- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التوبة :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من دروس سورة النساء، ومع الآية الكريمة السابعة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
أيها الأخوة، لا شك أنكم مؤمنون أن المسلمون في محنة كبيرة، والمقولة الثابتة: أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، وأي تصور للمسلمين أن مشكلتهم تحل بكذا، أو بكذا، أو بالصلح مع كذا، أو بتقديم التنازلات لهؤلاء... أي حركة للخلاص مما هم فيه أرضية لا تنفعهم! لا ينفعهم إلا أن يتوبوا، وآيات اليوم عن التوبة، أو بعبارة أخرى ما من وقت يحتاج فيه المسلمون إلى أن يتوبوا، وأن يرجعوا فيه إلى ربهم حتى يزيح الله عنهم هذا الكابوس كهذا الوقت الذي نحن فيه، فدرسنا متصل بالأحداث أشد الاتصال، يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ﴾
إنما تفيد الحصر والقصر، فإنما، والنفي مع الاستثناء هي أدوات حصر، وثمة فرق كبير أن تقول: دخل خالد إلى الصف، أو أن تقول: ما دخل إلى الصف إلا خالد، الحصر والقصر قد يؤخذ من النفي والاستثناء، وقد يؤخذ من التقديم والتأخير، وقد يؤخذ من كلمة إنما، فإنما أداة حصر وقصر، إذا قلنا: إنما فلان تاجر، لا يعمل إلا في التجارة، أما: فلان تاجر، وقد يكون له عمل آخر لا يتناقض مع التجارة، بالتقديم: إياك نعبد وإياك نستعين، إذا قلنا: إياك نعبد، أي لا نعبد إلا إياك، أما إذا قلنا: نعبد إياك، بالترتيب الطبيعي فالمعنى نعبد إياك وقد نعبد غيرك معك!
معان كثيرة تؤخذ من صيغة الحصر والقصر :
آيات كثيرة بهذا المعنى:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
لو أن الله عز وجل قال: تطمئن القلوب بذكر الله، لكان المفهوم أيضاً: وتطمئن بغير ذكر الله، أما حينما قال:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
فالاطمئنان لا يكون إلا بذكر الله حصراً.
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
العبادة محصورة بخالق الأكوان فقط، معان كثيرة تؤخذ من هذه الصيغة، صيغة الحصر والقصر. أيها الأخوة:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ﴾
أي التوبة مقصورة على كذا وكذا، ومحصورة في كذا وكذا.
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ﴾
حيثما تأتي كلمة (على) مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي، الله عز وجل ليس من شأن الألوهية أن يلزمها أحد، ليس من شأن مقام الألوهية أن جهة أخرى تلزمها بشيء، أما إذا جاءت كلمة على قبل مقام الربوبية أو الألوهية معنى ذلك أن الله ألزم نفسه بهذا العمل.
حيثما تأتي كلمة (على) مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي :
الآية الدقيقة:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُون*إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
الله عز وجل ألزم ذاته العلية إلزاماً ذاتياً أن يعدل بين خلقه، فالأمر بيد الله، وما أكثر الدواب الآن!
﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾
وقد تكون هذه الدواب في أعلى مقام دنيوي، يتربعون على رأس أكبر دولة في العالم، أو أقوى دولة، أو دولة عميلة لهذه الدولة.
﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
الله عز وجل ألزم ذاته العلية بهدى العباد، هذا شأن الله عز وجل، على الله أن يهدينا، وعلينا أن نستجيب، وربما لا نستجيب، فحيثما وردت كلمة (على) قبل لفظ الجلالة فإنما تعني أن الله ألزم ذاته العلية بهداية الخلق، وألزم ذاته العلية بالعدل بين الخلق.
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
وألزم ذاته العلية أن يفتح باب التوبة على مصراعيه.
أكبر شيء في الذات العلية يؤكد رحمته بالعباد أنه فتح باب التوبة :
أخواننا الكرام: لو تصورنا أنه ليس في الدين توبة ما الذي يقع؟ انظر إلى مسجد قد تجد فيه ألف، ألفين، ثلاثة، أربعة، أنا متأكد أن أربعة أخماس المستمعين والحاضرين ساقهم الله إليه بسلسلة من المصائب، فاصطلحوا معه، وتابوا إليه، لو أن باب التوبة مغلق لا تجد في المسجد شخصاً، لمجرد أن تذنب فقد قطع عنك باب التوبة، أغلق باب التوبة، وأنت حينما ترى أنه لا أمل تفاقم الأمر، ويزداد الإنسان معصية إذا أُغلق باب التوبة دونه، وإذا فُتح باب يُلغى ويُغفر أكبر ذنب، أما إذا أغلق يمكن أن يفجر الإنسان بدءاً من أصغر ذنب، فلو أنه أطلق بصره في الحرام، وهو يائس من توبة الله عليه، وما دام أنه لا توبة هناك، ولا رحمة لما اكتفى بإطلاق البصر؟ ولانتقل إلى أكبر من ذلك؟ لو أغلق باب التوبة لانقلبت الصغائر إلى كبائر حقيقة، ولأن باب التوبة مفتوح تغدو الكبائر صغائر، أعظم عطاء إلهي، أكبر شيء في الذات العلية يؤكد رحمته بالعباد أنه فتح باب التوبة، عبدي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾
ما قال الذين أخطؤوا، الذين عصوا.
﴿ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾
التائب تحت مظلة الله عز وجل :
والله في خلال هذه الدعوة إن شاء الله المباركة أشخاص يزيدون عن عشرين شخصاً كأن أقوالهم متشابهة، يقول لي أحدهم: ما من معصية تتصورها إلا فعلتها! وتاب الله علي، وعاد إلى حظيرة القدس، وأصبح من المؤمنين، حتى من عملتْ في ظروف ساقطة إذا تابت يتوب الله عليها، فأول شيء:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
الحديث الشريف:
((لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد))
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
والله أيها الأخوة لا أشعر أن كلمة هنيئاً تقال إلا لمن تاب إلى الله، لو أنك اشتريت بيتاً فخماً، وجاءك الناس مهنئين، ولم تكن على ما يرضي الله، هذا البيت يزول بعد حين، لا بد أن تغادره إلى القبر، لو أن لك زوجة في أعلى مستوى فلا بد أن تفارقها أو تفارقك، لو أن معك مال قارون فلا بد أن تدعه وترحل، أما الشيء الذي يبقى إلى أبد الآبدين فهو أن تتوب إلى الله عز وجل، لذلك إحساس التائب لا يوصف، أقول لكم: يشعر أنه خفيف، وأن الله يحبه، وراض عنه، ومعه، ومؤيده، وناصره، وحافظه، والتائب تحت مظلة الله.
الله سبحانه وتعالى ألزم ذاته العلية أن يتوب على عباده رحمة بهم :
للتقريب: موظف بقصر ملكي، معه الملك، فلا يجرؤ مواطن أن يناله بأي أذى، لأنه يشعر بحماية كبيرة جداً من القصر الملكي، فأنت حينما تتوب أنت مع الله، والله معك.
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ﴾
وكأن الله سبحانه وتعالى ألزم ذاته العلية أن يتوب على عباده رحمة بهم، تصور لو أن باب التوبة مغلق لوجدت أقل المعاصي تنقلب إلى أكبر الكبائر لا أمل.
هذا الذي سأل أحد الرهبان، وقد قتل تسعة وتسعين رجلاً ألي توبة؟ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
((كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَاناً ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِباً فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لهُ))
ما دام ليس هناك توبة فيجب أن أتابع القتل، أما مع التوبة فكل شيء له حل، ولو تعاظمت عليك ذنوبك، يجب أن تذكر رحمة الله عز وجل، الله عز وجل قال:
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
ألست شيئاً أيها العبد؟ بالمناقشة المنطقية أنت شيء:
﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
حينما تتوب معنى ذلك أنك دخلت في مظلة الله عز وجل، أنت في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ﴾
الله بذاته العلية ألزم نفسه بقبول التوبة على العباد.
للآية التالية معنيان :
قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾
1 ـ الإنسان إن لم يكن يعلم أن هذه معصية فتوبته سهلة جداً :
لهذه الآية معنيان: المعنى الأول: أن الإنسان إن لم يكن يعلم أن هذه معصية، فتوبته سهلة جداً، حتى إن بعض الفقهاء من أحكامهم الدقيقة أن الذي يسمى حديثَ عهد بالإسلام لو أنه أفطر في رمضان بغير سبب الطعام والشراب، بل بسبب آخر، ولا يعلم أن هذا محرم في أثناء الصيام فلا شيء عليه، القضية إن لم تكن تعلم أن هذا ذنب فالتوبة منه هينة جداً، وكلما ازداد علمك بهذا الذنب تصعب التوبة شيئاً فشيئاً، وكلما كررت الذنب تصعب التوبة منه شيئاً فشيئاً، التوبة تصعب حينما تعلم أنه ذنب، وحينما تكرر هذا الذنب، والتوبة تسهل حينما تجهل أن هذا ذنب أو تتوب سريعاً من هذا الذنب، فلذلك يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾
هناك ملمح دقيق في الآية: ما من إنسان على وجه الأرض إلا إذا عصى عُدّ عند الله جاهلاً، لو كان يعلم لما عصى، لو علم أثر الذنب في حجبه عن الله، أو في بُعده عن منهج الله، أو في انقطاع صلته بالله، في ظلام قلبه، في اسوداد وجهه، في خطأ سلوكه، في ردود أفعاله القاسية، هذه كلها آثار الذنب، حتى لو تعلم أنه بينك وبين إنسان علاقة طيبة جداً، وكلاكما مؤمن، هذه العلاقة لا تفسد إلا بذنب يصيبه أحدهما أو كلاهما، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا))
2 ـ لو تعلم أن الذنب سبب شقائك وانقطاع صلتك لما فعلت الذنب :
إن العداوة والبغضاء التي يعاني منها المسلمون أشد المعاناة فيما بينهم، ويعاني منها المسلمون مع أعدائهم سببها البعد عن منهج الله.
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
لو تعلم أن الذنب سبب شقائك، وحجابك، وانقطاع صلتك، وخطأ تفكيرك، واضطراب سلوكك لما فعلت الذنب، لا يفعل الذنب إلا جاهل، هذا هو المعنى الآخر.
الجاهل من يعصي الله عز وجل:
قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾
لولا أنهم تلبسوا بالجهل لما فعلوا السوء، لما سيدنا يوسف قال:
﴿ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ﴾
أي إنسان صبت نفسه إلى امرأة لا تحل له فهو عند الله جاهل، لأنه استعجل هذه المتعة الرخيصة العاجلة، وضيّع السعادة الأبدية، أنت حينما تبيع شيئاً يقدر بمليار بمئة ليرة فقط فرضاً، فهل أنت عالم؟ لا، جاهل، حينما تبيع حجر ألماس قيمته مليون بعشر ليرات فأنت جاهل.
أحياناً يسرق الإنسان ـ أبعدنا الله عن هذا السلوك الإجرامي ـ ولجهله بنوع البضاعة التي سرقها يبيعها بثمن بخس، ماذا يسمى عند من اشتراها؟ يقول عنه: إنه جاهل، لأنه باعها بثمن بخس، هذا الذي يعصي الله جاهل، لأنه لا يمكنك أن تعصيه وتربح، ولا يمكن أن تطيعه وتخسر!
﴿ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ ﴾
أنا عندك جاهل يا رب، حتى الذي يعمل الذنوب والسوء هو عند الله جاهل، يجهل المؤدى. لو اقتربنا من بعض الأمثلة: هذا الذي يدخن لو علم أن الدخان سوف يقضي على صحته، على رئتيه، أو ضغطه، أو سيولة دمه لما دخن، لو تعلم النتائج لم تفعل المقدمات أبداً.
من يعمل السوء هو جاهل بالنتائج :
لذلك أحد أسباب الشقاء هو الجهل وأكبر دليل أن أهل النار وهم في النار يقولون:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
حينما لا تنطلق من حبك لذاتك أو لا سمح الله من أنانيتك تطيع الله عز وجل، لأنك سبحانك لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.
لو تعلم ما في المعاصي من أخطار، ومن تدمير، ومن شقاء، ومن ضغوط نفسية، ومن تحمل ما لا يحتمل لما أقبلت عليها، من يعمل السوء هو جاهل بالنتائج. الناس الآن بم يتفاوتون؟ هذا الذي أقدم على سرقة صائغ في محافظة دمشق، وسرق سبعة كيلو غرامات من الذهب، وبعد عشرة أيام علق مشنوقاً في البلدة نفسها، لو أنه عرف نتيجة السرقة هل يقدم عليها؟ إذاً فهو جاهل، ففي علم النفس يصنف المجرمون بأنهم أغبياء!
هذا الذي يقتل الناس، يقتل عباد الله، يقتل شبابهم، يذبح أطفالهم، يهدم بيوتهم، هل هو جاهل أم عالم؟ والله إنه لأكبر الجهلاء، لأنه سوف ينتظره عذاب إلى أبد الآبدين، لذلك يعجب الله عز وجل، ويقول:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
﴿ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾
لذلك أكبر غبي وأحمق الذي يعصي الله عز وجل، فمن هو السعيد؟ الذي في طاعة الله.
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
كلما تغلغل الذنب في الإنسان أصبح جزءاً من كيانه :
قال تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾
أول معنى: لو أنك لا تعلم أن هذا ذنب هذا شيء مخفف، ومسهل للتوبة، ومسرع لها، أما إذا علمت أنه ذنب يقيناً فعندئذ تصعب عليك التوبة، فإذا كرر الذنب كانت التوبة أصعب وأصعب!
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
لا سمح الله ولا قدر حينما يقع الإنسان في ذنب، ويرجئ التوبة، كلما أرجأها استمرأ هذا الذنب، ودخل في عاداته اليومية، وكلما تغلغل الذنب أصبح جزءاً من كيانه، وإذا قضى أحد عمره في لعب النرد، ثم بينت له الحكم الشرعي لا أظنه يستجيب، فقد أصبحت هذه اللعبة جزءاً من كيانه، وقبلها جزءاً من عاداته، واستمرأها، هذه نصيحة إلهية ينبغي أن تتوب بعد الذنب مباشرة، ألا تجعل فاصلاً زمنياً طويلاً بين الذنب وبين التوبة، لأنه بعد حين يصبح الذنب جزءاً من حياتك، تستمرئه، وينقلب إلى عادة، وإلى سلوك يومي، لذلك دعوة المتقدمين في السن صعبة جداً، يقتنع ولكن لا يستطيع أن يغيِّر، لأنه أَلِفَ هذه المعصية والاختلاط، ولعب النرد، ومتابعة المسلسلات، لا يستطيع أن يغير، فالبطولة أن تكون شاباً.
من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة :
كنت في بلد قبل أسبوعين، دخلت إلى أحد المساجد، والله شيء رائع جداً، مصلون خاشعون، لكن قدرت أعمارهم كلهم فوق الخمسين أو الستين، وازنت بين هذا البلد وبين بلدنا الطيب كله شباب، ظاهرة طيبة جداً، الآن ترى رواد المساجد في الأعم الأغلب شباب. ريح الجنة في الشباب، والذي يصنعه الشباب الآن لا يستطيع أن يصنعه الكبار، أليس كذلك؟! صنع الشباب اليوم تعجز عنه الجيوش المجيشة أن تصنعه، ريح الجنة في الشباب، لا أرى عطاء كبيراً من الله يفوق أن تتعرف على الله في مقتبل حياتك، فإن تعرفت إلى الله في مقتبل حياتك شكلت حياتك وفق منهج الله، وكان عملك، وزواجك، وكسب مالك، وإنفاقك، وتربية أولادك شرعياً، فإذا سمح الله لشاب في مقتبل حياته أن يعرفه، أو هيأ له ظروفَ معرفته، أو دله على أهل الحق، على أشخاص مخلصين، وعرف الله عز وجل في مقتبل حياته، هذا من أسعد الناس، وهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله، ومن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة.
﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
لا تنم قبل أن تتوب، لا يمضِ عليك اليوم قبل أن تتوب.
﴿ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
لا تجعل مسافة طويلة بين الذنب والتوبة، هذه المسافة الطويلة تغريك أن تعيد الذنب وأن تثبت عليه، وأن تبحث عن غطاء لهذا الذنب، وتبحث عن فتوى ضعيفة لتغطي هذا الذنب، كلما أخرت التوبة بحثت عن شيء يعينك على الاستمرار على هذا الذنب، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾
شعور الإنسان أن الله تاب عليه وقبله لا يعلمه إلا من ذاق حلاوة التوبة :
لما كان سيدنا عمر يمشي في طرق المدينة مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف، ورأى قافلة قد نصبت خيامها في المدينة قال عمر لعبد الرحمن: تعال يا عبد الرحمن نحرس هذه القافلة، فجلسا في الليل، فإذا بطفل صغير يبكي، فقام عمر لأمه وقال: أرضعيه، فأرضعته، ثم أعاد الكرة فبكى، فقام إليها ثانية، وقال لها: أرضعيه، ويبدو أن عمر كان عصبياً، ففي المرة الثالثة قال لها: يا أمة السوء أرضعيه! لمَ لا ترضعيه؟ عندئذ غضبت هذه المرأة وقالت: وما شأنك بنا؟ إنني أفطمه، قال: ولمَ؟ قالت: لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام، أي التعويض العائلي! فضرب سيدنا عمر وجهه وقال: ويلك يا ابن الخطاب، ويلك كم قتلت من أطفال المسلمين؟ عدّ نفسه قاتلاً، وقال كُتَّاب السيرة: في صبيحة اليوم صلى الفجر بالناس، فما استطاع المصلون أن يفهموا كلامه من شدة بكائه! فكان يقول: يا رب، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها؟ فإذا شعرت أن الله تاب عليك وقبلك وعفا عنك فأنت أسعد الناس.
أنا أسوق هذه المعاني أيها الأخوة لأننا بحاجة إليها، لو كنت مستضعفاً، لو لم تملك تلك الأسلحة الجبارة لكنك توفيت على إيمان وعلى طاعة فأنت الناجح المنتصر، والله لا أبالغ إذا جاء الموت وأنت على طاعة، وعلى عقيدة سليمة، وطاعة لله مخلصة فأنت المنتصر. ماذا قال الله تعالى عن أصحاب الأخدود؟
﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
لقد أثنى والله عز وجل عليهم، وبيَّن أن هذا الذي أحرقهم هو إلى جهنم وبئس المصير، فلذلك شعور الإنسان أن الله تاب عليه وقبله لا يعلمه إلا من ذاق حلاوة التوبة، وحلاوة الصلح مع الله، وحلاوة الإقبال عليه، وحلاوة التقلب في نعيم القرب منه.
ما كل توبة يعقبها قبول من الله عز وجل :
قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
يتوب عليهم، لكن العلماء قالوا: لا يجب على الله أن يتوب عليه، لله حكمة، لأنه عليم حكيم، أحياناً يقترف الإنسان ذنباً ويقول: أتوب، كالمستهزئ بربه، فما كل توبة يعقبها قبول من الله عز وجل.
البارحة وقع أخ في مشكلة كبيرة جداً، والله ليس لها حل، قلت له: هناك حل واحد؛ أن تصلي قبل الفجر ركعتين،وأن تدعو الله في هاتين الركعتين، ففي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:
((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ))
كأن الله عز وجل يقول لك: أنا حاضر يا عبدي فاطلب مني، إذا كان عندك الإخلاص واليقين أن الأمر كله بيد الله.
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
إذا كان عندك يقين أن الأمر كله يرجع إلى الله.
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
إذاً عندك يقين أنّ يد الله فوق أيديهم.
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل﴾
إذا كان عندك هذا اليقين، وتوجهت إليه مخلصاً راجياً رحمته، والله لزوال الكون أهون على الله من أن يخيب ظنك.
الدعاء هو أكبر شيء تملكه :
هناك أشياء تبدو مستحيلة، مرض خبيث أجمع الأطباء على أنه لا شفاء له، والله هناك آلاف الحالات من الشفاء الذاتي، بلا سبب علمي، والعلماء صنفوا هذا الشفاء في الشفاء الذاتي، الآن هناك دراسة حوله، عندي حالات كثيرة لبعض الأخوة الأكارم شيء لا يصدق، أخذت خزعة إلى بريطانيا فحصت في الشام، فأجمع الأطباء النبهاء المخلصون أن المرض من الدرجة الخامسة، ولا بد من استئصال الرئة، ثم تراجع المرض ذاتياً، تضع كل ثقتك بالله، وتعلم علم اليقين أن الأمر بيده، ويخيب ظنك؟!
لذلك أكبر شيء تملكه هو الدعاء، استمع إلى بعض القصص مما يجري في الأرض المحتلة، والله شيء لا يصدق! شاب في مقتبل العمر في الثامنة عشرة من عمره لم يمسك بندقية في حياته أراد أن يكون شهيداً، فزحف ساعات طويلة ليصل إلى ثكنة عسكرية صهيونية، وحولها أسلاكٌ شائكة مكهربة، كيف قطع هذه الأسلاك؟ وكيف وصل إليهم؟ وكيف أوقع فيهم خسارة كبيرة جداً؟ ولعلّ الله قبله شهيداً!
إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ أنتم ترون القوة العاتية الجبارة التي لا تواجه في حيرة أمام إنسان أراد إرضاء الله عز وجل.
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾
يتوب عليهم بحكمته لأنه:
﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
عليم بحقيقتهم، حكيم في التصرف معهم.
السيئة ما أساءك من ذنب أو معصية عن غير قصد أو بقصد :
مثلاً عندك نبتة صغيرة، وعندك ماء يساوي خمس وحدات كبيرة جداً، هل من الحكمة أن تصب هذا الماء الشديد على نبتة؟ فتقصفها، فالعطاء يتناسب لا مع الكرم بل مع الحكمة.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
أحياناً يقع الإنسان في ذنب ويتوب، ويشعر أنه محجوب عن الله عز وجل، في هذا حكمة إلهية، أراد أن يبالغ في تأديبك.
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾
السيئة ما أساءك من ذنب أو معصية عن غير قصد أو بقصد، سمِّها ما شئت، أي شيء يسوؤك هو عند الله سيئة، أي شيء يحول بينك وبين الله هو عند الله سيئة، أي انتقاص من عبادتك هو عند الله سيئة، أي انتقاص من حق عبد هو عند الله سيئة، السيئات المعنوية كالغيبة، والنميمة، وسوء الظن، والمادية كأكل المال الحرام، وكل أنواع المعاصي الباطنة والظاهرة، وكل أنواع الموبقات كلها سيئات.
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾
لو أن الإنسان لحكمة أرادها الله يعرف متى أجله، الآن هو في الثمانية عشرة عنده علم أن أجله في الثامنة والستين لا يتوب الآن، يقول: معنا وقت، أما لأن الإنسان لا يعلم متى أجله فلا بد أن يكون تائباً في أية لحظة.
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾
الإنسان مخير مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض :
أخواننا الكرام: موضوع دقيق جداً أتمنى أن يكون واضحاً لديكم: أنت كإنسان مخير، وقد يكون خيارك فيه مليون حالة، خطبت فتاة فلم تعجبك، فأنت مخير خيار قبول أو رفض، أردت أن تسافر إلى بلد كي تعمل، رأيت المشقة كبيرة، والدخل قليل رفضت، أردت أن تقيم شركة رأيت أن هناك شركات منافسة كبيرة جداً والربح قليل فرفضت، أو قبلت في تأسيس عمل، أو تأسيس شركة، في سفر، في دراسة، أو جامعة، في زواج، في شراء بيت، أنت في مليون موضوع مخير خيار قبول أو رفض، إلا مع الإيمان فإن خيارك خيار وقت، فما الفرق بين خيار القبول وخيار الرفض وبين خيار الوقت؟ إنسان لم يتب إلى الله، وليكن فرعون أكفر كفار الأرض الذي قال: أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إله غيري، هذا فرعون حينما أدركه الغرق قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فتاب، لكن بعد فوات الأوان! أي إنسان على الإطلاق عندما يأتيه الموت فلا بد أن يتوب، لكن هذه التوبة ليست مقبولة، فهو مخير مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، فإذا رفض الإنسان الإيمان فلا بد أن يقبله بعد فوات الأوان.
معنى آخر: لي كلمة لطيفة، الخليفة هارون الرشيد له أعمال طيبة كثيرة، كان إذا نظر إلى سحابة يقول: اذهبي أينما شئت يأتني خراجك، قياساً على هذه المقولة: أنا أقول لأي إنسان شارد في شبابه: اذهب أين شئت، ففي النهاية أنت إلى المساجد، لكن المشكلة الكبيرة أن تعود إلى المساجد في وقت متأخر، وتمضي شبابك في معصية الله، وكثير من أولئك الذين شردوا عن الله في مقتبل حياتهم، وفي زهرة شبابهم، وفي كهولتهم بعد الخمسين أو الستين رأوا أن الحق عند الله، فعادوا إلى الله، لكن بفقر وضعف، فأنت إذا كنت في مقتبل حياتك، وقد عرفت الله عز وجل فاحرص على أن تثبت على ما أنت عليه.
الموت هو ديدن البشر :
قال تعالى:
﴿ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾
هذه ليست توبة، هذه توبة بعد فوات الأوان، بربك لو أنك ذهبت إلى الامتحان، ولم تدرس إطلاقاً، ولم تستطع أن تكتب كلمة، فعدت إلى البيت بعد انتهاء الامتحان، فتحت الكتاب المقرر، وبحثت عن جواب السؤال، وقرأته، ففهمته، ممتاز، فعدت إلى وزارة التربية ترجوهم أن يعاد لك امتحان خاص، لأن السؤال الذي جاء في الامتحان عرفته أنت الآن، هل يقبل؟ هذا مستحيل! هذه معرفة بعد فوات الأوان.
كل إنسان يظن أنه يتوب، مَن قال لك: إن عمرك فيه فسحة تتوب فيه بعد حين؟ كم من إنسان مات فجأة؟ مات قبل أن يعلم؟ لا يوجد إنسان مات إلا في حالات نادرة، ويظن أنه سيعيش حياة طويلة، قد يأتي الموت على خلاف المتوقع وما هو مقبول.
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾
مات على كفره، مات تاركاً للصلاة، مات منكراً لأصل الدين، مات منكراً لفرائض الدين، هذا يموت كافراً، وهذا مخلد في النار.
﴿ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
ثمة حديث شريف والله الذي لا إله إلا هو يقسم الظهر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ غِنًى مُطْغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))
بشكل واقعي من دون مجاملة ماذا ننتظر من الدنيا؟ جمعت المال ثم ماذا؟ هناك مغادرة، ملك، غني، كبير، قوي، الموت هو ديدن البشر، الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر.
قرأت عن إنسان يعمل في الفن أحب الحياة حباً لا حدود له، ما أكل لحماً أحمر في كل حياته حفاظاً على صحته، ولا ركب طائرة، ولا تناول طعامَ العشاء إلا فواكه، ثم مات! إنّ العناية بالصحة مطلوبة، لك عند الله خمسون عاماً، فإما أن تمضي هذه الأعوام هكذا واقفاً، أو تمضي هكذا مضطجعاً، فالعناية بالصحة لعلك تستمتع بحياتك واقفاً، أما العناية بالصحة فلا تغيّر الأجل، الأجل لا يتغير إطلاقاً.
لله وسائل تأديبية صعبة جداً :
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ...))
الأيام ماذا تخبئ لعامة الناس؟ دعك من المؤمن، المؤمن:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ﴾
لنا وليس علينا، لنا فيها ملمح كبير، لنا من خير، أنت موعود بالخير في المستقبل.
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
لتأبيد النفي، هذا موضوع ثانٍ، أمّا عامة الناس فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا، ملك جاءته خثرة في الدماغ، فأصبح مشلولاً، ألا تعرفون ذلك؟ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً، هناك فقر ينسيك كل القيم، وكاد الفقر يكون كفراً، أَوْ غِنًى مُطْغِياً غنى مفاجئ، يحمل صاحبه على معصية الله، واقتراف المعاصي والآثام، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، مرضاً يفسد الحياة، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً، أَوِ الدَّجَّال، ألا ترون الدجال؟ يقتل الأطفال، يهدم البيوت بادعاء الدفاع عن النفس، يقتل شعباً بأكمله دفاعاً عن الحرية، هذا هو الدجل، الفعل عكس القول، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. أعيد على أسماعكم الحديث. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً))
في محاولة إفقار للمسلمين، مصالح في الأوج، الدخل صفر، هذا فقر، والفقر قد ينسي كل شيء، وكاد الفقر أن يكون كفراً،
((أَوْ غِنًى مُطْغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ، السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ))
فإن لم يتب الإنسان إلى الله لم تطمئن نفسه إلى خريف العمر، لأن المستقبل مجهول ومخيف، وفيه خثرة بالدماغ إذا كنت تسير على خطأ، وشرود عن الله عز وجل، فلله وسائل تأديبية صعبة جداً، أمراض عضالة، وفقر شديد، وتفسخ أسرة، وزوجة ظالمة أحياناً، وابن عاق، وفقدُ حرية، وفقدُ أحد الأعضاء، ومصيبة اجتماعية أسرية.
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً أَوْ غِنًى مُطْغِياً أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ))
إهلاك الأقوام في آخر الزمان أدهى وأمر من كل إهلاك سابق :
قال تعالى:
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾
﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾
هؤلاء الطغاة، كيف أهلك الله الأقوام السابقين؟ إن إهلاك الأقوام في آخر الزمان أدهى وأمر من كل إهلاك سابق.
﴿ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾
اطمئنوا فثمة عدالة إلهية، تكلمت على المنبر اليوم: اسمع الأخبار فلا مانع، واقرأ التحليلات، واقبل تحليلاً، وارفض تحليلاً، وتشاءم أو تفاءل، لكن لا تنس لثانية واحدة أن الله موجود، وأن الله في أية لحظة يغير موازين القوى كلها، الشيء الذي كان مستحيلاً أصبح ممكناً، أنا قلت اليوم: متى كانت مشكلة أعدائنا مشكلة بقاء؟ كانت مشكلة أمن فقط، أما الآن لم تعد كذلك، بل مشكلة بقاء، هذا الإنجاز كبير جداً، وما كنا نحلم به أن يقول: مشكلتنا مشكلة بقاء! كانت مشكلة أمن فقط، أما الآن فهي مشكلة بقاء، بفضل هؤلاء الشباب المندفعين.
فيا أيها الأخوة، أنا متفائل، ولكن نحتاج إلى توبة، ما من وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى توبة كهذا الوقت، أختم الدرس بما بدأت به: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة فقط، ولا تزر وازرة وزر أخرى، عليك من نفسك، لو أن الناس لم يستجيبوا فاستجب أنت لله، واضبط أمورك، وانتظر من الله كل خير، والحمد لله رب العالمين.
أسئلة عامة :
السؤال: هل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمي بالمعنى المعروف للكلمة أم لها معنى آخر؟
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام أمي بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب.
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلوا مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُون﴾
لأن الله عز وجل تولى تعليمه هو، إذاً هو أعلم علماء الأرض، أمِّيته وسام شرف، وأميتنا وصمة عار، لأن الله عز وجل لا يعلمنا مباشرة، نحن نتعلم عن طريق القراءة والكتابة، فكل واحد فيه نقص شديد، أما لأن وعاء النبي كله وحي يوحى، لو قرأ وكتب فجمع ثقافة عصره، ثم جاء الوحي، واختلط الأمر، فكلما تكلم شيئاً يقال له: يا رسول الله هذا من وحي السماء أم من عندك؟ صانه الله عز وجل عن أية ثقافة أرضية.
﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُو إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
أميته وسام شرف، لأن الله تولى تعليمه، العلم المطلق عند الله عز وجل، أكبر علم حازه النبي الكريم، مثل تقريبي: أكبر علماء الذرة لو جاء إلى دمشق هو في لغتنا العربية أمي لا يقرأ ولا يكتب، هل يعد جاهلاً؟ فالنبي الذي يقرأ بعض أحاديثه ويفهمها يأخذ دكتوراه! حاز النبي مرتبة في العلم ما بعدها مرتبة، لكنه أمي، بقي وعاؤه نظيفاً من كل ثقافة أرضية، أميته وسام شرف، أما أميتنا فهي وصمة عار، نحن ليس عندنا طريق مباشر مع الله ليعلمنا، ولا نتعلم إلا بالكتابة، إنما العلم بالتعلم، بالنص نقرأ ونتعلم، أميته وسام شرف، لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله تولى تعليمه، والدليل:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾
سؤال: توضيح حكم اليمين الغموس؟
الجواب: اليمين الغموس هي اليمين التي تحلفها لتقتطع بها حق امرئ مسلم، إنها تغمس في النار، وبها يخرج الإنسان من ملة الإسلام، وليس لها كفارة، لأنها أخرجتك من الدين، بل لا بد له أن يجدد إسلامه! أعطاك مليون من دون وصل، قلت له: لم آخذه، فقال القاضي: تحلف؟ قال: أحلف، فحلفت يميناً اقتطعت بها حق امرئ مسلم، هذه اليمين غمست صاحبها في النار.
ـ مقاطعة البضائع الأمريكية صار واجباً، تنقل إلي معلومات لطيفة جداً، سمعت عن أحدهم أنه أحرق سيارته كلها لأنها مصنوعة بأمريكا، فالحد الأدنى الذي لا حد بعده لا يوجد منه شيء من صنع أعدائنا نستغني عنه.
سؤال: أليس الله عالماً بما سأفعل وما سأقوم به؟ وإذا ارتكبت إثماً أليس مكتوباً علي أن أفعله؟ إذاً أنا مسير؟
الجواب: لا يوجد عقيدة تشل الإنسان كهذه العقيدة، وهي التي أخرت المسلمين، أوضح ردّ سيدنا عمر حين جاءه شارب خمر فقال: أقيموا عليه الحد، قال: والله إن الله قدر علي ذلك، فقال عمر عملاق الإسلام: أقيموا عليه الحد مرتين! مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.