وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة البقرة - تفسير الآية 2، أحاديث عن أهمية قراءة السورة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
     أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثالث من سورة البقرة.

الشهوات تدفع الإنسان إلى الحركة لأن السِمة العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ:

     لا زلنا في قوله تعالى :

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾

     فكلمة (ذلك) ذا: اسم إشارة، فيها إشارةٌ إلى هذا القرآن الكريم، أما هذه (اللام) فيسميها النُحاة لامَ البعد، أو لام التعظيم، وذاك غير ذلك.

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) ﴾

     الكاف للخطاب، فالله سبحانه وتعالى يشير إلى هذا الكتاب، ويبيِّن لنا عظمته، ويخاطب به جميع الناس، الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنية كلمة:

﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾

     أيها الأخوة الكرام الإنسان حركة، لماذا ؟ لأن الله أودعَ فيه الشهوات، فالشهوات تدفعه، حاجته إلى الطعام تدفعه إلى العمل، حاجته إلى المرأة تدفعه إلى الزواج، أو إلى طريقٍ آخر، حاجته إلى تأكيد الذَّات تدفعه إلى التفوّق، فهذه الحاجات التي أودعها الله في الإنسان تجعله يتحرَّك، فالسِمةُ العامة للإنسان أنَّه حَرَكيّ ؛ أما هذا الكأس فلا يتحرك لو وضعناه في هذا المكان مئات السنين، لأنه لا يحتاج إلى شيءٍ يدفعه ليبقى موجوداً، لا يحتاج إلى أن يزهو على أقرانه، لا يحتاج إلى طرفٍ يُكَمِّلُه ؛ الجماد ساكن، بينما الإنسان متحرك.

 

خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم للإنسان هدفاً لأن الإنسان ليس أهلاً لذلك:

     طبيعة الإنسان متحركة ؛ سبب هذه الحركة كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (14) ﴾

(سورة آل عمران )

     هذه الشهوات التي أُودعت في الإنسان تجعله يتحرَّك، الآن نحو ماذا يتحرك ؟ هنا السؤال، ما دام هناك حركة فهناك هدف، من هي الجهة التي تَرْسُمُ له الهدف الصحيح ؟ هي الجهة الخالقة ؛ الإنسان أحياناً يرسم لنفسه هدفاً، هدفاً غير صحيح، غير نافع، غير مفيد، وقد يكون هدفاً مُدَمِّراً، فالإنسان ليس أهلاً أن يرسم لذاته هدفاً ؛ رُسِمَ الهدف، ما هو الطريق المناسب لهذا الهدف ؟ قد أسلُكُ طريقاً وعراً، قد أسلك طريقاً لا يوصلني إلى هذا الهدف، قد أسلك طريقاً طويلاً، من هي الجهة ـ مرةً ثانية ـ المؤهَّلة كي ترسم لي أقصر طريق وأسلم طريق ؟ الحقيقة خالق الإنسان وحده هو الذي يرسُم لهذا الإنسان هدفاً، وهو الذي يرسم له طريقاً؛ أما لو رسم الإنسان هدفاً، فالأهداف متحركة، والأهداف متبدِّلة، والأهداف غير ثابتة، والأهداف مِزاجية أحياناً ؛ هؤلاء البشر أمامكم منذُ آلاف السنين ؛ انغمس أناسٌ في الشهوات إلى قِمم رؤوسهم، وقدَّس أناسٌ العقل، فكان العقل سبب دمارهم، قدس أناسٌ العادات والتقاليد فكانت العادات والتقاليد سبب تخلفهم، أناسٌ قَدَّسوا المادة، أناسٌ قدَّسوا الروح، أناسٌ قهروا النفس، رسمت الشعوب والأمم أهدافاً لذواتها، وكانت الأهداف غير صحيحة ؛ ادَّعت شعوبٌ أنها الشعب المختار في الأرض، فأرادت أن تَقْهر بقية الشعوب، فدُمِّرت وانتهت، الآن هدف الشعوب الغربية المُتعة بأي طريق، وبأية وسيلة ؛ قضت المتعة عليها، وإذا كانت هذه الدول تقوم فهي تقوم على أدمغة الآخرين، لا على أدمغة أبنائها.

 

لا بدَّ أن تستهدي الله بالهدف الذي تسعى إليه وبالطريق الموصل إلى هذا الهدف :

     أوَّل نقطة في هذا الدرس: مَن هي الجهة المؤهَّلة لأن ترسم لهذا الإنسان هدفاً ؟ الله جلَّ جلاله، من هي الجهة المؤهَّلة التي ترسم لهذا الهدف طريقاً ؟ الله جلَّ جلاله، كلمة ﴿هُدًى﴾ دقق، إنسان وصل إلى مدينة ولا بدَّ أن يلتقي بشركة، ولا يعرف أين هذه الشركة، إذاً هو يحتاج إلى دليل، يحتاج إلى هادي، هو مهتدٍ، ويحتاج إلى هادٍ، والهدف الشركة والطريق ؛ كلمة هُدى تعني: الهدف والطريق والهادي والمهتدي، المهتدي أنت، الهادي، والهدف، والطريق من عند الله عزَّ وجل، فكل إنسان استهدى الله بتحديد الهدف، واستهدى الله بتحديد الطريق نجح، وأفلح، وفاز، ونجا، خلافاً للإنسان الذي وضع هدفاً من عنده ؛ هناك إنسان هدفه المتعة، وإنسان هدفه المال، وإنسان هدفه العلُوّ في الأرض، وإنسان هدفه موضوع معيَّن، فكل إنسان ينصرف إلى الهدف الذي رسمه ؛ لكن متى تُخَيِّبُهُ هذه الأهداف ؟ في النهاية، حينما يكتشف أن المال ليس بشيء، جعله هدفاً في مقتبل حياته، قَدَّسه، باع من أجله دينه وعِرضه، وصل إلى المال، ثم اكتشف أن هذا الهدف سخيف، متى يكتشف هذا ؟ بعد فوات الأوان وهو على فِراش الموت ؛ أدق فكرة في هذا الدرس أنه لا بدَّ من أن تستهدي الله بالهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه، ولا بدَّ من أن تستهدي الله بالطريق الموصل إلى هذا الهدف.

(( يا عبادي، كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

     لاحظ هذه الشعوب فيما حولنا، صار العالم الآن قرية، العالم بيت، العالم الآن غرفة واحدة، شعوب بمئات الملايين تعبد البقر، شعوب تعبد ذواتها، شعوب تقدِّس العقل إلى درجة الحماقة، شعوب تقدس الشهوة، شعوب تقدس التاريخ والعادات والتقاليد، فهذه الشعوب رسمت أهدافاً لكنها ضلَّت سواء السبيل ؛ من هو الناجح ؟ من هو الرابح ؟ من هو المُفْلح ؟ هو الذي سأل الله عن الهدف الصحيح ؛ الهدف هو الجنة، لأن الإنسان خُلِق للجنة، والطريق طاعة الله عزَّ وجل.
     فكلمة

﴿هُدًى﴾

     أي هناك هدف، وهناك حركة نحو الهدف، وهادٍ، و مهتدٍ، أربعة أركان لكلمة الهُدى، فأنت المهتدي، والهادي هو الله، يهديك إلى الهدف الصحيح، ويهديك إلى الطريق الصحيح ؛ والله جلَّ جلاله هدى أنبياءه ورسله إلى الأهداف الصحيحة، فَسَلِموا، وسعدوا هم وأتباعهم في الدنيا والآخرة، والذين شردوا عن طريق الدين رسموا أهدافاً أخرى.

آياتٌ من القرآن متعلِّقة بالهدى :

     إذا نظرت أيها الأخ الكريم إلى شارع مزدحم بالناس تجد أن في بال كل إنسان هدفاً يسعى إليه، السعيد والرابح والناجي هو الذي تطابَق هدفه مع الهدف الذي رسمه الله لهذا الإنسان لذلك أيها الأخوة هناك آياتٌ متعلِّقة بالهدى مهمةٌ جداً ينبغي أن تكون تحت سمعنا وبصرنا:

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

     هل هناك ثمرة بعد هذه الثمرة ؟

﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (38) ﴾

     مِن المستقبل كله:

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

 

     على الماضي كله:

 

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

     وقال:

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾

( سورة طه )

     لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، اِجمع الآيتين، من يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت.

 

الهدى مبذول لكل الناس:

     الهدى الحقيقي، الفوز الحقيقي، المعرفة الحقيقية.

﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73) ﴾

( سورة آل عمران )

     لا يمكن أن يوصف إنسان بأنه مهتدٍ إن لم يعرف الله، قد يتفوق في الدنيا، ولكنه ليس مهتدياً، إن الهدى الحقيقي الهدى المنجي الهدى المسعد ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ فلا يوجد إلا حل واحد ؛ إما أنك مع الله، وإما أنك مع الهوى.

﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73) ﴾

     هناك آية أخرى:

﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (120) ﴾

( سورة البقرة )

     لذلك قد تجد إنساناً ذكياً لكن لن يكون الإنسان عاقلاً إلا إذا اهتدى بهدي الله:

(( كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

     هذا الهدى مبذول لكل الناس..

﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (88) ﴾

(سورة الأنعام )

ألزم الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر :

     الله عزَّ وجل قال:

 

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ﴾

(سورة الليل)

     ألزم الله سبحانه وتعالى نفسه بهداية البشر، هداهم بهذا الكون، الكون كلُّه يدلُّ على الله، وهداهم بهذا القرآن، وهداهم بالعقل، وهداهم بالفطرة، وهداهم بأفعاله ؛ أفعاله تدل عليه، والفطرة مجبولة على الإيمان به، والعقل مركبٌ على مبادئ توصله إلى الله عزَّ وجل، وكل ما في الكون يدل على الله، يدل على الله خالقاً ومربياً ومسيراً، موجوداً وواحداً وكاملاً ؛ فلذلك أيها الأخوة أنت متحرك شئت أم أبيت، لا يوجد حل وسط، هناك مَلَكٌ وهناك شيطان، الملَك يُلْهم والشيطان يوسوس ولا بدَّ من أن تستجيب لأحدهما لأنك كائن متحرك، إذاً هناك هدف، الهدف إما أنه من صنعِك، وإما أنه من الله عزَّ وجل، إذا كان من صنعِك في الأعم الأغلب فالهدف غلط، يصاب الإنسان بخيبة أمل حينما يكتشف أنه عاش عمراً مديداً، وقد ضلّ سواء السبيل:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ﴾

( سورة الكهف)

الإنسان مخلوقٌ للجنة وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل:

     أيها الأخوة ورد في بعض الآثار أن الكافر حينما يأتيه ملك الموت يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا من شدة الندم.

﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)﴾

( سورة الزمر)

     أخطر شيء أن تعرف إلى أين تتحرك ؟ لجمع المال فقط من طريقٍ مشروع أو غير مشروع، هذا ضلال، تتحرك لتكون منزلتك عّلية بحقٍ أو بباطل، لتستعلي على الناس، هذا ضلال، تتحرك لتنغمس في المتع الرخيصة إلى أن يأتي الموت هذا ضلال ؛ ما الهدف ؟ متعة، مال، مكانة، استعلاء، ما الهدف ؟ الهدف الحقيقي أنت مخلوقٌ للجنة، وطريقُها طاعة الله عزَّ وجل، يجب أن تُصْغي إلى خالقك الذي رسم لك الهدف، والدليل:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾

(سورة الذاريات)

     وقال:

﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (119) ﴾

( سورة هود )

     وقال:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾

(سورة الطلاق)

البشرية قسمان ؛ إنسان استهدى الله فهداه، وإنسان شرد عن الله:

     هذا القرآن هُدى، يحتاج الإنسان في حركة الحياة إلى هدف فرَسَمَ له القرآن الهدف، ويحتاج الإنسان في سعيه نحو الهدف إلى طريق فرسَمَ له القرآن الطريق، وهذا القرآن كلام الله عزَّ وجل، إذاً يمكن أن نقَسِّم البشرية إلى قسمين ؛ إنسان استهدى الله فهداه، وإنسان شرد عن الله، والشرود عن الله آلاف الأنواع، أنواع منوعة، التاريخ أمامكم والشعوب من حولكم والأخبار بين أيديكم، أكثر الشعوب تسير في طريق مسدودة، لو أنها ازدهرت في حياتها الدنيا، لو أنها ـ كما يقولون ـ سخَّرت الطبيعة، لكنهم حينما يأتي ملك الموت يفاجؤون أنهم خلقوا لحياة أبدية، وأن هذه الحياة الدنيا هي إعداد لتلك الحياة، فجعلوها مقراً، وجعلوها منتهى أمانيهم، ومَحَطَّ رحالهم، فضلوا سواء السبيل.
     أيها الأخوة لا تنسوا هاتين الآيتين:

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾

     وقال:

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

     وقال:

﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (120) ﴾

( سورة البقرة )

     هو الهدى وحده، الحق لا يتعدد.

 

هناك طريقان إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل وإما أن تستجيب لهواك :

     دققوا في هذه الآية:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ (50) ﴾

( سورة القصص )

     إن لم تستجب لرسول الله فأنت على الباطل قطعاً، هناك طريقان إن لم تكن على أحدهما فأنت على الثاني حتماً ؛ إما أن تستجيب لأمر الله عزَّ وجل، وإما أن تستجيب لهواك، إما أن تكون على طريق الحق، وإما أن تكون على طريق الباطل.
     الهدى كما قلت قبل قليل مبذول، كُلُّ شيءٍ يدلك على الله إن أردت الهدى ؛ فإن لم ترد الهدى لو التقيت بالأنبياء جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، وكل شيء أمامك واضح فلن تبلغ الهدى، الشيء الذي يلفت النظر أن بعض العلماء في أوربا أو أمريكا اطّلعوا على حقائق مذهلة في خلق الإنسان أو في الأكوان، اطلعوا على حقائق مذهلة، لكنْ لماذا لم يؤمنوا ؟ لأنهم ما أرادوا الهُدى، ولو أرادوا الهدى لوصلوا إليه، القضية قضية قرار، فإما أن تتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة، وعندئذٍ كلُّ شيءٍ يوصلك إليها، وإما أن تعزف عن الحقيقة، ولو رأيت الأنبياء جميعاً، واستمعت إليهم جميعاً، ورأيت معجزاتهم جميعاً، ورأيت كتاباً ينزل من السماء، ورأيت ناقةً خرجت من الجبل، ورأيت بحراً أصبح طريقاً يبساً، ورأيت العصا أصبحت أفعى أو ثعباناً، ورأيت النار تمتنع عن إحراق إبراهيم لن تستفيد شيئاً، إلا أن تتخذ قراراً من الداخل بالبحث عن الحقيقة.

 

أنواع الهداية:

     أيها الأخوة قال العلماء: هناك هداية دلالة، وهناك هداية توفيق، وهناك هداية مصلحة، كيف ؟ نحن بني البشر هدانا الله عزَّ وجل إلى مصالحنا، يحتاج الإنسان إلى الطعام، فيشعر بالجوع، الإحساس بالجوع هداية إلى المصلحة، لو أن الإنسان يجوع دون أن يشعر بالجوع لمات، يوجد عند الإنسان جهاز توازن لو اختل توازنه يستعيد توازنه، فالحفاظ على التوازن هذه مصلحة ؛ عينا الإنسان، وأذناه، وأنفه، وحواسه كلها تهديه إلى ما حوله، أنت موصول مع المحيط الخارجي بهذه الحواس.
     أحياناً قصة لها دلالة، إنسان يقود سيارته من حمص إلى دمشق، وهو في حديثٍ ممتعٍ مع صديقه لم يلتفت إلى مشير الحرارة، ارتفعت الحرارة، واحترق المحرِّك لخلل أصابه ؛ قال لي: لو نظرت إلى اللوحة مرة واحدة، ورأيت الحرارة مرتفعة لوقفت ووفرت ثلاثين ألفاً ؛ لم ألتفت إلى اللوحة لأنني منغمس في حديث ممتع مع صديقي فاحترق المحرك، اللوحة إذاً ناقصة، لأن المؤشر يعطي حركة فهو يحتاج إلى نظر، وتحدث مشكلة إذا غفل السائق عن النظر للمؤشر، فما قولك بعداد له صوت ؟ يمكن أن ترى، ويمكن أن تسمع وهو أبلغ، فإذا كان الإنسان ضعيفَ السمع يحتاج إلى ضوء، عداد فيه ضوء، وصوت، وحركة يكون أقوى.

1ـ هداية المصالح:


     جهازنا الذي زودنا به ربنا عز وجل هذا الجهاز المعقد هداك إلى مصالحك، تجد الإنسان إذا جاع يبحث عن الطعام، إذا كان الطعام فاسداً تقيؤه، آلية التقيؤ دقيقة جداً ؛ يقوم جهازه وهو نائم بآليات عجيبة جداً، لسان البلعوم يتحرك وأنت نائم حركة معقدة، ويأتيه إشارة من الفم إلى الدماغ أن هناك لعاباً، فالدماغ يعطي أمراً، لسان المزمار هذا يغلق القصبة الهوائية إغلاقاً تاماً ويفتح طريق المريء، فيدخل هذا اللعاب في مري الإنسان وأنت نائم، فالإنسان مبني بناء دقيقاً جداً.
     لو دخل جرثوم هناك جهاز المناعة المكتسب، جهاز دقيق جداً، لمجرد دخول جرثوم تخرج عناصر استطلاعية من جهاز المناعة تتصل بهذا الجرثوم، وتكشف هويته، وتأخذ شفرته الكيماوية وتعود إلى معامل صنع السلاح العقد الليمفاوية ؛ تهيئ هذه العقد سلاحاً مضاداً، تأتي عناصر ثالثة مقاتلة تحمل هذا السلاح، تنطلق إلى الجرثوم وتقاتله فتقتله، ثم تأتي عناصر خدمات تزيل هذه الجثث من ساحة المعركة، وأنت لا تشعر.

 

هداية المصالح واضحة جداً عند الحيوانات:

     إنسان رأى أفعى، هذه الصورة انطبعت على شبكية عينه، شبكية العين فيها إحساس نُقِلَت إلى الدماغ، الدماغ فيه إدراك بحسب المفاهيم والخبرات السابقة، يدرك الدماغ الخطر ويتصل بملكة الجهاز الهرموني عن طريق ضابط اتصال هو جسم تحت السرير البصري ؛ الدماغ ملك والنخامية ملكة، ملك وملكة لا بدَّ أن يلتقيا عن طريق وسطاء ؛ ترسل الملكة أمراً إلى الكظر أن هناك خطراً ليتصرَّف، فيرسل الكظر أمراً إلى القلب ليرفع ضربات القلب، إذا ارتفعت الضربات أسرع الدم في الأوعية، ووصل الدم إلى العضلات بطريقةٍ أسرع ؛ ويرسل أمراً ثانياً إلى الرئتين فيزداد وجيبهما كي يتناسب وجيب الرئة مع ضربات القلب، ويرسل أمراً ثالثاً إلى الأوعية المحيطة في الجسم فتضيق لمعتها ويصفر، لون الخائف، لأنه بحاجة إلى الدم لا إلى لون وردي، وأمراً رابعاً إلى الكبد فيطرح كميةً زائدة من السكر كي تكون وقوداً إضافياً في معركته مع هذه الأفعى، وأمراً خامساً بإطلاق هرمون التجلُّط، فلو أنه جُرح لئلا ينزف دمه كله، الدم يتجلط، هذه هداية، فإذا كان هناك خطر توجد آلية معقدة، دخل جرثوم توجد آلية معقدة، دخل الطعام هناك هضم معقد، على كلٍ هذا طريق طويل، هذه الهداية، اسمها هداية المصالح، أي أن الله عزَّ وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم.

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ﴾

( سورة طه)

     هذه هداية المصالح وهي تبدو واضحة جداً عند الحيوانات، يقوم الحيوان بآليات معقدة جداً من دون تعليم، من دون تدريب، والدليل فور ولادة الطفل الصغير الآن يضع فمه على ثدي أمه ويقوم بآلية معقدة جداً تسَمَّى آلية المص، مَن علَّمه وضَعَ شفتيه على حُلْمَة ثدي أمه، وأحْكَم إغلاق شفتيه، وسحب الهواء فجاءه الحليب ؟ لولا هذه الآلية لما كان هذا الدرس، ولما كانت هذه البلدة، ولما كان إنسان واحد في العالم، آلية المص، سموه: مُنْعَكَس المص.

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ﴾

 

     هذه هداية المصالح، نحن وغيرنا سواء فيها ؛ بالعكس الغرائز أعلى عند غيرنا من الأعمال الإرادية.

 

2ـ هداية الدلالة:

 

     الهداية الثانية أيها الأخوة هداية الدلالة، أنزل ربنا عزَّ وجل هذا القرآن على نبيه ليدلُّنا على ذاته، ليدلنا على هدفنا، ليدلنا على طريقنا، ليدلنا على منهجنا، اِفعل ولا تفعل، هذه هداية ثانية، هداية الدلالة.

 

3ـ هداية التوفيق:

     الهداية الثالثة:

﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾

( سورة الكهف)

     هداية التوفيق.
     كل واحد منا مهتدٍ إلى مصالحه، يجوع يأكل، يدخل طعام فاسد فيتقيَّأ، يتعب جهازه العصبي فينام، يقول لك: أريد أن أنام، متضايق فينام ويستريح، يشتهي في الصيف المأكولات الباردة، مأكولات فيها ماء، يشتهي الخس، يشتهي البطيخ، يشتهي الحلو في الشتاء لوجود البرد، يحتاج إلى غذاء فيه طاقة حرارية عالية جداً، فالإنسان مهتدٍ إلى مصالحه.

 

أدلة من القرآن الكريم عن هداية التوفيق:

     أجرى بعض أطباء الأطفال تجربة رائعة جداً، وضعوا عشرة أطفال أمام غذاء مفتوح، أنواع منوَّعة من الغذاء وسمحوا للأطفال أن يأكلوا كما يشاءون ؛ ورسم علماء كبار في التغذية لعشرة أطفال آخرين منهجاً رائعاً في التغذية، فالفيتامينات، والسكريات، والبروتينات، والنشويات، كل الأغذية النظامية ؛ وجدوا أن نمو أجسام الأطفال الذين تُركوا وشأنَهم ليأكلوا كما يشاءون أرقى بكثير من نمو الذين رسمت لهم خطط دقيقة جداً في غذائهم ؛ فالإنسان مهتدٍ إلى مصالحه، يهتدي إلى مصالحه، والله عزَّ وجل هداه إليه، هداه هداية دلالة، فإذا قبلت الهدى أيها الإنسان هُديت هدايةً ثالثة، هُديت توفيقاً، الله يوفقك، تستوعب الحق، يعينك على طاعته، يعينك على العمل الصالح، يجمعك مع أهل الحق، يشرح صدرك للإسلام، هذه كلها هداية توفيق، فأنت بين هداية المصلحة وبين هداية الدلالة، وبين هداية التوفيق، ثلاثة هدايات ؛ هداية مصلحة، هداية دلالة، هداية توفيق، تتوَّج هذه الهدايات أنك تهتدي إلى الجنة، يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله عزَّ وجل.
     أيها الأخوة معنى قوله تعالى:

﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾

( سورة الكهف)

     هذا الهُدى هداية التوفيق:

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17) ﴾

(سورة فصلت )

     هذا هو الاختيار:

﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) ﴾

( سورة مريم )

     أيضاً هداية التوفيق.

 

هناك أخطار محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة:

     شيءٌ آخر ؛ يقول الله عزّ وجل في الآية الكريمة:

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (50) ﴾

( سورة القصص )

     معنى ذلك أنه لا شيء على الإنسان لو اتبع هواه وفق هدى الله عزّ وجل، لأنه ليس في الإسلام حِرْمان، بل هناك تنظيم، كل شهوةٍ أودعها الله في الإنسان فتح لها قناةً نظيفة تسري خلالها.
     أيها الأخوة الكرام هذا الكتاب هدىً لمن ؟

﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

     كلمة متقين، المتقي اسم فاعل من الفعل اتقى، اتقى مزيد، مجرَّده وقى ؛ وقى من الوقاية، الوقاية فيها خطر، معنى ذلك هناك أخطار محدقة بالإنسان لأنه وحده قَبِلَ حمل الأمانة، رِّكب الله المَلَك من عقلٍ بلا شهوة وركِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل وركِّب الإنسان من كليهما، اختارت الملائكة العبادة من دون مسؤولية، هُم مع الله دائماً، واختارت الحيوانات الشهوة من دون مسؤولية، فالحيوان همه أكله فقط لكنه لا يُحاسب وهو غير مكلَّف، لكن الله خلق الإنسان من طين الأرض، ونَفَخَ فيه من روحه، ففيه نفخةٌ من الله، وفيه قبضةٌ من الطين، فيه نوازع أرضية، وفيه ميول علوية، إذاً يوجد عنده خطأ ؛ فإذا غلبت نوازعُه الأرضية أَخَلَّ بالأمانة، إذا غلبت نوازعه الأرضية فسد لأن عنده دوافع وشهوات ؛ الفساد بالضبط كمركبة فيها محرك، الشهوة هي المحرك، قوة اندفاع، والمنهج هو المِقود، تصور مركبة بلا مِقود، والطريق فيه انعطافات، وفيه حفر، وفيه وديان على اليمين واليسار، فمركبة تنطلق بسرعة عالية في طريق فيه انعطافات، والدنيا ليل فلا بدَّ أن تهوي في الوادي ؛ فكلمة متقي: مِن اتقى، واتقى مزيد من وقى، ووقى من الوقاية، والوقاية من الخَطَر، معناها يوجد خطر، لأنك إنسان تحوم حولك أخطار، فما الخطر ؟ الخطر أن تتحرّك وفق شهواتك من دون منهج الله عزّ وجل، هذه هي القصة كلها.

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (50) ﴾

( سورة القصص )

المتقي هو الذي اتقى عقاب الله عزّ وجل:

     إذا أحب الإنسانُ المرأة، والْتقى معها لقاءً خارج نطاق الزوجية، فقد اعتدى على بشرٍ مخلوق، قضى وطره دون أن يربطها بعلاقة زوجية تضمن لها مصالحها ومستقبلها، إذاً هو ماذا فعل ؟ اعتدى على الآخرين بدافع من شهوته، الإنسان يحب المال، قد يأكل أموال الناس بالباطل بدافع من حب المال، فالشهوات إن لم تنضبط بمنهج الله فلا بدّ أن تؤدِّي إلى فساد وقد قال الله عزّ وجل:

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (41) ﴾

(سورة الروم )

     ما هو الفساد ؟ إخراج الشيء عن خصائصه ؛ صمم الله عزّ وجل هذا الماء لا لون له ولا طعم له ولا رائحة، لو كان فيه رائحة غير مقبولة لأصبح الماء فاسداً، ولو فيه عكر شديد أصبح الماء فاسداً، لو فيه ألوان غير مقبولة أصبح ماء فاسداً ؛ إفساد الماء إخراجه عن طبيعته، هذا هو الإفساد، فلأن الله أودع في الإنسان الشهوات فإذا لم يهتد بهدي الله عزّ وجل فلا بد أن يفسد، والفساد أساسه مخلوقٌ مخير أودعت فيه الشهوات، تحرَّك وفق الشهوات من دون منهج الله عزّ وجل، لذلك ليس هناك فساد في عالم الملائكة، وليس هناك فساد في عالم الحيوان، الفساد فقط عند الإنسان الذي مُكِّنَ من الشهوات ولم يهتد بمنهج الله عزّ وجل ؛ فلذلك لأني أنا إنسان يوجد حولي أخطار ؛ خطر الشهوة، خطر تَحَمُّل العقاب على عدواني على الآخرين ؛ ما الذي يجري الآن ؟ أناس يعتدي بعضهم على بعضٍ، وربنا عزّ وجل يحاسبهم حساباً دقيقاً، فأنت أمام خطر أن تغريك نفسك بأخذ ما ليس لك، فيعاقبك الله عقاباً أليماً، هذا خطر ؛ فالمتقي هو الذي اتقى عقاب الله عزّ وجل ؛ الله عزّ وجل له أسماءُ جلالٍ ؛ الله جبار، الله منتقم، الله كبير، الله قهَّار، الله مهيمن، هذه أسماء الجَلال، ورحيم، ولطيف، وحكيم هذه أسماء الجمال.

معنى كلمة (تقوى):

     ما معنى اتقيت الله ؟ اتقيت أسماء جلاله بأسماء جماله، أي أنا أطلب رحمة الله بطاعته، أتقي غضبه، أتقي بطشه، أتقي انتقامه:

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ﴾

(سورة البروج)

     وهو:

﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) ﴾

(سورة الرعد)

     قال:

﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18) ﴾

( سورة الأنعام )

     هذه أسماء الجلال أما إذا أنا أطعته:

﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) ﴾

( سورة هود)

     وقال:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) ﴾

( سورة مريم)

     إذاً كلمة التقوى أن تتقي غضب الله، تتقي عقابه، تتقي أن تكون تحت أسماء جلاله وتتقي عقابه الأبدي وهو النار، لذلك:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (102) ﴾

( سورة آل عمران )

     أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تذكره فلا تنساه، وأن تشكره فلا تكفره.

 

حينما يستقيم الإنسان على أمر الله يتقي أسماء الجلال ويطلب أسماء الجمال والإكرام:

     أيها الأخوة الكرام، الهدى إنسان شعر بالخطر، بحث عن الخلاص من خلال هذا الكتاب، لذلك :

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾

     كلما تمعَّنت، كلما تأمَّلت في هويتك أنت إنسان فيك شهوات أرضية، وفيك مطالب علوية، فإذا غلبت عليك شهوتك فالمصيبة كبيرة جداً، حينما تحركت الشهوة عشوائياً رافقها العدوان على أعراض الناس، وعلى أموالهم، والعدوان مصيره العقاب، وأنت حينما تستقيم على أمر الله تتقي عقاب الله، حينما تستقيم على أمر الله تتقي أسماء الجلال، وتطلب أسماء الجمال والإكرام:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾

     إن لم يبحث الإنسان عن الحقيقة فهذا الكتاب لا يعنيه، فلو جلس إنسان في مكان جميل وليس عنده هدف فهو لا يسأل عن شيء، ولا يبحث عن شيء، أما إذا جاء إنسان إلى بلدة غريبة عليه، وله مبلغ ضخم ليقبضه من مؤسسة، وهو لا يعرف عنوان المؤسسة فتجده يسأل لأن هناك هدفاً، الهدف أن يأخذ هذا المبلغ من هذه المؤسسة، والمؤسسة لا يملك عنوانها، فإنه يسأل، فأخطر شيء أن تكون إنساناً بلا هدف، أنا ذهبت إلى بلاد بعيدة جداً، قيل لي: ماذا رأيتَ ؟ قلت: رأيت إنساناً بلا هدف، يأكل، ويشرب، ويستمتع:

﴿ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) ﴾

(سورة محمد)

     أخطر شيء أن تكون بلا هدف، وأعظم شيء أن يكون لك هدف عظيم، هذا الهدف يدفعك إلى مكارم الأخلاق.
     لذلك أيُّها الأخوة، الشيء اللطيف أن المؤمن لا يشيخ أبداً، المؤمن شابٌ دائماً، قد يصل إلى المئة ولكنه لا يشيخ بل يبقى شاباً، شابٌ بهمته، لأن هدفه كبير، هدفه الله عزّ وجل.

 

حينما يكون الله هدفك فأنت في شبابٍ دائم:

     النقطة الدقيقة: متى يسأم الإنسان الحياة ؟ حينما تكون أهدافه أرضية ؛ هدفه الزواج فتزوج، هدفه أن يكون معه مال فجَمَّع المال، هدفه أن يحتل مكانة رفيعة فنالها، والإنسان دائماً يكتشف تفاهة أهدافه المادية، فمستحيل أن يمدك شيئاً من الدنيا بسعادةٍ مستمرَّة، كلما بحثت عن هدفٍ مادي ووصلت إليه اكتشفت تفاهته، أما حينما يكون الله هدفك أنت في شبابٍ دائم.
     ثمة فكرة ذكرتها كثيراً: إن الإنسان يبحث عن السعادة في أعماقه، وتحتاج السعادة بالمفهوم المادي إلى صحة، وإلى وقت، وإلى مال، ودائماً عنصر من هذه العناصر مفقود، ففي أول الحياة الوقت موجود والصحة موجودة ولكن لا يوجد مال، في منتصف الحياة الصحة موجودة والمال موجود ولكن لا يوجد وقت، في آخر الحياة المال موجود والوقت موجود ولكن لا توجد صحة، معنى هذا أن الإنسان طوال حياته شقي، دائماً ينقصه شيء، لكن المؤمن غير هذا، المؤمن لا ينطبق عليه هذا الحكم، لماذا ؟ لأن هدفه الله عزّ وجل ؛ هو شاب يسعد بالله، وهو متزوج يسعد بالله، وهو فقير يسعد بالله ؛ القصة كلها أن لا يكون هدفك محدوداً، إذا كان الهدف محدوداً ووصلت إليه انتهيت، تصبح الحياة مملةً، تصبح الحياة مُتْعِبةً، تصبح الحياة عبئاً ؛ لذلك تجد الكبراء، أصحاب الأموال، أصحاب المراتب العالية في المجتمع تجلس معهم فتتضايق، يقول لك: المال أمر تافه، لا شيء فيه، مع أن معه أموالاً طائلة، وليس عنده مشكلة.
     ذكر لي أحد الأخوة مفارقة عجيبة جداً: زاره شخص، أقسم بالله أن حجمه المالي بِضعة آلاف الملايين، لا بضع مئات، بل بضعة آلاف، شكا له عن حياته وعن ملله، لا يعجبه شيء، ولا يوجد شيء يرضيه، قال لي: شيء عجيب، خرجت من عنده وليس لي قوائم تحملني، فما هذا الإنسان ؟!! لا يوجد عنده مشكلة، المال كله بين يديه ؛ وتابع هذا الأخ حديثه قائلاً: طلبت أسرة فقيرة مساعدة مني، دخلت إلى بيت في إحدى قرى دمشق، فإذا هو بيت متواضع جداً تحت درج، الزوج موجود، والزوجة موجودة، والأطفال في سعادة، والدخل محدود، طلبوا أجرة البيت فقط ؛ ألف ليرة فقط، قال لي: شعرت أن في هذا البيت سعادة غامرة، مع أنه يشكو من ضيق الدخل، فالإنسان حينما يفقِد الهدف يصير إنساناً عبئاً، فالذي أقوله لكم: يجب أن تختار هدفاً يفوق كل قدراتك، هو الله عزّ وجل، كل إنسان هدفه الله فهو سعيد، في شباب دائم، ليس ثمة ملل ولا سأم، لأنه يبحث عن شيء مهما بذل من أجله فلن يحيط بالله عزّ وجل، أما الدنيا فمحدودة، وتنتهي.

ثَمَن الجنة ضبط الشهوة والشقاء أن تغلبك شهوتك :

     إنسان صار معه مال، أكل جميع المأكولات ولم يبقَ عنده الرغبة الجامحة للأكل، تزوج فأَلِفَ هذه العلاقة، احتل مكانة رفيعة في المجتمعَ فأَلِفَ هذا التعظيم، وهذه المكانة، لكنه يبحث عن شيء، لذلك توجد نقطة دقيقة، ذات مرة ألقيت فيها درساً عنوانه: " ثم ماذا ؟"
     جمعت المال، ثم ماذا ؟ وصلت إلى مكانةٍ عَليَّة، ثم ماذا ؟ يوجد قبر بعد الدنيا، انغمستَ في كل المتع الرخيصة، ثم ماذا ؟ السِمة التي تجمع كل المنحرفين الملل والسأم والضجر، لماذا تجد المؤمن أسعد الناس ؟ لأن هدفه كبير، فهو موعود بالجنة.

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ﴾

( سورة القصص)

     أيها الأخوة هذه الآية الكريمة:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ﴾

     أي إذا شعرت أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهوتك:

﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا (106) ﴾

(سورة المؤمنون)

     أي غلبتنا شهواتنا، الشقاء أن تغلبك شهوتك وهذا هو الامتحان الصعب، ثَمَن الجنة ضبط الشهوة:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ﴾

(سورة النازعات)

الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:

     أنت حينما تشعر أن هناك خطراً، الخطر أن تغلبك شهواتك على منهج ربك، أنت إذاً الآن مُتَّق، تتقي الخطر، تتقي أن تقع تحت وطأة عذاب الله، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، بطش الله شديد، هناك زلازل، هناك أمراض عضالة، هناك قهر، وفقر، وانقباض، وهم، وحزن، تتقي أن تكون تحت وطأة أسماء الجلال، تتقي العقاب الأكبر وهو النار، ما دمت تتقي فأنت تبحث عن الهدى، والهدى موجود في القرآن الكريم، القرآن رسم لك الهدف ورسم لك الطريق:

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) ﴾

( سورة فاطر)

     أي أنه ما من جهةٍ في الأرض مؤهلةٍ أن ترسم لك الهدف الصحيح إلا الله عزّ وجل، وما من جهةٍ في الكون مؤهلة أن ترسم لك الطريق الصحيح لهذا الهدف ؛ هدف المؤمن الجنة، هدفه أن يعرف الله، وأن يعرف منهج الله، وأن يسلُك الطريق الصحيح ؛ فعنده توازن، وعنده رضىً، وعنده قناعة، لا يوجد عنده شعور بالقلق للمستقبل، لأن الخط البياني للإنسان المؤمن صاعد صعوداً مستمراً، أما حينما ينسى الله عزّ وجل يكون الصعود حاداً، والسقوط مُريعاً ؛ هذا الفرق بين المؤمن الذي يمشي على منهج الله عزّ وجل، وخطُّه البياني صاعد صعوداً مستمراً، بينما غير المؤمن يكون صعوده حاداً، وانهياره سريعاً.

 

بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة:

     أيها الأخوة إن شاء الله تعالى نُتابع هذا في الدرس القادم:

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾

     بالمناسبة اسمحوا لي أن أضع بين أيديكم بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة، قد يسأل أحدكم ما هذه التفصيلات ؟ يقول عليه الصلاة والسلام:

(( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ))

[أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]

     وفي حديثٍ آخر:

(( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ ))

[أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]

     و في حديثٍ ثالث:

(( وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ: قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ فِيهِمَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ))

[الدارمي عَنْ مَسْرُوق بنٍ عَبْدِ اللَّهِ]

(( كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في أعيننا ))

[رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك ِ]

     جدَّ: أي عظُّم في أعيننا.

(( مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَاءَتَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولانِ رَبَّنَا لا سَبِيلَ عَلَيْهِ ))

[الدارمي عَنْ كَعْبٍ ]

(( ما خيَّب الله امرأ قام في جوف الليل فافتتح سورة البقرة وآل عمران ))

[الطبراني عن ابن مسعودٍ ]

ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين والمنافقين والكفار في أوائل هذه السورة :

     أوائل هذه السورة مباركة جداً، لأن ربنا عزّ وجل وصف المؤمنين بخصائص كبرى والمنافقين والكفار، هؤلاء الأصناف الثلاث، فالإنسان عليه أن يحرص على أن تنطبق عليه صفات المؤمنين، طبعاً في الدرس القادم:

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5) ﴾

     والهدى يرفعهم عند الله:

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾

     إذا فهمنا هذه الآيات فهماً دقيقاً وانطبقت علينا سَلِمْنا وسعدنا في الدنيا والآخرة، أخرج الإمام مسلم وأحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ))

[مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة]

(( أفضل القرآن سورة البقرة وأعظم آيةٍ فيها آية الكرسيّ وإن الشيطان ليفر من بيتٍ تُقْرأ فيه سورة البقرة ))

[الحارث عن الحسن مرسلاً]

     هناك أحاديث كثيرة عن فضل هذه السورة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إلى متابعة فهم هذه السورة والعمل بها.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور