- الفقه الإسلامي / ٠2العلاقات الاسرية
- /
- ٠1الزواج
الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث من الدروس الاجتماعية المتعلقة بشأن الزواج، تحدثنا في الدرس الماضي عن معالجة الفقر الحقيقي، واليوم ننتقل إلى موضوعٍ آخر وهو معالجة الفقر المفتعل.
عقبات الفقر المفتعل
الفقر المفتعل معناه أنك إذا كنت بحاجة ماسة إلى مدفأة تتقي بها البرد، وثمن المدفأة المعتدل ألف ليرة، ومعك ألف ليرة، فتوجهت إلى بائع المدافئ، فإذا ثمنها عشرة آلاف ليرة، هذا الثمن غير صحيح، وغير معقول ومفتعل، أنت كنت قادراً على شراء هذه المدفأة، لكنك الآن أصبحت عاجزاً، فهذا بشكلٍ مبسط هو الفقر المفتعل.
أولاً: حينما شرع الشرع الحكيم المهر للمرآة شرعه تكريماً لها، فالمرآة شيء ثمين، وشيء نفيس، لا يمكن أن تأخذها بلا شيء.
من أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
***
مشروعية المهر لضمان كرامة المرأة
أحياناً لسبب أو لآخر يقال لك: المهر درهم فضة، شيء جميل، لكن من مضاعفات هذا التصرُّف أن الزوج إذا غضب من زوجته لسبب تافهٍ جداً طلّقها، ومفارقة الزوجة أو تطليقها أمرٌ يسير، لا يكلف شيئاً، دائماً يكون الطلاق سيفًا فوق رقبتها، فحينما يكون لها مهر، والمهر معقول، فقبل أن يقول لها: طلقتك، أو قبل أن يهددها بالطلاق، أو قبل أن يستهين بها عليه أن يفكر مرات كثيرة، لذلك جعل الله المهر للزوجة تكريماً لها.
لكن الشرع الحكيم ما أراد أن يكون المهر عقبةً دون الزواج منها، في الأصل هو تكريمٌ لها، لكن مع الممارسات الخاطئة صار المهر عقبةً تمنع الزواج منها، لذلك كانت المغالاة في المهور أحد بنود الفقر المفتعل.
شيء آخر، سألني أخ كريم: أليس من واجب الزوجة أن تخدم زوجها ؟ قلت: نعم، إلا أن هذا إذا نُصَّ في العقد، في عقد الزواج صار هذا عقد خدمة لا عقد زواج، فمن باب تكريم المرأة التكريم الأمثل أن موضوع الخدمة لا يدخل في عقد الزواج.
لكن الأعراف، وهي أحد مصادر التشريع تقتضي أن الرجل يكسب الرزق، والمرأة تقوم بشؤون البيت، أما إذا أدخلنا هذا في صلب العقد فقد قلبناه من عقد زواجٍ إلى عقد خدمة.
هناك قصة توضح هذا المعنى، رجل كريم يحمل إجازة في اللَّغة، يترجم، فعمل عند مكتبٍ تجاري، فهذا الأخ المترجم لكرم أخلاقه ولتواضعه ولحبه لأصحاب هذا العمل كان إذا جاءهم ضيف كان يقوم، ويبادر إلى صنع الضيافة المناسبة لهم، تواضعاً ومحبةً وتبرعاً، وتفانياً في عمله، لكنه إنسان يحمل إجازة مترجم، وهم تقبلوا هذه المبادرة بكل امتنان، بعد حين تغيَّر مدير المكتب، فأراد أن يضع عقوداً يوضّح بها، أو قرارات تنظيمية ينظم فيها أعمال من في المكتب، فهذا الذي كان يقدم الضيافة طوعاً ومحبةً وتواضعاً لأصحاب المكتب التجاري عندما رأى في مهماته الأساسية صنع هذه الضيافة ترك العمل كله، ومعه الحق.
الموضوع دقيق جداً، إذا نص في عقد الزواج على وجوب الخدمة انقلب العقد من عقد زواجٍ إلى عقد خدمةٍ، وهذا امتهانٌ للمرأة، لكن المرأة الكريمة لا تستنكف أن تطبخ، وأن تنظف، وأن تعتني بأولادها، وأن تعتني بزوجها، وأن تهيئ لزوجها اللباس والطعام والشراب، وكل ما يؤمِّن له راحته، هو خارج البيت يكسب الرزق، وهي داخل البيت تعتني بشؤون زوجها وأولادها، أما إذا نُصَّ هذا في العقد فقد صار عقد خدمةٍ، وعقد الزواج أشرف من هذا بكثير، إنه أقدس عقد بين إنسانين على الإطلاق.
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ﴾
إذاً: شُرِعَ المهر في الأصل تكريماً للمرأة، وتعبيراً عن مكانتها، وعن كرامتها، أما أن يكون المهر عقبةً يمنع زواجها فهذا ما أراده الشارع الحكيم، ولا قضت به السنة النبوية الشريفة، إنه من انحراف المسلمين في عصور تخلُّفهم، ومن جعل الفتاة سلعة يُبتز بها الرجال.
أفضل الصداق أيْسره
الآن ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ؟ أخرج أبو داود والحاكم وصححه، وقد ورد هذا الحديث في نيل الأوطار، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( خير الصداق أيسره ))
الصداق هو المهر، وقال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي قد طلب منه أن يزوجه بامرأة قد وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال له:
(( اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ))
من منكم يستطيع أن يعرب خاتماً، كان، فل ماض ناقص، فما الذي حذف إذاً ؟ حذفت كان واسمها وبقي خبرها، أي اذهب والتمس، ولو كان الملتمس خاتماً من حديد.
إذاً الفكرة الأولى: إن أفضل الصداق أيسره، هذا الكلام موجَّه إلى أولياء الفتيات.
أوهام منتشرة والرد عليها
الوهم الأول: عِظَم المهر يحول دون الطلاق
بالمناسبة، إذا كنت أيها الأخ الكريم ولياً، كنت أو زوجاً أو أباً، إذا توهمت أن عِظَم المهر يحول دون طلق المرأة فأنت واهم، لأن الزوج بإمكانه أن يكاره زوجته مكارهةً لا تحتمل حتى تطلب الخلع، وأن تهب له كل شيء
لا يمكن أن تقوم سعادة زوجية على ضمانات مالية أبداً، لا يمكن أن يكون الزواج الناجح مبنيًّا على ضمانات مالية، السعادة الزوجية أساسها حسن الاختيار والثقة المتبادلة بين الزوجين، فهذا الذي تسمح له أن يتزوج ابنتك إن كنت واثقاً من أخلاقه، ومن دينه، ومن أمانته، إياك أن تحاسبه يسيرا، وإياك أن تعُدَّ المال ضمانة لنجاح الزواج، أما إذا لم يكن موضع ثقة، لو كتب لها خمسة ملايين فلا يكفي هذا ضماناً لسعادتها.
إذاً المهر شرع تحقيقاً لكرامة المرأة، ولم يشرَّع عقبة يحول بينها وبين الزواج وإذا توهم الإنسان أن المهر يحول بين الزوج والطلاق، فالذي يعتقد هذا واهم، لأن الزوج بإمكانه أن يكاره زوجته حتى تطلب المخالعة، ومعلومٌ عندكم أن التي تطلب المخالعة ليس لها شيء.
الوهم الثاني: ارتفاع المهر يضمن مستقبل الفتاة
عندنا اعتقاد خاطئ آخر، أن ارتفاع المهر يضمن للفتاة مستقبلها، ماذا قال الله عزَّ وجل ؟
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾
بعضهم قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، إذا قلنا لأن ثمة تفسيرًا لهذا، فالإنسان إذا سبَّح الله، وحمده، وكبره، ووحده فقد عرفه، وإذا عرفه سار على منهجه، وإذا سار على منهجه سعد في الدنيا والآخرة.
هناك تفسير آخر وجيه:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
أي الأعمال الصالحة، لكن أدق ما في الآية:
﴿ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
أي إذا كنت تتأمل أن المال يسعد فأنت واهم، عملك الصالح وتطبيق السنة، هو ضمان نجاح هذا الزواج، فنجاح الزواج لا يكون بالمال أو البيت، فأحياناً الأهل يقولون لك: بيت بالحي الفلاني بالمساحة الفلانية بالفرش الفلاني بالحلي الفلانية، بتحديد قيم الحلي ونوع الحلي، ثم العمل، فالعمل يجب أن يكون لك اسم في الشركة، فلا نقبل العمل عند أبيك، يتوهم الآباء أن هذه الضمانات تضمن لفتاتهم السعادة الزوجية، وهي في الحقيقة لا تضمن، العمل الصالح وتطبيق منهج الله عزَّ وجل هو الضمان، (خَيْرٌ أَمَلا )، أي: لا تعقد الأمل لا على المال، اعقده على توفيق الله عزَّ وجل، اعقده على حفظ الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
هذه المعية معيةٌ خاصة، فالله عزَّ وجل مع المؤمنين بالتأييد والنصر، والتوفيق والحفظ، هذه معية خاصة، ولكن إذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
فهذه معيةٌ عامة مع كل الخلق، معهم بعلمه، لكنه مع المؤمنين بحفظهم وتأييدهم، ونصرهم وتوفيقهم، وهذه المعية الخاصة لها ثمن، وقال الله:
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾
لذلك الاعتقاد الخاطئ أن المهر الغالي أو أن المغالاة في المهر تضمن مستقبل الفتاة، هذا وهمٌ كبير، لا يضمن مستقبل الفتاة إلا أن تكون في طاعة الله، وإلا أن يكون زوجها، وأهل زوجها صالحين، فالله سبحانه وتعالى يتجلى على كل بيتٍ تقام فيه شعائر الله، وفي هذا البيت يقام فيه الإسلام.
يقول عملاق الإسلام عمر رضي الله عنه: << ألا وإن أحدكم ليغالي بصداق امرأته حتى يبقى له في نفسه عداوة >>.
أحياناً يُضغَط على الزوج ضغطًا مع ضغط مع ضغط مع تعنت، نريد كذا، حفلة فلانية، ضيافة فلانية، الحلي الفلانية، البيت الفلاني، وهو متعلِّق بهذه الفتاة، لكن مع تتالي الضغوط ينشأ الحقد، لذلك حينما تأتي هذه الفتاة إلى البيت ينتقم منها أشد الانتقام، يقمعها قمعاً شديداً، يمارس عليها كلَّ ألوان الشدَّة، ويحدث الحقد، فالضغط الشديد على الخاطب من أجل الظهور بمظهر فخم أمام الأسر وأمام الناس، هذا من شأنه أن يولَّد الحقد في نفوس الخاطبين، << ألا وإن أحدكم ليغالي بصداق امرأته حتى يبقى له في نفسه عداوة >>.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده:
(( إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَةً ))
هذا الاعتقاد الثاني أيضاً خاطئ.
الوهم الثالث: المغالاة في المهور مظهرٌ للافتخار والشرف
الاعتقاد الثالث: أن المغالاة في المهور مظهرٌ للافتخار والمباهاة والشرف، وهو عكس ذلك، لكن مِن أين يأتيك الشرف ؟ من البذل لا من الأخذ، الأخذ اسمه ابتزاز، وهو خُلق دنيء، فإذا أردت أن ترفع ثمن البضاعة، وأن تستغل حاجة الشاري إليها، وأن تستغل أن هذه البضاعة مفقودة، وليست موجودة في السوق، وهي عندك وحدك، وأن الذي يطلبها في أشد الحاجة إليها، إذا رفعت السعر عليه أضعافاً مضاعفة ألا تشعر بالدناءة ؟ هذا هو الابتزاز، فالشرف ليس في الأخذ، الشرف في العطاء، في البذل، الأخذ ابتزاز، أما العطاء فهو الشرف، فكل من يتوهم أننا لو فرضنا على الخاطب مئتي ألف، ومئتي ألف، ونصف مليون، ونصف مليون، وهناك في العملة الصعبة ضمان للتضخم النقدي، فإن أكثر الآباء يحسب حساب طلاق ابنته قبل أن يزوجها، وكأن الأصل هو الطلاق، لذلك إذا قال: أريد مئتي ألف بالعملة الصعبة، ويحسبها على العملة الصعبة أو على الذهب، استبدله بالعملات الأخرى، فهذا ليس فخراً، وليس شرفاً، الشرف في البذل وفي التساهل.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى ))
فطبعاً هذا ليس بيعًا وشراء، لكن يقاس عليه التعامل مع الخاطب.
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه، يقول: << ألا لا تغالوا في مهور النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا، وتقوى عند الله عزَّ وجل، لكان أولاكم بها نبي الله، ما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم نكح شيئاً من نسائه، ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية >>.
أي ألف وخمسمئة ليرة، فلا تزوج بمهر أعلى، ولا زوج بناته بمهر أعلى، والآن هناك مهر المثل، وإخواننا القضاة الشرعيون جزاهم الله عنا خيراً يعرفون مهر المثل، فكل فتاة بحسب مستواها، ومستوى أبيها لها مهر، هذا المهر مقبول، أما إذا رفعنا المهر بلا سبب، أو إذا ألغيناه، وبالمناسبة إلغاء المهر يجعل العقد فاسداً، لا أقول: باطلاً، يجعله فاسداً، لذلك هذا العقد الفاسد، يصحح بمهر المثل، فالمهر تعبيرٌ عن كرامة المرأة.
هناك أولياء أمور وآباء يسعون إلى التكسُّب عن طريق تزويج بناتهم، لذلك هذا الولي ليس من شأنه أن يقبل خاطباً فقيراً، لا يقبل إلا خاطباً غنياً يحل مشكلات الأسرة، وفي الأعم الأغلب أن الولي الفقير لا يأتيه خاطبٌ غني، فالناس يميلون دائماً إلى المشابه لأحوالهم حين زواجهم، فغالباً الذي يطلب المهر الغالي ليغتني عن طريق ابنته لا يأتيه هذا الخاطب، ما الذي يحصل ؟ هذه الفتاة يفوتها قطار الزواج، والحقيقة في آية قرآنية ذكرتها لكم كثيراً حار فيها العلماء، حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ﴾
فأنا لا أصدق أن في الأرض كلها أدنى المؤمنين إيماناً يمكن أن يجبر فتاته، أي ابنته، أو جاريته، كما يقول بعض المفسرين، لا يمكن أن يجبر فتاته على الزنا من أجل أن يكتسب منها، لكن بعض المفسرين قالوا: " إن عضل الفتاة وعدم تزويجها، ربما قوَّى فيها، دافع الشهوة "، ربما قوى فيها دافع الخروج من البيت.
أعرف قصصاً كثيرة أن آباء متعنتين غالوا في مهور فتياتهم، وضعوا الشروط التعجيزية لخاطبين فتياتهم، حتى انتهى به الأمر إلى أنه استيقظ فلم يجد ابنته في البيت، هربت مع فتى أحلامها، ما الذي قوى فيها دافع الشهوة ؟ تعنته ووضعه الشروط القاسية، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾
عادة سيئة: أخذ الولي من مهر الفتاة
شيء آخر، في عادات سيئة جداً في بعض المناطق في البلاد الإسلامية، أن المهر هو للأب، يقبض الأب مهر ابنته كاملاً، ويضعه في جيبه، وانتهى الأمر، لذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾
المهر تستحقه المرأة، المرأة التي تزوجت المهر لها وحدها، قال بعض المفسرين: أضاف الله سبحانه وتعالى صدقاتهن، أي المهور، إضافة ملك، أحياناً الإضافة تكون إضافة تشريف، الدليل:
﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾
البيت لزوجها، وفي السجلات باسم زوجها، لكن الله أضافه إليها لا إضافة ملك، ولكن إضافة إشراف، فالزوجة بيتها مملكتها، هي الآمرة الناهية في البيت، وفي شؤون البيت، وهذا مما يؤكد شخصيتها، ويثبت أنوثتها.
شيء آخر، هذه الآية نزلت في مناسبة، أنَّ بعضاً ممن كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ مهرّ ابنته، فجاءت الآية لتنهى عن أن تُؤخذ المهور، بل أن تدفع إلى الزوجات، لأن المهر في الأصل تمليكٌ لها.
لقد قضى سيدنا عمر بن الخطاب في وليّ زواج امرأةٍ، واشترط على زوجها شيئاً لنفسه، و قد يكون وليّ المرأة عمها، قد يكون أخاها، قد يكون أبعد من ذلك، فلما جاءها الخاطب قال له: هذه المرأة مهرها مئة ألف، وخمسين ألف لي، هذا هو الشرط، فرفعت هذه القضية لسيدنا عمر، بماذا حكم، ذكر الأوزاعي أن سيدنا عمر قضى أن هذا المبلغ الذي دفع إلى ولي الزوجة، وقبضه هو للزوجة، وأعاده إليه "، فالمهر كلُّه للزوجة.
ورجل آخر زوج ابنته على ألف دينار، وشرط على الخاطب ألف دينارٍ أخرى، فقضى عمر بن عبد العزيز للمرأة بألفين.
إذاً تأتي النصوص والأحكام لتؤكِّد أن المهر للمرأة.
لكن كما قال الله تعالى عزَّ وجل:
﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾
المهر للمرأة.
جواز أخذ الأب خاصة من مهر الفتاة
لكن إذا كان أبوها فقيرا فدفعت له جزءاً منه هذا موضوع ثانٍ، لأن العبد عندما يسامح الشرع لا يتدخل، لو أنها وهبت أباها بعض مهرها فهذا شيء آخر، لو أنها أعطت زوجها بعضاً من مهرها فهذا شيء آخر أيضًا.
لكن بعض الأئمة ذكر أن الأب وحده يمكن أن يأخذ جزءاً من مهر ابنته، ولأسبابٍ، وهي مقبولة عند الله عزَّ وجل، أما العم، أو الأخ، أو ولي الزوجة، هؤلاء جميعاً لا يمكن أن يأخذوا شيئاً، لكن الأب جاز أن يأخذ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلا قَالَ:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ ))
أحياناً هناك ضرورة، والفتاة تأذن وتهب، أصبح هذا موضوعاً آخر، على ألا يجحف بهذا الأخذ، إن كانت هي في أشد الحاجة إليه، ينبغي ألا يظلمها في هذا الأخذ، والحديث معروف:
(( من أكل من مال ابنه شيئاً فليأكل بمعروف ))
الأثر السيئ في المغالاة في المهور
حينما نغالي في المهور تكسد سوق الزواج، وتنشأ سوق السفاح، دائماً وأبداً، إما نكاحٌ أو سفاح، إذا وضعنا العراقيل، والسدود، والمثبطات أمام سبيل الزواج، فالبديل هو السفاح، وإن لم يكن السفاح يصبح الناس أَيامى، معنى أيامى أي لا أزواج لهم، ولا أزواج لهن، وهذا شعور بالحرمان، شعور بالوحشة، ثم إن هذه المهور إذا غلت أنفقت إسرافاً وتبذيراً، وهذا منهيٌ عنه.
وحينما يرفع المهر، ماذا يفعل الأب حينما يرفع مهر ابنته ؟ كأنه يغشها بوضع العراقيل أمام زواجها، لأنه قد ينفر الخاطب، قد يعود خائباً، قد لا يستجيب، قد يشعر بالابتزاز فيرفض، فأحد أسباب عضل الفتاة، وعدم تزويجها المغالاة في مهرها.
والله أنا أقول لكم: إن عشرات القصص، وأعرف أن زواجاً ناجحاً موفقاً لشاب مؤمن، مكتفٍ، ولطلبات أهل الزوجة غير المعقولة، انصرف عن هذا البيت، وانصرف خاطبٌ ثانٍ وثالثُ ورابع، وأصبحت الفتاة كاسدةً فاتها قطار الزواج.
ومرةً ثانية، وثالثة أقول: إن أقوى دافعٍ على الإطلاق في الجنس البشري دافع الأمومة، والذي يحرم ابنته حقها في الزواج، وحقها في أن تكون أماً فقد أساء إليها أبلغ إساءة.
فبعض الآباء السذج يقول: يا بنيتي، صدر البيت لك، هذا كلام ليس له معنى أبداً، إنه يطعمها، والأكل موجود.
الإسراف في تجهيز البيت وتأثيثه
ثم إن عقبةً ثانيةً ترد في موضوع الفقر المفتعل، هو الإسراف في تجهيز البيت وأثاثه، والحقيقة كلَّما بالغنا في المظاهر سدَّ طريق الزواج، وكلكم يعلّم أن غرفة الضيوف أحياناً لا تستخدم إلا مرةٌ أو مرتين في العام، غرفة في البيت ثمنها مليونان، ثمن الغرفة خمسمئة ألف، غرفة جلوس جيدة تصلّح لاستقبال الضيوف، غرفتين كانطلاق للزواج جيد، غرفة
نوم، وغرفة جلوس تصلح لاستقبال الضيوف، ممكن
لكن تجميد غرفة لاستعمالها في العام يوم أو يومين أو خمسة أيام بملايين الليرات هذا لا يجوز، لذلك المغالاة في المساحات و المغالاة في الفرش، والأساس، و المغالاة في غرف الطعام، في غرف طعام، بمئات الألوف، والزوج بخيل، ما دعا شخصا لتناول الطعام، لا يوجد داعٍ، مادام ليس هناك نية لإقامة ولائم مثلاً فلمن هذه الغرفة إذاً ؟.
سيدنا علي رضي الله عنه، يقول: <<في آخر الزمان قيمة المرء متاعه >>.
فالإنسان لضعف إيمانه، ولانحرافه عن الطريق السوي، ولضعف دينه، وقلّة أعماله الصالحة يستنبط مكانته من مساحة بيته، ومن أثاث بيته، ومن نوع مركبته، ومن موقع بيته، فقيمة المرء متاعه، لكن قيمة المرء في الحقيقة هي إيمانه وعمله الصالح.
النبي عليه الصلاة والسلام جهز فاطمة الزهراء فلذة كبده وريحانة فؤاده، جهزها في خميلةٍ وقُربةٍ ووسادةٍ، الخميلة من نوع المخمل، خميلة، وقربة ووسادة، وقال:
((إنما فاطمة بضعةٌ مني، يؤذيها ما يؤذيني ))
كان النبي e قدوة، ولما طلبت السيدة فاطمة خادماً قال لها كلمة لو عرفنا أبعادها لسعدنا، قال:
((والله يا فاطمة لا أوثركِ على فقراء المسلمين ))
ما عدَّ نفسه وأسرته فئة والناس فئة ثانية، بل عدَّ النبي الكريم نفسه وأسرته والمسلمين أسرة واحدة، فأن يخص ابنته بخادمة لعل هذا على حساب فقراء المسلمين، قال لها:
((والله يا فاطمة لا أؤثركِ على فقراء المسلمين ))
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود:
((أَحَقُّ مَا يُكْرَمُ الرَّجُلُ بِهِ ابْنَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ ))
إكرام أهل الزوجة من إكرامها
أي أن إكرام الفتاة وإكرام الأخت كما فسر العلماء هذا الحديث بإكرام أهل زوجها، فالعلاقات الطيبة مع أهل الزوجة، فقد تجد أسرّ كثيرة لا يوجد أي علاقة بين أهل الزوج وأهل الزوجة، فبينهم عداوة، و بغضاء، وهذه العداوة لا بدَّ أن تنتقل إلى الفتاة، لذلك إكرام أهل الزوجة، والعناية بهم، والترحيب بهم، وزيارتهم، هذا من إكرام الفتاة.
فمن عنده بنت زوجها فإن أحد أكبر أبواب إكرامها إكرام أهل زوجها، يدعوهم، يزورهم، تستأنس، أحياناً لا ينتبه الإنسان إلى هذه النقطة، الزوج يقسو على زوجته في شتم أهلها، وفي بيان نقائصهم، تتمزق الفتاة، هم أهلها، أمها وأبوها، وزوجها يكرههم.
إخواننا الكرام، نصيحةٌ لوجه الله، الزوج العاقل الذي يريد ولاء زوجته له أحد أسباب ولاء الزوجة إكرام أهلها، لو لم تكن قانعاً بمواقفهم، يوجد عندنا قاعدة رائعة جداً، " أدِ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك "، فأنت كنْ كاملاً، هذه أمها، وهذا أبوها، وهذا أخوها، فإذا أكرمتهم فإكرامهم ليس لهم، إنما إكرامهم لزوجتك، فلذلك من إكرام الزوجة أن تكرم أهلها، يوجد أزواج و أصهار يحاسبون أهل زوجاتهم حساباً عسيراً، قناص للكلمات، كل غلطة بكفرة، هكذا أبوك قال لي، هذه لم تناسبني، لن أدخل إلى بيته بعد الآن، ولأتفه سبب، وضعوا الخبز، ولم يكن ساخناً، هذا إهمال، فيتخذ حجة واهية جداً في الضيافة، أو في الزيارة، ويقطع العلاقة نهائياً، الزوج من عدم حكمته عندما قطع العلاقة مزَّق زوجته، الأب أب، والأم أم، وغضب الزوج من أهل زوجته لا يحيل هذه العلاقة مقطوعة.
لذلك أيها الإخوة إن من إكرام المرأة إكرام أهلها، إكرام أهلها إكراماً لها، وإكرام أهلها يعود خيره على الزوج، فتطمئن الزوجة، أما الذي أظنه أن أسعد زوجةٍ في الأرض هي التي تشعر أن أهلها وأهل زوجها على وفاق، ترتاح، لأن هذا زوجها، وهؤلاء أهلها، ومن الصعب جداً أن تميل بجانبٍ على جانبٍ آخر.
من عقبات الفقر المفتعل: بذل الأموال الطائلة في الولائم
الآن العقبة الثالثة من عقبات الفقر المفتعل، بذل الأموال الطائلة بمناسبة الولائم.
الحقيقة أني أشعر بوجود ظاهرة الآن ليست وسام فخر، البذخ والإسراف الشديد في ولائم الأعراس، وفي الاحتفالات، لدرجة أن نفقة عرسٍ واحد، أو عقد قرانٍ واحد مع الإسراف والتبذير، يكفي لتزويج عشرة رجال، أو مئة أحياناً، ومرة خمسمئة، شاب يحتاجون أشدَّ الحاجة إلى غرفةٍ تؤويهم، وإلى زوجةٍ تكفيهم، فلا يجدون، وعرس واحد في فندق فخم تزيد نفقته على تزويج مئة شاب. إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
لذلك إخواننا الكرام،( إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، أي أن إنفاق الأموال كأن تحضر الزهور بالطائرة من هولندا، والثياب من فرنسا، والطعام من مكان كذا والعرس مختلط، ووزعت فيه الخمور، وجلبت الراقصات، وعلى بطاقة الدعوة: الطيبون للطيبات.
﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾
الآن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح الذي أورده الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام:
(( طَعَامُ أَوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ))
فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يريدنا أن ننزلق إلى إطعام الطعام من أجل التفاخر، وليمة العرس سنة، أن تدعو الناس إلى طعامٍ بمناسبة الزواج هذا سنة، والآن بعد الطعام الاحتفال، عقد قران تتلى فيه المدائح النبي e، تلقى كلمات توجيهية، يوزَّع نوع من الحلوى في الصيف، وفي الشتاء نوع آخر، فإطعام الطعام من السنة، والاحتفال من السنة، وأنا أفضل ألف مرة أن يكون هناك حفل عقد قران، أولاً ما الفرق بين النكاح والسفاح ؟ النكاح إعلان، حينما تدعو مئتي رجل لحضور عقد قران، وتتلى في هذا العقد قصة المولد، وتتلى مدائح النبي عليه الصلاة والسلام، تلقى كلماتٌ توجيهية، هذا اسمه إعلان، فالإعلان من لوازم النكاح، لكن من دون إسرافٍ ولا مخيلة، والآن في هناك تقليد والله أنا أشجعه كثيراً، يوزع كتاب قيم، وما من بيت ما فيه مصحف بل فيه عشرون مصحفا، خمسين، مع أنه أعظم الكتب على الإطلاق، لكن لما توزع مصحفا ما أضفت شيئاً جديداً، البيت فيه مصاحف، لكنك إذا وزعت كتاباً في الحديث الشريف، كتاباً في الفقه، اسأل أهل العلم في اختيار هذا الكتاب، أحياناً كتاب قيم جداً، هذا الكتاب إذا وزع مع مضي الزمن تتشكل مكتبات إسلامية في البيوت، الآن تتشكل مكتبات كلها صحون، فلو وزع كتاب قيم بثمن الهدية تتشكل مكتبات في البيوت جميعاً، شيء جميل جداً، وأنا أفضل إذا كان أحب أخ أن يوزع كتابا يسأل أهل العلم عن أي كتاب يشتري، كتابا في الأدعية، كتابا في الأحاديث، كتابا بالفقه مختصر، كتابا ملخص إحياء علوم الدين، الآن له ملخصات جيدة، كتاب قيم جداً يوزع هدية.
وقد أعجبني جداً تقليداً آخر، فقد حضرت عقد قران لم يوزع شيء، العادة توزع الهدية مع بطاقة الدعوة، والذين يدعون إلى هذا العقد من أغنياء البلد، لم يوزعوا شيئا ففوجئت وقلت: لعل التوزيع في أثناء الحفل، وفي الحفل لم يوزعوا شيئا، لكن خطيباً قام يخطب وقال: "أصحاب الدعوة توقعوا أن يكون ثمن هذه الهدايا قريباً من سبعمئة ألف ليرة، والحاضرون يبلغون ألف شخص، وكل شخص هديته ثمنها سبعمئة ليرة، فالمبلغ سبعمئة ألف، أودعت عند رجل موضع ثقةٍ، ليزوج بها الشباب المسلمين ".
حضرت أربع عقود مثل هذا العقد، المبلغ تسعمئة، أو ألف، أو مليون تقريباً كل عقد، هذا المبلغ هو ثمن الهدايا، رصد لتزويج الشباب المسلم، هذا أيضاً تقليد، إلى متى نحن نتباهى بهذه العلب، وهذه الصحون، ونشتريها من بلادٍ بعيدة، ويذهب ثمنها من إنتاجنا ومن قوتنا ؟ إما أن تقدم كتاباً يسهم في تشكيل مكتبة في بيوت المسلمين، أو أن تسهم بتزويج شابٍ.
لذلك المتباريان، من هما المتباريان ؟ اللذان يصنعان الولائم للتباهي وللتنافس، المتباريان لا يجابان، ولا يؤكل طعامهما.
روى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه، بِمُدَّيْنِ من شعير، ويروي لنا أنسٌ رضي الله عنه قصة وليمة أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أقام النبي عليه الصلاة والسلام بين خيبر والمدينة ثلاثاً يبني عليه لصفية بنت حييّ، فدعوت المسلمين إلى وليمته، ما كان فيها إلا خبزاً ولحماً.
إنه طعام طيب، لكنه معقول، أحياناً ترى شيئًا يدمي القلب، أربعة أخماس الطعام ألقي في القمامة، طعام نفيس جداً، وسمعت الآن خبرا سارا، أن جمعيةً تعمم على كل المحتفلين بأعراسهم، وإقامة الولائم في بيوتهم، أو في بعض الصالات، يخبرونها، فتأتي عند انتهاء الوليمة، فتأخذ كلّ ما على الطاولات، وبأساليب جيدة جداً توضع في أطباق، وفي أكياس محكمة، وتوزع على بيوتاتٍ فقيرةٍ فوراً.
مرة حضرت دعوة عقد قران مع طعام عشاء، دهشت أن هذا الطعام كثير جداً، والضيوف لم يأكلوا خمسه، بقي في نفسي تساؤل، في اليوم التالي سألت أحد المقربين من الداعي، قال لي كلمةً والله أثلجت قلبي، قال لي: والله ما ضاع من هذا الطعام حبة رزٍ، كلِّ هذا الطعام وضع في علب، وفي أطباق، وذهب به إلى بعض المياتم، وأكل هؤلاء الأيتام، أطيب الطعام، أسبوعاً بأكملّه.
فإذا أحب إنسان أن يقيم وليمة، وحفظ الباقي من الطعام في عناية فائقة، يوزع على بيوتات فقيرة فلا مانع، بل هذا شيء جميل جداً، القصد أن تُحفَظ هذه النعمة، دققوا في قول النبي عليه والسلام:
((يا عائشة، أكرمي مجاورة نعم الله، فإن النعمة إذا نفرت قلما تعود ))
والله أيها الإخوة، أعرف أشخاصاً كانوا يلقون الطعام في القمامة، والله وصل بهم الفقر إلى أنهم ينقبوا في القمامة، فإتلاف الطعام، إلقاء الطعام في القمامة، الترفُّع عن بقايا الطعام هذا لا ينبغي.
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾
قال: ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيءٍ من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة.
ويا أيها الإخوة، لا زلنا في مبحث الفقر المصطنع الذي يضعه أولياء الفتيات أمام خاطبي فتياتهم، بحيث تغدو هذه الطلبات تعجيزية، وبحيث تجعل الزواج شبه مستحيل، عندئذٍ ينحرف الشباب، كما هو موجودٌ في واقعنا.
الموضوع الذي سنأخذه في الدرس القادم موضوعٌ مهمٌ جداً، كيف أن أولياء الفتيات يكونون عقبةً أمام زواج فتياتهن ؟ وما حكم الشرع حينما يغدو الولي عقبةً كأداء أمام زواج الفتات ؟ كيف أن القاضي هو ولي من لا ولي له، أو ولي من كان وليه متعنتاً، موضوعٌ دقيق جداً نحاول أن نأخذه في درسٍ قادم إن شاء الله تعالى.