وضع داكن
10-03-2025
Logo
الدرس : 34 - سورة النساء - تفسير الآية 71 إعداد العدة المتاحة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الآية التالية تحدثنا عن علاقاتنا بالأعداء:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الواحدة والسبعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71)﴾

[ سورة النساء ]

 أولاً: هذا الذي توهم أن الدين خمس عبادات شعائرية لم يفقه من الدين شيئاً، الدين نظام متكامل، يبدأ من علاقتك بجسمك، ثم من علاقتك بأقرب الناس إليك، وينتهي بالعلاقات الدولية، وحين نفهم الدين أحوالاً شخصية، أو عبادات شعائرية فنحن أبعد ما نكون عن حقيقة هذا الدين، هذه الآية تحدثنا عن علاقاتنا بالأعداء، ما المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون؟ أن أعداءهم ظهروا فجأة بقوة لا تُقابَل، ما الموقف الذي يريده الله لنا؟ أن نكشف أعداءنا قبل أن يتمكنوا في الأرض، أن نأخذ حِذرنا، كأن الله يقول: خذوا سلاحكم، تقول للحارس: خذ بندقيتك، تقول للمقاتل: خذ سيفك، والله عز وجل يقول للمؤمن: خذ حِذرك، هذا الفَهم الساذج لمَن حولنا هذا فهمٌ يتناقض مع حقيقة الإيمان، إلهك، ومربيك، وخالقك هو الخالق، لأنه خلق الإنسان مخيراً، منهم من اختار الدنيا، ومنهم من اختار الآخرة، منهم من اختار الحق، ومنهم من اختار الباطل، ومنهم من آثر شهوته، ومنهم من آثر مبدأه، لأن الله خلق الإنسان مخيراً، وبيّن طريق الخير والشر. 

﴿  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾

[ سورة الكهف  ]


البطولة أن تكشف الخطر قبل وقوعه وتتوقع عداوة الكافر قبل أن يُظهرها لك:


 لأنه خالقنا، وهو الخبير بنا، يعلم الله أن البشر سيكونان فريقَين؛ فريق مُحِق وفريق مُبطِل، فريق خيِّر وفريق شرير، فريق منضبط وفريق غير منضبط، فمعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، ولو تعايش الناس كما ترون فجأة نجد أن العالم كله يحارب المسلمين بكل ثِقَله، أين كنا قبل هذا التاريخ؟ لم نأخذ حِذرنا. 
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ البطولة أن تكشف الخطر قبل وقوعه، أن تتوقع عداوة الكافر قبل أن يُظهر لك هذه العداوة، لذلك الله عز وجل في آية محكمة رائعة يقول: 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[  سورة الأنفال ]

 الله المخاطِب ونحن المخاطَبون، والطرف الثالث من هم؟ أعداء المسلمين ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾ ينبغي أن تستنفذ الاستطاعة. 
﴿مِّن قُوَّةٍ﴾ كل أنواع القوى، القوة جاءت نكرة، ينبغي أن تعد لأعدائك كل قوة متاحة لك، المال قوة؛ أن تكون غنياً مكتفياً تستخرج ثرواتك، عندك المواد الأولية هذه قوة، التنظيم قوة، رفع مستوى الإنسان قوة، بين أن ترى كمّاً كبيراً جاهلاً هو عبء عليك ينبغي أن تطعمه، وبين أن يكون الإنسان في حساب الأرباح، بلد في آسيا مجموع أرباحه من برمجيات الكومبيوتر ثلاثة وثمانين مليار! لا يحتاج لمواد أولية، ولا لبترول، ولا لشيء، ولا لمناجم حديد، ولا مناجم نحاس، برمجيات، فالكَم البشري إن لم يكن يحمل كفاءات عالية يصبح عبئاً في قائمة الخسائر، أما الكم البشري حينما يكون متنوِّراً وعنده كفاءات عالية يُدرَج في حساب الأرباح.

ينبغي أن نعد لأعدائنا كل أنواع القوة:


 يجب أن تتوقع الشر قبل أن يقع ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾ المال قوة، التنظيم قوة، رفع مستوى الإنسان في كفاءته قوة، المعلومات قوة، استخدام الوسائل الحديثة قوة ﴿مِّن قُوَّةٍ﴾ (من) تفيد استغراق أفراد النوع، كل أنواع القوة ينبغي أن نُعِدّها لأعدائنا، أحياناً كل قوتك في الاتصالات، عندهم قنابل يلغون الاتصالات كلياً، كيف تأمر الجيش؟ لا يأتمر، أذكر لكم ممّا تفتّقت عنه عقول البشر من أساليب لقهر الناس، والمسلمون في غفلة، الآن يبحثون عن قنابل نووية لا تقتل إلا البشر، ليتسلّموا المدن كما هي ببيوتها، وفرشها، وأجهزتها، ومبانيها، وجسورها، هم يقِظون من مئات السنين، فحينما سنحت لهم الفرصة ظهروا كالوحوش يريدون الثروات، وكل ما يقال خلاف ذلك لا تعبؤوا به، يريدون أن يتربعوا على منابع النفط بقوتهم، والله عز وجل يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ هم أعدوا لنا، ولم نُعِدّ لهم، لذلك يقول بعض الحكماء: ويلٌ لأمة تأكل ما لا تزرع، وويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وأنا أضيف: وويل لأمة تستخدم أجهزة لم تصنعها. نحن بحاجة إلى طائرة تعمير محركها خمسة ملايين دولار، تعميره وليس ثمنه! وكل طائرة فيها أربع محركات، عشرون مليون دولار، كم طن قمح؟ وكم طن قطن؟ يأخذون موادك الأولية بأبخس الأثمان، ويبيعونك منجزاتهم الحضارية بأعلى الأثمان، فنحن فقراء وهم أغنياء.

أمثلة عن بعض ما أعده لنا أعداؤنا:


 سيدنا عمر حينما كان يجوب بلدة وجد أن كل الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنّفهم تعنيفاً شديداً، وقال لهم: "كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم"؟ 
 سيدنا عمر قبل ألف وأربعمئة عام أدرك أن المنتِج قوي وأنّ المستهلِك ضعيف، أنا لا أتكلم في أمور بعيدة عن هذه الآية، لكن الله عز وجل يقول: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ في آية ثانية: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم﴾ نحن في تاريخنا الحديث الدول التي لم تعتنِ بجيش قوي ماذا حل بها؟ حل بها اجتياح، وحلّ بها الدمار، والسلاح أحياناً له مهمة كبيرة من دون أن تستخدمه. 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ قوة مطلقة، اطّلعت على مجلة فيها موضوع علمي، كيف تُصوِّر الآلات من الفضاء الخارجي؟ الأرض كلها في صورة واحدة مأخوذة من القمر، الصورة المعروفة على الأرض مربع صغير قطره ميلي، هذا المربع في الصفحة الثانية مُكبَّر، فإذا هو معظم أمريكا! على الصورة الثانية مربع صغير قطر ضلعه ميلي مُكبَّر في الصورة الثالثة أمريكا الشمالية على هذه الصورة مربع صغير قطره ميلي مكبَّر في الصورة الرابعة فلوريدا، على هذه الصورة مربع صغير مُكبّر في الصورة الخامسة ساحل من سواحل فلوريدا، في هذه الصورة مربع صغير قطره ميلي مُكبَّر في الصورة السادسة ميناء من موانئ فلوريدا، عليه مربع صغير مُكبَّر في الصفحة التي تليها إذا هو إنسان مُستلقٍ على الأرض يقرأ قصة يمكن أن تقرأ عنوان القصة! وإلى جانبه صحن فيه تفاح، وعلى يده ساعة، هذه من أين؟ من القمر. 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ هم أعدوا لنا هذه الأقمار يكشفون حركات الأرض دون أن نشعر.

المعركة الآن معركة بقاء أو فناء:


 أنا أقول أيها الإخوة: لأن المعركة الآن معركة بقاء أو فناء، الآن الأمر لا يحتمل أن نقول كلاماً لا معنى له، هذا قرآن. 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ أنت ما دورك؟ أنت كطالب حينما تتقن دراستك تُعِد لهم القوة، وأنت كتاجر حينما تُحكِم عملك، وتأتي بالبضاعة من أرخص المصادر، وتبيعها للناس بسعر معتدل تكون قد ساهمت في بناء صرح هذه الأمة الإسلامية، وأنت كصانع حينما تجلب مصنعاً نستغني به عن أن نستورد تكون قد وضعت لبِنَة في صرْح هذه الأمة، كل إنسان منا له موقع، أنت كطبيب حينما تتقن عملك تغني المرضى عن أن يذهبوا إلى أطراف الدنيا ويدفعوا الملايين، حينما يأتي طبيب بأعلى مستوى من بلد غربي، ويقيم في دمشق كأن أمريكا صارت في دمشق، ونكون قد وفّرنا على المريض الملايين، فكل واحد منا بشكل أو بآخر من عمله، من دراسته، وطبه، وهندسته، وتجارته يمكن أن يُعِدّ لمَا سيكون في المستقبل من عدوان. 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ القوة مطلقة؛ الاتصالات قوة، والمعلومات قوة، والأقمار قوة، والطيران قوة، مهما تملك دولة من جيش قوي إن لم يكن لها سلاح طيران يحمي سماءها فهي مكشوفة، وقد سمعتم أخبار الحروب، السلاح الأول هو سلاح الطيران، يقصف شهراً لا يبقي شيئاً من البنية الفوقية، ولا من البنية التحتية، يُدمَّر كل شيء؛ الماء، الكهرباء، والهاتف، والاتصالات، ومصافي النفط، كل شيء يُدمَّر، انتهت الأمور. 

ينبغي أن تكتشف مواطن قوة العدو قبل أن تظهر علانية:


 أيها الإخوة هذه الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ ينبغي أن تكشف الخطر قبل وقوعه، وأن تعرف خطط العدو قبل أن تفاجئك، وينبغي أن تكتشف مواطن قوة العدو قبل أن تظهر علانية ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ لئلا يقع التباس في فهم القوة قال: ﴿وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانت القوة رباط الخيل، وقد يأتي بعد عهد النبي عهد تكون القوة سلاح المنجنيق، ويأتي بعد سلاح المنجنيق المدرّعات، وقد تأتي الطائرات والقنابل، فالقوة واسعة، جاءت نكرة ليكون التنكير شمولياً، وجاءت (من) كي تؤكد شمول كل أفراد النوع، أحياناً الإعلام قوة، والمعنويات قوة، قد تستمع لخبر صادق فترتفع معنوياتك، وقد تستمع لخبر كاذب فتنهار معنوياتك، فالإعلام قوة، بل إنه الآن أكبر سلاح.

الله تعالى رحمة بنا لم يطالبنا أن نعد القوة المكافئة بل أراد أن نعد القوة المتاحة:


 قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ هذا سماه علماء التفسير عطف الخاص على العام. 
﴿وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ حدثني أخ كريم جاء من بلاد في شرق آسيا قال لي: في هذا البلد نحن تسعون مليون مسلم مضطهدون، في بلد إسلامي في شرق آسيا فجرت قنبلة نووية، أقسم لي بعد تفجير هذه القنبلة اختلفت معاملة المسلمين في بلده مئة وثمانين درجة، أحياناً السلاح لا تحتاج أن تستعمله إطلاقاً، لكن وجوده له أثر، والآية واضحة: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ هذه الآية فيها ملمح رائع، ينبغي أن يكون عدوك عدواً لله، أما إذا كان عدوك ولياً لله فهذه مشكلة كبيرة جداً، فهذه الآية أصل في هذا الموضوع. 
﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ وأضيف على هذا الإعداد أن الله سبحانه وتعالى رحمة بنا لم يطالبنا أن نعد القوة المكافئة، بل أراد منا أن نُعِد القوة المتاحة ﴿مَّا اسْتَطَعْتُم﴾ وعلى الله الباقي. 

العدو إذا قوي قوة عالية يرهب ضعاف المؤمنين أما الموحدون فلا يخافون إلا الله:


 كنت أقول دائماً أيها الإخوة، أن العدو إذا قوي قوة عالية يُرهِب ضعاف المؤمنين أما الموحدون فلا يخافون إلا من الله. 

﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ(173)﴾

[ سورة آل عمران ]

 عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ. ))

[ سنن أبي داود  ]

 هذا الحديث يروى في المساجد من عشرات السنين من مئة سنة، لكن لا يتضح معناه إلا في هذه الأيام: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ ولو درست سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كانت قيادته في أعلى مستوى، كان يرسل السرايا ليجُسّ نبض الطرف الآخر، ليرهبهم أحياناً، أما إنسان يعيش سبَهللة، غافلاً، اتكالياً يُفاجَأ أنه خُرِق، وأنه اكتُسِح، وأن ممتلكاته ذهبت، وأن قدرته خارت. 

كل حالة تعالج بمقتضاها وكل عدوان يعالج بما يكافئه:


 ثم يقول الله عز وجل: ﴿فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا﴾ معنى كلمة ثباتٍ جمع ثُبَة، طائفة صغيرة، فلو أن مناوشة من جهة محدودة كافرة ينبغي أن يُرسَل إليها سرية محدودة، أما إذا كان الخطر داهماً فينبغي أن ننفر جميعاً، كل حالة تُعالَج بمقتضاها، وكل عدوان يُعالَج بما يكافئه، فإذا كان العدوان محدوداً سيّرنا له قوة محدودة تغطي عدوانه، أما إذا كان العدوان شمولياً فلا بد من أن ننفر جميعاً.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71) وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا (72)﴾

[ سورة النساء ]

 إلهنا، ربنا، بعض الناس ضعاف، يخافون، يقول الله عز وجل: 

﴿  ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ(173) فَٱنقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍۢ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)﴾

[ سورة آل عمران ]


كل واحد منا يستطيع أن يعد للأعداء ما يستطيع من قوة:


مرّ على هذه الأمة مِحَنٌ كالتي تمر بها الآن؛ اجتياح مغولي، واجتياح الفرنجة من الغرب، هكذا سنة الله في خلقه، نحن في دار ابتلاء، "إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي".
قد يقول أحدكم: ما علاقتي بهذه الآية؟ أقول: لك علاقة وطيدة، هل منا واحد ليس له دور اجتماعي؟ مستحيل! طالب، مدرس، معلم، أستاذ جامعة، مهندس، طبيب، تاجر، موظف، ألا تستطيع أن تتقن عملك؟ ألا تستطيع أن تخدم المسلمين، وأن تخفف عنهم، وتُيسّر لهم أعمالهم، أن تكون في خدمتهم، وتبيعهم حاجات جيدة بثمن معتدل، كل واحد منا يستطيع أن يُعِد للأعداء ما يستطيع من قوة.
في محاضرة ألقيتها في بعض المحافظات، جاءني طفل عقِبَ المحاضرة، صدِّقوا، لا يزيد عمره على ست سنوات، قال لي: ماذا أفعل يا أستاذ أنا لا أحتمل سماع الأخبار! طفل! همّ المسلمين ضغط على طفولته! ماذا أفعل؟ قلت له: أتقِن دراستك، إن أتقنت دراستك، وكنت الأول تكون قد أعدَدْت للعدو العدة التي أمرك الله بها، فنحن حينما نتفوق في اختصاصاتنا وأعمالنا نعد لعدونا .
 أقول لكم هذه الكلمة أيها الإخوة: والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن لهؤلاء الأقوياء أن يحترموا ديننا إذا كنا ضعفاء، ولم نكن متفوقين في أعمالنا، أن تكون قوياً ومتفوقاً.

حينما نعتز بالله ونعظم أمره ونبني حياتنا على منهجه يقوينا ويرفع شأننا:


 أنا مضطر أن أسرد لكم تجربة: ذهبت إلى بلد إسلامي في شرق آسيا، علمت أن هذا البلد لا يزيد على ثلاثة وعشرين مليوناً، وأنهم كانوا في الغابات قبل خمسة وعشرين عاماً، وأنهم يصدّرون للعالم ما يفوق صادرات العالم العربي مجتمعاً بما فيه النفط، وأنهم في العام الماضي عندهم فائض نقدي يزيد على ستين مليار دولار! وأن نظامهم في المصارف نظام إسلامي، والبطاقات المالية المشهورة في العالم بطاقات إسلامية لا ربا فيها، وأن تأمينهم تأمين إسلامي، وتعليمهم تعليم إسلامي، والحجاب إلزامي، وأن جزاء الصحن الفضائي ما يقترب من مليون ليرة، حفاظاً على أخلاق أولادهم، وقد جاءهم رجل كبير جداً من أقوى دولة ليتدخل في شؤونهم، فقالت له وزيرة: ضع حذاءك في فمك، ولا تنطق إلا بما يعنيك! يعيشون معنا، ونعيش معهم، فنحن حينما نعتز بالله، ونعظّم أمر الله، ونبني حياتنا على منهج الله يقوينا الله عز وجل، ويرفع شأننا.
 أيها الإخوة، لا أتكلم عن شيء لا يعنيكم، بل أتكلم عن أن كل واحد منا بإمكانه أن يتقن عمله، ويكون إتقان عمله ونفْعه للمسلمين مساهمة منه في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ والله أيها الإخوة، الطرف الآخر يبيعنا أحياناً تجهيزات وبقدرة قادر في كل عام تُصاب بالخلل، ويكلّف إصلاحها مئات الملايين! التقيت شاباً أكرمه الله في فك هذه الألغاز، وإصلاح هذه الآلات من مئات الملايين إلى عشرات الألوف يأخذ أجراً، هذا الشاب ألم يسهم في تقوية الأمة؟ ألم يسهم في توفير أموالها التي كانت تذهب هدراً للطرف الآخر؟ فكل واحد منا إذا أتقن صنعته ودراسته نفع المسلمين، وخفف عنهم، وحل مشكلاتهم، ويسّر عليهم أمورهم، يكون قد ساهم في تقوية هذه الأمة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا*وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾

قصة تؤكد أن العاقل من يحتاط للأمر قبل وقوعه:


 أضطر أن أروي قصة ذكرتها قبل ذلك كثيراً: أن غديراً فيه سمكات ثلاث؛ -هي قصة رمزية- كَيِّسة، وأكيسُ منها، وعاجزة، أي ذكية جداً، وذكاء متوسط، وغباء، مر بهذا الغدير صيادان تواعدا أن يرجعا، ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت، وتخوّفت، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، ثم لم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت! هذا أعلى مستوى في العقل، أخذت حِذرها، وتصرفت في الوقت المناسب، وسلمت ونجت، واستراحت، وأراحت، وأما الكَيِّسة الأقل ذكاء فبقيت في مكانها متوانية حتى عاد الصيادان، الأولى توقعت الخطر، والثانية واجهت الخطر، العاقل جداً يأخذ حِذره، فيتحرك قبل أن يقع الخطر، أما الأقل عقلاً فيواجه الخطر، وقالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ثم إنها تماوتت، وتصنّعت الموت فطفت على وجه الماء، فأخذها الصياد، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر، فنجت لكن بعد أن تحطمت أعصابها، ونجت بقدرة قادر، نجت، واحتمال أن تهلك قائم، وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صِيدت، هذا قليل الحيلة لا يفعل شيئاً، فقط يضرب كفاً بكف، ويشكي همه للناس، ويسمع أخباراً فقط. فأعقل سمكة احتاطت للأمر قبل وقوعه، والأقل عقلاً احتاطت له عند وقوعه، والغبية لم تحتط له لا قبل وقوعه ولا بعده، بل واجهته بعجز واتكال. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعًا(71) وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدًا (72) وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٌ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمًا(73)﴾

[ سورة النساء  ]

 هذه الآيات إن شاء الله تُشرَح في درس قادم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور