما أودعه الله فيه من عقلٍ لا يخضعُ إلا للكمال، ولا يخضعُ إلا للمَنطق، ولا يخضع إلا للحق، والحق هو الشيء الثابت والهادف، الشيء المتبدِّل ليس حقاً، هو الباطل، أما الشيء الثابت فهو الحق، نقيضُ الحق الباطلُ، ونقيضُ الحق اللعبُ.

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)﴾ 

[ سورة الدخان ] 

الحقُ نقيض اللعب، والحق نقيض الباطل، الباطل هو الشيء الزائل، فالحق هو الشيء الثابت، واللعب هو العَبث، والحق هو الشيء الهادف.
قد نبني جناحاً في معرض من القماش من ورق مقوَّى، لأنه سيبقى أسبوعين، أما حينما نبني وزارةً عتيدةً، أساسيةً في الحياة، نبنيها من الحَجَر، فهذه الوزارة بُنِيَت لتبقى، أما هذا الجناح في المعرض أُنشِئَ ليزول، فالحق الشيء الثابت، لا يتأثر لا بمكان، ولا بزمان، ولا بتطورات، ولا يخضع لتقلُّبات، ولا يقبل الحذف ولا الإضافة، لأن الله هو الحق، حقَّ الشيءُ استقر، فأنت مع الحق، أنت مع الشيء الثابت الذي لا يتأثر، هذا الدين العظيم دين حقّ، كم من العلوم والفنون جاءت هل استطاعت أن تُقَوِّض دعائمه؟ إطلاقاً، مهما تقدَّم العلم، مهما وصل إلى أعلى مستوياته لا يستطيع أن يَهُز حقيقةً من حقائق الدين، ولن تجد في كتاب الله كلّه آيةً أصبحت مثار جدل، إلا أن العلم كلما تقدم يؤكَّدَ حقائقَ القرآن.
 

سُمِّي الدين ديناً لأن النفوس ذوات الفطر السليمة والعقول النيِّرة تخضع له:


كلمة (حق) شيء ثابت لا يتغير، لا بمكان، ولا بزمان، ولا بنزعات، ولا بأهواء، لا يُضاف عليه، لا يحذَف منه، لا يُستحيا به، لا يخشى البحث، لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، هذا هو الحق: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾  أما الباطل شيء زائل، حائط بُنِيَ بلا شاقول، لابد من أنْ يقع، أما حائط بُنِيَ على أصولٍ علمية يبقى، لذلك كم من المذاهب الوضعية انهارت؟! كم من المذاهب الوضعية أصبحت في الوَحْل؟! كم من المذاهب الوضعية رفضها الناس واحتقروها لأنها باطل؟! فإذا قلت كلمة (حق) أي الشيء الثابت والهادف، ليس باطلاً يزول، وليس لعباً هو العبث: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾  فالإنسان بعقله الذي أودعه الله فيه، وبفطرته التي فطره الله عليها لا يخضع إلا للحق، أي لا يدين إلا للحق، فَسُمِّيَ الدين ديناً لأنه يُدان له، قل: الإله شمس، لا، فإذا أَفَلت مَن يرعاني عند أفولها؟ قل: الإله نار، لا، غير منطقي، قل: هذا الصنم إله، هو جماد، هو حجر. 

﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)﴾ 

[ سورة الصافات ] 

قل: الإله هي البقرة كما في الهند، هي البقرة مخلوقة، انسب الآن صفة عظيمة لإنسان، هذا الإنسان يموت، كل مخلوقٍ يموت، فأي ألوهيةٍ ليس الله هو الإله النفس لا تخضع له، ولا تقبله، وتعافه وتَمُجُّهُ النفوس، فسُمِّي الدين ديناً لأن النفوس ذوات الفطر السليمة والعقول النيِّرة تخضع له.
 

تعريف الدِّين:


حينما أسلم سيدنا خالد، وقد أسلم متأخراً جداً، وعاش في الإسلام سبع سنوات، خاض  زُهاء مئة معركة، مئة معركة خاضها في سبع سنوات، حينما أسلم قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "عَجبتُ لك يا خالد أرى لك فكراً؟!" .
فلماذا يكون الإكراه في الدين؛ الدين واضح، الدين جليٌّ، كل شيءٍ في الكون يدل على الله، وكل شيءٍ في الكون يدل على أن هذا الدين حقّ، لذلك كلما حاولت أن تحارب هذا الدينَ يزداد قوةً، كلما حاولت أنْ تقمعه يزداد ثبوتاً، كهذا الذي يريد أن يُطْفئ النار بالزيت، كلما صبَّ على النار الزيت ازدادت تألُّقاً ولمعاناً، هذه كلمة الدين، الشيء الذي تخضع له، أما مذهب وضعيّ لا تخضع له، يعتمد على التمييز.
جاء الألمان بنظرية العِرْق المتفوِّق، وما سوى الألمان شعوب من سقط المتاع، نظرية غير معقولة، ما من نظريةٍ جاءت إلا وسقطت في الوحل لأنها ليست حقاً، والناس لم يدينوا لها، وكم من نظرياتٍ لا تُعدّ ولا تحصى كلها سوف تنتهي إلى الزوال لأنها باطلة، أما حينما تقول: لهذا الكون إلهٌ عظيم، ولهذا الإله منهجٌ قويم، وهذا المنهج مبنيّ على مصالح الخلق، شيء مقنع، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، منطق وعدل ورحمة.
ماذا قال بعض العلماء؟ الشريعة رحمةٌ كلها، عدلٌ كلها، مصلحةٌ كلها، حكمةٌ كلها، فأيَّةُ قضيةٍ خرجت من العدل إلى الجَور، ومن المَصلحة إلى المَفسدة، ومن الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل.
الدين الذي تخضع له، يخضع له عقلك، وتخضع له فطرتك، الدين المنهج الذي ترتاح نفسك له، يطمئن قلبك له، تشعر أنك وجدت نفسك، تشعر أنك تعرَّفت إلى ذاتك، تشعر بأنك اصطلحت مع الكون كله ومع خالق الكون، هذا هو الدين. 

الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان:


أولاً: لأنّ الإنسان قَبِلَ حمل الأمانة، ولأن الله أعطى الإنسانَ مُقوِّماتِ الأمانة، ومن أهم هذه المقوِّمات حريّة الاختيار، فما دام الإنسان حراً في اختياره لا يمكن أن يكون إكراهٌ في الدين، لا يمكن أن يكون إكراهٌ في الدين، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، مستحيل أن يُجبر الله عباده على الدين، لو أجبرهم لما سعدوا به، لأن الله عزَّ وجل بنى هذا الدين على المَحْبوبيَّة، الله عزَّ وجل لا يريدك أن تؤمن قسراً، ولا إكراهاً، ولا إرغاماً، يريدك أن تؤمن طَوْعاً، حُباً، شَوقاً، بمبادرةٍ منك، بإقبالٍ منك على الله، لذلك الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان، خلقك ليسعدك، لا تَسعد إذا كنت ديِّناً مُكرهاً، أبداً، لا تسعد بدينٍ قسري، لا تسعد إلا بعملٍ طوعي.
لو أمسك شخصٌ حاجة ثمينة بيده، جاء إنسان معه مسدس، قال له: أعطني هذه الحاجة وإلا قتلتك، أعطاه إياها، هذا الذي أعطى هذه الحاجة هل يشعر أنه قدَّم هديةً؟ أنه عمِلَ صالحاً؟! مقهور يمتلئ غيظاً، أما لو جئت إلى إنسان وقدَّمت له هديةً، كلما التقيت به يتألق وجهك، لأنك فعلتَ معه معروفاً، فحينما تُجبَر على العمل سقطت قيمة العمل، وحينما تفعل هذا العمل اختياراً، وطواعيةً، عَظُمت قيمة العمل، فالاختيار يُثمِّن العمل، أي الإكراه في الدين يُنهي الدين، الإكراه في الدين يُلغي ثمار الدين، الإكراه في الدين يُلغي السعادة النابعة من الدين، لذلك شاءت حكمة الله أن يكون هذا الدين في بداياته ضعيفاً، ماذا يفعل النبي؟ ليس عنده دنيا يُغري بها، وليس عنده قوة يُخيف بها، ومع ذلك يؤمن به أصحاب النبي إيماناً طوعياً عن رغبةٍ وعن حُبٍّ، هذا الإيمان صحيح ورائع، لأنه جاء بمبادرة شخصية، وجاء باختيارٍ طيب، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  هذه (لا) نافية للجنس، إذا سألَك شخص: هل عندك رغيف خبزٍ؟ إذا قلت: ليس عندي رغيف خبز، لو أردت أن تُنَاقشه، قد يكون عنده رغيفان، هو ماذا نفى؟ ليس عندي رغيف خبز، نفى الرغيف الواحد، أما إذا قال لك: لا رغيف عندي، قال: هذه نافية للجنس، لا تنفي الرغيف، تنفي جنس الخبز، تنفي القمح، تنفي مشتقات القمح، نفي الجِنْس مِن أبلغ النفي.

الدين هو الرشد وخلاف الدين هو الغي:


مثلاً، عندنا (لا) التي تعمل عمل (ليس)، مثلاً تقول: لا طالبٌ في الصفِ، هذه "لا" تعمل عمل ليس، بل طالبان، ماذا نفيت بها؟ نفيتَ المفرد، أما إذا قلت: لا طالبَ في الصف بل طالبةٌ، نفيتَ جنس الذكور، كلمة لا طالبٌ في الصف نفيت المفرد، أما لا طالبَ في الصف فنفيتَ جنس الذكور، لا تنس أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله، أبلغ أنواع النفي نفي الجنس، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ أي كل أنواع الإكراه، الحاد، هناك إكراه حاد، إن لم تؤمن بهذا تُقتَل، هذا إكراه حاد، هناك إكراه أقلّ منه، أي إنْ لم تؤمن ليس لك ولا ميِّزة مثلاً، هناك أنواع منوَّعة من الإكراهات، كل أنواع الإكراهات القاسية، والحادة، والمخففة، والمباشرة، وغير المباشرة، والصريحة، وغير الصريحة، والمعلنة، والمبطنة غير موجودة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  الله جلّ جلاله يريدك أن تأتي إليه طائعاً، يريدك أن تأتيه مُحِبّاً، يريدك أن تأتيه مُختاراً، يريد أن تأتيه مشتاقاً، فلو أجبرك على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرك على المعصية لبطل العقاب، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  لكن ما هو الدين؟ قال: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ الدين هو الرشد، وخلاف الدين هو الغي، وهذه حقيقة أيها الإخوة، طريق الحق وطريق الباطل، ولا طريق ثالث بينهما: 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾ 

[ سورة القصص ] 

 

حياة المسلم منضبطة وفق منظومة قيَم وسلسلة مبادئ:


إن لم تكن على الحق -لا سمح الله ولا قدَّر-فأنت على الباطل قطعاً، إن لم تستجب لله فأنت مستجيبٌ لغير الله أبداً، عندنا شيء في الدين اسمه الاثنيْنيَّة، أي هناك حق وباطل، خير وشر، صدق وكذب، إخلاص وخيانة، إنصاف وظلم، إقبال وإدبار، تألُّق وانكماش، فإن لم تكن على أحد الخطين فأنت على الثاني، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  الدين هو الرُّشْد، الدين كما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)﴾ 

[ سورة الإسراء ] 

في صحتك، في زواجك، في حرفتك، في علاقاتك، في جدَّك، في لهوك، في إقامتك، في سفرك، حياة المسلم رائعة، منضبطة وفق منظومة قيَم، وفق سلسلة مبادئ، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾  قدِّم لمئة ألف إنسان نموذجَ المسلم يرمقونه بأبصارهم، قدِّم لهم نموذج المنحرف يزورّون عنه، الناس يكرهون الكذّاب، يكرهون المنافق، يكرهون الدجال، يكرهون المؤذي، يكرهون المغتاب، يكرهون النمَّام، يكرهون المتغطرس المتعالي، يحبون المتواضع، الرحيم، المنصف، الصادق، الأمين، العفيف.
 

في كل حقل هناك رشد وهناك غَيّ:


﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ والدين هو الرشد، هناك معنى آخر: إذا قُدِّم لإنسان فرضاً وهو جائع جداً طعامٌ طيبٌ جداً ونفيسٌ جداً، وقُدِّم له صحنٌ آخر فيه لحمٌ متفسخ، تفوح رائحته النتنة، هل هناك حاجة أن تُكْرِه هذا الإنسان على أكل الطعام الطيب؟ يتّجِه إليه بفطرته، ضع صحن طعامٍ طيب وطعاماً خبيثاً، وقل له: أنا لن أُكرهك على أن تأكل الطعام الطيب، طبعاً سيأكله، وسيشكرك عليه، وسيذوب محبةً لك.
هناك معنى آخر، فضلاً عن أن الله لا يقبل مؤمناً مقهوراً، ولا مؤمناً مُكرهاً، ولا صلاةً فيها ضغطٌ وإكراهٌ، بالمقابل دين الله بتألُّقه، ومنطقيته، وكماله، وكيف أنه قدَّم تفسيراً رائعاً للكون، وكيف أن فيه قيَماً، واللِه من ألدّ أعداء المسلمين في بلد غربي بعيد جداً قال في احتفال: إن القيم التي نؤمن بها هي نفس القِيم التي جاء بها الإسلام، هكذا قال، الإسلام دين عظيم، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ، ﴿الْغَيِّ﴾  الانحراف، ﴿الْغَيِّ﴾  الطغيان، ﴿الْغَيِّ﴾  الظلم، ﴿الرُّشْدُ﴾  أن تنسجم مع فطرتك، وأن تنسجم مع الحق، وأن تنسجم مع علَّة وجودك وغاية وجودك، هذا هو الرشد.
طالب في المدرسة، ما هو الرشد؟ أن يدرس، ما هو الغي؟ ألا يدرس، أن يذهب إلى دور اللهو هذا هو الغي، أن يقبع وراء كتابه هذا هو الرشد، تاجر ما هو الرشد له؟ أن يربح، الغي؟ أن يكذب على الناس، وأن يظلمهم، بكل حقل هناك رشد وهناك غَيّ، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾  الطاغوت صيغة مبالغة كأن تقول: جبروت، كأن تقول: رحموت، كأن تقول: طاغوت أي طاغٍ، من يكفر بهؤلاء الذين يطغون، الطاغي قوي، المؤمن كفَر بالطاغوت وآمن بالله.  

لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت:


﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾  أي يكفر بالكفر، يكفر بالذي يستخدم قوته لإمتاع شهواته، كالذي يقهر الناس، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ أي أنت حينما تؤمن بالله وحينما تكفر بالطاغوت، المشكلة أيها الإخوة هي التداخل، أي هو مؤمن ومع أهل الدنيا، ومع الأقوياء، ومع الأغنياء، في فسقهم وفجورهم، لا تسخو نفسه أن يدَعهم، لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، لابدّ من أن تكفر بالكفر حتى تُفْتَح لك أبواب السماء، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾  ما دمت تعقد الأمل على طواغيت الأرض؛ الفسَّاق والفجار، والذين جاؤوا بمذاهب وضعية، والذين أرادوا الدنيا وغفلوا عن الآخرة، الذين أرادوا الشهوة وغفلوا عن القيَم، الذين أرادوا المال وغفلوا عن الأخلاق، هؤلاء كلهم طواغيت، قد يكون الإنسان محاطاً بطواغيت، يقول لك: لي جار مادي، لي عم لا يُحلل ولا يحرِّم، وكل إنسان طغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى هو طاغوت، ما دمت متعلِّقاً بأهل الكفر، وقد يكونون أقوياء، وقد يكونون أغنياء، تعقد الأمل عليهم، ترجو عطاءهم، ترجو ودَّهم، تحذر من غضبهم، تحسب لهم ألف حساب، ما دمت مؤمناً بهم، مُتعلقاً بهم، تُعلِّق عليهم الآمال، ترجو الخير منهم، فالطريق إلى الله غير سالك، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ .
 

على الإنسان أن يؤمن بالله إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض:


حتى في تاريخنا القديم والحديث مادمنا متعلقين بالأقوياء، ونظن أن اتصالنا بهم رحمة لنا، وأن تقليدهم رُقي، وأن إرضاءهم ذكاء، وأن التعلق بوعودهم أمل، هؤلاء لا يُعطوننا شيئاً، إلا أنهم يستغلوننا، وتجربتنا مع العالم الغربي من خمسين سنة ماضية، ماذا أخذنا منهم؟ لم نأخذ شيئاً، أخذوا منا كل شيء، ولم يعطونا شيئاً أبداً، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ أي كل جهة طغت، وبغت، واستكبرت، واستغلَّت، وقهرت، وأرادت الدنيا، وكفرت بالآخرة، أرادت العِلمانية وكفرت بالدين، كل قوةٍ جبارة عاتيةٍ طاغيةٍ ينبغي أن تَنْفِضَ يديك منها، أما إذا كنت متعلقاً بها، راغباً بما عندها، ترجو رضاها، تخشى غضبها، تُعَلق الآمال على رضاها، فالطريق إلى الله ليس سالكاً، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾  يجب أن تؤمن به خلّاقاً، وأن تؤمن به فعَّالاً، وأن تؤمن به متصرِّفاً، وأن تؤمن به إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض، وأن تؤمن أن الأمر كله بيده، وأنه إذا شاء شيئاً فعل، وقع: 

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾ 

[ سورة الرعد ] 

 

من تمسَّك بالقرآن والسُّنة وعضّ عليهما النواجذ فهو متمسك بعروةٍ وثقى:


كل شيءٍ بيده، بيده مقاليد السماوات والأرض، هذا الإيمان، يجب أن تكفر بالطاغوت، وأن تؤمن بالله، كم مسلم بالعالم يرتكب المعاصي والآثام تقرُباً إلى أهل الدنيا؟! تقرباً إلى أهل الباطل؟! تقرباً إلى الطواغيت؟! ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾  (العروة) هذه التي تُمْسكها، تتعلَّق بها، ترجو أن تبقى متَّصلة، فأنت حينما تتمسك بالشريعة، وتتصل بالله عزَّ وجل، ليس في الكون كله جهةً تستطيع أن تقطعك عن الله: 

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾ 

[ سورة فاطر ] 

﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾  أي إذا تمسَّكت بالقرآن والسُّنة، وعضضت عليهما النواجذ، أنت متمسك بعروةٍ وثقى، سمعت أن بعض الشاحنات لها عروة في نهايتها من أجل أن تَجُرَّ مقطورة، قال: هذه العروة لها اختصاص نادر، مُصَنَّعة من أدقّ أنواع الفولاذ المطرَّق، لأن المقطورة تزن عشرين طناً، لو أن هذه العروة تفلَّتت لوقع حادث مخيف، فهذه العروة التي توضع في نهاية الشاحنات لها صناعة متميِّزة جداً، ومن أمتن أنواع الفولاذ المُطَرَّق، أي مُعَالج بالطرق لا بالصّب ولا بالسحب، فهذه عروة وثقى.
 

الطاغوت هو كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا:


ربنا عزَّ وجل قال: أنت إذا كفرت بالطاغوت، أيُّ طاغوت؟ كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا، تطغى وتبغي، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾  إن آمنت بالله آمنت بكتابه، إن آمنت بالله صدقته، إن آمنت بالله صدَّقت نبيَّه، إن آمنت بالله تقرأ الحديث الشريف وكأنه من عند الله عزَّ وجل، قال الله لك: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)﴾ 

[ سورة الذاريات ] 

لا تيأس، لا تذل، لا تستخذِ، لا تتضعضع أمام غني، من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، لا تمدح فاسقاً، لا تُجَيَّر لإنسان، أنت مُجيَّر للواحد الديَّان، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ كأن هذا الدين مثل حبل نجاة، أحياناً يُلقى لإنسان حبل لكنه متين، يمسك به ينجو، أحياناً إنسان في حالة صعبة جداً تأتيه طائرة هليكوبتر تُمِدّ له حبلاً، تمسك به نجا، ترفعه شيئاً فشيئاً، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾  مهما كنت في خطر، مهما كنت في خطرٍ شديد، إذا تمسَّكت بالأمر الإلهي في القرآن، والأمر النبوي في السنة، كأنك أمسكت بعروة وثقى لا انفصام لها، نجوت، ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمع قولك، وعليمٌ بحالك.
 

أشدّ الناس شقاءً من خرج من ولاية الله:


أيها الإخوة الكرام؛ ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾ 

[ سورة البقرة ] 

لابدَّ من أمثلة؛ تصور أباً متفرغاً لابنه، عالماً، غنياً، قوياً، مربّياً، مثقف ثقافة تربوية عالية، إيمانه قوي، قوي مادياً، عالِم، له ابن متفرِّغ له، يسأله عن صحته، عن طعامه، عن شرابه، عن هندامه، عن وظائفه، عن بيته، عن مدرسته، عن أصدقائه، يجلس معه، ينبِّهه، يُذَكره، يُقوِّم اعوجاجه، يسأله، يُصحح خطأه، أبٌ متفرِّغٌ لابنه، ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ انظر إلى هذا المثل، الله عزَّ وجل وليُّ الذين آمنوا، يرعاهم، يؤدبّهم، يبشِّرهم، يخيفهم، يُصَحح مسارهم، قد يُشعرهم بالخوف ليأتوا بابه طائعين، قد يُشْعرهم بالأمن ليشكرهم على طاعتهم له، ولي، وليّ كامل، لذلك أشدّ الناس شقاءً من خرج من ولاية الله، ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ ، (الظلمات) جاءت جمعاً لأن الباطل يتعدد، بينما (النور) جاء مفرداً لأن الحق لا يتعدد، ما قال: من الظلمات إلى الأنوار، وما قال: من الظلام إلى النور، قال: ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾  جمع، ﴿إِلَى النُّورِ﴾ .
 

الفرق بين الظلمات والنور:


قال تعالى: 

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾ 

[ سورة الأنعام ] 

كان في ظلام المعصية صار في نور الطاعة، كان في ظلام البُعد صار في نور القُرب، كان في وحول الشهوات صار في جنات القربات، كان مخطئاً فأصاب، كان ضائعاً فوجد نفسه، كان منحرفاً فاستقام، كان ضالاً فهداه الله عزَّ وجل، كان قاسياً فصار ليِّناً، كان غضوباً فصار حليماً، كان جاهلاً فصار عالماً، كان حقوداً فصار متسامحاً، كان منحازاً فصار مُنْصفاً، ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ ، ﴿الظُّلُمَاتِ﴾  الأفكار غير الصحيحة، والقيم غير الصحيحة، فصار في النور، صار في نور الحق، ونور الكمال، ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾  واللهِ مرَّة استمعت إلى آية قرآنية صدقوا أيها الإخوة أنها دخلت إلى أعماق أعماقي: 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾ 

[ سورة محمد ] 

 

ليست المصيبة أن تصاب بمصيبة بل المصيبة أن تكون منحرفاً ولا تصاب بمصيبة:


تصور ابناً في الطرقات يتيم الأب والأم، مُلْقى؛ يوم بالمخفر، يوم بدار الأحداث، يوم بالمستشفى، ينام على الطرقات، يسرق، ينحرف أخلاقياً، ليس له ولي، لا يوجد مَن يحاسبه، لا يوجد مَن يسأله أين كنت؟ لا يوجد من يرعاه، لا يوجد من يقدّم له طعاماً، لا يوجَد مَن يغسل له ثيابه، لا يوجد من يضمُّه إلى صدره، أنت وازن بين ابنٍ بين أبوين عالمين، مؤمنين، حدوبين، رحيمين، وبين ابن طفل بلا أب ولا أم (لقيط) في الطرقات، ينام في مدخل بناية، يوم بمخفر، يوم بالمستشفى، يوم بالسجن، يوم يُفعَل به الفاحشة، ويوم يَفعل الفاحشة، وقذر، وسخ، هذا هو، والله لا أُبالغ الفرق بين الطفل المربَّى تربية عالية، وله أم وأب، وبيت وعناية، ومتابعة ودقَّة، وبين طفل مُشرَّد، أخلاقه سيئة، كلامه بذيء، جائع، قذر، وسخ، يسرق، يفعل الفاحشة، تُفعل به الفاحشة، هذا الفرق بين مؤمنٍ وكافر، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ .
إخواننا الكرام؛ إذا أدَّبَ اللُه عزَّ وجل الإنسان، وتابعه، ضيَّق عليه، خوّفه، ساق له مرضاً، ساق له شدَّة، يجب أن يشكر الله عزَّ وجل شكراً لا حدود له، لماذا؟ لأنه ضِمْن العناية المشددة، أنا أقول: هذا جبر خاطر، إذا استفقدك الله بمعالجة، لفت نظرك، خوَّفك، ساق لك مصيبة، لأنه يحبك، ولأنك خاضعٌ للتربية، ولأنك ضمن العناية المشددة. 
أما إذا إنسان تفلَّت كالدابة، ولا يحاسبه الله، يأكل ما يشتهي، يلتقي مع مَن يشتهي، ينهب الأموال، يقترف الموبقات، يزني، يشرب الخمر، وجسمه مثل البغل، هذا ما مشكلته؟ هذا خارج العناية المشددة، هذا خارج التربية، هذه هي المصيبة، ليست المصيبة أن تُصاب بمصيبة، لا والله، المصيبة أن تكون منحرفاً، وألا تصاب بمصيبة، أي أشدُّ الناس مَقْتاً عند الله عزَّ وجل هم الذين ينحرفون ولا يُصابون بمصيبة، هذا سمَّاه بعض العلماء: العفريت النفريت، منحرف، أخلاقه سيئة، صحته طيِّبة، دائماً مُتَمكِّن، أما الإنسان المؤمن مُعالج، يؤدَّب، أوحى ربك إلى الدنيا أن تشددي، وتمرري، وتكدري، وتضيقي على أوليائي حتى يحبوا لقائي.
 

الشيطان دائماً ينقلنا من الحق إلى الباطل:


﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾  كانوا في بيئة محافظة فتفلَّتوا، كان صادقاً كذب، كان مستقيماً انحرف، كان لا يقبل دخلاً غير مشروع قَبِل، كان يحفظ زوجته أطلق سراحها، جعلها تتفلَّت، الشيطان دائماً ينقلك من الحق إلى الباطل، من الخوف من الله إلى عدم الخوف منه، من الانضباط إلى التفلت، وبالأخير يصير دابةً متفلِّتة، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾  احرص حرصاً لا حدود له أن يكون اللهُ وليَّك، احرص أن تنتفع بالدين، أن تنتقل من تقصير إلى تفوُّق، من انحراف إلى استقامة، من ضعف إلى قوة، من لين إلى شدة أحياناً:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾ 

[ سورة البقرة ] 

أحياناً يُؤتَى الإنسان المُلك فيكفر، يرى نفسه قوياً: 

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾ 

[ سورة الزخرف ] 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي  أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾ 

[ سورة القصص ] 

 

المحاورة بين متأولين لا تنتهي إلى يوم القيامة:


﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾  هذا الذي آتاه اللهُ المُلك بدل أن يشكر، وأن يتواضع لله عزَّ وجل، ويُسخِّر ملكه في خدمة الخلق، نسي الله عزَّ وجل، وطغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾  قال له: مَن ربك يا إبراهيم؟ قال له: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ ظنَّ هذا الملك النمرود أنه يحكم على إنسان بالإعدام فيُميته، يعفو عن إنسان حُكِمَ عليه بالإعدام فيُحييه هكذا، فالآن متابعة هذا النقاش فيه إشكال، قضية مركَّبة، هو توهَّم الإحياء أن يعفو عن مقتول، والإماتة أن يحكم على حيّ بالقتل، هذه طريقة بالمناقشة، فهذا النبي الكريم ترك هذا الموضوع، لو تابعه صار هناك إشكالية، صار يحتاج إلى حُجَج مركَّبة، معقدة، تركه، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾  كأن القرآن يُعَلِّمنا أن تكون حُجَّتك قوية، ناصعة، لا ردَّ عليها، الأولى تركها، صار هناك إشكال، صار هناك توهُّم، صار هناك تأويل، أوَّل الإحياء بالعفو، وأوَّل الموت بالقتل، إبراهيم عليه السلام يقصد شيئاً آخر، يخلق الحياة، ويميت، يخلق الموت مِن دون قتل، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾  توهَّم النمرود أنه هو يحيي ويميت، توهم الإحياء والموت تأولاً، لذلك المحاورة بين متأولين لا تنتهي إلى يوم القيامة، كل واحد يتصوَّر شيئاً، وهذا درس بليغ في الحوار، إذا كان هناك تأويل دَعْك من الحوار.
 

الدين أساسه الاختيار:


قال له: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ .
أيها الإخوة؛ أدق آيتين في هذا الدرس هي: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ ، و ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  لأن الدين أساسه الاختيار، أساسه المحبوبية، ثم إنّ الدين ناصعٌ جليٌّ كالشمس المشرقة، فلا يحتاج إلى إكراه، أي أنت جائع والطعام طيب، وطعام نفيس جداً، لا يوجد داع أنْ ترفع السلاح وتقول: كُلْ، هو سيأكل، هذا المعنى الثاني، لأن الدين هو الحق، ولأن الدين هو الصدق، ولأن الدين هو الرحمة، والعدل، والمصلحة، والفوز: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  أو لا يمكن أن تسعد بدينٍ فيه إكراه. 
أيها الإخوة؛ نتابع هذه الآيات في درسٍ قادمٍ إن شاء الله.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور