- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
إسلام مكة إسلام عقيدة وإسلام المدينة إسلام تشريع :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع من دروس سورة النساء، ومع الآية السادسة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾
أيها الأخوة الكرام، الإسلام في مكة كان ترسيخاً لأصول العقيدة، وفي المدينة كان تشريعاً للعباد، إسلام مكة إسلام عقيدة، وإسلام المدينة إسلام تشريع، ولا يستغنَى عن أحدهما، فلا بد من عقيدة سليمة، ولا بد من تشريع حكيم، لا بد من إيمان، ولا بد من عمل، وأنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، هناك علاقة دقيقة وخطيرة، وهي أنك إذا عرفت خالق الأكوان، مبدع السماوات والأرض، رب العالمين، من بيده ملكوت كل شيء، تشعر بحاجة إلى أن تتقرب منه، الإنسان في أصل فطرته يحب الجمال والكمال والنوال، فإذا ثبت لك اعتقاداً أن أصل الجمال عنده، وأن أصل الكمال عنده، وأن العطاء كله منه ينبغي أن تتجه إليه، في العلاقات اليومية يكون للإنسان مكانة، غني، له منصب رفيع، تجد الناس يتحلقون حوله، يطمحون إليه، يزورونه في كل مناسبة، يقدمون له آيات الولاء في كل وقت، لأن عنده شيء؛ إما علم، أو جاه، أو مكانة، أو مال، فالناس يقبلون على العظيم طمعاً بما عنده، فإذا ثبت لك يقيناً أن الكمال كله عند الله، وأن النوال كله من عند الله، وأن أصل الجمال هو الله فلا بد أن تتقرب منه، كيف؟ كيف تتقرب منه؟ بعبادته، بطاعته، أنت إذاً بحاجة ماسة إلى أن تعرف أمره ونهيه. قد تتقرب لإنسان بهدية، قد تتقرب إلى إنسان بزيارة، لكن علاقتك مع خالق الأكوان كيف تتقرب منه؟ أنت حينما تعبده وتطيعه تكون قد تقربت منه. هل يمكن أن تكون عبادة بلا علم بالأمر والنهي؟ نعود إلى قاعدة خطيرة ذكرتها في الخطبة؛ ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، فإذا أردت أن تتقرب إلى الله بعبادته حتماً ينبغي أن تعرف بنود عبادته؛ الأمر والنهي، لذلك ورد في بعض الأحاديث أن:
(( طلب الفقه حتم واجب على كل مسلم ))
كيف تعبده؟ بطاعته، بتنفيذ أمره والبعد عن نهيه، هكذا يُعبد الله، لذلك معرفة الأحكام الشرعية جزء من الدين، بل إن معرفة الأحكام الشرعية تأتي مرحلة حتمية لازمة بعد معرفة الله.
آيات الجزء الأخير كلها آيات مكية وكلها في العقيدة إلا سورة واحدة :
ذكرت أن أخاً اصطلح مع الله، يعمل في إصلاح المركبات فتاب توبة نصوحاً، أنا أعتقد لأنه تاب توبة نصوحاً، ولأنه اصطلح مع الله، ولأنه أراد أن يبقى وفق منهج الله، أتعبني في أسئلته في مصلحته، شعرت أنه صادق في التوبة، ما دام صادقاً في التوبة فهو يسأل: ما حكم هذا؟ ما حكم هذا؟ كيف أفعل مع فلان؟ ما حكم القطعة التي جددتها؟ هل أستعمل هذه القطعة التي بليت؟ لي الحق أن آخذها؟ أمطرني بوابل من الأسئلة، لماذا؟ لأنه عرف الله وأراد أن يطيعه، فهذا الذي لا يبالي بأمر الله ونهيه في الأساس إيمانه ضعيف، كلما اهتممت لأمره ونهيه كلما كان هذا دليلاً على اهتمامك بالله عز وجل، فلذلك حينما نقرأ آيات التشريع فإنها لا تقِلُّ في قيمتها عن آيات العقيدة. هناك ملمح رائع في الجزء الأخير من القرآن الكريم، آيات الجزء الأخير كلها آيات مكية، وكلها في العقيدة، في الإيمان بالله واليوم الآخر، من دون استثناء.
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾
أبداً: إلا سورة واحدة هي المطففين، لو أن فهم الإنسان سطحي وساذج يراها قد أُقحِمت إقحاماً.
الويل هو الهلاك للمطففين :
قال تعالى:
﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
من أجمل ما قرأت عن هذه السورة، وعن علاقتها بالسياق العام، وكيف أنها ليست مقحمة عليك، أنك إذا فرطت في حق مخلوق يعد هذا التفريط سبب هلاكك، فكيف إذا فرطت في حق الخالق؟ إذا طففت، إذا أعطيته أقلَّ من حقه وزناً، أو مساحة، أو طولاً، أو كمية، أو نوعية، فالتطفيف أن تعطيه أقلَّ من حقِّه، فإذا قست القماش الذي تبيعه مشدوداً، وقست القماش الذي تشتريه مرخياً فهذا تطفيف، إذا وزنت الكيس لما تبيعه مع البضاعة، وقد تكون بضاعة غالية جداً فصار ثمن الكيس من ثمن البضاعة فقد طففت، أما إذا اشتريت حذفت وزن الكيس، وأخذت الصافي فقد طففت، فالويل لك، والويل هو الهلاك للمطففين، فإذا طففت في حق مخلوق كان هذا التطفيف سبب هلاكك، فكيف إذا بخست حق خالقك؟ كيف إذا بخست حق الذي أوجدك؟ حق الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد؟ كيف إذا بخست حق هذا النبي العظيم الذي جاء لإنقاذنا، فلم تعبأْ بسنته، ولم تعرف قدره، ولم تصلِّ عليه:
(( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: "آمين آمين آمين": فقالوا: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين. فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين. فقلت: آمين ))
أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله هذا استثمار للوقت وليس استهلاكاً له :
إذاً كما أننا في أمس الحاجة إلى أن نعتقد بالله اعتقاداً صحيحاً بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، بالله خالقاً ورباً ومسيراً، بالله صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، وبرسول الله رسولاً ونبياً، وباليوم الآخر جزاءً ومصيراً، وبالملائكة والكتب والأنبياء ينبغي أن نتعلم شرع الله عز وجل.
مثلاً: من دخل السوق دون أن يتفقه أكل الربا، شاء أم أبى، أنا أذكر لكم دائماً مثل، هنا محل إعادته، أنّ المظلي قد يجهل أشياء كثيرة لا علاقة لها بسلامته، وقد يجهل شيئاً واحداً يكون سبب هلاكه، قد يجهل شكل المظلة، دائري، مربع، بيضوي، مستطيل، وقد يجهل نوع قماش المظلة، من خيوط صناعية أو طبيعية، وقد يجهل عدد الحبال وألوان الحبال، ونوع خيوط الحبال، هذا كله لا يؤثر على سلامته، أما إذا جهل طريقة فتحها ينزل ميتاً، في الدين جانب من العلم سماه العلماء، علم ينبغي أن يعلم بالضرورة، فمن لم يتعلم هذا العلم هلك، مثقف، غير مثقف، مشغول، غير مشغول، متفرغ، غير متفرغ، أمي، متعلم، هذا العلم سماه العلماء علم ينبغي أن يعلم بالضرورة، لأنه فرض عين على كل مسلم، تقول ليس لديّ وقت، إذا درس الرجل، وجاء إلى بلده، واشترى عيادة بالدَّين، والآلات بالدَّين، وعليه ديون باهظة، وحدد موعد الزيارة من الخامسة حتى السابعة، وجاءه مريض في الساعة السادسة، قال له: ما عندي وقت، الجواب اللطيف: لأي شيء خصصت وقتك إذاً، هذا اختصاصك، وهذا وقتك، فإذا قال إنسان لك: أنا ما عندي وقت أعرف الله عز وجل فجوابه قوله تعالى:
﴿ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
ما هو الشيء الذي هو أعظم من أن تعرف الله، ما هو الشيء الذي هو أعظم من أن تعرف منهجه، ما هو الشيء الذي هو أعظم من أن تعرف الطريق الموصلة إليه، إذاً أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله، لمعرفة كتابه، لمعرفة سنة نبيه، لمعرفة أحكام الفقه، لمعرفة سير الصحابة والتابعين، لمعرفة العقيدة السليمة، لمعرفة سر وجودك وغاية وجودك، هذا استثمار للوقت وليس استهلاكاً له، إنسان متعلم، معه اختصاص نادر، يدرس عشر سنوات هذه السنوات العشر فهل هي استهلاك للوقت أم استثمار له؟ بعد التخرج يقول لك: دخلي في اليوم ثمانمئة ألف، من هذا العلم الذي تعلمه، هناك اختصاصات نادرة جداً ودخلها فلكي، فالوقت الذي أمضاه في الدراسة والتعلم هل يعد ضياعاً واستهلاكاً له أم يعد استثماراً؟ إنه استثمار.
العلم خير من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال :
حينما تأتي إلى مجلس علم، ماذا تعمل؟ أنت حصنت نفسك، يا بني العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال.
سائق سيارة أشارت إليه امرأة فوقف، ركبت معه سألها: إلى أين؟ قالت له: حيث تشاء، فهم، وعدَّها غنيمة، وقضى حاجته، وأعطته ظرفين، قصة وقعت في الشام، وقرأتها في الجريدة، أعطته ظرفين، فتح الأول فإذا فيه خمسة آلاف دولار، وفتح الثاني، فإذا فيه رسالة، فيها سطر واحد: مرحباً بك في نادي الإيدز، والمبلغ مزور، فأودع السجنَ، ولو حضر درس علم واحد، وعرف حدود الله عز وجل لنجا، فحينما تقول له: خذني إلى أي مكان تريده، يفتح الباب، ويركلها بقدمه، وينجو من المرض والسجن.
والله أذكر أنه في أول خطبة خطبتها في شهر آب في عام 1974 في هذا المسجد سألني أخ كريم بعد الخطبة في صحن المسجد، وصار يبكي، قلت له: خير إن شاء الله، قال: زوجتي تخونني، قلت له: مع من؟ قال: مع الجار، قلت: وكيف عرفته؟ قال لي: والله الحق علي، كان الجار عندنا يوماً فأردت ألا تبقى وحدها، فقلت لها: تعالي اجلسي معنا، هذا مثل أخيك، لأنه جاهل، إنه يجهل طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى، وعنده خمسة أولاد، وتخونه من سنتين كل يوم، وتعطيه مع كأس الشاي مادة مخدرة، قلت: العلم حصن، العلم حارس، يا بني العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، لا يقبل أن تقول: ليس عندي وقت لمعرفة الله، معرفة كتاب الله أصل في الدين، ومعرفة سنة رسول الله أصل في الدين، ومعرفة الأحكام الفقهية، كم إنسان في هذا البلد المسلم يستثمر أمواله بنسبة ثابتة، عين الربا، يسمعك كلاماً مضحكاً، أكثر راحة من الحسابات والجرد، على الألف مئة ليرة في الشهر فرضاً، عين الربا، كم إنسان يسهم مع إنسان في شراء بيت، يطالبه بالأجرة من حقه، لكن لأنه يضمن حقه بالتمام والكمال أصبحت الأجرة فائدة ربوية، إذا أراد أن يبيع حصته، فقيَّم البيت تقييماً جديداً فلا مشكلة، والأجرة يستحقها، أما دفع مليون، فالمليون ثابت لا يزيد ولا ينقص، ويريد عليه أجرة، فهذا عين الربا، مئات الحالات التي يتعامل الناس بها في الأسواق هي عين الربا، ولا يشعرون، لضعف ثقافتهم الفقهية، حتى في العلاقات الاجتماعية، حتى في المناسبات، في الأفراح، في البيع والشراء، من دخل السوق دون أن يتفقه أكل الربا شاء أم أبى، هكذا قال سيدنا عمر، فأنت حينما تقتطع من وقتك وقتاً لمعرفة الله من خلال كتابه، ولمعرفة رسول الله من خلال سنته، ولمعرفة أحكام الفقه، ولمعرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تنجو من مطبات الحياة.
الإنسان كما أن له عمراً زمنياً له عمر عقلي :
مرة قال لي أحدهم: هناك اتصال هاتفي مع زوجتي، أنا لا أحتمل ذلك، إنسان سفيه يتكلم معها كلمات لا تليق، قال لي: والله أنا أعرفها طاهرة معرفة يقينية، قلت له: ألم تقرأ في السيرة أن السيدة عائشة رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بنت الصديق اتهمت بالزنى، قال لي: الله أكبر، والله لا أعلم ذلك، وكأن هذه القصة جاءت على قلبه برداً وسلاماً، لو قرأ السيرة لعرف، على كل أيها الأخوة هذا تقديم، لأننا قادمون على سلسلة آيات تتعلق بالمواريث، إنسان يقول لك: موضوعات ثانوية، هي صلب الدين، المواريث من صلب الدين، بعد قليل إن شاء الله نصل إلى هذه الآيات، ونقف عندها وقفة متأنية.
آية اليوم الآية السادسة:
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ﴾
الابتلاء هو الامتحان،
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾
ورد في كتب الفقه أن الصغير يبلغ الحلم إذا بلغ الخامسة عشرة من عمره، أو يبلغ الحلم إذا ظهرت عنده صفات المراهقة، كخشونة الصوت، وظهور الشعر في أماكن مختلفة من جسمه، أو حينما يحتلم، طبعاً عند الفتاة قضية واضحة جداً، حينما تأتيها الدورة فهذه علامة البلوغ قولاً واحداً، الشاب حينما يحتلم، أو حينما تظهر علامات الرجولة في جسمه، أو بنبت شعر في بعض الأماكن، أو صوت خشن، أو إذا بلغ الخامسة عشرة فهو بالغ حكماً، هذا بعض ما ورد في كتب الفقه،
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾
يعني بلغوا سناً يتاح لهم أن يتزوجوا، بالمناسبة أنا من أنصار الزواج المبكر، ولا سيما في هذا العصر، نعم،
﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ﴾
يعني بالسؤال والجواب والامتحان، ثمة مواضيع معينة، وأسئلة دقيقة، وثمة إجابات رائعة، وإجابات ساذجة، فاسأله في شأن البيع والشراء والتجارة والاستثمار فرضاً والادخار، موضوعات مالية يعيشها كل إنسان، وموضوعات تعاملية يعيشها كل إنسان، ينبغي أن تمتحنه،
﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ﴾
يعني عقلاً وفهماً وحكمة فادفع إليه ماله، وعلماء النفس قالوا: هناك عمر زمني، وهو أتفه أعمار الإنسان، وهناك عمر عقلي، قد تجد طالباً في الصف التاسع عمره العقلي في الصف الثاني عشر، وقد تجد طالباً في الصف التاسع عمره العقلي في الصف السابع، الإنسان كما أن له عمراً زمنياً له عمر عقلي.
أتفه أعمار الإنسان عمره الزمني الذي لا يقدم ولا يؤخر :
مرة كان معنا مدرس رياضيات يدرِّس الشهادة الثانوية، جاء رمضان قال هكذا في مجلس المدرسين: ماما قالت له صم فصام، مدرس رياضيات، ماما قالت له: صم فصام، فهذا عمره العقلي متخلف جداً، لكن قد يكون معه شهادة عليا في الرياضيات، عمره التحصيلي جيد، فعندنا عمر تحصيلي، وعمر عقلي، وعمر اجتماعي، وعمر انفعالي، هناك إنسان ذكي اجتماعياً، يرضي الناس جميعاً دون أن يعطيهم شيئاً، كلامه لطيف معسول، وهناك إنسان عنده غلظة اجتماعية، كل يوم يلقي قنابل مِن حوله، يفجر مشكلات باستمرار، كل يوم يصنع أعداء، بغير حساب، فهذا متخلف في عمره الاجتماعي، هناك إنسان عنده عمر انفعالي متدنٍ، يبكي مباشرة، ينهار مباشرة، وثمة إنسان متماسك، تأتيه مصائب تهد الجبال، ويبقى متماسكاً، فهناك عمر اجتماعي، وعمر انفعالي، وعمر تحصيلي متعلق بالدراسة، وعمر عقلي، وعمر زمني، والعمر الزمني أتفه أعمار الإنسان.
يروى أن أحد كبار علماء الذرة أينشتاين الذي جاء بالنظرية النسبية أقام في أمريكا، وطاف بخمس وثلاثين ولاية يتحدث عن نظريته النسبية، في آخر ولاية عنده سائق ذكي جداً، حفظ هذه المحاضرة عن ظهر قلب، وكان صاحب دعابة، فرجا أينشتاين أن يسمح له أن يلقي عنه المحاضرة، وأن يقدمه لهذه الجامعة على أنه هو أينشتاين، ويبدو أن العالم نفسه أينشتاين صاحب دعابة، فقدم سائقه على أنه هو أينشتاين، وصعد إلى المنصة، وألقى المحاضرة تماماً كما ذكر، لأنه حفظها عن غيب، فقام أحد الأساتذة يسأله سؤال عويصاً، وهو يحفظ المحاضرة بصماً، وغيباً، لكن ليس عنده إمكانية للجواب، فلما سئل قال: السؤال سخيف جداً، والدليل أني سأكلف سائقي أن يجيبك، هذا عنده ذكاء، عنده ذكاء حاد، لكن عقله التحصيلي ضعيف.
فيا أيها الأخوة،
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً﴾
مرة أحد الخلفاء وجد شاباً، والقصة طويلة، لكن ملخصها أنه أعجب بإجابته فأعطاه ديناراً، اعتذر أن يأخذه، لِمَ؟ قال: والله يا سيدي لو قلت لأمي: إن هذا الدينار أعطانيه الملك لَضَرَبتْني وكذبتني، إن هذا الدينار ليس من عطاء الملك، فاضطر أن يعطيه ألف دينار، فقد تجد إنساناً ألمعيّاً، لكن بالمناسبة أتفه أعمار الإنسان عمره الزمني، لا يقدم ولا يؤخر، سيدنا الشافعي عاش خمسين سنة، بل ما أتم الخمسين، سيدنا النووي ما أتم الخمسين، توفي في السادسة والأربعين، وترك علماً، وترك كتباً لا يعلم خيرها إلا الله، الأذكار، كتاب فقه مشهور، بغية المحتاج، شرح صحيح مسلم، رياض الصالحين، كتب لا يعلم خيرها إلا الله، فالعمر الزمني لا قيمة له إطلاقاً.
من أدَّ عباداته أعطاه الله بركة في عمره :
الآن إذا فتح إنسان محلا تجارياً، كم ساعة فتح؟ إذا فتح إنسان ساعة واحدة جمع مليون ليرة، وإنسان فتح اثنتي عشرة ساعة جمع مئة ليرة، الوقت ما له قيمة أبداً، العبرة بالغلَّة التي يجمعها في هذا الوقت، فالإنسان كلما كان قريباً من الله بارك الله له في عمره، ومن أدَّ عباداته أعطاه الله بركة في عمره، فقال:
﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً ﴾
والله أيها الأخوة هاتان الكلمتان في هذه الآية لا يعرفهما إلا الخبير، أنت ذاهب لشراء صفقة لهذا اليتيم في حلب، تذهب بالطائرة من أجل راحتك، لست مضطراً لتنام في فندق خمس نجوم، يأتيك عشاء إلى الغرفة، والسعر مضاعف، هي كلها مصاريف الصفقة، لكن لو أن المال مالك هل تفعل هكذا؟ مستحيل، فهناك من يتجر بمال اليتيم، وينفق نفقات غير مقبولة، إن في الطعام، أو في الشراب، أو في التنقل، أو في المصاريف، بل لو أن اليتيم كلفك بحاجة في أثناء السفر تسجل عليه قسماً من مصروف الرحلة، أخدمه لوجه الله،
﴿ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً ﴾
إياك أن تسرف، عندنا قاعدة رائعة؛ عامل الناس كما تحب أن يعاملوك،
﴿ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً ﴾
بداراً؛ أن تبادر إلى أكلها قبل أن يكبر، فيأخذ ماله، يعني أن تبادر إلى أكلها بطريقة أو بأخرى قبل أن يكبر، فإذا بلغ السن التي ينبغي أن يعطى فيه ماله دفعت له ماله، فقبل أن يبلغ هذه السن ينبغي أن تستنزف ماله كله، ولا تأكلوها بداراً، من يحاسبك؟ الله وحده، أنت مؤتمن، أنت ولي أمر اليتيم، لأنك مؤتمن كلفت بذلك، لأنك مظنة صلاحٍ كلفت بذلك، لأن الناس يثقون بك كلفت بذلك، فإذا كنت موضع ثقة الناس فينبغي ألا تخيب ظنهم فيك، أن تحاسب نفسك حساباً دقيقاً، أنت في متجر من مال اليتيم، وأنت شريك مضارب، جاء أخوك فأكرمته بضيافة غالية، هذه ثمنها مئة ليرة، على المصروف، ما علاقة اليتيم بالضيافة؟ قد يأتي إنسان ليشتري، قد تقيم له طعام الغذاء فلا مانع، لمصلحة التجارة، قد يأتي إنسان، وقد تدعوه لطعام، وعلى حساب المصروف، لأن هذا الإنسان قد يشتري صفقة كبيرة جداً، فلا بد من إكرامه، أما حينما يأتي صديقك الشخصي، وتقدم له ضيافة في المحل من مال اليتيم فقد خنت الأمانة، الضيافة على حسابك.
المعروف هو حاجتك أو أجر المثل أيهما أقلّ :
هناك شيء أدق من ذلك، في عالم التجارة صفقات رابحة أساسية، فالتاجر ماله في هذه الصفقة، لكن هناك صفقة جديدة لعلها تربح كثيراً، ولعلها لا تربح، أجسُّ نبض السوق فيها بمال اليتيم، فإن ربحت أنزلت مالي بعده فيها، وإن لم تربح أقل له: هذا ترتيب الله، ماذا نريد أن نفعل؟ كلام معسول، كله نفاق، أخي هو الربح نصيب من الله، أنت اخترت له صفقة مجهولة، اخترت له صفقة اسمها لغم، قد تنفجر، ربما لا تربح، فإذا ربحت عرفت السوق من خلالها فأدخلت بعدئذ مالك فيها، لذلك ورد في بعض الأحاديث: ولا تجعل ماله دون مالك، هذه خيانة، إذا كان معك مال ليتيم فينبغي أن تستثمره في صفقة رابحة، ليس بالمئة مئة، فهذه لا يملكها أحد، لكن في الأعم الأغلب، وفي أغلب الظن أنها رابحة، بضاعة أساسية في السوق، وقديمة، وأرباحها ثابتة وسعرها ثابت، هكذا،
﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا﴾
دققوا في توجيه الله عز وجل لهذا الإنسان،
﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾
فليستثمر له هذا المال دون أن يأخذ شيئاً،
﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾
عنده محل، وشركة طويلة عريضة، وأموال طائلة بين يديه، وقال لك: مئة ألف ليتيم، اشترِ له بها صفقة، وبعها، وأعطه كل الربح إليه، هذا،
﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾
أما أنت مهندس مثلاً، ولا تملك شيئاً من الدنيا، وعندك يتيم صغير عمره أربع سنوات، معه مال جيد، وأنت أمين، وليس عندك دخل ثانٍ، فلك أن تستثمره في عمل معين بحسب خبرتك، وأن تأخذ نصف الربح لك، أو أربعين بالمئة حسب الاتفاق، أو حسب العرف، هذا يجوز،
﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾
ما هو المعروف الذي تحدث عنه الفقهاء؟
المعروف الذي تحدث عنه الفقهاء بقاعدة رائعة: أجر المثل، أو حاجتك، أيّهما أقلُّ، كيف؟ وضع معك مليون ليرة، ربحت مئتي ألف، وأنت فقير، والعرف بالمئة خمسون، مئة ألف لك ومئة ألف له، أنت تحتاج في الشهر إلى عشرة آلاف، فأنت بحاجة إلى مئة وعشرين ألفاً، ينبغي أن تأخذ مئة ألف فقط، أجر المثل، أنت بحاجة إلى خمسة آلاف في الشهر، ليس عندك زوجة ولا أولاد، وتسكن عند والدك، بحاجة إلى خمسة آلاف، يكفيك ستون ألفاً، فينبغي أن تعطيه مئة وأربعين، وأن تأخذ الستين، يعني حاجتك أو أجر المثل أيهما أقلّ، هذا معنى بالمعروف،
﴿ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾
وقبلها:
﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ ﴾
أهمية المواثيق والعقود :
مرة سأل أحدُ الخلفاء أحد أكبرِ دهاة العرب، قال له: يا فلان ما بلغ من دهائك؟ قال: والله ما دخلت مدخلاً إلا وعرفت كيف أخرج منه، فقال له: لست بداهية، أمَا أنا فو الله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه، في جو معين تدفع لهذا اليتيم ماله، ولا يخطر في بالك أن هناك مشكلة، تمضي السنوات، تفجر مشكلة، يقول لك: لم آخذ منك شيئاً، أين البينة؟ تقع في إشكال كبير، المؤمن الصادق، المؤمن الواعي، المؤمن الحذر:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾
دفعت اكتب وثيقة، وسجل، وأشهد عليه شاهدين، كل شيء مكتوب مريح، والله أيها الأخوة آلاف المشكلات التي دمرت أسر بأكملها بسبب عدم الكتابة، مشروع تجاري اشتري بعشرين ألفاً، في وقت معين، وقتٍ صعب جداً، أحدهم دفع عشرة، والثاني عشرة، الثاني يعمل في هذا المشروع، بعد عدة سنوات المشروع قيِّم بمليوني ليرة، وثمنه عشرون ألفاً، فالأول طلب الأرباح فدفع له خمسة آلاف ثم خمسة آلاف، فلما طالبه مرة ثالثة، قال له: أنت أخذت رأس مالك، وما كتبا عقداً بهذه الشركة، القضية كيفية، والرجلان حيان يرزقان، الثاني طمع لأنه ليس ثمة وثيقة، فاعتبرها ديناً، رد له خمسة بخمسة، ومن حقه يأخذ مليوناً، مئات الحوادث المؤسفة سببها عدم الكتابة، سببها عدم الوعي:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾
﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ﴾
بشكل عميق، أنك إذا لم تقيد الطرف الآخر بعقد أصولي موثقٍ في محكمة البداية ربما أعنت عليه الشيطان فأغراه أن يأكل هذا المال كله، وأنت لك مسؤولية على هذا، أنت حينما لا تقيد الطرف الآخر بمواثيق وعهود وكتب وعقود وسندات موثقة تغريه أن يأكل مالك، وأن يدعك بلا مال، فإذا أكل هذا المال، وأفسدته بهذا المال تتحمل أنت نصيباً وافراً من الإثم والمسؤولية، لذلك،
﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾
هذه الآية تتعلق بأموال اليتامى، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون وقافين عند حدود الله، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقَّافاً عند كتاب الله، يأتمر بما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر.
أخ كريم الحديث الذي ذكرته في الأسبوع الماضي جاءني به موثقاً فله الشكر. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل أتى ماله سفيهاً))
هؤلاء الثلاثة إذا دعوا الله عز وجل لا يستجاب لهم.